غريبٌ بينكم يدوِّن الملاحظات
عادةً ما يولِّد موقف الإنسان الشكَّاك في الآخرين سلوكًا يوحي بأنهم يبرِّرون له شكوكه. وتختفي داخل الكثيرين منا نزعةٌ، بقدر معيَّن، إلى الأذى، تكبحُها الثقة، ولكن يحفزها سوء الظن. فالقِط العديم الخبرة، الذي يقترب منا واثقًا ومُقوِّسًا ظهره ورافعًا ذيله يستجدي الملاطفة، غالبًا ما يتلقَّى المعاملة اللطيفة التي توقَّعها؛ وعلى الجانب الآخر، فإن قط الشوارع الذي يفر — استجابةً لحركات لطيفة — وهو يرمينا بابتسامات مُريبة من مأمنه الواهم خلف حائط، يستحثُّنا كي نُعجِّل انسحابه من أمام ناظرنا برمي حجر مُصوَّب تجاهه تصويبًا دقيقًا.
الإجراءات التي اتخذها السيد إتش فايس تشبه تصرُّفات قط الشوارع آنف الذكر، وتستحث فينا الرد عليه برد مُشابِه. وفي نظر رجل يعرف معنى المسئولية ومراعاة المهنة، تُعَد الاحتياطات التي اتخذها إهانة وتحدِّيًا في آن واحد. وبصرف النظر عن الاعتبارات الأخطر، وجدت نفسي تغمُرني سعادة شريرة لأنني أحاول أن أحدِّد مكان هذا المخبأ، حيث يرميني السيد فايس بابتسامات فيها تحدٍّ مطمئن، وأنا لم أضيع أي وقت ولم أدَّخر أي جهد في إعداد نفسي للمغامرة. فقد استخدمت العربة التي حملتني من منطقة تيمبل إلى كينينجتون لين بمثابة اختبار تمهيدي للجهاز الصغير الذي أعطاني إياه ثورندايك. فطول هذه الرحلة القصيرة، راقبت البوصلة عن كَثَب، ودوَّنت ما أحسست به من تضاريس الطريق وأصواته، ودوَّنت عدد خطوات الحصان. وكانت النتيجة مشجعة للغاية. صحيح أن إبرة البوصلة كانت تتذبذب كثيرًا تبعًا لاهتزازات العربة، ولكن لا يزال هذا التذبذُب يَحدث حول نقطة محدَّدة وهي الاتجاه التقريبي، وتبين لي أن البيانات التي تعطيني إياها يمكن الاعتماد عليها إلى حد مقبول. وبعد هذه التجربة الأوَّلية، لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ في قُدرتي على رسم مخطط مسارٍ واضح إلى حدٍّ ما، إذا أُتيحت لي الفرصة لممارسة مهارتي.
لكني أشعر أن الفرصة لن تسنح. فالسيد فايس لم يفِ بعدُ بوعده لي بأن يُرسل في طلبي في أقرب وقت. مرت ثلاثة أيام ولم تصلني أي إشارة. بدأت أخشى من أنني ربما تحدَّثت بصراحة مبالغ فيها، وخشيت أن تكون العربة المغلقة قد ذهبت للبحث عن طبيب أوثق وألين في التفاهم، وأن استعداداتنا المتقَنة باتت بلا جدوى. وعندما اقترب اليوم الرابع من نهايته ولم يصِلْني أي استدعاء، هيَّأت نفسي على مضض كي أشطب على القضية وأعدها فرصة ضائعة.
وفي تلك اللحظة، وفي وسط أسفي، أقحم الرسول رأسه فجأة من الباب. كان صوته أجشَّ ونبرته غير سارَّة، تراكيبه النحوية دون المستوى، لكني عفوت عن كل هذا حين فهمت أهمية رسالته.
«عربة السيد فايس في انتظارك، ويطلب منك أن تأتي بأسرع ما يمكن؛ لأن المريض أصيب بنوبة حادة للغاية هذه الليلة.»
اندفعت من كرسيِّي وجمعت الأغراض الضرورية من أجل الرحلة سريعًا. وضعت اللوح الصغير والمصباح في جيب مِعطَفي، وعدلت حقيبة الطوارئ، وأضفت إلى محتوياتها زجاجةً من برمنجنات البوتاسيوم ربما أحتاج إليها. ثم وضعت الجريدة المسائية تحت إبطي وخرجت.
أمسك السائق — حيث وجدته واقفًا عند رأس الحِصان حين خرجت — بقُبعته، وتقدَّم كي يفتح الباب.
علَّقت وأنا أُبرز الجريدة حين دخلت إلى العربة: «لقد استعددت لرحلة طويلة كما ترى.»
قال: «لكن لا تستطيع القراءة في الظلام.»
أخرجت المصباح وأشعلت عود ثقاب، قلت: «أجل، ولكني جلبت معي مصباحًا.»
راقبَني حين أضأت المصباح وعلقته في المسند الخلفي، علَّق قائلًا:
«كأنك وجدت الرحلة مُملَّة في المرة السابقة. إنه طريق طويل نوعًا ما. يجدر بهم أن يُزوِّدوا العربة بمصباح داخلي. ولكن سنضطر إلى الإسراع هذه الليلة. يقول السيد المحترم إن السيد جريفز أُصيب بنوبة حادة غير عادية.»
حينئذٍ أغلق الباب جيدًا. وسحبت اللوح من جيبي ووضعته على ركبتي ونظرت في الساعة، وصعد السائق إلى مقعده، ودوَّنت القيد الأول في الدفتر الصغير.
«٨:٥٨ غربًا ثم جنوبًا. البداية من المنزل. ١٣ خطوة من أرجل الحصان الأمامية.»
في أول حركة من العربة حين بدأت الرحلة، استدارت وكأنها تتجه إلى نيوينتون باتس، وبناءً على ذلك دوَّنت القيد الثاني:
«٨:٥٨:٣٠. شرقًا ثم شَمالًا.»
