وصية جيفري بلاكمور
لم يكن وصولي إلى مسكن ثورندايك غير متوقَّع؛ فقد سبقتني إليه بطاقةٌ بريدية تُعلن قدومي. وجدت الباب المصنوع من خشب «البلوط» مفتوحًا، وبطرقٍ خفيفٍ بالمطرقة النحاسية على الباب الداخلي، خرج زميلي بنفسه ورحب بي ترحيبًا حارًّا.
قال ثورندايك: «أخيرًا، أُطلِقَ سراحُك من محبسك. فقد كنت بدأت أظن أنك ستمكث في كينينجتون بقية عمرك.»
«أنا نفسي كنت أتساءل: متى سأنال حريتي؟ ولكن ها أنا ذا، وبوسعي أن أعلن أني سأرمي ممارسة الطب العام وراء ظهري إلى الأبد؛ ولكن هذا إن لم تنضب رغبتك بعدُ في اتخاذي مساعدًا لك.»
تعجَّب ثورندايك: «رغبة! حتى باركيس نفسه لن تكون رغبته أقوى من رغبتي. فأنت ذو قيمةٍ عندي. لنُسوِّ بنود رفقتنا معًا الآن، وغدًا نتخذ الإجراءات اللازمة كي تلتحق بجمعية إنَر تيمبل بصفتك طالبًا. هل نتحدث في الهواء الطلق وتحت أشعة شمس الربيع المشرقة؟»
رحَّبت بهذا الاقتراح؛ فالطقس في هذا الوقت من العام يكون مُشرقًا ومشمسًا ودافئًا، إنه بداية شهر أبريل. نزلنا إلى شارع ووك ثم سلكنا طريقنا نمشي الهوينى إلى الساحة الهادئة خلف الكنيسة، وهناك يقبع العجوز البائس أوليفر جولدسميث — مثلما كان يتمنى — وسط الأشياء المحببة إليه التي جمعها في حياته المتقلِّبة. لا حاجة إلى ذكر تفاصيل محادثتنا. ولم يكُن عندي أيُّ اعتراضٍ على مقترحات ثورندايك إلا على عدم جدارتي وعلى سخائه الزائد. بعد بضع دقائق، وصلنا إلى الاتفاق على البنود كاملة، وحين دوَّن ثورندايك تلك البنود على ورقة، وقَّع عليها وأرَّخها ثم سلمها إليَّ، وهنا سُوِّيت المسألة.
قال زميلي مُبتسِمًا وهو يطوي دفتر جيبه: «لو سوَّى الناس المسائل التي بينهم بتلك الطريقة، لفقد المحامون جزءًا كبيرًا من عملهم. الإيجاز هو روح الحكمة، وخشية التبسيط هي بداية النزاعات.»
قلت: «والآن، أقترح أن نذهب ونتناول شيئًا نأكله. سأدعوك إلى الغداء احتفالًا بالعقد الذي أُبرم بيننا.»
رد: «لا يزال صغيري المثقَّف غرًّا. لقد رتبتُ احتفالًا بسيطًا؛ أو بالأحرى أعدتُ تنظيم احتفال سبق ترتيبه. هل تتذكر السيد مارشمونت، المحامي؟»
«نعم.»
«اتصل بي صباح اليوم، ودعاني إلى الغداء معه ومع عميل جديد في حانة تشيشَير تشيز. قبلت دعوته وأخبرته أني سآتي بك معي.»
سألت: «ولمَ حانة تشيشَير تشيز؟»
«ولمَ غيرها؟ مارشمونت له أسبابه في اختيار المكان؛ أولًا: عميله لم يرَ قطُّ حانةً في لندن على الطراز القديم، وثانيًا: أن اليوم هو الأربعاء، ومارشمونت نفسه يعتريه تَوقٌ شَرِهٌ إلى تناول بودينج اللحم البقري الشهي. أرجو ألَّا يكون لديك اعتراض.»
«أوه، كلا على الإطلاق. وبما أنك أتيت على ذكر الطعام، فإن مشاعري تميل إلى التعاطُف مع مارشمونت. فقد تناولت فطوري مبكرًا.»
