تأبين
ذكرى الشهيد
رثاء محمد فريد
… … … … …
… … … … …
دنيا نزاولها ونحن كأننا
من غير طينتِها نُصَاغُ ونُخْلَقُ
محجوبة المرمى فما لشرورها
تعتاد حاسرة الوجوه وتبثق
نمشي على الأبدي من أشواكها
ونتاجها الأبدي عنها مغلق
وكأنما الدنيا سرابٌ سرمدٌ
لا يُرْتَوَى منه ولكن يُغْرِق
سواك فيها حين يخفق عاملٌ
ترجوه أن صداه قد لا يخفق
•••
أَفَرِيدُ لا يلمم بسيرَتِكَ الردى
أبدًا ولا يبرح سلاحُكَ يُمشق
ما كان ذاك العمر إلا وقعةً
الدهر حومة حربها لا الخندق
والناصرون الحقَّ جيشٌ واحدٌ
متجمِّعٌ في مدِّه متفرق
الأنبياء الصالحون جنوده
والحق بيرقه ونعم البيرق
لا يُيْئِسَنَّكَ أَنْ قضيتَ فإنه
جيشٌ بموت غزاته لا يمحق
ما زال مطَّردًا فقبلك فيلقٌ
شرعوا لهاذمه وبعدك فيلق
خير الجوانب أن تكون بجانبٍ
أضداده أسرى وإن لم يوثقوا
… … … … …
… … … … …
ذكرى الأربعين
أَمَضَتْ بعد الرئيس الأربعون
عجبًا كيف إذن تمضي السنونْ؟
فترة «التيه» تغشَّت أمةً
غاب موساها على «طور سينين»
كل يومٍ ينقضي نفقده
وهو ملء الصدر من كل حزين
تكبر البلوى به حين مضت
والبلايا حينما تمضي تهون
كيف ينسى الناسُ مَنْ لم يَنْسَهُمْ
يوم تُنْسى النفس والذخر الثمين
لم يزالوا كلما قيل لهم
ذهب الموت به يلتفتون
… … … … …
… … … … …
خرج المدفع يطوي مدفعًا
الأساطيل اتَّقَتْهُ والحصون
ساكنًا بين يديهم بعد ما
زلزلَ الشرقَ على المغتصبين
حوله من عسكرٍ أو عُزَّلٍ
جيشُ أجنادٍ له مُتَّبِعُونْ
… … … … …
… … … … …
ليس يبكي خطب سعدٍ يائسٌ
أين من سعد ضعافٌ يائسون؟
إنما يخلق أن يبكيَه
من أصابوا منه عزمًا لا يلين
لم يصب منه نصيبًا من هوى
خائن العزم فما كان يخون
أي نذير الحق من وادي الردى
قم فأنذرهم عساهم يعلمون
… … … … …
… … … … …
ألقِ للتاريخ ما يكتبه
أنت لا يلقي عليك الكاتبون
صفحة سطرتها أنت فما
في ثناياها سطور يمَّحين
قل له والدهر يحني رأسه
والطوايا شاهداتٌ والعيون
أنا مصرٌ وهي في سؤددها
أنا مصرٌ وهي في الأسر سجين
أنا نجيت لمصر نفسها
ضيَّعتَها بين كفرانٍ ودين
أنا ألقيتُ على عاتقها
حملها المطروح بين الآخرين
فاسألوا عن صيدها أو غيدها
وعن القبط بها والمسلمين
وعن الموسر والعافي بها
وعن الآباء فيها والبنين
واسألوا عن عالمٍ أو جاهل
وأصيلٍ من بنيها أو هجين
تجدوا مصرًا ولا تستمعوا
غير مصرٍ في دعاءٍ وحنين
جُمِّعَتْ فيَّ نفوسٌ فوقت
في النبيين الهداة المصلحين
… … … … …
… … … … …
يوم منفاك وهل كان سوى
يوم بعثٍ لبنيها أجمعين
ضُربت مصر فكانت ضربةً
ذادت النوم وطاحت بالسكون
أيها الغادون بالقيد لها
قيِّدوا الآن ألستم قادرين؟
الرحى دارت على أقطابها
واستوى الطاحن فيها والطحين
بأسُكم ما عهدت أحرارها
من قديمٍ وهي ما لا تعهدون
… … … … …
… … … … …
إن بَكَتْ مصرٌ عليهِ شجوَها
إنني بالشجو وحدي لَقَمِينْ
رزئته النفس واللب وما
يشتهي الراوي ويبغي الدارسون
لم يكن بالأب إلا أنه
كان نعم الأب في رفقٍ ولين
كم سعى ساعٍ إليه ووَشَى
ومقامي عنده العالي المصون
يا هدى الأمة يا نعم الهدى
يا خدين الصحب يا نعم الخدين
أنا جبارُك لا تعهدني
ذلك الجبار في الدمع السخين
لستُ أنسى في «وصيف» سامرًا
لك كالطير أظلتها الوكون
إذ تُلاقينا على مهد الرِّضا
والأحاديث مع الليل شجون
نحقر الداءَ وترعى أمرَنا
إن غفونا أو غدونا مصبحين
… … … … …
… … … … …
يومَ ودعتُكَ ودعتُ أمرًا
يملأ الدنيا ويقضي ويدين
وأحييك لألقاك غدًا
حجرًا يعلوه نوار الغصون!