لكننا لم نمكث في هذا الاتجاه طويلًا. فسرعان ما اتجهنا نحو الجنوب ثم إلى الغرب ثم نحو الجنوب مرة أخرى. جلست وعيناي مُثبَّتتان على البوصلة، حيث تتتبَّع تغيراتها السريعة بقدر من الصعوبة. فقد كانت الإبرة تتأرجح يَمنة ويَسرة، ولكنها ما برِحت تتأرجح ضمن قوس محدد، ومركز القوس هو الاتجاه الصحيح. ولكن هذا الاتجاه يختلف من دقيقة إلى أخرى بطريقة محيرة. ظلَّت الإبرة تتجه في كل الاتجاهات والعربة تنعطف حتى تعذَّر عليَّ معرفة الاتجاه. كانت حركة البوصلة غريبة. بالنظر إلى أن السائق يسابق الزمن بالعربة في مهمَّة عاجلة ومسألة حياة أو موت، فقد حيرني عدم اكتراثه للاتجاهات. ولا بد أن السَّير المتعرِّج قد ضاعف طول الطريق مقارنةً بالسير المستقيم. هذا ما بدا لي على الأقل، على الرغم من أنني — بطبيعة الحال — لم أكن في وضعٍ يسمح لي بتقديم نقد خبير.
وعلى قدر ما يتراءى لي، فقد تبِعنا المسار الذي تبعناه المرة السابقة. فبمجرد أن سمعتُ صافرة زورق القطر، علمت أننا على مقربة من النهر، ومررنا بالقرب من محطة السكك الحديدية، ومن الواضح أننا فعلنا ذلك في الوقت نفسه مثل المرة السابقة؛ حيث إنني سمعت قطار الركاب يبدأ رحلته، وأحسبه هو القطار نفسه. عبرنا عددًا لا بأس به من الطرق الرئيسية ذات خطوط الترام — لم أكن أعلم أنه يوجد العديد منها — وقد تكشَّف لي مدى كثرة أقواس السكك الحديدية في هذا الجزء من لندن ومدى تغير طبيعة أسطُح الطُّرق.
لم تكن الرحلة مملَّةً بأي حال من الأحوال هذه المرة. فالتغيرات المستمرة في الاتجاهات والاختلافات في طبيعة الطريق شغلتني كثيرًا، بحيث لا أكاد أدوِّن قيدًا حتى أجد إبرة البوصلة تتأرجح بشدة، ما يدل على أننا اتخذنا منعطفًا آخر، وقد فوجئت كثيرًا حين أبطأت العربة وانعطفت إلى طريق مسقوف. وبسرعة دوَّنت القيد الأخير («٩:٢٤. جنوب شرقي. في طريق مسقوف»)، وأغلقت الدفتر ووضعته هو واللوح في جيبي، ولم أكد أفتح الجريدة حتى فُتح باب العربة، وبناءً على ذلك فككت المصباح وأطفأته ووضعته في جيبي أيضًا، وفكرت في أنه قد يفيدني فيما بعد.
كما في المرة السابقة، وقفت السيدة شاليبام عند الباب المفتوح ومعها شمعة مشتعلة. لكنها بدت أقل تمالُكًا لنفسها هذه المرة. بل بدا عليها الجزَع والرعب في الحقيقة. وعلى الرغم من ضوء الشمعة الخافت، فإني أرى شحوب بشرتها وعدم قدرتها على البقاء ساكنة. حين أخبرتني ببعض التفاصيل المهمة، ما فتِئَت تتململ، وظلَّت ترتعش يداها وقدماها.
قالت: «هلُمَّ معي في الحال. فحالة السيد جريفز سيئة للغاية هذه الليلة. ولن ننتظر مجيء السيد فايس.»
ومن دون أن تنتظر الرد، هُرعت إلى السلم وكنت أنا في عقِبها. وجدت الغرفة على الحالة التي كانت عليها في المرة السابقة. ولكن لم يكن المريض على الحالة نفسها. وبمجرد أن دخلت الغرفة، أعطتني قرقرةٌ ناعمة وإيقاعية من السرير إنذارَ خطر واضح تمامًا. حينئذٍ تقدَّمت بسرعةٍ ونظرت إلى طريح الفراش وإذا بالخطر يتأكد لديَّ. أمسى وجه المريض المخيف أكثر رُعبًا، وغارت عيناه داخل محجرَيهما، وزاد شحوب بشرته، «باتَ أنفه رفيعًا مثل ريشة الكتابة»، وعندما لم أرَه يهذي بما يراه من «المروج الخضراء في الجنة»، فهذا لأن حالته قد تفاقمت إلى ما هو أبعد من ذلك. ولو كانت المسألة مسألة مرض، لقُلت من فوري إنه يحتضر. فحاله لا يوحي إلا بحال رجل شارف الموت. لكن لأني على يقين بأن الحالة تسمُّمٌ بالمورفين، لم أتيقن من قدرتي على انتشاله من فوق حافة الموت التي يتأرجح عليها بشدة.
«هل مرضه شديد؟ هل يحتضر؟»
تحدثَت السيدة شاليبام بصوتٍ منخفضٍ للغاية، ولكن اختلجته نبرة حرص واهتمام. التفتُّ وأنا أضع إصبعي على رسغ المريض ورأيت في وجهها رُعبًا لم أرَه على أحد من قبل. وهذه المرة لم تحاول أن تتحاشى الضوء، ولكنها نظرت في عيني مباشرةً، ولاحظتُ — بحالة شبه لا شعورية — أن عينَيها بُنِّيتان، ورأيت فيهما أثر إجهاد غريب.
أجبتها: «نعم، إن مرضه شديد. ويُحدق به خطر عظيم.»
لم تُزِح ناظرها عني لبضع ثوانٍ. ثم حدث شيء غريب. فجأة، احولَّت عيناها حوَلًا مخيفًا، إنه ليس الحوَل التقارُبي المألوف الذي يُقلده ممثلو الكوميديا، ولكنه الحوَل إلى الخارج، أو التباعُدي، المصاحب لقِصر النظر أو الرؤية غير المتوازنة. وقد احترت في هذه النظرات. ففي لحظةٍ تنظُر إليَّ بعينَيها كلتَيهما، وفي اللحظة التالية تدور إحدى عينَيها حتى تنظر إلى الركن البعيد وتترك العين الأخرى تُحدق فيَّ مباشرةً.