قال ثورندايك: «تأتي معي إذن. فالاحتفال سينعقد الساعة الواحدة، وإذا مشينا على مهل، فسنصل في الموعد المحدد.»
مشينا الهوينى في شارع إنَر تيمبل لين، ثم عبرنا شارع فليت وتوجهنا بهدوء إلى الحانة. وحين دخلنا إلى غرفة الطعام ذات الطراز القديم والعتيق، نظر ثورندايك حوله، وحينئذٍ نهض رجل كان يجلس مع رفيقه على طاولة في أحد المربعات أو المقصورات الصغيرة، ووجَّه إلينا التحية.
قال حين اقتربنا: «اسمحا لي أن أعرفكما على صديقي السيد ستيفن بلاكمور.» ثم التفتَ إلى صديقه وعرَّف كلًّا منا باسمه.
أردف: «حجزت هذه المقصورة حتى تتوفر لنا الخصوصية في الحديث إذا أردنا إجراء حديث تمهيدي، على الرغم من صعوبة الحديث في حضرة بودينج اللحم البقري. لكن حين يلوح في الأفق موضوعٌ يتحدث فيه الناس، فسينجرف الحديث إليه عاجلًا أم آجلًا.»
جلست أنا وثورندايك في الجهة المقابلة للمحامي وعميله، وتبادلنا النظرات. أنا أعرف مارشمونت من قبل؛ فهو رجل مُسِن وله مظهر مِهني، كما أنه محامٍ متمسك بقواعد المدرسة القديمة؛ وجهه ينبض بالشباب، دقيق في مواعيده، لكن طبعه حادٌّ، ولا يعطي انطباعًا سيئًا بشأن اهتمامه المعقول بنظامه الغذائي. أما الرجل الآخر فقد كان شابًّا في الخامسة والعشرين من عمره على الأكثر، ذا جسمٍ رياضيٍّ جميلٍ وبشرةٍ صحية ووجهٍ ذكي وجذَّاب للغاية. وقد أُعجبت به من أول نظرة، ورأيت أن ثورندايك أيضًا أُعجب به.
خاطبنا بلاكمور: «يبدو أنكما تعرفان بعضكما منذ فترة طويلة. وقد سمعت عنكما كثيرًا من صديقي روبن هورنبي.»
تعجب مارشمونت: «أه! لقد كانت قضية غريبة؛ قضية بصمة الإبهام الحمراء كما أسمتها الصحف. فقد كانت بمثابة إلهامٍ للمحامين التقليديين أمثالي. سبق أن عُرض لنا شهود علميون، ولكننا ضايقناهم كثيرًا … يا إلهي! … إنهم لا يعطوننا الدليل الذي نريده. لكن المحامي العلمي شيء جديد. وظهوره في المحكمة لفت انتباهنا جميعًا، وهذه حقيقة مؤكدة.»
قال ثورندايك: «لعلنا نلفت انتباهك مرة أخرى.»
قال مارشمونت: «لن تستطيع هذه المرة. فالقضايا التي من نوعية قضية صديقي بلاكمور قانونية بحتة، أو بالأحرى لا توجد قضيةٌ أصلًا. فلا يوجد شيءٌ يُتنازَع عليه. وحاولت أن أُثني بلاكمور عن استشارتك، ولكنه أبى إلا أن يستشيرك. هنا! أيها النادل! إلى متى سننتظر؟ وكأن الأجل سيأتينا قبل أن يأتينا الطعام!»
ابتسم النادل مُعتذرًا. قال: «أمرك سيدي. سيأتي الطعام حالًا يا سيدي.» وفي هذه اللحظة، أُحضر إلى الغرفة بودينج ضخم في دلو كبير ووُضع على كرسيٍّ ذي ثلاث أرجل، وقد قطعها الطاهي صاحب الملابس البيضاء والقبعة البيضاء بقوة. شاهدنا هذه العملية — ومعنا جميع الحاضرين — باهتمامٍ لا يحركه الشَّره بالكامل؛ حيث إنها أضْفَت لمسة مُبهِجة إلى تلك الحانة ذات الطراز القديم الخلَّاب، وأرضيتها الرملية، ومقصوراتها المريحة التي تشبه مقصورات الكنائس، ومقاعدها ذات الظهور العالية، وصورة «المعجمي الشهير» التي تبتسم لنا وهي معلَّقة على الحائط.
