(… كنا نقرأ ذات يوم أنا وصديقاي الشاعران النابغان المازني وعلي شوقي قصيدة ابن الرومي
النونية التي يمدح بها أبا الصقر ويقول في أولها):
فلما فرغنا من تلاوتها وقضينا حق إطرائها ونقدها خطر لنا أن يعارضها كل منا بقصيدة
من بحرها
وقافيتها وقد فعلنا؛ فنظم المازني قصيدته في مناجاة الهاجر، ونظم شوقي قصيدة في هذا المعنى،
ونظمت
أنا هذه القصيدة فأهديتها روح ابن الرومي:
يهنيك يا زهر أطيارٌ وأفنان
الطير ينشد والأفنان عيدان
طوباك لست بإنسانٍ فتشبهني
إني ظمئت وأنت اليوم ريان
هذا الربيع تجلَّى في مواكبه
وهكذا الدهر آنٌ بعدها آنُ
تفتحت عنه أكمام السماء رِضًا
وزفه من نعيم الخلد رضوان
وشائع النور في البستان باسمةٌ
والأرض حاليةٌ والماء جذلان
الشمس تضحك والآفاق صافيةٌ
جلواء والروض بالأثمار فينان
وللنسيم خفوقٌ في جوانبه
وللطيور ترانيمٌ وألحان
في كل روضٍ قُرى للزهر يعمرها
يا حبَّذا هي أبياتٌ وسكان
مستأنسات سرى ما بينها عَبَقٌ
كما تراسلَ بالأسواق حبَّان
الورد يحمرُّ عجبًا في كمائمه
والياسمين على الأغصان ميسان
وللقرنفل أثوابٌ ينوعها
عن البلور صناع الكف رقَّان
وللبنفسج أمساحٌ ممسَّكة
كأنه راهبٌ في الدير محزان
وحبذا زهر الليمون يسكرنا
منهنَّ جامٌ خلا من مثله الحان
والليل يحييه والأطيار هاجعةٌ
بلابلٌ وشحاريرٌ وكرْوانُ
مؤذن الطير يدعو فيه محتسبًا
فيستجيب له بَرٌّ وغيان
والصبح في حلل الأنوار طرَّزه
في الشرق والغرب أسحارٌ وأصلان
كأنما الأرض في الفردوس سابحةٌ
يحدو خطاها من الأملاك ربان
ضاق الفضاء بما يحويه من فرحٍ
فكل ما في فضاء الله فرحان
إلا المحب الذي لا حبه دنسٌ
ولا مودتُهُ خَبٌّ وإدْهان
نفاه عن عرس الدنيا شواغله
إن الحداد عن الأعراس شغلان
يا من يراني غريقًا في محبته
وجدًا ويسألني هل أنت غصَّان؟
وا ضيعةَ الحب أبديه وأكتمه
ومن عنيت به عن ذاك غفلان!
لي في مديحك أشعارٌ أضن بها
على امرئ فخره عرشٌ وإيوان
على محياك من وشي الصبا روع
وللمحبين أحداقٌ وأعيان
ففيم تعذلهم إن راح ناظرهم
بحسن وجهك يهذي وهو ولهان؟
ما الحسن ذنبًا فما للحب تحسبه
ذنبًا من الناس لا يمحوه غفران؟
هما شقيقان فارفق أن تحيلهما
ضدين بينهما نأيٌ وهجران
من علَّم الناس أن الحب مأثمةٌ
حتى كأنْ ليس غير البغض إحسان
هَبْهَا جنايةَ جانٍ أنت آثمها
ما كان يعصم لا إنسٌ ولا جان
إنَّ الجسوم مثناةٌ جوارحها
إلا القلوب فصيغَتْ وهي أُحْدَانُ
لكل قلب قرينٌ يستتمُّ به
خَلقٌ وخُلقٌ فهل يرضيك نقصان؟
إن التعاطفَ بالأرواح بُغْيَتُنَا
وفي الوجوه على الأرواح عنوان
تمثالك الصخر أحظى منك إن نَفَرَتْ
عنك العيونُ ولم يشملك وجدان
إنا لمن معشرٍ حُبُّ الجمال لهم
حبٌّ لما كان في الدنيا ومن كانوا
ليأمن الطير أنَّا لا نكيد له
ولا يخف مكرنا وحشٌ وعقبان
لو تسمع الوُرْقُ نجوانا لكان لها
منا غصونٌ نضيراتٌ وأحضان
أو كان يدري حَيِيٌّ نبتَ عفتنا
لم تُغْضِ منه بأيدينا أغيضان
أو ينظر السائم النابي طويتنا
لم تألف القفر آرامٌ وغزلان
ولا اتَّقى الحوت شرًّا حين يبصرنا
إذا وقته شباك الإنس قيعان
يا ليت أنَّ لنا كهفًا نعوذ به
إن راح يفزعُها بغيٌ وعدوان
•••
ما ضرَّ من نال في حينٍ سعادته
إن فاته في طويل الدهر أحيان
إذا جنيت من الأيام زهرتها
فاقنع فسائرها شوكٌ وعيدان