عجبًا لا ينقضي من عجبٍ
وفتونًا ليس يبلى من فتون
أَوَسعدٌ ذلك الثاوي هنا
أوَسعدٌ ذلك القبرُ السدين؟
عجبَتْ بادرتي ثم وعت
فيه رمز الموت أعلى الرامزين
هو صخرٌ ورياحين معًا
بين عزم وخلالٍ يستبين
فاعرفوا في قبره تمثاله
واخفضوا الصوتَ وحيُّوا خاشعين
فاز سعد
عرف النفيَ حياةً ومماتا
وأصاب النصر روحًا ورُفاتا
كلما أقصوه عن دار له
رده الشعب إليها واستماتا
كيف يجزيه افتياتًا وهو من
كان لا يرضى على الشعب افتياتا
أصبحت دارك مثواك فلا
تخش بعد اليوم يا سعد شتاتا
حبَّذا الخلدُ ثمارًا للذي
غرس المجد ونماه نباتا
… … … … …
… … … … …
•••
جِيرَةُ الأحياءِ أولى بالذي
بعث الدنيا حياةً أن تبيدْ
معشر الأحياء أنتم لكمُ
مدد من ذلك الميت مديد
مستعيدين رجاءً كلما
جزتموه وهو منكم مستعيد
إنه في كل جيلٍ ذاكر
من بنيه أبد الدهر وليد
تلك يا سعد مغانيك فما
في سواها يسكن اللحد شهيد
•••
اعبر القاهرة اليوم كما
كنت تلقاها جموعًا ونظاما
ساعة في أرضها عابرة
بين آبادٍ طوالٍ تترامى
ساعة من عالم الفردوس لا
تشبه الساعاتِ بدءًا وختاما
كل مَنْ شاهدها زيدَ بها
من معانيك جلالًا ودواما
قل لهم أبلغ ما قلت لهم
أيها الواعظ صمتًا وكلاما
•••
جردوا الأسياف من أغمادها
ذاك يوم النصر لا يوم الحداد
ارفعوا الرايات في آفاقها
أين يوم الموت من يوم المعاد؟
لا يُلاقى الخلد بالحزن ولا
يكتسي الفتح بجلباب السواد
ذاك يوم ما تمناهُ الْعِدَى
بل تمناه ولاء ووداد
فانفضوا الحزن بعيدًا واهتفوا
فاز سعدٌ وهو في القبر رماد
تمثال سعد
الروح في وادي الكنانة حائم
وجلال شخصك في النواظر قائم
ما غاب منك سوى مثالٍ عارضٍ
يمضي ويخلفه المثال الدائم
… … … … …
… … … … …
تمثال سعدٍ في الجزيرة ساهرًا
هيهات يغفل منك لحظٌ صارم
النيل حولك لا يغيب هنيهةً
عن ناظريك وأنت عنه صائم
شأنٌ لربك في الحياة حكيته
فالظل للغصن الوريف موائم
كم صام سعدٌ عن مناهلِ حوضه
ويعبُّ مغتصبٌ وينهل غاشم
كما بات يرعاه وليس بمرتعٍ
من خيره ما يرتعيه الحاكم
كم غاب عنه ولم يغب عن همه
والبحر دون طريقه متلاطم
•••
بك زادتِ الأهرام ركنًا والتقت
منها على بعد الزمان دعائم
تلك الصروح على اختلاف بنائها
في الجيزة الفيحاء هُنَّ توائمُ
نهضت على استقلال مصرَ دلائلًا
يعيا بنقض بنائهنَّ الهادم
… … … … …
… … … … …
•••
يا سعدُ هلَّا من لسانك قولةٌ
يُروى بها هذا الزحامُ الهائمُ؟
يمناك تومئ بالكلام فأين من
إيمائها الصوت القوي الناغم؟
عَجَبِي لِشَيْءٍ فِيهِ مِنْكَ مَلَامِحٌ
أَنْ لَيْسَ يُسْمِعُ مِنْهُ قَوْلٌ حَاسِمُ!
عَجَبِي لِشَيْءٍ فِيهِ مِنْكَ مَلَامِحٌ
أَنْ لَيْسَ يخفق فيه قلبٌ عالم!
أخذ الحديد الصلب منه عزيمة
والصخر بأسًا يتقيه الصادم
وتشابهت ثم الأسارير التي
قد شابهتك بمثلهنَّ ضياغم
وتحجَّبَتْ تلك الأفانينُ التي
ضاقَ الصَّناعُ بها وعيَّ الراسم
إن لم تصوِّرْها اليدان فربما
خفيت فصوَّرها الضمير الراقم
إن لا تحدِّثنا فكلُّ محدِّث
من فيض روحِكَ ناثرٌ أو ناظم
أو لا يكن لفظٌ فدون الوحي من
معناك كلُّ اللافظينَ أعاجمُ
تحية زعيم راحل
أكبرتُ في غَيبِ الزعيمِ مُحَمَّدِ
من كان يكبر حاضرًا في المشهدِ
حجبَ الرَّدَى عنا بشاشته ولم
يحجب بشاشة ذكره المتجدد
هيهات ينتقص الزمان مجادة
للسيد ابن السيد ابن السيد
… … … … …
… … … … …
•••
عز الكنانة فيه فهي فجيعةٌ
تبلو الكنانة في الضمير وفي اليد
ما في مروءات الشعوب مروءةٌ
إلا رعته بنظرة المتفقد
البرُّ والمشهودُ من آلائه
بين المحافل دون ما لم يشهد
ومعاهد التعليم بين مشجعٍ
للعاملين بها وبين مزوِّدِ
وإغاثة الأدب اللهيف وإن تشأ
سردًا فعدِّدْ ما بدا لك واسرد
ونزاهة اليد واللسان هداية
للمهتدين وقدوة للمقتدي
وصراحة الأخلاق ما اشتملت على
مستغلقٍ فيها ولا متأود
والعزة الشماء إلا أنها