علق السيد مارشمونت: «الأمر هنا مختلف عن مطعمك الحديث الرائع.»
قال بلاكمور: «معك حق، وإن كانت هذه الطريقة التي عاش بها أسلافنا؛ فقد توفَّرت لديهم فكرة عن الرفاهية أفضل مما لدينا.»
عمَّت لحظاتٌ قصيرةٌ من الصمت، وفي أثنائها نظر السيد مارشمونت شرهًا إلى البودينج؛ ثم قال ثورندايك:
«إذن، هل أقول إنك رفضت الاستماع إلى المشورة المسبَّبة يا سيد بلاكمور؟»
«نعم. فكما تعلم، درس السيد مارشمونت وشريكه المسألة وقررا أنه ليس ثمة إجراءات يمكن اتخاذها. ثم تصادف أن ذكرت القضية أمام روبن هورنبي، وحثَّني على أن أطلب مشورتك.»
تذمَّر مارشمونت: «إنها وقاحة منه أن يتدخل في شئون مُوكِّلي.»
أردف بلاكمور: «تحدَّثت في هذه المسألة مع السيد مارشمونت، واتفق معي على أهمية أخذ رأيك فيها، غير أنه نبهني لئلَّا أعلق أي آمال مستنِدًا إلى أن المسألة لا تقع ضمن اختصاصاتك.»
قال مارشمونت: «إذن، تفهم أننا لا نتوقع جديدًا منك. فهذا أملٌ لا رجاء فيه. ولا نأخذ رأيك إلا من باب الإجراءات الشكلية، لئلَّا يقال إننا تركنا بابًا لم نطرقه.»
علَّق ثورندايك: «هذه بداية مشجعة. وبذلك لا أتحرَّج إن ضنَّت قريحتي عليَّ بالحل. ولكن في الوقت نفسه تحرَّك بداخلي فضول جامح كي أعرف طبيعة القضية. هل المسألة سِرِّية للغاية؟ لأنه إن لم تكن سرِّية، أود أن أذكُر أنَّ جيرفيس قد انضمَّ إليَّ كي يكون زميلي الدائم في العمل.»
قال مارشمونت: «إنها ليست سرًّا على الإطلاق. فعامة الناس تعرف التفاصيل، ولا يضيرنا أن نزودهم بمزيد من التفاصيل عبر المحكمة الحسبية، إذا تمكنَّا من إيجاد حجةٍ مقبولة. لكن لا يمكننا إيجاد تلك الحجة.»
هنا، أحضر النادِل طلبات طاولتنا وهو مستعجل ومُرتبِك لأنه تأخر علينا.
«أعتذر أن جعلناكم تنتظرون يا سيدي. إنها لم تستغرق الوقت الكافي كي تطيب يا سيدي. وإننا لم نُرد أن يأتيَكم الطعام غير مكتمِل النضج يا سيدي.»
تفحص مارشمونت طبقه بعين ناقدة وعلَّق:
«أشكُّ أحيانًا في أن هذا المحار ليس سوى بلح البحر، وأحلف أن طيور القنابر هذه ليست سوى العصافير الدُّورية.»
قال ثورندايك: «لنرجُ ذلك. وإني لَأفضِّل أن تُترك طيور القنابر تغرد في السماء على أن تُضاف إلى مكونات بودينج اللحم البقري. لكنك كنت على وَشْك أن تخبرنا عن قضيتك.»
«أجل. إنها مسألة … هل تفضل بيرة المرز أم نبيذ الكلاريت؟ أوه، أعلم أنك تفضل الكلاريت. فأنت تمقت بيرة جون بيرليكورن البريطانية القديمة.»
