عبده الحمولي مع سليم سركيس
مما يدل أيضًا على عظمة أخلاق عبده الحمولي وما كان لهُ على الناس من جميل الأثر حادثة وقعت في نيوبار ومنزل يوسف بك صديق في سنة ١٨٩٧ عقب عودته من الأستانة أرويها تفكهةً لحضرات القراء، وعبرةً للمحترفين من بعده من حيث شريف المبادئ وحسن الحفاظ، وذلك نقلاً عن مجلة سركيس عدد سنة ١٩٠٦ قال سليم سركيس أسماء الأشخاص: عبده الحمولي. سليم سركيس. باسيلي باشا تادرس. عثمان باشا رأفت. يوسف بك صديق. عطا بك.
كان المرحوم عبده الحمولي نديم الملوك وأمير المنشدين قد تلطف فجعلني من خاصة أصدقائه كان يكرمني بمودته كل يوم فإذا عاتبه قوم على ميله هذا إليَّ على ما كان من حدَّتي في جريدتي القديمة — يقول — أنا أحب سليم سركيس لا جريدته — وأعاشر الرجل لا سياسته وأحبه لأنه أحبني من أجل شخصي لا من أجل صوتي كما تفعلون، أنتم فإنكم لا يقع نظركم عليَّ حتى تطلبون مني صوتًا، وسركيسا كلفني الغناء مرة واحدة في عامين.
قد قضت سياسة جريدتي في ذلك الحين أن أنشر مقالات استاء منها بعض أمراء العائلة الخديوية، وسُرَّ منها قسم آخر من الأمراء، وكان وكيل أشغال الأمراء الذين استاءوا من مقالاتي رجلاً اسمه: عطا بك فلحقه شيء من حدة هذا القلم في ذلك الحين فأضمر لي الشر.
وحدث ذات يوم في سنة ١٨٩٧ أن عبده الحمولي — رحمه الله عداد حسناته — جاءني في منزلي يقول: أنت أسيري طول هذا النهار، فقضينا يومنا في التنقل من مكان إلى آخر على أتم ما يكون من المسرة والحبور، حتى إذا كانت الساعة السابعة مساء، وجدت نفسي على رصيف (النيوبار) فأمر بإحضار العشاء، وبسطت أمامنا مائدة الشراب، وعبده يحدثني بما لذ وطاب، وفيما نحن كذلك جاء صاحب (البار) يقول: إن قومًا يطلبون عبده بالتليفون فمضى، وبعد قليل عاد يهز رأسه فقلت: ما الخبر؟ قال جماعة من إخواننا يتمتعون بضيافة يوسف بك ويطربهم محمد عثمان، وقد بحثوا عني كل نهارهم فلم يقفوا لي على أثر ثم أدركوني هنا الآن، وهم يطلبون مني موافاتهم إلى هناك. قلت: اذهب إليهم، قال: ما أنا فاعل. قلت: إنك تجتمع بي غدًا إذ القوم في انتظارك؟ قال لا أستبدل مقامي معك وهو مقام الصديق بمقامي بينهم وهو مقام المغني — ثم عدنا إلى حديثنا وإذا بزنجي في عربة قد جاء برسالة من يوسف بك صديق أن القوم ينتظرون عبده، فصرف الزنجي معتذرًا. وما مضت نصف ساعة حتى أقبل علينا عثمان باشا رأفت الفريق، وسعادة باسيلي باشا تادرس وكان يومئذ (باسيلي بك) القاضي فرحب عبده بهما. وبعد أن جلسا أوعز أحدهما إلى الخادم أن يرد الطعام، وطلبا من عبده أن يذهب معهما إلى منزل يوسف بك صديق؛ لأن القوم ينتظرونه — فاعتذر إليهما قائلاً: إنني منذ الصباح مع صديقي سركيس وهذا اليوم خاص بنا، فلما وجدا أنه مصر على البقاء معي عرضا عليه أن يحملاني على الذهاب معهما. فقال: إذا رضي سركيس بالذهاب فأنا راضٍ، فتحولا إليَّ يدعوانني إلى منزل صديقيهما، فاعتذرت قائلاً: لا أعرف أكثر الذين هناك — وقلت لعبده: أرجوك أن تذهب معهما، وأنا أمضي في شأني، فأقسم أن لا يفعل — عند ذلك قال لي عثمان باشا إن صاحب المنزل مشترك في جريدتك. وفضلاً عن ذلك، فلا يليق أن ترفض دعوتنا وأنت لا تحتاج إلى أعظم من رجل في رتبة فريق وآخر قاض في الاستئناف يدعوانك فهي دعوة كاملة جديرة باهتمامك، ولك منا أن تكون في المركز الأسمي من الإكرام هناك، فضلاً عن ذلك فأنت في إصرارك على عدم الذهاب تكدر جمهورًا كبيرًا لأنك تحرمهم من صديقهم عبده الحمولي. فلما رأيت أن إصراري ليس من