وفاة جيفري بلاكمور
بعدما طرح ثورندايك الاقتراح السابق، وضع قصاصة ورق جديدة على اللوح النشاف على ركبته ونظر، والأسئلة تدور في ذهنه، إلى السيد مارشمونت، والذي بدوره تنهد ونظر إلى حزمة المستندات على الطاولة.
سأل وفي صوته مسحة من ضجر: «ما الذي تريد معرفته؟»
رد ثورندايك: «كل شيء. لمَّحت إلى وجود ملابسات من شأنها أن تفسِّر التغيير في عادات السيد جيفري، ومن شأنها أن تبين سبب التغيير في شكل توقيعه. اذكر لي هذه الملابسات. وإذا سمحت لي أن أقترح، أودُّ أن تذكر الأحداث بالترتيب الذي وقَعَت به، أو بالترتيب الذي عُرِفت به.»
تذمَّر مارشمونت: «هذا أسوأ ما فيك يا ثورندايك. فحين تُعصَر القضية حتى آخر قطرة من الناحية القانونية، تريد أنت أن تبدأ كل شيء من جديد، وتدرس التاريخ العائلي لكل طرف مَعني، وتُعد قائمة بممتلكاته وأثاث منزله. ولكن أعتقد أنه يجب تلبية متطلباتك، وأتصوَّر أن أفضل طريقةٍ لإعطائك المعلومات التي تريدها هي سَرْد الأحداث المحيطة بوفاة جيفري بلاكمور. فهل هذا يناسبك؟»
أجاب ثورندايك: «يناسبني تمامًا»؛ ومن ثَم شرع مارشمونت في سرد الأحداث:
«اكتُشِفت وفاة جيفري بلاكمور في حوالي الساعة الحادية عشرة من صبيحة يوم الخامس عشر من مارس. ويبدو أن أحد البنائين كان يصعد سُلَّمًا خشبيًّا لتفحُّص مئزابٍ في المبنى رقم ٣١ بمجمع نيو إن؛ حيث إنه مر أمام نافذة في الطابق الثاني ووجد الجزء العلوي منها مفتوحًا؛ ومن ثَم نظر إلى الداخل ورأى رجلًا مستلقيًا على الفراش. كان ذاك المستلقي مُرتديًا كل ملابسه، ويبدو أنه يستلقي على الفراش لأخذ قسط من الراحة، أو على الأقل هذا ما حسبه البنَّاء حينذاك؛ حيث إنه مر فقط أمام النافذة وهو يصعد، وعلى الأرجح أنه لم يدقق النظر. لكن وهو ينزل السلم بعد ١٠ دقائق، رأى أن الرجل لا يزال مستلقيًا من دون أن تتغير وضعيته، فنظر إليه بمزيد من الانتباه، وكان ما لاحظه … ولكن ربما الأفضل أن أقص عليك القصة على لسانه كما وردت في التحقيقات.
حين نظرت إلى الرجل بمزيد من الإمعان، تفاجأت بقدر من الغرابة في مظهره. فقد رأيتُ وجهه شاحبًا — أو بالأحرى أصفر اللون — مثل رقِّ الكتابة، وفمه مفتوحًا. يبدو أنه لم يكن يتنفس. وكان بجانبه على الفراش شيء نحاسي … لم أستطع أن أتبين ما هو … وبدا أنه يمسك شيئًا معدنيًّا صغيرًا في يده. وقد وقع في نفسي شيء مما رأيت، وحين نزلت عرَّجت على غرفة البواب وأخبرته بما رأيت. خرج البواب معي إلى الساحة وأريته النافذة. حينئذٍ أخبرني أن أصعد السلم إلى شقة السيد بلاكمور في الطابق الثاني، وأطرق على الباب وأظل أطرق حتى يجيبني أحد. صعدت وظللت أطرق على الباب بأعلى صوت، ولكني أخرجت كل من في الشقق الأخرى في المبنى، ولم أتلقَّ ردًّا من السيد بلاكمور. لذا نزلت مرة أخرى وأرسلني السيد ووكر البوَّاب إلى أحد رجال الشرطة.