رد ثورندايك: «من يحتسِ البيرة ينضح إناء عقله بالبيرة. لكنك كنت تقول إنها مسألة …؟»
«إنها مسألة مُوصٍ عنيد ترك وصية سيئة الصياغة. إنها قضية مزعِجة أيضًا؛ لأن الوصية ذات الصياغة غير المفهومة حلَّت محل الوصية ذات الصياغة المفهومة، ونوايا الموصي … إمممم … بيرة ممتازة. ربما تكون مُسكرة، ولكنها جيدة. إنها أفضل من النبيذ الفرنسي اللاذع الذي تشربه يا ثورندايك … كانت … إمممم … كانت نواياه واضحة. وما أراده بوضوح كان … هل تريد مستردة؟ الأفضل أن تضع بعض المستردة. ألَا تريد؟ حسنًا، حسنًا! حتى الفرنسي يحب إضافة المستردة. لن تعرف المعنى الحقيقيَّ للمذاق يا ثورندايك إذا تناولت طعامك من دون أي توابل أو إضافات. وبمناسبة الحديث عن المذاق، هل تجد أيَّ فرقٍ بين مذاق طائر القُنْبُرة والعصفور الدُّوري؟»
ابتسم ثورندايك ابتسامة كدرة. قال: «أحسب أنه لا فرق بينهما، ولكن يسهل معرفة إن كان ثمة فرق بينهما بتذوقهما.»
وافقه مارشمونت: «هذا صحيح، والأمر يستحق المحاولة لأن العصافير الدُّورية أسهل في الصيد من طيور القنابر على حد قولك. ولكن، بالنسبة إلى الوصية. كنت أقول … إمممم … ماذا كنت أقول؟»
رد ثورندايك: «فهمت أنك تقول إن نوايا الموصي لها علاقة بالمستردة نوعًا ما. أليس كذلك يا جيرفيس؟»
قلت: «هذا ما فهمته.»
حدَّق مارشمونت النظر فينا للحظات وعلى وجهه تعبيرات الاندهاش، ثم ضحك مرحًا، وأدرك نفسه برشفة من البيرة.
أردف ثورندايك: «المغزى من ذلك ألَّا نخلط الحديث عما ورد في الوصية بالحديث عن بودينج اللحم البقري.»
قال المحامي غير الخَجِل: «أحسبك على حقٍّ يا ثورندايك. يجب عدم الخلط بين العمل والطعام. والأفضل أن نتحدَّث عن القضية في مكتبي أو في مسكنك بعد الغداء.»
قال ثورندايك: «نعم، لتأتيا معي إلى تيمبل وأقدِّم لكما فنجان قهوة كي يصفوَ ذهنك. هل توجد أي مستندات؟»
أجاب مارشمونت: «معي كل الأوراق في حقيبتي»، ثم انجرف الحديث بعيدًا عن الأمور الجادة إلى موضوعاتٍ أخرى، مثلما يحدث حين يتحدث الجميع ويأكلون في آنٍ واحد.
بمجرد الانتهاء من الوجبة ودَفْع الحساب، خرجنا من شارع واين أوفيس كورت، شققنا طريقنا عبر طريقٍ مليء بالعربات الفارغة المصطَفَّة في ذلك الوقت على جانبَي شارع فليت، وانطلقنا من طريق ميتر كورت إلى شارع كينجس بينش ووك. ولما بلغنا وجهتنا، أُعدَّت القهوة واصطفَّت كراسيُّنا حول المدفأة، وأخرج السيد مارشمونت من حقيبته حزمة كبيرة من الورق، وبدأنا الحديث عن العمل الذي نحن بصدده.
قال مارشمونت: «والآن، اسمح لي أن أعيد عليكم ما قلته من قبل. من الناحية القانونية، لا يوجد سندٌ لأي قضية، ولو بأدنى قدر. لكن أراد موكِّلي أن يأخذ رأيك ونزلت على رغبته، ولكن ليس عندي أمل كبير بأن تكتشف شيئًا ربما غفلنا عنه. ولا أظنك ستكتشف شيئًا؛ حيث إننا درسنا القضية دراسةً شاملة، لكن لا تزال هناك فرصة ضئيلة للغاية، وحريٌّ بنا أن نستغلها. هل تريد الاطلاع على الوصيتين، أم تريدني أن أشرح لك الملابسات أولًا؟»
رد ثورندايك: «أرى أن سرد الأحداث حسب ترتيب وقوعها سيفيد أكثر. وأريد أن أعرف أكبر قدر عن الموصي قبل أن أطلع على المستندات.»