كالشاهق المخضَرِّ لا كالجلمد
وسياسة الوادي ولم يكُ رابحًا
منها سوى الشجن المقيم المقعد
وعزيمة لا تكره الشورى وإن
كانت لتكرهُ حيرةَ المتردد
شيمٌ وآلاءٌ إذا ما استفردت
كالقطب عزَّت في ازدواجِ الفرقد
•••
عِزُّ الكنانةِ والعزاءُ ليعرب
ما بين مُتْهِم قومه والمنجد
كم ذاد عنهم والخطوب بمرصد
والشملُ بين مشرَّدٍ ومبدد
… … … … …
… … … … …
•••
سمحٌ على ما فيه من عصبيَّةٍ
سهلٌ وإن أعيا قوى المتشدد
لا يستطاع على الخصام عناده
وعليه تعويل الأخ المتودد
من أكسفوردَ ولو نماهُ معشرٌ
للأزهر المعمور لم تستعبد
فيه محافظةٌ وفيه طرافةٌ
وأراه في الحالين غَيْرَ مقلد
ورث الحميةَ كابرًا عن كابر
والأريحية منجدًا عن منجد
غيث الفلاة ونيل مصر كلاهما
سَقَياه من أصليه أَعْذَبَ مَوْرِدِ
فإذا بَكَتْ مِصْرٌ فغيرُ ملومةٍ
وإذا الحجاز بكى فغيرُ مُفَنَّدِ
آه من التراب
أين في المحفل ميٌّ يا صحابْ؟
عودتنا ها هنا فصل الخطابْ
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيبٌ حين يُدعى مستجاب
أين في المحفل ميٌّ يا صحابْ؟
•••
سائلوا النخبة من رهط الندي
أين ميٌّ هل علمتم أين مي؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولى كوكباه أين غابْ؟
•••
أسف الفنُّ على تلك الفنون
حصدتها وهي خضراء السنون
كل ما ضمته منهن المنون
غصصٌ ما هان منها لا يهون
وجراحاتٌ وبأسٌ وعذاب
•••
شيمٌ غرٌّ رضيَّاتٌ عذاب
وحجى ينفذ بالرأي الصواب
وذكاءٌ ألمعيٌّ كالشهاب
وجمالٌ قدسيٌّ لا يعاب
كُلُّ هذا في التراب آه من هذا التراب
•••
كل هذا خالدٌ في صفحاتِ
عطراتٍ في رُباها مثمراتِ
إن ذوت في الروض أوراق النبات
رفرفت أوراقها مزدهرات
وقطفنا من جناها المستطابْ
•••
من جناها كُلُّ حسن تشتهيه
متعة الألباب والأرواح فيه
سائغ مُيِّزَ من كل شبيه
لم يزل يحسبه من يجتنيه
مفرد المنبت معزول السحاب
•••
الأقاليم التي تنميه شتى
كُلُّ نبتٍ يانعٍ ينجب نبتا
من لغات طوَّفت في الأرض حتَّى
لم تدع في الشرق أو في الغرب سمتا
وحواها كلها اللبُّ العُجَابْ
•••
يا لذاك اللب من ثروة خصبِ
نير يقبس من حس وقلبِ
بين مرعًى من ذوي الألباب رحب
وغنى فيه وجودٍ مستحب
كلما جاد ازدهى حسنًا وطابْ
•••
طلعه الناضر من شعرٍ ونثر
كرحيق النحل في مطلع فجر
قابل النور على شاطئ نهر
فله في العين سحرٌ أي سحر
وصدى في كُلِّ نَفْسٍ وجواب
حيِّ «ميًّا» إن من شيع ميَّا
منصفًا حيَّا اللسانَ العربيَّا
وجزى حواء حقًّا سرمديا
جزى ميًّا جزاء أريحيا
للذي أسدت إلى أم الكتابْ
•••
للذي أسدت إلى الفصحى احتسابًا
والذي صاغته طبعًا واكتسابا
والذي خالته في الدنيا سرابا
والذي لاقت مصابًا فمصابا
من خطوبٍ قاسياتٍ وصعابْ
•••
أتراها بعد فقد الأبوينِ
سَلِمَتْ في الدهر من شَجْوٍ وبَيْنِ
وأسًى يظلمها ظلم الحسين
ينطوي في الصمت عن سمعٍ وعين
ويذيب القلب كالشمع المذابْ
•••
أتُراها بعد صمتٍ وإباءْ
سلمت من حسدٍ أو من غباء
ووداد كل ما فيه رياء
وعداء كل ما فيه افتراء
وسكون كل ما فيه اضطرابْ
•••
رَحْمَةُ اللهِ عَلَى «مَيٍّ» خصالا
رَحْمَةُ اللهِ عَلَى «مَيٍّ» فعالا
رَحْمَةُ اللهِ عَلَى «مَيٍّ» جمالا
رَحْمَةُ اللهِ عَلَى «مَيٍّ» سجالا
كلما سُجِّلَ في الطرس كتاب
•••
تلكم الطلعة ما زلتُ أراها
غضَّة تنشر ألوان حلاها
بين آراءٍ أضاءت في سناها
وفروعٍ تتهادى في دجاها
ثم شاب الفرع والأصل وغاب
•••
غاب والزهرة تؤتي الثمرات
ثمرات من تجاريب الحياة
خير ما يؤتي حصاد السنوات
بعثرتهن الرياح العاصفات
ورمتهنَّ تُرابًا في خراب
•••
رُدَّ ما عندك يا هذا التُّراب
كل لبٍّ عبقريٍّ أو شباب
في طواياكَ اغتصابٌ وانتهاب
خُلقا للشمس أو شمِّ القباب
خلقا لا لانزواءٍ واحتجاب
•••
ويك ما أنت بِرادٍّ ما لديك
أضيع الآمال ما ضاع عليك
مَجْدُ «مَيٍّ» غير موكول إليك