خرجتُ وقابلت شرطيًّا على مسافةٍ قريبةٍ من نُزُل داين، وقصصت عليه القصة؛ ومن ثَم عاد معي. تشاور مع البواب ثم أخبراني أن أصعد السلم الخشبي، وأدخل من النافذة وأفتح باب الشقة من الداخل. وعلى إثر ذلك صعدت، وبمجرد أن دخلت من النافذة اكتشفت أن الرجل ميِّت. عبرت إلى الغرفة الأخرى وفتحت باب الشقة وأدخلتُ البواب والشرطي.»
قال السيد مارشمونت وهو يضع الأوراق التي تحتوي على الأقوال: «هكذا اكتُشِف موت جيفري بلاكمور البائس.
الشرطي أبلغ المفتش، والمفتش أرسل إلى جراح القسم، وقد رافقه إلى مجمع نيو إن. لكن لا حاجة إلى الخوض في الأقوال التي أدلى بها رجال الشرطة؛ حيث إن رأي الجراح اتَّفق مع آرائهم، وإفادته تتناول كل شيء عن وفاة جيفري. وسأسرد عليك أقواله، بعدما ذكر كيف أُرسل ووصل إلى هناك:
«حين دخلت الغرفة، رأيت جُثة رجل يتراوح عمره ما بين الخمسين والستين، وقد تعرف عليه الناس في حضوري بأنه السيد جيفري بلاكمور. كان مُرتديًا ملابسه كاملة، حتى حذاءه، الذي كان ملتصقًا به كمية طفيفة من الطين الجاف. وجدته مستلقيًا على ظهره على الفراش، ويبدو أن الفراش لم يُستخدم للنوم؛ حيث لم أرَ علامات تدل على صراع مع النوم أو قلق. رأيته مُمسكًا في يده بمحقنة تحت الجلد تحتوي على بضع قطرات من سائل شفاف، وحين حللته اكتشفت أنه محلول مركَّز من الستروفانثين.
على الفراش بالقرب من الجانب الأيسر للجثة، وجدت غليونًا نحاسيًّا مخصصًا للأفيون بتصميم أظنه صُنع في الصين. احتوى وعاء الغليون على كمية صغيرة من الفحم، وقطعة من الأفيون بالإضافة إلى بعض الرماد، ورأيت كمية صغيرة من الرماد على الفراش ويبدو أنه سقط من الوعاء حين سقط الغليون أو وُضع. أما على رفِّ الموقد في غرفة النوم، وُجدت جرَّة زجاجية صغيرة ذات سدادة تحتوي على أُونصة تقريبًا من الأفيون الصلب، وجرَّة أخرى أكبر تحتوي على فحم خشبي مكسَّر إلى شظايا صغيرة. وُجد أيضًا وعاء يحتوي على كمية من الرماد بالإضافة إلى شظايا فحم لم تحترق بالكامل، وبضعة جسيمات صغيرة من الأفيون المتفحِّم. وكان بجانب الوعاء سكين من نوع المثقب أو المخرز، ومِلقط صغير، وأظن أنه استُخدم لحمل قطع الفحم المشتعل إلى الغليون.
كان على التسريحة أنبوبان زجاجيان مكتوب عليهما «أقراص تحت الجلد: ستروفانثين بتركيز ١ / ٥٠٠ قمحة»، بالإضافة إلى هاون زجاجي صغير ومِدقَّة، وقد احتوت الأولى على بضع بلورات ولما حللتها علِمتُ أنها ستروفانثين.
بناءً على فحص الجُثة، تبين أنه تُوفِّي منذ حوالي ١٢ ساعة. وقد خلت الجثة من أي علامات تدل على العنف أو أي حالة غير طبيعية باستثناء ثقب واحد في الفخذ الأيمن، ومن الواضح أنه ناجِمٌ عن إبرة المحقنة تحت الجلد. كان الثقب عميقًا ورأسيًّا باتجاهٍ يوحي أن الإبرة نَفَذت خلال الملابس أولًا.
حين أجريت تشريحًا للجثة، وجدت أن سبب الوفاة هو التسمُّم بمادة الستروفانثين، ويبدو أنها الجرعة التي حُقنت في الفخذ. والأنبوبان اللذان وجدتهما على التسريحة يحتويان على ٢٠ قرصًا — في حالة الملء — ويبلغ تركيز كل قرص ١/ ٥٠٠ قمحة من مادة الستروفانثين. وإذا افترضنا أن الكمية كلها قد حُقِنت، فبذلك تساوي أربعين إلى خمسمائة، أو حوالي واحد إلى عشرين بمقياس القمحة. والجرعة الطبية الطبيعية من الستروفانثين تساوي ١/ ٥٠٠ قمحة.