قال مارشمونت: «جميل جدًّا. سأبدأ إذن بسرد الملابسات، وسأُوجزها على النحو التالي: مُوكِّلي ستيفن بلاكمور هو ولد الراحل إدوارد بلاكمور. ترك إدوارد بلاكمور اثنين من الإخوة بعد وفاته، الأخ الأكبر اسمه جون والأصغر اسمه جيفري. جيفري هو الموصي في هذه القضية.
منذ عامَين تقريبًا، كتب جيفري بلاكمور وصية تنص على أن ابن أخيه ستيفن هو منفِّذ الوصية والوريث الوحيد؛ لكن بعد بضعة أشهر، أضاف بندًا ينص على منح ٢٥٠ جنيهًا لأخيه جون.»
سأل ثورندايك: «ما مقدار التركة؟»
«حوالي ٣٥٠٠ جنيه، وكلها مستثمَرة في سندات الدين الموحَّد. كان الموصي يتقاضى معاشًا من وزارة الخارجية، ويقضي حاجاته المعيشية منه، وترك رأس ماله من دون مساس. وبعدما كتب وصيته بفترةٍ وجيزة، ترك مسكنه في شارع جيرمين، حيث عاش لبضع سنوات، وخزَّن أثاثه ثم انتقل إلى فلورِنسا. ومن هناك، انتقل إلى روما ومنها إلى البندقية وأماكن أخرى في إيطاليا، وهكذا استمر في الترحال حتى نهاية سبتمبر الماضي؛ لأنه يبدو أنه عاد إلى إنجلترا، ففي أول أكتوبر اتخذ مسكنًا في مجمع نيو إن، وفرشه ببعض الأثاث من مسكنه القديم. وعلى حد ما نفهم، فإنه لم يتصل البتة بأي أحدٍ من أصدقائه، باستثناء أخيه، ولم يعلم أحدٌ بإقامته في مجمع نيو إن أو بوجوده في إنجلترا بوجهٍ عام إلا بعد موته.»
سأل ثورندايك: «هل تصرُّفه هذا يتسق مع عاداته اتساقًا تامًّا؟»
أجابه بلاكمور: «يمكن القول إنه ليس من عادته. كان عمي مطالِعًا نهمًا وانطوائيًّا، لكنه لم يكن يحب العُزلة من قبل. لم يكن كثير المراسلات، ولكنه حافظ على قدرٍ من التواصل مع أصدقائه. على سبيل المثال، اعتاد أن يراسلني في بعض الأحيان، وحين أتيت من كامبريدج لقضاء الإجازة، طلب مني المكوث معه في مسكنه.»
«هل ثمة شيء معروف يفسر هذا التغيير في عاداته؟»
رد مارشمونت: «نعم. وسنأتي على ذكره بعد قليل. ولنشرع الآن بسرد ما جرى: في الخامس عشر من مارس الماضي، وُجد ميتًا في مسكنه، واكتُشِفت وصيةٌ أحدث بتاريخ الثاني عشر من نوفمبر العام الماضي. ولم يحدث تغيير في ظروف الموصي يفسر سبب كتابة الوصية الجديدة، كما لم يكن ثمة تبديل يمكن تقديره بشأن التصرف في التركة. وما يمكن استنتاجه أن الوصية الجديدة صيغت من أجل أن تنص على نوايا الموصي بمزيد من الدقة، ومن أجل إلغاء البند الإضافي. وكما كان من قبل، أُوصِي بنقل التركة بالكامل — باستثناء ٢٥٠ جنيهًا — إلى ستيفن، ولكن خُصصت الأصول المنفصلة، كما نَصت الوصية على أن يكون المنفذ هو أخا الموصي جون بلاكمور، وأن يكون هو المستفيد بالباقي.»
قال ثورندايك: «أفهم ذلك. ومن ثَم فإن نصيب موكِّلك في الوصية يبدو أنه لم يُمسَّ عمليًّا بهذا التغيير.»
صاح المحامي وهو يضرب على الطاولة كي يضيف تأكيدًا على كلامه: «نعم، هذا هو. هذا هو الجزء المأساوي من القصة. ولو ينأى مَن ليس لديهم علم بالقانون بأنفسهم عن التعديل في وصاياهم، فيا له من كم هائل من المشكلات التي سيتجنَّبونها!»