مَجْدُ «مَيٍّ» خالصٌ من قبضتيك
ولها من فضلها ألف ثوابْ
عبد القادر
جل المصاب بفقد عبد القادر
ويح البيان على المبين الساحرِ
الباحث المنطيق في تاريخه
الملبس الماضي لباس الحاضر
الناقد الأنباء نقد صيارفٍ
الوازن الآراء وزن جواهر
المستعين على السياسة بالحجى
والعلم والقلم القوي القاهر
والحجة العليا التي ما طأطأت
يومًا لمنتقمٍ ولا لمناظر
… … … … …
… … … … …
عرف الحقائق فاستراح جنانه
من سرعة الشاكي وبطء الشاكر
ووعى عواقبها فلم يَعِ صدرُهُ
بغضًا لمعتقدٍ ولا لمكابر
•••
علمي به علم المطالع زاده
علمٌ على بعدٍ وعلم معاشر
كم مَرَّ من يومٍ ضحوكٍ بيننا
أو مر من يومٍ عبوسٍ كاشر
خضنا الحياة معًا على علاتها
متلاحقين مع الشباب الباكر
وجرى يراعانا معًا في حلبةٍ
عزَّت على غير الطمرِّ الضامر
ذكراهُ والأيامُ عابرةٌ بنا
نعمَ العتادُ لذاكرٍ ولعابر
شهيد الوطن
أحمد ماهر
لم أصدِّقْ وقد رأيتُ بعيني
وسمعتُ الطَّلق المريبَ بأذني
«ماهرٌ» في النديِّ يُجنى عليه
ويدٌ قيل من بني مصر تجني؟
أشبهُ الصدقِ بالأباطيل هذا
ويكَ أمسِكْ جاوزت غاية ظني
•••
لم أصدِّقْ وما لحيٍّ دوامٌ
والمنايا تطوف في كل ركن
غير أن الكيد الذي كاده الجا
ني له الويل لا يطيف بذهن
أيُّ رأس رمي وأي فؤادٍ
نال منه وأي صدرٍ وحضن؟
أَفَيُرْمَى بِالْمَوْتِ أوسعُ صدرٍ
لبني قومه وأمنع حصن؟
أَفَيُرْمَى بِالْمَوْتِ قلبٌ يحوطُ النا
سَ حبًّا ولا يحيط بضغن؟
أَفَيُرْمَى بِالْمَوْتِ رأسٌ تولَّى
مجد مصرٍ برأيه المطمئن
يُعْمِلُ الرأيَ للبلاد ويَلقى
معولَ الموت هادمًا وهو يبني؟
يا ضلالَ الجدود في هذه الد
نيا ويا سوأةً لذاك التجني!
أمنَتْ تلكمُ المقاتل لو يأ
منُ في الناس كلُّ صاحب أمن
لو تردُّ النياتُ غرب سلاحٍ
رَدَّ عنه السلاحَ ألفُ مجن
•••
لم أصدِّقْ وقد رأيتُ بعيني
أمَّةَ النيلِ في حدادٍ وحزن
حزنت غير أنها ليس تدري
أللقيا تجمَّعَتْ أم لدفنِ
أعمق الصمت صمتها وهي حيرى
بين صدق الأسى ووهم التمني
ترقبُ النعشَ قادمًا يتأنَّى
وتمنَّت لو طال ذاك التأني
أوجعُ الشكِّ شَكُّ ساعة هولٍ
في يقين يُدمي العيونَ ويضني
المسجَّى يا أيُّها الجمعُ هذا
أفتدري مَنْ ذا يكون أجبني؟
إنه «أحمدُ» الذي كان فينا
مُنْذُ يومٍ رضوانَ كلِّ مهني
من يصدق هذا يصدق عظيمًا
من بلاء الدنيا يشيب ويفني
•••
لم أصدِّقْ والأربعون أمامي
كُلُّ ساعاتهن ساعة بين
كم تمثلته وأحسب أني
إن أحقق رأيته نصب عيني
مقبلًا ضاحك الأسارير سمحًا
ثابت الجأش لا يُلِمُّ بوهن
فُجِعَتْ مصر فيه بالقائد الأسـ
ـبق والأوحد الذي لا يثنِّي
بالزعيم الأمين في كل رأيٍ
والوزير القدير في كل فن
والحسيب الموفى لكل حسابٍ
والخطيب الذي يقول ويعني
الذي فارق المناصب جهرًا
بصريح من رأيه لا يكني
والذي أنفق الشباب جهادًا
في خطارٍ على الحياة وسجن
والذي أجزل العطاء لمصرٍ
هبةً منه لا تشابُ بضَنِّ
والذي لا يسيء يومًا ويعفو
عن مسيء إليه في غير من
والذي كان في «النديِّ» إمامًا
وَسَطَ العدل حين يُقصي ويُدني
عز فينا دستور مصر بشرحٍ
من هُداهُ لا يستعاض بمتن
لن يقولَ الصديقُ فيه مقالًا
يتأباه خصمه حين يُثني
الأستاذ الأكبر
مَنْ مثلُ نابغةِ النوابغ مصطفى
في سابقٍ من مجده أو لاحق
رجَّاه والدُه الكريم لغايةٍ
حُسنى فوفَّاها وفاءَ الواثقِ
ربَّاه حبرًا للديانة فاستوى
في نخبة الأحبار أسبق سابق
ونماه في حجر العبادة مسلمًا
فهدى الحجيج وحج كل منافق
وأعدَّه للعلم فاستوفى به
حظَّ العليم الفيلسوف الحاذقِ
وغذاه بالتبيان فانقادت له
غُرَرُ اليراعِ بكل معنى شائق
وهداه للإحسان فهو وليه
لمعاهد الإحسان غير مفارق
ورجاه للعلياء فاستبق الخطى
سبق الكرام إلى المقام السامق
لا وانيًا عنها ولا متعجلًا
فيها تَعَجُّلَ مشفقٍ من عائق
وكأنه وعد الأمين وَفَى به
فطوى صحيفته كلمح البارق