من الواضح أنها تُدرك هذا التغير؛ حيث إنها أدارت رأسها بعيدًا عني بسرعة واحمرَّ وجهها بعض الشيء. ولكن لم يكن ثمة وقت للتفكير في المظهر الشخصي.
«يجب أن تُنقذه أيها الطبيب! أرجوك لا تدعه يموت! يجب ألَّا يموت!»
كانت تتحدث بحُرقة وكأنه أعز صديق لديها في هذه الدنيا، لدرجة أني شككتُ في أن هذا كله ليس حقيقيًّا. لكن رعبها الظاهر كان له فائدة.
قلت: «أي شيء ضروري لإنقاذه لا بد أن يحدث بسرعة. سأعطيه بعض الأدوية في الحال، ولكن يجب أن تعدِّي قهوة مُركَّزة.»
تعجبَت: «قهوة! ولكن لا يوجد بنٌّ في المنزل. هل يُغني الشاي إذا أحضرته ثقيلًا؟»
«لا، لن يُغني عن القهوة. يجب تحضير القهوة، ولا بد أن يؤتى بها بسرعة.»
«إذن، يجب أن أذهب وأشتريَ بعض القهوة. ولكن الوقت متأخر. وستكون المتاجر مغلقة. ولا أحب أن أترك السيد جريفز.»
سألتها: «هل يمكن إرسال السائق؟»
هزت رأسها إشارة على نفاد صبرها. «لا، هذا غير ممكن. يجب أن أنتظر حتى يأتي السيد فايس.»
قلت بحدة: «هذا لن يجدي نفعًا. سيتفلت من بين أيدينا ما دُمتِ تنتظرين. يجب أن تذهبي وتُحضري هذه القهوة على الفور وتأتيني بها بمجرد أن تصبح جاهزة. وأريد قَدَحًا وبعض الماء.»
أحضَرَت زجاجة مياه وكوبًا من فوق منضدة الغسيل، ثم أسرعت بالخروج من الغرفة وهي تئنُّ قانطة.
لم أضيع الوقت وأعطيته العلاج المتاح لديَّ. أفرغت بضع بلورات من برمنجنات البوتاسيوم في الكأس وملأتها بالماء وقربتها من المريض. كان سُباته عميقًا. هززته بقوة بقدر ما تسمح به حالته البائسة، ولكن لم أجِد أي مقاومة أو ردة فعل. ولما شككت في قدرته على البلع، لم أتجرأ وأُخاطر بسكب السائل في فمه خشية أن يختنق. ولو توفَّر أنبوب معد، لحُلَّت المشكلة، ولكن ليس معي واحد بالطبع. كان معي منظار فَمَوي واستخدمته مكان موسِّع الفم، وعندما فتحت فم المريض به، أسرعت وخلعت أنبوبًا مطاطيًّا من سماعتي الطبية، وأدخلت أحد طرفيه في منظار أُذُن ليكون بمثابة قِمع. ثم أدخلت الطرف الآخر في المريء بقدر ما يسمح طوله، واتخذت حذري وأنا أسكب كمية صغيرة من محلول البرمنجنات في القمع المؤقت. شعرت بغمرة من الراحة حين أظهرت حركة الحلق أن منعكس البلع لا يزال موجودًا؛ ومن ثَم تشجعت وسكبت في الأنبوب كمية من المحلول بمقدار ما رأيته آمنًا للأخذ في المرة الواحدة.
جرعة البرمنجنات التي أعطيتها له تكفي لتحييد أي كمية كبيرة من السُّم، الذي ربما لا يزال موجودًا في مَعِدته. بعد ذلك، توجَّب عليَّ التعامل مع كمية العقَّار التي امتُصَّت بالفعل وأصبح لها آثار سُمية. عندما أخرجت علبة الحقن تحت الجلد من حقيبتي، جهزت المحقنة بجرعة كاملة من كبريتات الأتروبين، وعلى الفور حقنتُ بها ذراع الرجل الفاقد الوعي. وهذا كل ما وسِعني فعله فيما يتعلَّق بالعلاجات حتى وصلت القهوة.
نظفت المحقنة ونحيتها جانبًا، وغسلت الأنبوب، ثم عندما عدت إلى جانب السرير، حاولت أن أوقظ المريض من نعاسه العميق. ولكن توجَّب الحذر كثيرًا. فقليل من التعامل الخشن غير المدروس قد يوقف هذا النبض الضعيف الواهن إلى الأبد، ولكن من المؤكد أن عدم الاستيقاظ في أسرع وقت قد يُعمِّق النعاس حتى ينتهي به المآل إلى الموت من دون أن يشعر. ولذا شرعت في عملي بحرص بالغ، وبدأت أحرك أطرافه وأمسح وجهه وصدره بطَرَف منشفة مبلَّلة، وأدغدغ أخمص قدمه، وكذلك أمارس بعض المحفِّزات القوية دون العنيفة.
لقد انشغلت بإنعاش مريضي الغامض، لدرجة أني لم ألاحظ أن الباب مفتوح، وفي البداية عندما نظرت حولي، أدركت أنه يوجد ظل رجل في الطرف البعيد من الغرفة، تميزه بُقعتا ضوء خافت تنعكسان من نظارته. لا أعلم منذ متى وهو يُراقبني، ولكن حين أدرك أني رصدته، تقدم نحوي ورأيت أنه السيد فايس، على الرغم من أنه لم يكن بعيدًا بمسافة طويلة.
قال: «لعلك وجدت صديقي بخير الليلة.»
تعجبت: «بخير! لم أجده بخير على الإطلاق. أنا قلِق عليه إلى أقصى حد.»
«أرجو أنك … إمممم … لا تترقب أي شيء … إمممم … أي شيء خطير.»
قلت: «لا حاجة إلى الترقُّب، فحالته من أخطر ما يكون. وأظن أنه قد يموت في أي لحظة.»