قال ثورندايك: «أوه، هوِّن عليك! لا يليق بمُحامٍ أن يقول هذا الكلام.»
وافقه مارشمونت: «أجل، لا يليق بي هذا. ولكنك تعلم أننا نفضل أن يكون هذا اللَّبس في جانب الخصم. أما في هذه الحالة، فإن اللبس في جانبنا. وكما قلت، فإن التغيير لم يُنقِص نصيب صديقنا ستيفن. وهذا بالطبع ما اعتقده جيفري بلاكمور البائس. ولكنه جانب الصواب. وتأثير هذا التغيير لا شك أنه كارثي.»
«حقًّا!»
«نعم. فكما قلت، لم يحدث تغيير في ظروف الموصي وقت كتابة الوصية الجديدة. لكن قبل وفاته بيومين فقط، تُوفِّيت أخته السيدة إدموند ويلسون، وتبيَّن أنها كتبت وصية تُوصي فيها بنقل كل تركتها إلى أخيها، وتُقدَّر تركتها بنحو ٣٠ ألف جنيه.»
صاح ثورندايك: «يا ربي! يا لها من مسألة مؤسفة!»
قال مارشمونت: «أنت على حق، فقد كانت فاجعة. بموجب الوصية الأصلية، فإن هذا المبلغ سيئول إلى صديقنا السيد ستيفن، لكن بموجب الوصية الجديدة، فإنه سيئول بالطبع إلى الوريث المتبقي وهو السيد جون بلاكمور. وما يزيد الأمر سخطًا حقيقةً أن هذه المسألة واضح أنها لا تتَّسق مع رغبات السيد جيفري ونواياه، حيث إنه رغب صراحةً في أن يرث ابن أخيه تركته.»
قال ثورندايك: «نعم، أحسبك أصبت في تقديرك هذا. ولكن هل تعلم إن كان السيد جيفري على علم بوصية أخته؟»
«لا نظن ذلك. فقد كُتبت وصيتها في الثالث من سبتمبر الماضي، ويبدو أن الاتصالات انقطعت بينها وبين السيد جيفري منذ ذلك الحين. إضافة إلى ذلك، إذا فكرتَ في أفعال السيد جيفري، فسترى أنها لا تشير إلى معرفته أو حتى توقُّعه لهذه الوصية المهمة. ولا يُعقل أن يفصِّل الرجل تخصيصات مبلغ ٣٠٠٠ جنيه ثم يترك مبلغ ٣٠ ألف جنيه من دون أن يخصصها لتكون بمثابة بقية التركة.»
وافقه ثورندايك: «كلامك صحيح. وكما قلت، فإن النية الجليَّة من الموصي أن يترك الجزء الأكبر من تركته للسيد ستيفن. ولذا يمكننا أن نعد الأمر شبه المؤكد أن السيد جيفري لم يعلم أنه المستفيد بموجب وصية أخته.»
قال السيد مارشمونت: «نعم، يمكننا اعتبار هذه المعلومة شبه مؤكدة.»
قال ثورندايك: «فيما يتعلق بالوصية الثانية، هل أفترض أنه لا حاجة إلى السؤال عمَّا إذا كانت الوثيقة نفسها خضعت للتدقيق؛ أعني من حيث موثوقيتها وصحتها المطلقة؟»
هز السيد مارشمونت رأسه أسفًا.
قال: «أجل، ويؤسفني أن أقول لك إنه لا يوجد شك محتمل فيما يتعلق بموثوقية الوثيقة وصحتها. والظروف التي كُتبت فيها الوصية تؤكد صحتها بما لا يدع مجالًا للشك.»