وجدت أيضًا أن الجثة تحتوي على آثار مورفين بمقدار كبير — وهي المادة شبه القلوية الأساسية من الأفيون — وقد استنتجت من ذلك أن المتوفَّى كان مُدخنًا شرِهًا للأفيون. ويدعم هذا الاستنتاج الحالة العامة للجسم؛ إذ بدا عليه سوء التغذية والهزال، ويوجد به كل المظاهر التي عادةً ما تظهر في أجساد المدمنين على تعاطي الأفيون.»
كانت هذه إفادة الجراح. استُدعي الجرَّاح فيما بعد كما سنرى، ولكن في الوقت الحالي، أرى أنك ستتفق معي في أن الوقائع التي أفاد بها لا تفسر التغيير في عادات جيفري — عُزلته ونمط حياته السِّرِّي — فحسب، بل تفسر أيضًا التغيُّر في خط يده.»
وافقه ثورندايك: «أجل، يبدو أن الأمر كما ذكرت. على أي حال، ما مقدار التغيُّر في خط اليد؟»
أجاب مارشمونت: «ضئيل للغاية. ولا يكاد يُلاحظ. مجرد فقدان بسيط في الدقة والوضوح؛ مجرد تغير طفيف يمكن توقعه في خط إنسان يتعاطى الخمور أو المخدرات، أو أي شيء من شأنه أن يُضعف ثبات يده. أنا نفسي لم ألاحظه، ولكن بالطبع الموظفون في البنك خبراء؛ حيث إنهم لا يبرحون يدققون التوقيعات بعين ناقدة للغاية.»
سأل ثورندايك: «هل ثمة إفادات أخرى لها علاقة بالقضية؟»
سلمه مارشمونت حزمة من الأوراق وابتسم له ابتسامةً كدِرة.
قال: «عزيزي ثورندايك، لا توجد إفادةٌ تحمل أدنى صلة بالقضية. فكلها لا تحمل أي صلة بالوصية. ولكني أعلم اهتماماتك الفريدة، وكما ترى، فإني أستوعبها على أكمل وجه. الإفادة التالية هي إفادة البوَّاب الأساسي، وهو شخص جدير بالاحترام ولبيب، اسمه وُوكَر. وهذا ما أفاد به، بعد المقدمات المعتادة.
«رأيت الجثة محل هذا الاستجواب. إنها جثة السيد جيفري بلاكمور، مستأجِر الشقة بالطابق الثاني في المبنى رقم ٣١ بمجمع نيو إن. أعرف المتوفَّى منذ ستة أشهر تقريبًا، وقد رأيته في هذه المدة وتحدَّثت معه كثيرًا. استأجر المتوفَّى الشقة في الطابق الثاني في نهاية شهر أكتوبر، وسكن فيها من فَوره. ومن شروط الإيجار في مجمع نيو إن توفُّر خِطابَي توصية. والخطابان اللذان قدَّمهما المتوفَّى كانا من أحد موظفي البنك وأخيه السيد جون بلاكمور. بوسعي أن أقول إني كنت على معرفةٍ جيدةٍ بالمتوفَّى. فقد كان رجلًا هادئًا وطيب الأخلاق، واعتاد أن يُعرِّج على غرفتي بين الفَينة والأخرى، ويتجاذب معي أطراف الحديث. دخلت معه إلى شقته مرة أو مرتين لقضاء بعض الأعمال، ولاحظت أن الطاولة دائمًا يكون عليها عددٌ من الكتب والصحف. وفهمت منه أنه يقضي معظم وقته في الشقة منشغلًا بالقراءة والكتابة. لكن ليس عندي معرفةٌ كبيرة بأسلوب حياته. ليس عنده خادمةٌ كي تعتني بشقته، وعلى حد ظني، فإنه كان يعتني بأعمال الشقة والطهو بنفسه، ولكنه أخبرني أنه يتناول معظم وجباته بالخارج، إما في المطاعم وإما في النادي.
