مقدمات ما تقدم
فيما يلي مقتبسات من مقدمات الدواوين مرتبة على حسب تواريخ صدورها:
… الشعر يعمِّق الحياة فيجعل الساعة من العمر ساعات: عش ساعة مفتوح النفس لمؤثرات الكون التي يعرض عنها سواك، ممتزجة طويتك بطويته الكبيرة تكن قد عشت ما في وسع الإنسان أن يعيشَ وملأت حقيبتك من أجود صنف من الوقت، والوقت أيها القارئ أصناف؛ فمنه ما يبخل به الأبد على غير سكان السموات، ومنه ما يطرحه للأبقار والحشرات! فإذا قلنا لك: أحبب الشعر فكأننا نقول لك: عش. وإذا قلنا: إن أمة أخذت تطرب للشعر. فكأننا نقول: إنها أخذت تطرب للحياة …
أحسن فيكتور هوجو في كتابه «وليام شكسبير»؛ حيث قال: «ينادي كثير من الناس في أيامنا هذه — لا سيما المضاربون وفقهاء القانون — بأن الشعر قد أدبر زمانه، فما أغرب هذا القول! الشعر أدبر زمانه؟! لكأن هؤلاء القوم يقولون: إن الورد لن ينبت بعد، وإن الربيع قد أصعد آخر أنفاسه، وإن الشمس كفَّت عن الشروق …! وإنك تجول في مروج الأرض فلا تصادف عندها فراشة طائرة، وإن القمر لا ينظر له ضياء بعد اليوم، والبلبل لا يغرد، والأسد لا يزمجر والنسر لا يحوِّم في الفضاء، وإن قلال الألب والبرانس قد اندكت، وخلا وجهُ الأرض من الكواعب الفواتن والإيفاع الحسان …!
لكأنهم يقولون: إنه لا أحد اليوم يبكي على قبر، ولا أم تحب وليدها، وإن أنوار السماء قد خمدت، وقلب الإنسان قد مات!»
والحق أنه لا فرق بين القولين؛ إذ الشعر لا يفنى إلا إذا فنيت بواعثه، وما بواعثه إلا محاسن الطبيعة ومخاوفها وخوالج النفس وأمانيها، فإذا حكمنا بانقضاء هذه البواعث فكأنما حكمنا بانقضاء الإنسان، وليس من العجب أن يولد في الدنيا أناس لا يهتزون للشعر وهي مكتظة بمن لا يهتزون للحياة نفسها، غاصة بمن يمرون بها غافلين عن محاسنها وآياتها، كأنهم سيمرون بها ألف مرَّة، أو كأنهم يعودون إليها كلما شاءوا الكرَّة …
… وقرأ بعضهم قصيدة في وصف الصحراء والإبل فأنكر أن تكون من المذهب الجديد، وعدها بابًا من الشعر لا يجوز أن يطرقه العصريون!
ذلك مثل آخر من أمثلة التقليد في إنكار التقليد؛ لأن وصف الصحراء والإبل إنما يحسب تقليدًا لا ابتكار فيه إذا نظمه الناظم؛ مجاراةً للأقدمين، واقتياسًا على الدواوين، أما الرجل الذي يعيش في الصحراء أو على مقربة منها، ويركب الإبل وتجيش نفسه بالشعر والتخيل عند ركوبها ورؤيتها فليس بشاعر إن لم ينظم في هذا المعنى مخافة الاتهام بالتقليد، أو جريًا على رأي الآخرين؛ إذ هو التقليد بعينه في التصور واختيار الموضوعات، وما المقلد إلا من ينسى شعوره ويأخذ برأي الآخرين على غير بصيرة أو بغير نظر إلى دليل.
فهناك إذن «مقلدون» في كراهة التقليد، لا يدركون لماذا يستحسنون، ولماذا يستهجنون، وربما كان هؤلاء أضرَّ بالمذاهبِ الجديدة من معشر الجامدين على المذهب القديم.
إن من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود لكمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدود! فالشاعر لا ينبغي أن يتقيد إلا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب؛ وهو التعبير الجميل عن الشعور الصادق، وكل ما دخل في هذا الباب — باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق — فهو شعرٌ؛ وإن كان مديحًا، أو هجاءً، أو وصفًا للإبل والأطلال، وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر؛ وإن كان قصةً، أو وصفَ طبيعةٍ، أو مخترعًا حديثًا …
وأعجب منه أنك لا تقرأ فيما ينظمون إلا مناجاة البلابل وأشباهها على قلة ما تُسمع في هذه الأجواء!