سأل ثورندايك: «ماذا كانت هذه الظروف؟»
«سأقُصُّها عليك: في صباح الثاني عشر من نوفمبر الماضي، أتى السيد جيفري إلى غرفة البواب وفي يده وثيقة. وقال: «هذه وصيتي. وأريدك أن تكون الشاهد الأول. فهل تمانع؟ وهل يمكنك العثور على شخص آخر محترم كي يكون الشاهد الثاني؟» وتصادف أن ابن أخي البواب — وهو يمتَهِن الرسم — يوجد في العمل في مجمع نيو إن. حينئذٍ خرج البواب وأحضره إلى غرفته ووافق الرجُلان أن يشهدا على الوصية. قال السيد جيفري: «الأفضل أن تطَّلعا على الوصية. في الحقيقة هذا الإجراء ليس ضروريًّا ولكنه إجراء احترازي إضافي، كما أنه لا يوجد شيء له طبيعة خاصة لهذه الوثيقة.» بناءً على ذلك، اطَّلع الرجلان على الوثيقة، وحين وقع عليها السيد جيفري في حضورهما، وضعا توقيعهما؛ ويمكنني أن أضيف أن الرسام ترك بصمات مميزة من ثلاث أصابع كان عليها ألوان الرسم.»
«وهل استجوبتما هذين الشاهدين؟»
«نعم. فقد حلف كلاهما على الوثيقة وعلى توقيعهما، وميَّز الرسَّام بصمات أصابعه.»
قال ثورندايك: «ما ذكرته يُبدِّد أي شكوك بشأن مصداقية الوصية بشكل فعال، وإذا كان السيد جيفري أتى إلى غرفة البواب بمفرده على حد ما فهمت، فهذا يُبدد أي شكوك في تعرضه لعوامل مؤثرة.»
قال السيد مارشمونت: «كلامك صحيح. وأرى أنه يجب أن نعد الوصية لا تشوبها شائبة.»
قال ثورندايك: «يبدو لي غريبًا أن السيد جيفري لم يكن يعلم سوى القليل جدًّا عن نوايا أخته. هل عندك تفسير لهذا يا سيد بلاكمور؟»
رد ستيفن: «لا أرى ما يلفت النظر في هذه المسألة. فأنا لا أعلم الكثير عن شئون عمتي، ولا أحسب أن عمي جيفري علِم الكثير عن شئونها؛ لأنه ظن أن جل اهتمامها في الحياة ينصبُّ على تركة زوجها. وربما كان على حق في ظنه. كذلك التركة التي تركتها لعمي ليست معلومة. فقد كانت امرأة متحفِّظة للغاية ونادرًا ما تثق في أي أحد.»
قال ثورندايك: «إذن، هل يُحتمل أن عمتك نفسها قد حصلت على هذه الأموال عن طريق الوصية؟»
أجاب ستيفن: «هذا احتمال وارد للغاية.»
قال ثورندايك وهو ينظر إلى الملاحظات التي دوَّنها: «فهمتُ أنها تُوفيت قبل السيد جيفري بيومين. فمتى كان التاريخ؟»
قال مارشمونت: «تُوفِّي جيفري في الرابع عشر من مارس.»
«هل يعني هذا أن السيدة ويلسون تُوفيت في الثاني عشر من مارس؟»
أجاب مارشمونت: «أجل»؛ ثم سأل ثورندايك:
«هل تُوفيت فجأة؟»
رد ستيفن: «لا، ماتت بسبب السرطان. أعلم أنها أصيبت بسرطان المعدة.»
سأل ثورندايك: «هل نما إلى علمك طبيعة العلاقة بين جيفري وأخيه جون؟»
قال ستيفن: «أعلم أن العلاقة بينهما لم تكن على وفاق في وقتٍ ما، ولكن ربما عاد الوصل بينهما، على الرغم من أنني لا أعلم إن عاد الوصل بينهما بالفعل أم لا.»
قال ثورندايك: «طرحت هذا السؤال لأنه يمكنني القول إنني لاحظت تلميحًا لتحسن العلاقات في الوصية الأولى. وفي الأساس، نصت الوصية على أن يكون السيد ستيفن هو الوريث الوحيد. لكن بعد فترة وجيزة، أضيف بند إضافي لصالح السيد جون، وهذا يبين أن جيفري أحس بضرورة الاعتراف بأخيه. ويبدو أن هذا يشير إلى تغير في العلاقات، ومن هنا يُثار السؤال: إذا حدث هذا التغير في الواقع، فهل كان بداية تحسن جديد ومتزايد في العلاقات بين الأخوين؟ هل لديك أي معلومات تجيب بها عن هذا السؤال؟»
زمَّ مارشمونت شفتَيه وكأنه يفكر في اقتراح غير محبَّب، وبعد لحظات من التفكير، أجاب:
«أظن أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون «نعم». ثمة حقيقة لا يجدر تجاهلها وهي أنه من بين كل أصدقاء جيفري، فإن جون بلاكمور هو الوحيد الذي علم بمكوث جيفري في مجمع نيو إن.»