لو لم يكن قدرًا قضاه لما قضى
كالنجم يرجع غاديًا من شارق
إن المطالع لا يقرُّ قرارها
بعد التمام ولا تدوم لطارق
•••
يا آخذًا من كل شيء صفوه
بوركت من ذي معجزاتٍ خارق
حتى الخمول بلغت غاية حظِّه
عجبًا، وأنت من العلا في حالق
لم ألق قبلك من نبيه آمنٍ
من شره الباغي وغيظ الحانق
تلك المدامع ما امتزجن بدمعةٍ
من كاذبٍ في حزنه أو ماذق
ولتلك من رضوان ربك آيةٌ
تَخِذَتْ من الإجماع أصدق ناطق
فادخل حظيرته بخير خلائقٍ
مرضيَّةٍ منه وخير علائق
ما الموتُ يا كشافَ كُلِّ حقيقةٍ
إلا حقائق حُجِّبَتْ بحقائق
السيدة هدى
ربةُ البرِّ والندى
لم يَضِعْ سعيُها سدى
لغدٍ كان سعيُها
وسيبقى لها غدا
كل ما قدمت من الـ
ـخيرِ باقٍ على المدى
ينطوي الدهر ما انطوى
منه صوتٌ ولا صدى
هي ملء الضمير منـ
ـكم مغيبًا ومشهدا
كنتِ في الشرق يا هدى
مثلًا كان أوحدا
أين في المجد والعلا
أين في الجد والجدى؟
غايةٌ طاولت سما
ءك مرقًى ومصعدا
إن علا محتدٌ علو
تِ إلى الأوجِ محتدا
أو علا سؤدد العوا
رف بوركت سؤددا
أو حدا الركب بالعزا
ئم جاوزت من حدا
شرفٌ كلُّ عنصريـ
ـه على المجد أسعدا
تم موروثه العريـ
ـق بما قد تجددا
ذاك أو ذا كلاهما
حسب من شاء مفردا
•••
إنَّ من تذكرونها
ذكرها غالب الردى
قدوة الفضل للعقا
ئل في كل منتدى
ولها السبق كلما
حسن السبق موردا
سفرَتْ والحجابُ كالليـ
ـلِ غيْمانَ أسودا
والتقت باسم مصر والنـ
ـيلِ جيشًا مجندا
وأعانت على الزما
ن مريضًا ومُجهَدا
وضعيفًا مِنَ اليتا
مى وطفلًا مشردا
وحمى عطفها فرا
ئسَ مَنْ ضلَّ واعتدى
ورعت ناشئًا عن الـ
ـعلم والأهل مبعدا
وأجازت على البيا
ن فأسدت له يدا
إن بكوا كلُّهم لنعـ
ـيكِ لا غرو يا هدى
كلُّهم يفتديك لو
يُدفعُ الموتُ بالفدى
لا صديقٌ ولا عدا
ليس في الحق ما عدا
أمم الشرق كلُّها
حمدَتْ منك محمدا
توجَ التاجُ ذِكْرَيَا
تِكِ والشعبُ رَدَّدا
آية الله يا هدى
ولكِ الخلدُ سرمدا
محب السلام
… … … … …
… … … … …
عزاء الزمالة في رزئه
لقد كان نعم الزميل الهمامْ
حفيَّ اللقاءِ، وفيَّ الإخا
ءِ عَفِيفَ اليراع عَفِيفَ الكلام
صبورًا على هفوات الطبا
ع يغضي عن السيئات الجسام
حليمًا إذا طاش لبُّ الحليـ
ـم رضيًّا إذا لجَّ داعي الخصام
ترى حوله الناس شَتَّى العقو
لِ شَتَّى المذاهب شَتَّى المرام
فتحسبه عاملًا وحده
وتحسبه قائلًا في الزحام
كأن له خاطريْ مهجةٍ
لهذا مقامٌ وهذا مقام
طرائفه في ثنايا الحديـ
ـث تنسي النديم كئوس المدام
وأمثاله من عيون البيا
ن جواهر منثورةٌ في نظام
وآراؤه حين تطغى الخطو
بُ معالم هاديةٌ في الظلام
وأقدرُ خلقٍ على أن يُذيـ
ـعَ قد كان أقدرَهم في اكتتامْ
فَمَا صِينَ سِرٌّ كَمَا صَانَهُ
وَإِنْ عَزَّ فِي السِّرِّ رَاعِي الذِّمَامْ
وأكثر ما استودعتْهُ النفو
سُ أودعه اليومَ جوفَ الرِّغَامْ
•••
مناقبُ أنطون لا تنقضي
ولا يختم القول فيها ختام
أحبَّ السلام ونادى به
عليه مدى الدهر أزكى سلام
الشهيد الأمين
محمود فهمي النقراشي
أسفي أن يكون جهد رثائي
كلمٌ عابرٌ ورجع بكاء
ما رثاء الحزين غير تعلَّا
تٍ وما النوح غير نفث هواء
ليتني أخرس الفناء لساني
قبل يومٍ أشقى له من فنائي
ما وفاء بذل الدموع من الحز
ن على من وفى ببذل الدماء
•••
إنَّ حزني على هذه الأنفـ
ـس ضلَّت فينا سبيل السواء
نُكِسَتْ بينها الموازينُ نكسًا
واستحالت معالم الأشياء
كم رأينا غدرًا ولا من عُداةٍ
وشهدنا حربًا ولا من عداء
ظلماتٌ تقودها خبطَ عشوا
ءَ وويلٌ لخابط العشواء
•••
أتصمُّ الآذانُ عن صادق النصـ
ـحِ وتصغي طوعًا لكلِّ افتراء؟
أمةٌ في الشقاء من معتدٍ فيـ
ـها عليها ومن صريع اعتداء
أعجز العاجزين يقوى على إيذا
ئها غايةً من الإيذاء
والقديرون يشتكون من العجـ
ـز إذا مهَّدوا لها بالدواء
كيف كيف النجاءُ من هذه المحنـ
ـة بل أَيْنَ أَيْنَ حقُّ النجاء؟
•••