ولا وربك ما بالنفس مقتنعٌ
أكان نجحٌ لها أم كان حرمان
فإن روينا فبعض الري مظمأة
وإن ظمئنا فما يرتاح ظمآن
أي الفريقين أحمى لهفة ووجًى
من ذاق أو لم يذق فالكل لهفان؟
يا ليلة حُطمت أنوال حائكها
فلا يحاك لها في الدهر ثُنيانُ
العيش من قبلها شوقٌ نعمت به
والعيش من بعدها ذكرٌ وتحنان
طالتْ ولا غرو فالجنات خالدةٌ
وفي الوصال من الجنات ألوان
أصبحت والله لا أدري لبهجتها
أليلةٌ سلفت أم تلك أزمان؟
وكيف لا وهي شطرٌ حين أحسبها
والعمر شطرٌ وفيها عنه رجحان؟
لقد سقانا الهوى خمرًا معتَّقةً
صبا بها قبلنا شِيبٌ وشبان
هيهات لا تبلغُ الصهباءُ نشوتَها
ولو تناول منها البحر نشوان
فاض الهيام على قلبي ففاض به
نبعٌ له من وراء الدمع شطآنُ
وددت والدمعُ في عينيَّ محتجزٌ
لو سال منه على خديَّ غدرانُ
أمسيت أرشف شهدًا من مراشفه
والسلسبيل بعليين غيران
والنيل تجري له في كل ناحيةٍ
جداولٌ لؤلؤياتٌ وثغبان
يقودنا حيث شاء الموجُ واطَّردت
أمواهه فكأنَّ الفلكَ وسنانُ
حتى تصرم جنح الليل وانبثقت
من كلِّ مطَّلعٍ للصبح عمدان
فما أفقنا وعين الصبح شارفةٌ
وما هجدنا وغول الليل سهران
بنا سوى الشمس والشهبان ترصدها
شموس أنسٍ مضيئاتٌ وشهبان
بقيةٌ لك أتلوها وأُنْشِدُها
هذي القصائد لي فيهنَّ سلوان
بقيةٌ من متاع الذكر قد صفحت
عنها السنون فلي بالذكر قنعان
كأنني تاجر في الشط مرتقبٌ
موجَ الخضمِّ وفلكي فيه غرقان
خذي بقاياك لو يسطيع يذهبها
كما ذهبت فيطويهنَّ نسيان
لا يأمنُ الحبَّ صبٌّ لا يكون له
بالحب عن صلة المحبوب غنيان
ما كنت أجهل لما أن كلفت به
أني سألقاه يومًا وهو غضبان
من لي به مثل ما أرضاه في ملأ
هاموا وهانوا فهم للوهم عبدان؟
تفرق الناس أوطانًا وما افترقت
لهم على حسب الأفهام أوطان
بتنا نساكنهم دارًا ونحسبهم
منا وشتانَ إنسانٌ وإنسان
نشقى بأنفسنا فيهم فيسعدُهم
هذا الشقاء ولا يجزيه شكران
•••
يا أملح الناس هلَّا كنت أكبرهم
روحًا فيتفقا روحٌ وجثمان؟
صدَّقتَ باطل ما قالوا كأنهمُ
لا يكذبون أو انَّ العذلَ قرآنُ
أما علمت بأن الناس ألسنةٌ
سودٌ لها غير ما تبديه أبطان
أحرى مزاعمهم بالشك أسيرُها
فالحق متَّئدٌ والإفك عجلان
وربَّ قولةِ زورٍ قالها رجلٌ
منهم فطاف بها في الأرض ركبان
تداولوها فراحت في مذاهبهم
شريعةً نقضها كفرٌ وعصيان
ما كثرةُ المثبتين الأمر تثبته
ولا بقلَّتِهم للحق إيهان
فإنَّ ألف ضريرٍ ليس يعدلهم
بالمبصر الفرد يوم الشك ميزان
تكشَّفتْ هذه الدنيا فأنكرها
حسي وأذهب فيها الحدس إيقان
ما زال يحرمني دهري ويوهمني
حتى غدا وهو بالأوهام ضنان
إنا لنضحك لا صفوًا ولا لعبًا
وقد ينوح بغير الدمع أَسْوَانُ
أعيا العقولَ صلاحُ الخلق من قدمٍ
وضاق عن هديهم ذرعٌ وإمكان
فعش كما شاءت الأقدار في دعةٍ
لا يجرمنَّك بَرَّ الناسُ أو خانوا
لعلهم في طريق الصدق قد سلكوا
ونحن نحسب أن القوم قد مانوا
من عاش في غفلةٍ طاب البقاء له
وإن تولته بالأرزاء حدْثان
لم يدرِ من نام والأفلاك دائرةٌ
أدار بالسعد أم بالنحس كيوان
فاطلب لنفسك منها مهربًا أمنًا
ودانِ مَنْ شئت فالأعداء خلَّان
والزم حياتك واعشقها فبينكما
في شرعة الطبع ميثاقٌ وإيمان
هي الوجود فصنه أن تجود به
على التراب فإن الحرَّ صوَّان
وانهض بها مرةً في الدهر واحدةً
ثم استرِحْ أبدًا والْحَقْ بمن حانوا