أثَّرَت فيَّ ملامح الحزن والبؤس التي لمحتها في هذا الرجل. وقد انزعج كثيرًا بسبب نظره، وذكر هذه المسألة لي عدة مرات في حديثنا. أخبرني أنه فقدَ بصره بالفعل في إحدى عينَيه، والأخرى آخذة في فَقْد بصرها بسرعة. كما أنه أعرب عن حزنِه البالغ؛ لأنه لا يجد مُتعةً إلا في قراءة الكتب، وأنه لا خير في العيش إن حُرم هذه المتعة. وفي إحدى المرات، قال إن «الأعمى لا يرجو قيمة من الحياة.»
في الثاني عشر من نوفمبر الماضي، أتى إلى غرفتي وفي يده ورقة يقول إنها وصيته» …» وقال مارشمونت وهو يطوي ورقة: «لكن لا حاجة إلى قراءة هذه الورقة؛ حيث إنني أخبرتك ملابسات التوقيع والإشهاد على الوصية. سننتقل إلى يوم وفاة جيفري المسكين.
يقول البواب: «في الرابع عشر من مارس، وفي حوالي الساعة السادسة والنصف مساءً، أتى المتوفَّى إلى شقته في عربة أجرة ذات أربع عجلات. وفي هذه الليلة، جثم الضباب على المدينة. لم أتبيَّن إن كان أحدٌ آخر مع المتوفَّى في عربة الأجرة، ولكن لا أظن ذلك؛ لأنه أتى إلى الغرفة قبل الساعة الثامنة وتحدَّث معي. وقال إن الضباب قهره ولم يستطع الرؤية بتاتًا. فقد أعماه الضباب، واضطُرَّ إلى أن يطلب من غريبٍ أن يُوقِف له سيارة أجرة؛ لأنه لا يستطيع الاهتداء إلى طريقه بين الشوارع. ثم أعطاني شيكًا بالأجرة. ذكَّرته أن موعد الدفع لم يأتِ بعد؛ حيث إنه في الخامس والعشرين من الشهر، ولكنه أعرب عن رغبته في الدفع الآن. وأعطاني كذلك بعض الأموال كي أسدَّ بعض الفواتير المستحقَّة عليه لبعض التجار؛ مثل بائع اللبن والخباز والقرطاسي.
استغربت هذا الفعل منه كثيرًا لأنه دائمًا ما يقضي حاجياته ويدفع فواتير التجار بنفسه. أخبرني أن الضباب أهاج عينه فلا يكاد يستطيع القراءة، ويخشى أن يُكَف بصره قريبًا. لقد كان مغتمًّا إلى حدٍّ جعلني أقلق عليه. وحين غادر الغرفة، عاد إلى الباحة وكأنه عائدٌ إلى شقته. لم تكن ثمة بوابةٌ مفتوحة باستثناء البوابة الرئيسية التي توجد عندها الغرفة. وكانت هذه آخر مرة أرى فيها المتوفَّى قبل وفاته.»»
وضع السيد مارشمونت الأوراق على الطاولة. «هذه إفادة البواب. الأقوال الأخرى أدلى بها أحد النبلاء والبوَّاب الليلي وجون بلاكمور وصديقنا السيد ستيفن. لم يكن عند البواب الليلي معلوماتٌ كثيرةٌ كي يُدلي بها. وسأقُص عليك جوهر ما أفاد به:
«نظرت إلى جثة المتوفَّى وعلمت أنها جثة السيد جيفري بلاكمور. أنا أعرف المتوفَّى شكلًا، وكنت أتبادل معه أطراف الحديث بين الفينة والأخرى. ولا أعلم شيئًا عن عاداتِه سوى أنه اعتاد السهر حتى وقتٍ متأخر. ومن واجباتي أن أطوف في طرقات مجمع نيو إن ليلًا، وأعلن عن الساعات حتى الواحدة صباحًا. وحين أُعلن عن دخول الساعة الواحدة، غالبًا ما أجد النور مضاءً في غرفة الجلوس بشقة المتوفَّى. وفي الليلة الرابعة عشرة، ظل النور مضاءً بعد الواحدة صباحًا، ولكن في غرفة النوم. وقد انطفأ النور في غرفة الجلوس بحلول الساعة العاشرة مساءً.»