فكأنما العامة عندنا أصدق شعورًا من الشعراء؛ لأنهم يلقبون المُغنِّي بالكروان ولا يلقبونه بالبلبل، فيصدرون عن شعور صادق ويتحدثون بما يعرفون …
فليست الرياض وحدها ولا البحار ولا الكواكب هي موضوعات الشعر الصالحة لتنبيه القريحة واستجاشة الخيال، وإنما النفس التي لا تستخرج الشعر إلا من هذه الموضوعات كالجسم الذي لا يستخرج الغذاء إلا من الطعام المتخير المستحضر، أو كالمعدم الذي يظن أن المترفين لا يأكلون إلا العسل والرحيق!
كل ما نخلع عليه من إحساسنا ونفيض عليه من خيالنا ونتخلله بوعينا ونبث فيه هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر وموضوع للشعر؛ لأنه حياة وموضوع للحياة.
وإن التصور لهو خير معوان للإحساس وشاحذ للرغبة أو للنفور، فإن الأم تنظر إلى طفلها الوليد ثم تقضي عشرين سنة وهي تتصوره عريسًا سعيدًا، لا تفرح به يوم عرسه كما تفرح بتصوره والرجاء في بقائه طوال تلك السنين، فإنما من نسج التصور نخلق الحلل النفيسة التي نضفيها على آمال الغيب ومشاهد العيان.
فلنجمع لدينا الرغبة والتصور نجمع لدينا زادًا من الشعر لا ينفد وموضوعات للشعر تشتمل على كل ما تراه العيون وتمسه الأذواق، ولنتوجه بالحواس الراغبة إلى ما نشاء نستمرئ الشعور به والتعبير عنه كما نستمرئ المحاسن المشهورة والمناظر المأثورة؛ لأن المحاسن نفسها لن تهزنا إليها ولا تحل عقدة من ألسنتنا حتى يزينها لنا الحس الناشط والخيال المتوفز، وإن أجمل وجه ليمر بنا في ساعة الجمود والوجوم كما تمر بنا طلعة الخادم العجوز التي نراها صباح مساء.
من الشعراء الذين نرجعُ إليهم رجوعَنا إلى الصديق في اللغة العربية أبو العلاء وابن الرومي والشريف.
ومنهم في اللغات الأوروبية ليوباردي، وهنريك هيني، وتوماس هاردي، وهذا فريدٌ عندنا في هذه الخصلة بين المحدثين المعاصرين.
أنظرُ إلى المرآة، فأرى هذه البشرة الذابلة تتقبض، فأتوجه إلى الله مبتهلًا إليه: أسألك يا رب إلا ما جعلت لي قلبًا يذبل مثل هذا الذبول.
إنني إذن لأحس برد القلوب من حولي فلم آلم ولا أحزن، وإنني إذن لأظل في ارتقاب راحتي السرمدية بجأش ساكن وسمت وقور.
غير أن الزمن الذي يأبى لي إلا الأسى قد شاء أن يختلس، فلا يختلس كل شيء، ويترك فلا يترك كل شيء، ولا يزال يرجف هذه البنية الهزيلة في مسائلها بأقوى ما في الظهيرة من خلجة واضطراب.
فما أتممت هذه الأبيات حتى خطر لي الاسم الذي اخترته لهذا الديوان؛ وهو «أعاصير مغرب»، وإن لم يرد في الأبيات ذكرٌ للأعاصير.
أعاصير مغرب اسم صالح لجملة الشعر الذي احتواه هذا الديوان … بأعاصيره، ومنه ما يشبه الأعاصير التي هزت كيان «الشيخ» هاردي فتمنى من أجلها ذبولًا في القلب كذبول إهابه.
نحن في زمن المراجعة والتقويم.
نراجع كل شيء، ونعيد تقويم كل شيء وننقد ونعيد النظر في مقاييس النقد نفسه، ولا فرق بين مقاييس «النقد» الذي تجري به المعاملات بين الناس في البيع والشراء والأخذ والعطاء، أو مقاييس النقد الذي يتواضع الناس عليه في فهم المعاني والأفكار، وتمحيص الأخلاق والأذواق.
روجعت قيمة الذهب وهو فيما مضى مرجع كل قيمة.