قال لاهثًا: «الرحمة يا رب! إنك تُرعبني!»
لم تكن مبالغة منه. وفي خضم هياجه، تقدم إلى بُقعة أكثر إضاءة في الغرفة، ورأيت وجهه شاحبًا شُحوبًا مخيفًا، باستثناء أنفه وبُقع حمراء متاخمة لأنفه في خدَّيه، ما أحدث تبايُنًا شنيعًا وغريبًا في بشرته. لكن سرعان ما استعاد رباطة جأشه قليلًا وقال:
«أرى حقًّا — أو على الأقل أرجو — أنك تعتبر حالته خطيرة من دون داعٍ. فهكذا كانت حالته من قبل، كما تعلم.»
شعرت يقينًا بأن حالته لم تكن كذلك، ولكن ليست ثمة فائدة من مناقشة الأمر. ولذا رددت وأنا أحاول جهدي أن أوقظ المريض:
«قد يكون كما قلتَ وقد لا يكون. ولكن لكل شيء نهاية، وربما تكون هذه آخر فرصةٍ له في الحياة.»
قال: «أرجو ألَّا تكون الأخيرة، على الرغم من أنني أعلم أن هذه الحالات دائمًا ما تنتهي بالموت سواء أكان عاجلًا أم آجلًا.»
سألته: «ماذا تقصد بالحالات؟»
«أقصد مرض النوم، ولكن يبدو أنك ترى رأيًا آخر بشأن طبيعة هذه الشكوى المخيفة.»
ترددت للحظات، وأردف هو قائلًا: «بالنسبة إلى اقتراحك بأن الأعراض ربما تكون ناتجة عن تناول عقَّارات، فأظن أنه يمكننا نبذ هذا الاقتراح. فقد وضعته تحت المراقبة على مدار الساعة عمليًّا منذ قدومك المرة السابقة، غير أنني فتشت الغرفة بنفسي وفتشت في الفراش ولم أجد أي أثر لأي عقَّار. هل بحثت في المصادر عن مرض النوم؟»
نظرت إلى الرجل شَزْرًا قبل أن أجيبه، وحينئذٍ ازدادت شكوكي فيه أكثر من ذي قبل. ولكن هذا الوقت ليس مناسبًا للتراجُع. فقد كان المريض واحتياجاته الحالية هما كل همي. فكما قال ثورندايك، أنا في نهاية الأمر طبيب ولست مُحققًا، والظروف تطلبت الكلام المباشر والعمل من جانبي.
قلت: «أجل اطَّلعت على المصادر وتوصلت إلى نتيجة حاسمة. هذه الأعراض ليست ناجمة عن مرض النوم. وأرى أنها تسمم بالمورفين بلا شك.»
صاح: «ولكن سيدي هذا الأمر مستحيل! ألم أُخبرك أنه وُضع تحت المراقبة على مدار الساعة؟»
أجبته: «أنا لا أحكم إلا بالأعراض التي تراها عيني»، وعندما رأيته يهمُّ بالاعتراض مجددًا، أردفت: «لا تُهدر وقتنا الثمين وإلا فقد يموت السيد جريفز من قبل أن نصل إلى نتيجة. أرجو أن تعجِّل إحضار القهوة التي طلبتها منذ وقت ريثما أتخذ بعض الإجراءات الضرورية، فربما نتمكن من إفاقته.»
من الواضح أن أسلوبي الفظ أخافه. فلا بد أنه بات واضحًا لديه أنني لست مستعدًّا لقبول أي تفسير لحالة فقدان الوعي لدى المريض غير التسمُّم بالمورفين، ومن هنا أَمسى الاستنتاج واضحًا أن البدائل إما الشفاء وإما التحقيقات. ولما أغلظت عليه في الرد بأنني «يجب أن أفعل ما أراه الأفضل»، أسرع خارجًا من الغرفة، وتركني أواصل جهودي دون مزيد من المقاطعة.
مكثتُ بعض الوقت وأنا لا أرى ثمرة لهذه الجهود. فالرجل يرقد ساكنًا وفاقدًا للحس والوعي، ولا يفرقه عن الجثة الهامدة سوى النفس البطيء والصعب وغير المنتظم، والحشرجة المنذِرة بالسوء المصاحبة له. لكن بعد لحظات، بدأت علامات الإفاقة في الظهور بدرجات ضئيلة للغاية. وبصَفعة قوية بالمِنشفة المبللة على الخد تفتحت الجفون بقدر معقول، وبضربة مثلها على الصدر صدرت شهقة خفيفة. وبتحريك القلم على باطن القدم رصدت حركة انكماش واضحة، وبفحص العين مرة أخرى، اكتشفت تغيرًا طفيفًا عَرَفت منه أن مفعول الأتروبين قد بدأ.
هذه العلامات مشجعة للغاية ومُرضِية إلى حد كبير، على الرغم من أن الوقت لا يزال باكرًا على الفرح. أبقيت المريض مُغطًّى بعناية واستمررت في عملية استثارة نشاطه برفق، وتحريك أطرافه وكتِفَيه، وتمشيط شعره، وتحفيز حواسِّه المخدَّرة بمحفِّزات بسيطة ولكن مستمرة. وبمتابعة هذا العلاج، استمرَّ التحسُّن كثيرًا لدرجة أنه لما صرخت بسؤال في أذنه فتح عينيه للحظة، ولكن في لحظة أخرى، عادت جفونه إلى موضعها السابق.
بعد هذا التحسُّن بفترة وجيزة، دخل السيد فايس إلى الغرفة مرة أخرى، وتبعَته السيدة شاليبام وهي تحمل صينية صغيرة وضَعَت عليها جرة بُن وجرة لبن وفنجانًا وصحنَ فنجان وعلبة سُكر.
سأل السيد فايس بتوتر: «كيف حاله الآن؟»
رددت: «يُسعدني أن أقول إن هناك تحسنًا ملموسًا. لكن يجب علينا أن نُثابر. وعلى أي حال، فقد زال الخطر الآن.»