إن حزني حزنٌ على هذه الأمـ
ـة رفقًا بها إلهَ السماءِ
قُلبت آيةُ الحقائق فيها
وقضى سفلها على العظماء
غيلة الموت للغيور عليها
وقضاء الحياة للجهلاء
وقضاء الجهول أوخمُ عقبى
من قضاء البهيمة العجماء
فتنةٌ تَعْمَهُ البصائرُ فيها
وتضلُّ العقولُ في تيهاء
إن أبينا البقاء حقًّا لمحمو
د، فمن ذا يرجى لطول البقاء؟
•••
نبئوني فإنني أنا واللـ
ـه عراني عيٌّ عن الإنباء
أي سهمٍ ترمي به يدُ مصر
يٍّ فيه موقعًا لرماء
أي تلك الخصال مرمى اغتيالٍ
لبني مصر بل بني حواء
أَيُغَالُ الحنانُ فيه حنانًا
كاد يحصى به مع الضعفاء؟
أَمْ يُغَالُ الحفاظ فيه حفاظًا
يتحدى جحافل الأقوياء؟
أَمْ يُغَالُ العفاف أصدق ما كا
ن عفافًا في مستسر الخفاء؟
أَمْ يُغَالُ الإنصاف يحمى عُداه
حين يقضي من صفوة الأصفياء؟
أَمْ يُغَالُ الذكاء يخترق الحجـ
ـب، بنورٍ يهدي كنوز ذكاء؟
أَمْ يُغَالُ الزهد الذي حار فيه
كل مغر من سطوةٍ وثراء؟
أَمْ تُغَالُ الخلائق الزُّهرُ كادت
تترقَّى إلى ذرى الأنبياء؟
أَمْ يُغَالُ الصبر الطويل على الجهـ
ـد بلا مِنَّةٍ ولا إعياء؟
أَمْ يُغَالُ الجهاد في حب مصر
ويح مصر من تلكم النكراء؟
إن محمودًا الذي فقدته
واحدٌ لا يقاس بالنظراء
•••
يا أبا هانئ وأعزز بأني
لا أرى هانئًا ربيب هناء
أنعزيه في مصابك لهفا
ن ونحن الأحرى بطول العزاء
ومصاب الشعوب في الحق أقسى
من مصاب الأبناء في الآباء
خطبُ مصرٍ يسامحُ اللهُ مصرًا
عقَّها في جدودها القدماء
عقَّها في اسمها وما تعرفُ الأقوا
مُ ذخرًا أغلى من الأسماء
يَرْحَمُ اللهُ مِصْرَ من فتنةٍ تطـ
ـغى بجهالها على الحكماء
يَرْحَمُ اللهُ مِصْرَ إنك يا محمو
د في رحمة مع الشهداء
لا يضيمُ الإلهُ قومًا بذنبٍ
أنت فيه لهم من الشفعاء
فقيد اللغة والأدب
علي الجارم
… … … … …
… … … … …
لست أوفيه وصفَه إنَّ وصفًا
لعليٍّ يُغني غناء السمي
علمٌ في الديار صنَّاجة في الحفـ
ـل ركنٌ في المجمع اللغوي
وسراجٌ في مفرق الرأي هادٍ
وجمال وبهجةٌ في الندي
وزميلٌ سمح الزمالة برٌّ
وأخٌ بالإخاء جد حفي
ذلك الشاعر الذي ثكلته
مصر في يوم مأتمٍ وطني
لم تزل تسمع المراثي حتى
سمعت في الرثاء صوت نعي
تتنزَّى على زعيمٍ أمينٍ
وأديبٍ جزل البيان سري
•••
لست أوفيه حقَّه إنه حـ
ـق بيانٍ عن البيان غني
وارث الأصمعي في لغة «الضا
د» وفي الشعر وارث البحتري
والأديب الذي له فطنة المصر
ي زانت سليقة البدوي
والمربي الذي تعهَّد جيلًا
عهد علمٍ منه وعهد رقي
وأخو النشأتين شرقًا وغربًا
من قديمٍ باق ومن عصري
كم شهدناه في شواهد نصٍّ
ورأيناه في معارض رأي
وسطًا غير ممعنٍ في وقوفٍ
عند ماضٍ أو ممعنٍ في مضي
قائلًا ناقلًا سميعًا مجيبًا
حسن تبيانه كحسن الصغي
ذكرى إبراهيم
أقيموا الوزن أو ميلوا
فما (ابراهيم) مجهولُ
فتى ميزانه بالقسـ
ـط عند الله مكفول
له في كل تاريخٍ
من المجد أكاليل
•••
سلوا الأوطان ينبئكم
بما يعلمه النيل
يحيِّي ناصر المصر
ي والمصري مخذول
وأول رافع صوتًا
وسيف الحرب مسلول
وللمحتل في مصرٍ
على كل فم غول
له في برها جيشٌ
كجيش النمل موصول
وفي البحر أساطيل
وفي الجوِّ أبابيل
إذا لم ينعه الأحيا
ء والدنيا أباطيل
نعاه في العزيز
ية مدفونٌ ومجدول
وجيلٌ في حمى التا
ريخ لا يشبهه جيل
•••
سلوا الآداب ينبئكم
به الصدَّاحَةُ القول
يردد ذكره في الشعـ
ـر تسبيحٌ وترتيل
ويهتف باسمه في القو
ل مطبوعٌ ومنقول
ويحمد فضله في العُرْ
بِ منسوبٌ ومدخول
فلا الماضي بمنسي
ولا الحاضر معزول
وراعي الشعر لا ينسا
ه مرعى منه مطلول
•••
سلوا الإحسانَ والإحسا
نُ طبعٌ فيه مجبول
وأقرب شأوه في الجو
د مشروبٌ ومأكول
وأيسر جوده بادٍ
لمرأى العين مسئول
وكم أعطى ولم يسأل
وبعض السؤل ممطول
وبعض الناس قد يمحو
نداه القال والقيل
•••
سلوا الأحساب لا عز
يدانيها ولا طول
وللآساد والأشبا
ل من أعلامها غيل
ذووه من بني مصر