أقصُّ عليك الآن ما أفاد به جون بلاكمور. يقول:
«نظرت إلى جثة المتوفى وعلمت أنها جثة أخي جيفري. آخر مرة رأيته قبل الوفاة كانت في الثالث والعشرين من فبراير حين أتيت لزيارته. كان في حالة جزعٍ بالغ، وأخبرني أن بصره يضعف بسرعة. أعلم أنه يدخِّن الأفيون من حين إلى آخر، ولكن لم أعلم أنها عادة راسخة عنده. رجوته أكثر من مرة أن يُقلع عن هذه العادة. ليس عندي أسبابٌ تجعلني أظن أنه مر بضائقةٍ مالية أو كانت لديه أيُّ أسباب تجعله يُنهي حياته غير ضعف بصره، ولكن بالنظر إلى حالته العقلية في آخر مرةٍ رأيته فيها، لم أُفاجأ بما حدث.»
هذا جوهر ما أفاد به جون بلاكمور، وبالنسبة إلى السيد ستيفن، فلم يقُل غير أنه تعرَّف على الجثة وعلم أنها جثة عمه جيفري. والآن، أظن أن لديك كل الوقائع. هل ثمة أسئلة تحب أن تسألني إياها قبل أن أغادر، فأنا يجب أن أرحل الآن؟»
قال ثورندايك: «أحبُّ أن أعرف المزيد عن الأطراف المعنية في هذه القضية. ولكن أحسب أن السيد ستيفن يمكن أن يعطيني تلك المعلومات.»
قال مارشمونت: «أظنه كذلك أيضًا، فهو أعلم بهم مني على أي حال، سأغادر الآن.» أردف وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة: «إن حدث وتوصلت إلى أي طريقةٍ للطعن في هذه الوصية، أرجُ أن تخبرني ولن أدَّخر وقتًا في تقديم إنذار. مع السلامة! لا حاجة إلى أن توصلني إلى الخارج.»
بمجرد أن خرج، التفت ثورندايك إلى ستيفن بلاكمور.
قال: «سأطرح عليك بعض الأسئلة التي قد تراها تافهة، ولكن يجب أن تعلم أن أساليب التحقيق التي أتبعها تتعلق بالأشخاص والأشياء في حد ذاتها، ولا تتعلق بالمستندات. على سبيل المثال، لم أفهم طباع عمك جيفري فهمًا تامًّا. فهلَّا تخبرني المزيد عنه؟»
سأل ستيفن وفي صوته نبرة تنُم عن ارتباكه: «ماذا تريد أن تعرف؟»
«لنبدأ بمظهره الشخصي.»
قال ستيفن: «هذا صعب عليَّ. ولكنه كان رجلًا متوسط الحجم يبلغ طوله نحو خمس أقدام وسبع بوصات، شعره أشقر شارف على الشيب، حليق الذقن، يميل جسمه إلى النحافة وخفة الوزن، عيناه رماديتان، يستعمل نظارة، فيه حَدَب حين يمشي. كان هادئًا ولطيفًا في أسلوبه، شخصيته مترددة ومُذعِنة إلى حدٍّ ما، كما أنه لم يكن قوي البِنية على الرغم من أنه لم يُعانِ أمراضًا أو أسقامًا غير ضعف بصره. وأحسب أنه بلغ الخامسة والخمسين من عمره.»
سأل ثورندايك: «كيف تقاعد من وظيفة مدنية وهو في الخامسة والخمسين؟»
«أوه، هذه الواقعة كانت نتاجًا لحادثة. فقد سقط من فوق ظهر حصان، ولأنه عصبي، تعرض لصدمة حادة. ومكث فترة في حالة اضطراب تام بعد هذه الوقعة. ولكن فقدان بصره هو السبب الفعلي لتقاعُده. يبدو أن الوقعة أضرت ببصره بشكل أو بآخر؛ فمنذ هذه الوقعة، فقد البصر في إحدى عينيه، وهي اليمنى، وبما أنها كانت العين السليمة، فقد ضعف بصره كثيرًا. ومن ثَم مُنح إجازة مرضية في البداية، ثم سُمح له بالتقاعد.»
دوَّن ثورندايك هذه المعلومات ثم قال:
«ذُكر أكثر من مرة أن عمك كان مطالعًا نهِمًا. فهل هذا يعني أنه كان مهتمًّا بضرب من العلوم على وجه التحديد؟»
«نعم. كان متحمسًا لدراسة الحضارات الشرقية. فقد ذهبت به تكليفات عمله ذات مرة إلى يوكوهاما وطوكيو، ومرة أخرى إلى بغداد، وحين كان في هذه الأماكن، أولى لغاتِ هذه البلدانِ وأدبَها وفنونَها قدرًا كبيرًا من اهتمامه. كذلك أولى آثارَ الحضارتَين البابلية والآشورية اهتمامًا كبيرًا، وأظنه ساعد في وقتٍ ما في أعمال التنقيب في مدينة بيرس نمرود.»