«أوه، أحقًّا جون علِم بذلك؟»
«نعم، بالتأكيد؛ فقد أبانت الأقوال أنه زار جيفري في مسكنه أكثر من مرة. ولا شك في هذا. ولكن انتبه!» أردف السيد مارشمونت مؤكِّدًا: «هذا لا يفسر عدم الاتِّساق في الوصية. فالوصية الثانية لا تنطوي على ما يدل على أن جيفري نوى بالفعل أن يزيد حصة أخيه من الميراث.»
«أتفق معك تمامًا يا مارشمونت. وأرى أن موقفك سليم تمامًا. هل أفترض أنك فكرت في إمكانية إلغاء الوصية الثانية على أساس أنها لا تتفق مع رغبات الموصي ونواياه الواضحة؟»
«نعم. فقد درست أنا وشريكي وينوُود هذا السؤال بعناية بالغة، كما أننا أخذنا مشورة المستشار — السير هوراس بارنابي — وقد اتفق رأيه مع رأينا بأن المحكمة ستقر الوصية.»
قال ثورندايك: «أرى أن رأيي سيتفق معكما أيضًا، لا سيما بعد ما أخبرتني به. هل أفهم أن جون بلاكمور هو الوحيد الذي علم بمكوث جيفري في مجمع نيو إن؟»
«الوحيد من الأصدقاء الشخصيين. فقد كان موظفو البنك الذين يتعامل معهم، وكذلك المسئولون الذين يتقاضى منهم معاشه على علم بمكانه.»
«بالطبع عليه أن يخطر البنك إن كان قد أجرى تغييرًا على عنوانه.»
«نعم، بالطبع. وفيما يتعلق بالبنك، فإني أقول لك إن المدير أخبرني أنه في الآونة الأخيرة لاحظ تغييرًا طفيفًا في رسم توقيع جيفري، وأظنك ستعرف سبب التغيير حين تسمع باقي القصة. إنه تغيير طفيف للغاية، ولا يتخطَّى الأمر الحد الطبيعي حين يكبر الرجل، لا سيما إذا أصيب بضعف في البصر.»
سأل ثورندايك: «هل ضعُف بصر السيد جيفري؟»
قال ستيفن: «أجل، ولا شك في ذلك. فقد أصيب بالعَمى بالفعل في إحدى عينيه، وذكر لي في خطابه الأخير أنه يعاني بوادر للإصابة بالمياه البيضاء في العين الأخرى.»
«ذكرت لي معاشه. فهل استمر في سحبه بانتظام؟»
«نعم، كان يسحب معاشه كل شهر، أو يسحبه له موظف من البنك. فقد اعتادوا أن يسحبوه له حين يكون بالخارج، ويبدو أن السلطات سمحت باستمرار هذا الفعل.»
فكَّر ثورندايك للحظات وهو يمرر عينيه على الملاحظات المكتوبة في قصاصات الورق التي في يده، ومارشمونت يُبصره وعلى وجهه ابتسامة خبيثة. وبعد فترة، علَّق مارشمونت:
«أرى أن المستشار الخبير قد نضب مَعِينه.»
ضحك ثورندايك. رد عليه: «إنما مَثَل أفعالك كمَثَل رجل دَمِث أعطى دبًّا حصاة من الصوان كي يكسرها ويُخرج النواة منها. ويبدو أن إرادتك المتملمِلة لن تعطيني نقطة ضعف أبدأ الهجوم منها. لكن لا استسلام. وأرى أننا استنفدنا كل المعلومات من الوصية. والآن، لندرس بعض الوقائع التي تتعلق بالأطراف المعنية؛ وبما أن جيفري هو الشخصية المحوَرِية، فلنبدأ به وبالمأساة التي تعرض لها في نيو إن، والتي تشكل نقطة البداية لهذه المشكلة برُمتها.»