وروجعت، أو ينبغي أن تُراجع قيمة النقد الذي يتداوله الناس عند تقويم المعنى والفكرة وتقدير الكلمة النثرية والقصيدة الشعرية والتحف الفنية، فلا محيص من «نقد النقد» نفسه قبل تقرير قيمته في عالم الأدب والفن، وقبل الاعتماد عليه في تقرير ما نقبله أو لا نقبله من آثار الأديب والفنان.
وأول ما يُنْقَدُ به النقد في كل زمن أنه غير خالص لوجه الأدب وحده أو لوجه الفن وحده، فما من نقد قط يخلص من هوى في نفس الناقد، يهواه باختياره أو على غير اختياره، ولا بدَّ مع النقد من شائبة مزغولة نعزلها قبل أن تنفذ إلى قيمة المعدن في صميمه، فالنقد الذي في الصميم هو القيمة التي تدل على المنقود وتعطيه حقه في الإعجاب أو استحقاقه للرفض والزراية.
ونقد النقد بهذا المعنى هو تخليصه من كل أثر فيه لهوى الناقد أو هوى البيئة أو هوى الشيعة أو وساوس النفس الإنسانية التي يجهلها صاحبها في كثير من الأحايين، ولكنها لا تخفى على الناظر إليها بالقياس إلى ما يماثلها من وساوس النفوس.
وليس فيما نومئ إليه من شوائب النقد على هذا النحو شيء جديد، فقديمًا عرف الناس التعصب للأديب أو للشاعر؛ لأنه من جنس المعجبين به، أو من أبناء نحلتهم في الدين، أو شيعتهم في السياسة.
ولكنَّ الجديد في هذا العصر أن هذا التعصب قد أصبح خطة مقررة في دعوة مدبرة، تدين بها طائفة كبيرة من أصحاب المذاهب والنحل، ويصدرون عنها في تقريظهم ونقدهم، وفي ثنائهم وتشهيرهم، ويتخذونها سبيلًا إلى ترويج دعواتهم السياسية وآرائهم الاجتماعية، بمعزل عن الفن والأدب، وعلى علم بالتلفيق والعوج في القياس، إذا لزم التلفيق أو العوج في خدمة الغرض الأصيل؛ لأن هذا الغرض الأصيل هو القسطاس الأخير لكل تقدير، والغاية الأخيرة من كل تكبير وتصغير.
وفي عصرنا هذا ينبغي أن نلتفت إلى شوائب النقد التي عرفها الأقدمون، وإلى الشوائب التي لم يعرفوها قط، أو عرفوها في حيز محصور لا يُلتفت إليه.
ولقد عرف الأقدمون في الأدب العربي صنوفًا من الإيثار والاستحسان لا علاقة لها بمزايا الفن والبلاغة، وكان منهم من يؤثر الشاعر أو الأديب؛ تارة لأنه على مذهبه في التشيع، وتارة لأنه على هواه في مؤازرة الدولة القائمة من بني أمية أو من بني العباس، ولوحظ — مثلًا — إهمال كتاب الأغاني للشاعر «ابن الرومي».
أما الجديد الذي لم يعهده الأقدمون كما عهدناه في عصرنا هذا فهو — فيما نعتقد — أمران:
أحدهما — كما أسلفنا: ظهور خطة مقررة يدعمها أصحابها برأي أساسي في مذهبهم، يقضي باستخدام «النقد الأدبي»؛ لترويج المذهب ومحاربة خصومه.
والآخر: ظهور المقلدين في حركة التجديد، وهم أولئك الذين سمعوا بمبادئ التجديد وراحوا يطبقونها تطبيقَ الآلةِ التي لا تميز بين حقائق الأسباب.
والذين يستخدمون «النقد الأدبي» لمحاربة خصومهم المذهبيين والانتقام منهم قومٌ لهم سيماهم التي لا يختلطون فيها بغيرهم، فهم جميعًا من «غير الأدباء» … وهم جميعًا لا ينتجون أدبًا ولا يقرءون أدبًا لأنه أدب، ولكنهم دعاة يقتحمون عالم الأدب والشعر؛ لخدمة الأغراض التي تعنيهم باسم النقد الأدبي، وما هو من النقد الأدبي في شيء، إن هو إلا العداوة التي تصدر عن الكراهية والاتهام، ولا تصدر عن اختلاف الأذواق الفنية أو المشارب الأدبية.
ولا يقل عن ضرر هؤلاء ضرر المقلدين في الدعوة إلى الجديد؛ فإنهم لا يصلحون لقديم ولا لجديد في الأدب، ولا يعرفون لماذا يقرظون ولماذا ينتقدون.