قال ثورندايك: «صحيح! عجيب. لم أكن أعلم أنه رجل صاحب إنجازات كبيرة. فالمعلومات التي ذكرها السيد مارشمونت لا تكاد تدفع المرء إلى التفكير بهذا الشكل؛ بمعنى أن يراه عالِمًا له سيرة طيبة.»
قال ستيفن: «لا أعلم إن كان السيد مارشمونت يعلم هذه المعلومة، أو أنه يعدُّها ذات أهميةٍ في القضية. ولا أنا أيضًا حسبت ذلك. ولكن بالطبع ليست عندي خبرة في المسائل القانونية.»
قال ثورندايك: «لا يدري المرء مُطلقًا أي معلومة قد يكون لها ثقل في القضية؛ ولذا الأفضل أن يجمع ما يستطيع جمعه من المعلومات. على أي حال، هل كنت تعلم أن عمك يدخن الأفيون؟»
«لا، لم أكن أعلم. نما إلى علمي أنه يمتلك غليونَ أفيون جلبه معه حين أتى من اليابان، ولكني ظننت أنه مجرد تحفة. أذكر أنه قال لي ذات مرة إنه جرب التدخين من غليون الأفيون ووجده ممتعًا، ولكنه تسبَّب له في صداع. لكن في الحقيقة لم يكن عندي فكرة أنه اعتاد التدخين، ويسعني القول إنني دُهشت كثيرًا حين ذُكِرَت هذه المعلومة في التحقيقات.»
دوَّن ثورندايك هذه الإجابة أيضًا، ثم قال:
«أعتقد أن هذا كل ما أردت أن أعرفه عن عمك جيفري. لنأتِ الآن إلى السيد جون بلاكمور. هلَّا تخبرني عنه قليلًا؟»
«لا أحسبني أعرف عنه الكثير. لم أرَه منذ أن كنت صبيًّا، إلى أن رأيته في التحقيقات. ولكنه مختلف تمامًا عن عمي جيفري؛ مختلف في المظهر ومختلف في الطباع.»
«إذن، هل تقول إن الأخوين لا يتشابهان جسديًّا؟»
قال ستيفن: «لست على يقين تام من هذا. ربما أبالغ في الفرق بينهما. فأنا أتذكر هيئة عمي جيفري حين رأيته آخر مرة وعمي جون حين رأيته في التحقيق. لم أرَ شبهًا بينهما حينذاك. فجيفري نحيل وشاحب وحليق الذقن، ويستعمل نظارة، ويظهر عنده حدب حين يمشي. أما جون فهو أطول قليلًا، وشعره فيه شيب أكثر، وبصره جيد، وبشرته متوردة وتبدو عليها النضارة والصحة، وقامته منتصبة وتدب فيها الحيوية، كما أنه قوي البنية، وله لحية وشارب شعرهما أسود ولا يتخللهما الشيب إلا قليلًا. وفي نظري، فهما لا يتشابهان على الرغم من أن الملامح متشابهة إلى حد كبير؛ وفي الحقيقة، سمعت أنهما كانا متشابهين لما كانا صغيرين، وأن كليهما يشبه والدتهما. ولكن لا شك عندي في اختلاف طباع أحدهما عن الآخر. فكان جيفري هادئًا وجادًّا ومثابرًا، أما جون فقد كان يميل إلى ما يقال عنه الحياة السريعة؛ فقد اعتاد أن يحضر المسابقات كثيرًا، وأظنه قد راهن في عدد كبير منها.»
«ما مهنته؟»
«هذا صعب تحديده؛ فقد كان يعمل في مهن كثيرة؛ حيث إنه متنوع المهارات. وعلى حد علمي، فقد بدأ حياته مُتدرِّبًا في مصنع جعة كبير، ولكن سرعان ما تركه وعمل في المسرح. وعلى ما يبدو أنه ظل في مهنة التمثيل بضع سنوات، وأخذ يتجوَّل في ربوع هذه البلاد ويزور أمريكا بين الفينة والأخرى. إخال أن نمط الحياة هذا يناسبه، وأحسبه كان ممثلًا ناجحًا. ولكنه ترك المسرح فجأة، ثم عُرف أنه شريك في مكتب مضاربات وهمي في لندن.»