تفحَّصت القهوة، ورأيت لونها الغامق وشممت رائحتها النفاذة والمطَمْئنة، وسكبت نصف فنجان واقتربت من الفراش.
صرخت: «أريدك أن تشرب بعض القهوة الآن يا سيد جريفز.»
ارتفع الجَفنان المرتخيان للحظات، ولكن لم تكن ثمة استجابة أخرى. فتحت فمه برفق ولم أتلقَّ أي مقاومة، وسكبت فيه مِلعقَتَين من القهوة، وسرعان ما ابتلعهما، وبناءً على ذلك كررت هذا الإجراء، واستمررت فيه على فترات قصيرة حتى فرغ الفنجان. وسرعان ما ظهر تأثير الدواء الجديد. ثم بدأ يغمغم ويتمتم بكلمات غير مفهومة ردًّا على أسئلتي التي كنت أصرخ بها في أُذنه، وقد فتح عينيه مرة أو مرتين ونظر إلى وجهي حالمًا. بعد ذلك أجلسته وسقَيته القهوة من الفنجان، ولم أتوقف طيلة الوقت عن طرح سيل من الأسئلة التي أحدثت كمًّا من الضوضاء، غير أنها افتقرت إلى ترابط بعضها ببعض.
ومع هذه الإجراءات، وقف السيد فايس ومدبرة شئون منزله يُراقبان باهتمام كبير، وتقدم السيد فايس — على غير عادته — من السرير كثيرًا كي يرى بوضوح أكبر.
قال: «هذا تحسُّن كبير حقًّا، ولكن يبدو أنك أصبت في النهاية. فلا ريب أن حاله أفضل بكثير. ولكن أخبرني، هل سيؤدي هذا العلاج إلى تحسن ملحوظ مثل الآن إذا كانت الأعراض ناجمة عن مرض النوم؟»
أجبته: «لا، بالتأكيد لن يؤدي.»
«وكأن هذا العلاج قد حل المشكلة. ولكنها أكبر مسألة غامضة. هل عندك أي فكرة عن الطريقة التي ربما أخفى بها خزانة العقاقير؟»
قمت ونظرت في وجهه مباشرةً؛ إنها الفرصة الأولى التي أتيحت لي كي أتفحص وجهه بأي وسيلة غير الضوء الخافت؛ ومن ثَم نظرت إليه باهتمام بالغ. والآن، إنها حقيقة غريبة أن يكون هناك فاصل زمني طويل بين استقبال الانطباع البصري ونقله بالكامل إلى الوعي، على الرغم من أن هذه الحالة لا بد أن كثيرين لاحظوها. فالشيء يمكن رؤيته من دون وعي وسرعان ما يختفي على ما يبدو من الذاكرة، ولكن يمكن استرجاع الصورة كاملة من الذاكرة ودراسة تفاصيلها، وكأن الشيء لا يزال في مرمى بصرنا.
لا بد أن شيئًا من هذا القبيل قد حدث لي الآن. وعلى الرغم من انشغالي بحالة المريض، فإن العادة المهنية المتمثِّلة في المراقبة السريعة والدقيقة جعلتني أُلقي نظرة فاحصة على الرجل الذي أمامي. لم تكن سوى نظرة سريعة، ولكن ربما السيد فايس لم تُرِحْه نظراتي الفاحصة له؛ ومن ثَم انسحب من فوره إلى مكان مظلم، ويبدو أن انتباهي توجَّه في المقام الأول إلى التباين الغريب بين شحوب وجهه وحُمرة أنفه، وإلى شعر حاجبيه الخشن. ولكني لاحظت حقيقة أخرى بالغة الغرابة، وقد لاحظتها من دون وعي ونُسيَت على الفور، ولكني تذكرتها مرة أخرى حين تفكرت فيما حدث هذه الليلة. الحقيقة هي:
عندما وقف السيد فايس مُميلًا رأسه بعض الشيء، تمكنت من النظر عبر عدسة النظارة إلى الحائط الذي خلفه. رأيت على الحائط رسمة ذات إطار، ويبدو أن حافة الإطار — حسبما رأيت من عدسة النظارة — لم تُمس ولم يصبها تشويه أو تصغير أو تكبير، وكأني أراها من زجاج نافذة عادي، لكن انعكاسات لهب الشمعة في النظارة أظهرت اللهب مقلوبًا، ما يعطي إثباتًا قاطعًا أن النظارة يوجد بها على الأقل عدسة واحدة مُقعَّرة. لم تستمر هذه الظاهرة الغريبة أمامي أكثر من لحظة أو لحظتين، وحين غابت عن ناظرَيَّ، غابت من عقلي أيضًا.
ردًّا على السؤال الأخير، أجبته: «لا، ليس عندي فكرة عن الطريقة التي ربما أخفى بها خزانة المورفين على نحو فعَّال. وبناءً على الأعراض، فقد تناول جرعة كبيرة، وإذا كان من عادته أن يتناول جرعات كبيرة، فلا بد أن لديه مخزنًا كبيرًا للغاية. وليس عندي أدنى فكرة عن ذلك.»
«هل ترى أن الخطر قد زال الآن؟»
«أوه، كلا على الإطلاق. وفي رأيي أنه يمكننا إبقاؤه مستيقظًا إذا ثابرنا، ولكن لا بد ألَّا يعود إلى حالة الغيبوبة مرة أخرى. لا بد أن نُبقيه يتحرك حتى يزول تأثير العقَّار بالكامل. من فضلك ساعده حتى يلبس منامته، سنسانده كي يتمشى في الغرفة بعض الوقت.»
سأل السيد فايس على وجل: «لكن هل هذا آمن؟»
أجبته: «آمن تمامًا. وأنا سأراقب نبضه عن كثب. الخطر في احتمالية — بل في حتمية — أن ينتكس إذا لم يستمر في الحركة.»