هم الغر البهاليل
ومن أحسابه كسبٌ
بمسعاه وتحصيل
برأي زانه في القصـ
ـد إجمالٌ وتفصيل
وصبرٍ راضَ دنياه
وراضته العراقيل
سلوا سيرته الحفلى
وللسيرة تسجيل
سلوا (الشلال) والمجرى
من القطرين مفصول
لَتَمَّ القربُ لولا قا
عدٌ بالشرق مشلول
•••
خصالٌ كُلُّها نُبْلٌ
وأفضال وتفضيل
وذكرى كلها حمدٌ
وتشريفٌ وتبجيل
فقدناه ونادي الرأ
يِ في القطرين مأهول
فلا يَبْعُد به المثوى
ومثوى الخير مأهول
له من بره أُنْسٌ
وشَمْلٌ ثَمَّ مشمول
ومن سيرته الفيحا
ء ترويحٌ وتظليل
له في منزل الرِّضوا
ن تسليمٌ وتنزيل
وأجرٌ من ثواب الله
عند الله مقبول
شيخ الشيوخ
لا أحسب العام في أسوان يسعدني
يومًا بلقياه في قومي وفي سكني
هناك في الركن من مشتاه معتصمًا
على سجيته من غمرة المحن
تباعدت شقة الدارين وامتنعت
على المطايا وأعيت حيلة السفن
«حسبُ الصديقين بُعْدُ الأرض بينهما»
على مدى راحةٍ من ظهرها الخشن
وا طولَ شوقي إلى يوم يقربني
من راحة البال أو من راحة البدن
•••
تلك المعاهد لا تنسى معمِّرَها
قربًا من العهد أو قربًا من الدِّمَنِ
يحجُّ سعيًا إليها في أماكنها
أو ساعيًا ممعنًا في ساحة الزمن
منازل الوحي ما زالت مثابته
في الطيبتين وفيما طاب من ظعن
لم ينقطع قطُّ ماضيه وحاضره
ولا ونى عن فراغٍ بالنفوس يني
•••
يا هيكل الحق كم أحييتَ من أثرٍ
وكم نشرت وكم أبقيت من سنن
ذكراك يا باعث الذكرى مخلَّدة
تبقى مع الذكريات الغر في قرن
حقٌّ على ذمم التاريخ تحفظه
لحافظ ذمم التاريخ مُؤْتَمَنِ
أحييت سيرة من يحيون منصفهم
من كل عالٍ بتشييد العلا قمن
هم الكرام وقد أحسنت مدحتهم
مكرِّموك بحمد منهمُ حسن
عش في صحابتهم من معشرٍ شرعوا
للناس شرع وفاء السر والعلن
•••
يا هيكل الفن كما أبدعت من صورٍ
وكم رفعت وكم نكَّست من وثن
وكم لمصر بما أرسلتها قصصًا
من متحفٍ عامر بالآهلين غني
من القرى فيه ألوانٌ مشخصةٌ
كما عهدنا وألوانٌ من المدن
من يلقَها يلقَ تاريخًا لحاضرنا
وحبَّذا حاضر التاريخ للوطن
يكاد يعجب رائيها على كثب
إني أراها فسلها كيف لم ترني
تلك التماثيل من خلق الحياة كما
يوحي بها وحي باريها إلى الفطن
•••
يا هيكل البيعة العليا بعقوتها
ويا لها بيعةً مهضومة الثمن
قامت على بحرها اللجيِّ تحسبها
جسرًا على شاطئيه غير متزن
تهب من فوقها هوج الرياح ولا
تقر في جوفها الأمواج كالقنن
وأنتَ والسادنوها الصِّيد في نفرٍ
حاروا بها بين مغلوبٍ ومضطغن
تهزُّ كرسيَّ فاروق وأنت ترى
كرسيَّك الثبتَ لم يثبت على الفتن
تركتموه معرًّى في مباذله
كأنه جيفةٌ في قبرها العفن
يختال في طيلسان الظلم مزدهيًا
وإنما اختال قبل الموت في كفن
وما تعثر في عقبى مساوئه
إلا ليومٍ له في الغيب مرتهن
•••
يا هيكل الصحب كم ضَمَّتْ شمائِلُهُ
شمل الأقارب في الآراء والمهن
ساويت ما بين راضيهم وساخطهم
غداة فارقتهم في لوعة الحزن
حاربتَ في الرأي أقوامًا على ثقةٍ
وحاربوك وما بتُّم على دخن
ما كنت مختبرًا للسخط تضمره
إلا كخبرة فنان به طبن
وإنما الودُّ طبعٌ فيك ليس به
سمتٌ من الفن أو كبتٌ على وهن
لك المآثر يبكيها ويحمدها
من يحمد الفضل موفورًا بلا غبن
قومٌ بماضيهمُ في الشرق قد حفلوا
والشرق ماضيه لم يهبط ولم يهن
عش في صحابتهم من معشرٍ ورثوا
عرفًا لهم مَنْ رعاه قط لم يخن
من لم يكن بينهم بالعرف مؤتمرًا
كأنه في حساب القوم لم يكن
أنت الغني عن الذكرى وما غنيت
جماعةٌ قَطُّ عن ذكرى ذوي المنن
لأنت من جنة العرفان في سعةٍ
وأنت من جنة الرضوان في عدن
ذكرى حافظ
ارفعوا ذكره عليًّا مبينا
إنما الذكر رفعة الذاكرينا
حافظٌ في ثراه لم يفتقدنا
وافتقدناه نحن حينًا فحينا
من مضى في غنى عن الحيِّ والحـ
ـيُّ عن الذاهبين لا يغنينا
وإذا الحمد فات نابغَ قومٍ
فهو موت الباقين لا الذاهبينا
•••
يا حميد المقال مدحًا وقدحًا
ونقيَّ الصحافِ بيضًا وجونا