«وماذا يعمل الآن؟»
«قال في المحضر إنه يعمل وسيطَ أسهم؛ ومن ثَم أظنه لا يزال شريكًا في مكتب المضاربات الوهمي ذاك.»
نهض ثورندايك، وأخذ من فوق أرفف المراجع قائمةً بأسماء المكاتب المقيدة في البورصة، وقلب صفحاتها.
قال وهو يعيد المجلَّد: «أنت محق، لا بد أنه وسيط خارجي. فاسمه ليس مقيدًا ضمن الأعضاء المقيدين في البورصة. وعلى حسب ما أخبرتَني به، يُفهم أن المودة بين الأخوَين لم تكن قوية، ولا أريد افتراض وجود أي نوعٍ من الكراهية بينهما. وببساطة لم تكن بينهما اهتماماتٌ مشتركة. هل تعرف شيئًا آخر؟»
«لا. فلم أسمع قط أن نشب بينهما عِراك أو خلاف. وأظن أن انطباعي بتوتر العلاقات بينهما راجعٌ إلى البنود التي تنُص عليها الوصية، لا سيما الوصية الأولى. ومن المؤكَّد أنه لم يسعَ أحدهما إلى صحبة الآخر.»
قال ثورندايك: «هذا الاستنتاج ليس قاطعًا. أما فيما يتعلق بالوصية، فإن الرجل الحريص لا يميل عادةً إلى أن يورِّث أمواله إلى رجل قد يستخدمها في رهانات متهوِّرة في المسابقات، أو في سوق البورصة. ثم أنت موجود، وأنت الوارث الأحق بالتركة؛ حيث إنك ما زلت تستقبل الحياة. لكن هذا مجرد تخمين، والمسألة ليست ذات أهمية كبيرة على حد ما نرى. والآن، أخبِرني عن علاقة جون بلاكمور بالسيدة ويلسون. فعلى حد ما فهمت، هي أوصت بتركتها إلى أخيها الأصغر جيفري. هل هذا صحيح؟»
«نعم. لم توصِ بشيء لجون. والحقيقة أن القطيعة قد دخلت بينهما. وإخال أن جون كان يعاملها معاملة سيئة، أو على الأقل هي ترى ذلك. زوجها الراحل السيد ويلسون خسر بعض الأموال في استثمار له علاقة بمكتب المضاربات الوهمي الذي تحدثت عنه، وأظنها شكَّت في أن جون قد ضلل زوجها. ربما تكون مخطئة، ولكنك تعلم حين تستقر فكرة في عقل النساء.»
«هل تعرف عمتك جيدًا؟»
«لا، لا أعرف الكثير عنها. فقد عاشت في ديفونشَير ولم تزُر أيًّا منَّا إلا قليلًا. وكانت قليلة الكلام وعنيدة، على غير عادة أخوَيها. يبدو أنها كانت تشبه عائلة والدها.»
«من فضلك، أعطني اسمها بالكامل.»
«جوليا إليزابيث ويلسون. واسم زوجها إدموند ويلسون.»
«شكرًا لك. نقطة أخيرة. ما الذي حدث لشقة عمِّك في مجمع نيو إن منذ وفاته؟»
«إنها مغلقة منذ ذلك الحين. وبما أنني ورثت كل ممتلكاته، فقد نُبْتُ عنه في الإيجار في الوقت الحالي كي لا يُعبث بها. فكرت في أن أُبقيها وأستخدمها لأغراضي الشخصية، ولكن لا أحسبني أطيق المكوث فيها بعد ما شاهدته.»
«إذن، هل فتشتها؟»
«أجل، ألقيت نظرة سريعة على ما بداخلها. فقد كنت هناك في يوم التحقيق.»
«قل لي، حين ألقيت نظرة سريعة على الشقة، ما الانطباع الذي تركته فيك بشأن عادات عمك ونمط حياته؟»
ارتسمت ابتسامة اعتذار على شفتَي ستيفن. قال: «إخالها لم تترك أي انطباعٍ خاصٍّ في هذا الصدد. نظرت في غرفة الجلوس ورأيت فيها كل متعلقاته الشخصية المعتادة، ثم دخلت إلى غرفة النوم، ورأيت الأثر الذي تركته الجثة في موضعها على الفراش، وحينئذٍ أحسست بالرعب لدرجة أني خرجت من فوري.»