لم يخفَ على وجه السيد فايس عدم رغبته واستنكاره، ولكنه أخرج منامة وساعدته كي نُلبسها للمريض. ثم سحبناه من فوق الفراش وهو يعرج كثيرًا، ولكنه غير مذعِن تمامًا، وأوقفناه على قدميه. فتح عينيه ورمش مثل البومة لأحدنا ثم الآخر، وتمتم بكلمات احتجاج غير مفهومة؛ لم نأبه لها، وأدخلنا قدمَيه في النعلين وحفزناه كي يمشي. في البداية، بدا أنه لا يستطيع الوقوف، واضطررنا إلى إسناده من الذراعَين وحفزناه للسير إلى الأمام، ولكن بعد فترة وجيزة بدأت ساقاه المتثاقلتان تمشيان بحركات محدَّدة، وبعد دورة أو دورتين في الغرفة، لم يتمكن من دعم وزنه جزئيًّا فحسب، بل بدرت منه احتجاجات أقوى، ما دل على بدء استرجاع الوعي.
في هذا الوقت، ذُهلت من السيد فايس حين أعطى الذراع التي يمسكها إلى مدبرة شئون المنزل.
قال: «إذا سمحت لي يا دكتور، سأذهب لأقضي بعض الأعمال المهمة التي تركتها دون أن تكتمل. وستقدم لك السيدة شاليبام كل المساعدة التي تحتاج إليها، وستطلب لك العربة حين ترى أنه بات لا بأس من ترك المريض. وتحسُّبًا لعدم رؤيتك كما في المرة السابقة، أقول لك تصبح على خير. أرجو ألَّا تحسبني فظًّا.»
صافحني وخرج من الغرفة وتركني — كما قلت — مُنذهِلًا من أعماقي؛ لأنه يَعتبر أي عمل في هذه اللحظة أهم من حالة صديقه، الذي كانت حياته على المحك حتى هذه اللحظة. ولكن في الحقيقة هذا ليس من شأني. فأنا يمكنني أن أتدبَّر أمري من دونه، وقد شغلني إنعاش هذا الرجل البائس نصف الميت، لدرجة أنه جذب انتباهي بالكامل.
بدا مستوى الانقباض يعلو ويهبط من جديد في الغرفة، وكذلك الاحتجاجات غير المفهومة من المريض. وبينما نتمشى، ولا سيما عند الانعطاف، لمحت وجه مُدبِّرة شئون المنزل أكثر من مرة. لكن في أغلب المرات كنت أراه من الجنب. وكأنها تتحاشى النظر في وجهي، على الرغم من أنها نظرت فيه مرة أو مرتين، وفي كل مرة كانت عيناها تتجهان نحوي بصورة طبيعية، ومن دون أي علاماتٍ على الحوَل. على الرغم من ذلك، تكوَّن لديَّ انطباع بأن عينَيها تُصابان بالحوَل حين تُدير وجهها بعيدًا عني. كانت «العين الدوَّارة» — وهي اليُسرى — نحوي لأنها تمسك المريض من ذراعه اليمنى، ولا أحسبها نظرت في اتجاه غير اتجاهي، على الرغم من أنني على يقين بأنها تنظر أمامها مباشرةً، ولكن بالطبع لم تكن عينها اليُمنى في مرمى بصري. صدمتني هذه المسألة حتى في ذلك الوقت لأنها مسألة غريبة، ولكن انصب جُل اهتمامي على المهمة التي في يدي، وأَوليتها كثيرًا من تفكيري.
وفي هذه الأثناء، واصل المريض الاستفاقة سريعًا. وكلما زاد مستوى إفاقته، امتلأت احتجاجاته بالطاقة على هذا المشي المضني. ولكن من الواضح أنه كان رجلًا مُهذبًا؛ لأنه على الرغم من اضطراب قدراته، تمكن من أن يُزين اعتراضاته بكلام مهذب ولطيف على نحو فريد، ولا يتفق مع الشخصية التي رسمها لي السيد فايس.
تمتم متثاقلًا: «شكرًا. أتعبتُك. ضَعني على الفراش.» نظر إلى الفراش حزينًا، ولكني الْتفَفتُ به ومشيت به في الغرفة مرةً أخرى. مشى معي من دون مقاومة، ولكنه كرَّر طلبه حين اقتربنا من الفِراش مرةً أخرى.
«كفى، شكرًا. أعِدني. مُمتَنٌّ لكرمك» — وهنا الْتففتُ به — «لا، مُتعَب كثيرًا. أرِحني، من فضلك.»
قلت: «يجب أن تمشي مسافة أطول يا سيد جريفز. ستسوء حالتك كثيرًا إذا نمتَ مرة أخرى.»
رمقني بنظرة فضول وذهول باهت، وتفكر لبعض الوقت وكأنه في حيرة من أمره. ثم نظر إليَّ مرة أخرى وقال:
«غير صحيح، مخطئ …»
وهنا قاطعَته السيدة شاليبام بنبرة حادة:
«يقول الطبيب الأفضل لك أن تمشي قليلًا. فقد كنت نائمًا منذ فترة طويلة. إنه لا يريدك أن تنام الآن.»
قال المريض: «لا أريد النوم، أريد الاستلقاء.»
«ولكن يجب ألَّا تستلقي ولو لفترة قصيرة. يجب أن تواصل المشي بضع دقائق أخرى. والأفضل ألَّا تتكلم. تمشي وحسب.»
قلت: «الكلام ليس فيه ضرر، بل إنه جيد له. سيساعده الكلام على أن يبقى مستيقظًا.»
قالت السيدة شاليبام: «حسبت أن الكلام يُتعبه، كما أنه يعزُّ عليَّ أن يطلب الاستلقاء في حين أنه لا يمكننا تلبية طلبه.»
تحدثت بنبرة حادة وصوت عالٍ من دون داعٍ، لدرجة أن المريض سمعها. من الواضح أنه استوعب التلميح القوي الذي انطوت عليه الجملة الأخيرة؛ حيث إنه ظل يروح ويغدو في الغرفة صامتًا لبعض الوقت، ولكنه كان مُضجَرًا وغير مستقر، على الرغم من أنه ظل ينظر إليَّ من وقت إلى آخر وكأن مظهري فيه شيء يُحيِّره كثيرًا. بعد مدة، تغلَّبَت رغبته الجامحة إلى الراحة على تأدُّبه وعاد إلى نبرة الهجوم.