خُذْ من الحمد بعض حقِّكَ منا
لم تكنْ قطُّ بالحقوق ضنينا
طالما رددت جوانبُ مصرٍ
صيحةً منك تملأ العالمينا
هاتفًا بالرجاء يومًا ويومًا
هاتفًا بالعزاء تأسو العيونا
تعجب القوم أريحيًّا طروبًا
وتواسيهمُ شجيًّا حزينا
ما توانيت عن مقام وفاءٍ
أو تواريت بالوفاء خئونا
وإذا ما اعتراك بالوهن خطبٌ
لم تكن فيه خانعًا أو مهينا
وإذا قام للضمائر سوقٌ
لم تكن من تجارها النافقينا
رُبَّ قوم تنقَّصوك مراءً
ربحوا وانثنيت أنت غبينا
خير أبطالنا الذين تخيَّرْ
تَ من الأولين والتابعينا
الإمام «ابن عبده» من بني جيـ
ـلك وابن الخطاب في الأقدمينا
لا تدانيهما بدعواك لكن
باعتراف القصور دنيا ودينا
أنت أتقى ممن يجاهر بالتقـ
ـوى ويأبى في السر إلا مجونا
رُبَّ جمعٍ تفيهق الغرُّ فيه
وتحدى بالظن منك اليقينا
كلما قال قولةً في رسولٍ
صحتَ يا رب اخْزِ هذا اللعينا
احسبوني مع العجائز دينًا
ليس هذا الجدال إلا فتونا
رحم الله منك قلبًا سليمًا
وضميرًا برًّا وروحًا أمينا
•••
نَمْ قريرًا صناجةَ العربِ الصيـ
ـد وعُدْ فيهمُ لسانًا مبينا
كلما جددوا لذكراك عهدًا
عاد عهد الفصحى جديدًا مصونا
حافظًا أنت كنت للضاد لما
عقَّها أهلُها وظنوا الظنونا
أين في المنكرين مَنْ ليس يروي
لك قولًا جزلًا ونسجًا متينا
ودليلًا على غناها إذا ما
سامها الفقر معشرٌ مفلسونا
بين شعرٍ له رنينٌ ونثرٍ
يشبه الشعر في السماع رنينا
لم تكن حصتي من الحفل نظمًا
لا ولا قلته بوعدٍ مدينا
غير أنَّ المزارَ شطَّ بحادٍ
وَدَّ لو كان حاضر الصوت فينا
وعجيبٌ إذ يشهد الفن ذكـ
ـراك من الشعر وحده أن يبينا
وجميل إن صح عذرٌ لدينا
أن ترانا لديك معتذرينا
فخذ اليوم حق نفسك حمدًا
أنت بالحمد ما برحت قمينا
وقليلٌ وفاء قومك يومًا
لامرئ دان بالوفاء سنينا
أهرام الورق، وأهرام الحجر
خبر السباق للخبر
عض من أخبارنا الأخرِ
شغل السمار عن سمر
وطوى الآفاق في البكر
فاجئ كالعهد وا آسفا
لم يكن يومًا بمنتظر
صادقٌ كالعهد وا أسفا
ليته من كاذب السير
قيل في الأهرام مرثيةٌ
قلت حقٌّ من فم القدر
قيل «جبرائيل» طاف به
يومه في ضحوة العمر
صفحةٌ بيضاء تعلنها
صفحةٌ سوداء للنظر
ما على الأهرام لو نسيت
عبرةٌ من صادق العبر
•••
إن بكاه الشرق لا عجبٌ
بعض ما أولاه من غُرَرِ
سار بالشرق الوئيد على
خطو «أوروبا» ولم يَجُرِ
نحن إلا في صحافتِنا
دونهم في الخبر والخبر
فإذا عُدَّتْ صحافتُنا
لم ننكس رأس معتذر
•••
رفع الأهرام فارتفعت
في مدار الأنجم الزهر
لو غلبنا مثلما غلبوا
نازعتهم كل منتشر
ولسارت في مغاربهم
كمسير الشمس والقمر
•••
رافعُ الأهرام من ورقٍ
نافسَ الأهرام من حجر
وحكاها في الثبات وإن
سار بين البدو والحضر
كل يومٍ في الصباح له
ظَفَرٌ ناهيك من ظفر
في ركاب الشمس يشبهها
في جلاء الشك والحير
يجمع الدنيا ويبسطها
بين مد السمع والبصر
أممٌ شتى تحدثنا
بلسان العرب من مضر
كلُّ قطرٍ فهو نائبه
زائرًا أم حيث لم يزر
هو داعيه وكاتبه
وملبيه على الأثر
سابق تلقاه منطلقًا
في عنان الطول والقصر
تحسب القرطاس مختصرًا
في يديه غير مختصر
فإذا امتدت صحائفه
لم تدع شيئًا ولم تذر
•••
يا شريك العالمين له
غير مبخوسين من صغر
قُسَماءُ الرأي ما اقتسموا
باختيار منك في ضرر
أنت في الأعباء أكبرهم
ولهم ما شئت من كبر
من رآكم راح يسأل عن
آمر منكم ومؤتمر
تجزل الحسنى لمحسنهم
وتسجِّي طرف مغتفر
حزنهم والخطب يغلبهم
بين مرتاعٍ ومصطبر
حجةٌ بيضاء أبلغ من
مبلغٍ في القول مقتدر
•••
وحي جبرائيل متَّصلٌ
بين حلٍّ منه أو سفر
ليس ينأى في السماء ولا
في مدى الأحلام والفكر
خلفاءٌ منك مَنْ حملوا
عنك عبء السعي والسهر
خلفاءٌ منك كلُّ فتى
قارئ من هذه الزمر
وتوسَّم في «بشارة» ما
شئت من ذخر لمدَّخر
إن هذي الغابَ منجبةٌ
غَنيت بالأُسْدِ والشجر
سوف تحيا باقيَ الأثر
خالدَ الأعقاب والذِّكر