حاجَّه ثورندايك: «ولكن لا بد أن مظهر الشقة قد ترك شيئًا في عقلك.»
«لا أظن ذلك. فكما تعلم، ليست عندي عينُك الناقدة. ولكن، هل تحب أن تنظر فيها بنفسك؟ وإذا كنت تحبُّ ذلك، أرجو أن تفعل. إنها شقتي الآن.»
رد ثورندايك: «أحسب أنه ينبغي أن أُلقي نظرة على الشقة من الداخل.»
قال ستيفن: «جميل جدًّا. سأعطيك بطاقتي الآن، وسأُعرِّج على غرفة البوَّاب الآن، وأُخبره أن يعطيَك المفتاح متى أردت أن تُلقي نظرة.»
أخرج بطاقة من حقيبته وكتب عليها بضعة سطور وأعطاها لثورندايك.
قال: «إني أقدِّر لك كل جهودك. وكما هي الحال مع السيد مارشمونت، لا أتوقع أن تُفضي جهودك إلى أي نتائج، ولكني ممتنٌّ لك من أعماقي على الدراسة الشاملة للقضية. ولكن إذا سمحت لي، هل ترى أي ثغرة يمكن أن ننفذ منها للطعن في الوصية؟»
رد ثورندايك: «في الوقت الحالي، لا أرى. ولكن حتى أدرس كل واقعةٍ مرتبطة بالقضية بعناية، سواء كان لها علاقة واضحة أم لا، فلن أعربَ عن أي آراء أو أفكر فيها بأي حال من الأحوال.»
حينئذٍ غادَرَ ستيفن بلاكمور، ولما جمع ثورندايك قصاصات الورق التي دوَّن عليها ملاحظاته، نظمها وثقبها بثقبين وأدخلها في ملف صغير ثم وضع الملف في جيبه.
قال: «هذه نواة البيانات التي يجب أن تُبنى عليها تحقيقاتنا، وإني أخشى ألَّا نصل إلى أي معلوماتٍ إضافيةٍ مهمة. ما رأيك في هذه القضية يا جيرفيس؟»
أجبته: «ما رأيتُ قضيةً ميئوسًا منها مثل هذه القضية.»
قال: «وهذا ما أراه؛ ولذلك فأنا حريص كل الحرص أن أحرز تقدمًا فيها. والأمل عندي ليس أكثر مما عند مارشمونت، ولكني سأستنفد كل الفرص الممكنة قبل أن أتخلى عنها. ما الذي ستفعله؟ فأنا ينبغي أن أحضر اجتماعًا لمجلس إدارة مكتب جريفين لايف.»
«هل آتي معك؟»
«يسرني عرضك يا جيرفيس، ولكن أرى أن أذهب وحدي. أريد أن أدرس هذه الملاحظات وأنظِّم وقائع القضية في ذهني. وحين أنتهي من ذلك، سأكون مستعدًّا لاستيعاب معلومات أخرى. فلا فائدة تُرجى من المعلومات إذا لم يستوعبها ذهنك استيعابًا فعليًّا، بحيث يستطيع استرجاعها في الحال. لذا، حريٌّ بك أن تأخذ كتابًا تقرأ فيه، وتدخن غليونك، وتقضي ساعة هادئة بالقرب من المِدفأة، ريثما أستوعب هذه المعلومات المتنوعة التي وصلت إلينا. ويمكنك أن تدخل في نوبة تأمُّل.»
حينئذٍ، غادر ثورندايك، وقد أخذت بنصيحته وسحبت كرسيًّا بالقرب من المدفأة وملأت غليوني. ولكني لم أجد في نفسي أي ميل إلى القراءة. إن الوقائع الغريبة التي سمعتها للتَّو، وإصرار ثورندايك الواضح على توضيحها أكثر جعلاني أميل إلى التأمُّل. وبصفتي مرءوسًا له، فمن شأني أن أشغل نفسي بأموره. ومن ثَم حين أشعلت المدفأة وأشعلت غليوني أيضًا، انغمست في التفكير مجددًا بشأن الوقائع المتعلِّقة بوصية جيفري بلاكمور.