«اكتفيت الآن. أرهقني التعب. أنا مُتعَب. من فضلك دعني أستلقِ بضع دقائق.»
سألت السيدة شاليبام: «في رأيك، هل يمكن أن يستلقي لفترة قصيرة؟»
قِستُ نبضه وعلمت أن الإجهاد بدأ ينال منه، والأفضل ألَّا نُفْرِط في الحركة وهو في حالة الوهن تلك. وبناءً على ذلك، وافقت على رجوعه إلى الفراش واتجهت به صوبه، وحينئذٍ ترنَّح فرحًا إلى مكان راحته مثل خيل مُتعَب وفي طريقه إلى إسطبله.
بمجرد أن بلغ الفراش، سقيتُه فنجان قهوة، وقد شربها ببعض الشَّره وكأنه عطشان. ثم جلست على جانب الفراش، وحتى أُبقيه مستيقظًا، انهلت عليه بسيل من الأسئلة مرة أخرى.
سألت: «هل رأسك يؤلمك يا سيد جريفز؟»
«يسألك الطبيب هل رأسك يؤلمك؟» صاحت السيدة شاليبام بصوت عالٍ لدرجة أن المريض بدأ الكلام واعيًا.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة خافتة: «سمعته يا عزيزتي. تعلمين، لست أَصَمَّ. نعم. رأسي يؤلمني كثيرًا. لكن أحسب أن الرجل مخطئ …»
«يقول يجب أن تبقى مستيقظًا. يجب ألَّا تنام مجددًا، وألَّا تُغمض عينيك.»
«حسنًا يا بولن. سأُبقيهما مفتوحتَين»، وبدأ من فوره يُغمضهما وفيهما مسحة من الهدوء اللامتناهي. حينئذٍ أمسكتُ يده وهززتها برفق؛ ومن ثَم فتح عينيه ونظر إليَّ والنُّعاس يُداعبهما. ربتَت مدبرة شئون المنزل على رأسه، وما برحت تحيدُ جانب وجهها عني، وعلى حد ظني أنها تفعل ذلك دومًا كي تُخفي عني حوَل عينها، وقالت:
«هل ثمة داعٍ لمكوثك هنا مدة أطول أيها الطبيب؟ الوقت يتأخر وطريقك طويل.»
نظرتُ إلى المريض مُرتابًا. وكرهتُ أن أتركه؛ لأنني لا أثق في هؤلاء الناس. لكن عندي عمل في الغد، وربما زيارة أو زيارتان في المساء، كما أن قدرات تحمُّل الطبيب لها حدود.
أردفت السيدة شاليبام: «أظن أنني سمعت العربة منذ مدة.»
نهضت مترددًا ونظرت في ساعتي. ووجدت أنها الحادية عشرة والنصف.
قلت بصوت منخفض: «هل تفهمين أن الخطر لم يزُل بعدُ؟ وإذا تُرك الآن فسينام مرة أخرى، ولن يستيقظ مهما حاولنا. هل تعينَ ما أقول؟»
«أجل أعي جيدًا. وأعدك أني لن أتركه ينام مرة أخرى.»
بينما تتحدث، توجهت إليَّ بوجهها كاملًا للحظات، ولاحظت أن عينيها طبيعيتان تمامًا ولا أثر للحوَل فيهما.
قلت: «حسن جدًّا. بناءً على ذلك سأغادر الآن، وأرجو أن أجد صديقنا وقد تعافى تمامًا في زيارتي القادمة.»
التفتُّ إلى المريض وقد بدأ يغفو؛ ومن ثَم صافحته بقوة.
قلت: «مع السلامة يا سيد جريفز. أنا آسف لأنني اضطرِرتُ إلى إزعاج راحتك كثيرًا؛ ولكن يجب عليك أن تبقى مستيقظًا كما تعلم. يجب ألَّا تنام.»
رد والنعاس في عينيه: «حسن جدًّا. أعتذر لأني أتعبتك. سأبقى مستيقظًا. ولكن أظنك مخطئًا …»
«يقول الطبيب إنه يجب ألَّا تنام الآن، ويجب أن أحرص على ذلك. هل تفهم؟»
«أجل. ولكن لماذا هذا الرجل …؟»
قالت السيدة شاليبام مداعبةً: «لا فائدة الآن من طرح الكثير من الأسئلة، سنتحدث غدًا. طابت ليلتك أيها الطبيب. سأُضيء لك السلم، ولكن لن أنزل معك لئلَّا ينام المريض مرة أخرى.»
أخذت كلامها على محمل الطرد الصريح وغادرت، وأعقب ذلك نظرة ذهول حالمة من المريض. أمسكت مدبِّرة شئون المنزل الشمعة من فوق الدرابزين حتى وصلت إلى بداية السلم، وحينئذٍ لمحت وهج ضوء من مصابيح العربة من خلال الباب المفتوح عند نهاية الطرقة. وجدت السائق منتظرًا عند الباب بالخارج، ولا يكاد يُتعرَّف عليه في ضوء المصباح الخافت، وحين دخلتُ العربة تعجب بلكنته الاسكتلندية «وكأني سأقضي الليل كله هنا.» لم ينتظر الرد، بل لم تكن ثمة ضرورة للرد، فقد أغلق الباب جيدًا.
أضأتُ المصباح الجيبي وعلقته في المسند الخلفي. ثم أخرجت اللوح والدفتر من جيبي. ولكني رأيت أن لا حاجة إلى تدوين ملاحظات جديدة، والحق أني تكاسلت عن هذه المهمة؛ فقد تعبت بعد الجهود الأخيرة، كما أنني أردت التفكير في أحداث هذه الليلة وهي لا تزال عالقة في ذهني. وبناءً على ذلك، وضعت الدفتر جانبًا، وملأت غليوني وأشعلته، ووطَّأت نفسي كي أسترجع الأحداث التي شهدتها في الزيارة الثانية إلى هذا المنزل الغريب.