الحكمة، أجبت دعوتهم فركب الحمولي وتادرس باشا عربة وسرت في العربة الثانية مع عثمان باشا حتى وصلنا إلى منزل المضيف، وإذا به غاص بالوجهاء والأعيان، فلما وصلنا احتفلوا بعبده احتفالاً عظيما وتنحى محمد عثمان عن مجلسه له — أما عبده فأراد أن لا أشعر بوحشة فأجلسني بجانبه، وبعد قليل دعاني صاحب المنزل إلى غرفة «البوفيه» لأتمتع بما كانوا قد سبقوني إليه من دلائل كرمه وسخائه وأظهر لي لطفًا كثيرًا أذهب وحشتي، ثم عدت وجلست بجانب عبده حتى إذا بدأ يجس عوده استعدادًا للغناء شعرت بوجود اضطراب في القاعة، وفي إحدى زواياه جماعة يتكلمون وينظرون إلى ناحيتنا. وبعد قليل جاء باسيلي باشا تادرس إلى عبده يقول: لي كلمة أقولها إليك في الخارج فسر معي. فخرج عبده وقد همَّ أن يأخذني معه فقال تادرس باشا «إن حديثي معك خاص بك فاتبعني وحدك، وما غاب عبده إلا مدة قصيرة حتى عاد وعلى وجهه لوائح الغضب فجلس في مجلسه وأدناني منه وطلب شرابًا لكلينا»، وأخذ يغني ويطرب حتى أدهش من حضر، ولبثنا كذلك حتى شابت ناصية الليل فانصرفنا، وأردت أن أوصله إلى محطة حلوان فأبى إلا أن يوصلني إلى بيتي، وكنت أحاول مرارًا أن أفهم منه سبب غضبه وهو يأبى الإيضاح، حتى إذا كان اليوم الثاني علمت ما يأتي: لما دخلت معه إلى المنزل ورأى الناس احتفاله بي كان بين الموجودين (عطا بك) الذي تقدم القول إنه كان متكدرًا من بعض كتاباتي في قضية الأمراء فسأل: من الرجل؟ قيل له: هو سركيس — فأرعد وأزبد وانصرف إلى الخارج، وكلف باسيلي باشا أن يدعو عبده إليه فلما تقابلا جرى بينهما الحديث الآتي:
قال عطا بك: من هذا الذي جاء معك؟ قال عبده: هذا سليم أفندي سركيس، قال عطا بك: أما هو صاحب الجريدة — قال: نعم — قال: أنت تعلم يا عبده أني أكرهه فلا تلمني إذا أسأت إليه. فنظر إليه عبده شذرًا وقال: إن سليم سركيس ضيف لصاحب هذا البيت الكريم، ولولا لطفه ما تمتعتم بحضوري، ولولا أن ذهب إلى دعوته رجل في رتبة فريق وقاض في الاستئناف ما جاءكم، فاعلم يا عطا بك إذا أسأت إليه بكلمة أسأت إليك بعشرين، فهو صديقي وضيفي والضيف من عند الله — قال عطا بك — إذًا واحد منا ينصرف الليلة من هنا — قال عبده تنصرف أنت إذًا — قال عطا بك اختر بيننا — قال عبده قد اخترت سركيس فانصرف إذا شئت. وهكذا انصرف عطا بك، وعاد عبده إلى مجلسه كما ذكرنا فرحم الله تلك الروح الذكية والعواطف الشريفة.
المؤلف — ولا يفوتني قبل مسح القلم عن هذا الحادث الواقعي الغريب إلا أن أقول كلمتي الآتية تعليقًا عليه:
وبناء عليه فإن ما يوجد من العبقرية في عبارة واحدة أو في ألفاظ منفردة مؤثرة يتجاوز في الغالب ما قد يوجد منها في أضخم مجلد لما أن العبقرية لهب يتوقد لوقته على حد ما رُوي عن ڤرجيل أنه بكلمات مؤثرة قليلة استطاع أن يسبر غور الجمال والحزن ويخبر سر الشرف في الحياة والأمل في الموت، كما أن شكسبير تتمثل لحس القارئ عظمته ويشعر بلا مراء بخلود مصنفاته ودواوينه بمجرد اطلاعه على رواية واحدة من الأربع والثلاثين رواية التي قام بتأليفها، ويستنتج من تحليل حياة عبده النفسية أن ما من عمل من أعماله إلا يدل على إيحاء وعبقرية وعظمة ويعد ناموسًا للاجتماع ومثلاً أعلى يعمل بمقتضاه أبناء النيل، ومأثرة ينقلها السلف إلى الخلف على مر الأيام وكرور الأعوام، والحق يقال إنه كتب اسمه بأحرفٍ من ذهب ليس على رخام ضريحه فحسب بل على قلوب أبناء مصر عمومًا، والمحترفين والهاوين والمعجبين خصوصًا، وسيظل ذكره خالدًا ويطيب نشره في المحافل مدى الدهور.