باسترجاع ما حدث في هذه الزيارة على مهل، نجد أنفسنا أمام عدد من الألغاز التي تحتاج إلى أن يُكشف عنها. ومن هذه الألغاز حالة المريض. فقد تبددت كل الشكوك بشأن سبب الأعراض بعد رؤية تأثير الترياق. بالتأكيد كان السيد جريفز تحت تأثير المورفين، والإشكالية الوحيدة هي كيف وصل إلى هذه الحالة. ففرضية أنه تجرع السم بنفسه غير منطقية. مدمن المورفين لا يتناول هذه الجرعة المميتة. وبتُّ على يقين أن شخصًا آخر سقاه السُّم، ووفقًا لما ظهر من السيد فايس، فليس هناك أحد يمكن أن يسقيه السُّم غيره هو ومدبرة شئون المنزل. كذلك كل الملابسات الغريبة الأخرى تشير إلى هذا الاستنتاج.
ماذا كانت هذه الملابسات؟ كما قلت، إنها كثيرة، وإن كان العديد منها يبدو تافهًا. بادئ ذي بدء، فعادة ظهور السيد فايس بعد وصولي ببعض الوقت واختفائه قبل مغادرتي ببعض الوقت؛ لا شك أنها عادة غريبة. والأغرب رحيله المفاجئ هذه الليلة، وكأن السبب الذي ذكره ليس سوى ذريعة. وقد تزامن هذا الرحيل مع استعادة المريض قدرته على الكلام. هل خشِي السيد فايس من أن يقول الرجل شبه الواعي شيئًا يفضحه في وجودي؟ يبدو أن الأمر كذلك. لكنه رحل وتركني مع المريض ومدبرة شئون المنزل.
وحين فكرت في الأمر، تذكرت أن السيدة شاليبام ظهر عليها بعض القلق، لدرجة أنها منعت المريض من الكلام. فقد قاطعته أكثر من مرة، وتدخلت مرتين حين بدا منه أنه على وشك أن يطرح بعض الأسئلة. ذكر المريض أنني «مخطئ» بشأن شيء ما. فما الشيء الذي أراد أن يخبرني به؟
وما استغربته أن المنزل لا توجد به قهوة، بل توجد به كمية وفيرة من الشاي. ومعروف عن الألمان أن من عاداتهم احتساء القهوة وليس الشاي. ولكن قد لا يكون ثمة غرابة في ذلك. بل إن الأغرب هو عدم وجود سائق العربة. لماذا لم يُرسَل لإحضار القهوة، ولماذا لا يحلُّ هو محلَّ السيد فايس حين يغيب بدلًا من مدبرة شئون المنزل؟
ثمة أمور أخرى تبادرت إلى ذهني. تذكرتُ كلمة «بولن» التي نادى بها السيد جريفز مدبرةَ شئون المنزل. من الواضح أنه اسم مسيحي، ولكن لماذا ناداها السيد جريفز باسمها المسيحي في حين أن السيد فايس يناديها باسمها الرسمي وهو السيدة شاليبام؟ وهذه المرأة نفسها، ما الذي يوحي به هذا الحوَل الغريب الذي يختفي؟ من الناحية العضوية، فهو لا ينطوي على أي سر. فالمرأة تُعاني حوَلًا تباعُديًّا عاديًّا، ومثل العديد من المصابين بهذا الانزياح في حدقة العين، فإنه يمكن إعادة العين إلى وضعها الطبيعي المتوازي بجهد عضلي كبير. وقد اكتشفت هذا الانزياح حين حاولت الحفاظ على هذا الجهد فترة طويلة، وتفلتت منها قدرتها على التحكم العضلي. ولكن لماذا فعلت ذلك؟ هل كان مجرد غرور أُنثوي، أم مجرد حساسية تجاه تشوُّه شخصي طفيف؟ ربما كانت المسألة كذلك، أو ربما وراءها دافع آخر. لا يسعني معرفة ذلك.
بينما أتفكر في هذا السؤال، تذكرت فجأة السمات الغريبة بنظارة السيد فايس. وهنا قابلتني مشكلة محيرة. فحين نظرت من خلال هذه العدسات، كانت الرؤية واضحة وكأني أنظر من خلال زجاج نافذة عادي، ولا شك أنها أعطت انعكاسًا مقلوبًا للهب الشمعة، مثل الانعكاس الذي يُرى من سطح عدسة مقعرة. لكن ليس خفيًّا استحالة أن تكون العدسة مُسطَّحة ومُقعَّرة في آن واحد، ولكن النظارة فيها خصائص لكل من العدستَين المسطَّحة والمقعَّرة. ثمة مشكلة أخرى. بما أني تمكنت من رؤية الأجسام من دون تغيير عبر هذه العدسة، فلا بد أن الأمر نفسه ينطبق على السيد فايس. لكن وظيفة النظارة أن تغير مظهر الأجسام، إما بالتكبير وإما بالتصغير وإما بتعويض ضبابية الرؤية. وما دامت لا تغير في مظهر الأجسام، فلا فائدة من استعمالها. لم أستطع التوصل إلى استنتاج. بعد التفكير المضني في هذه المسألة، نبذتها من عقلي، وما رأيت مَضضًا في ذلك؛ حيث إن نظارة السيد فايس ليس لها تأثير قوي في القضية.
حين وصلتُ إلى المنزل، نظرت في صندوق الرسائل على وَجَل، ولكني ارتحت حين لم أجد مزيدًا من الزيارات التي ينبغي القيام بها. وبعدما أعددت الخليط للسيد جريفز وناولته سائقَ العربة، كوَّمت رمادَ المدفأة في غرفة الكشف، وجلست أدخن آخر غليون وأنا أتفكَّر مرة أخرى في هذه القضية الفريدة والغريبة التي جُرَّت قدمي إليها. ولكن سرعان ما قطع الإرهاق حبل هذه التأملات، وحين توصلت إلى أن هذه الأحداث تتطلب التشاوُر مرة أخرى مع ثورندايك، خفضت ضوء المصباح الغازي حتى أَمسى مجرد شرارة زرقاء وأويت إلى فراشي.