آراء أعضاء المؤتمر الموسيقي المنعقد سنة ١٩٣٢ في الموسيقى العربية
قال جناب البارون كارا دي فو في خطابه في حفلة اختتام المؤتمر ما ترجمته نقلاً عن كتاب مؤتمر الموسيقى العربية لوزارة المعارف العمومية: «إن الموسيقى الشرقية علم عظيم وليست موضوعًا يمكن استيعاب البحث فيه في يوم أو في ثلاثة أسابيع، ويشعر الإنسان بهذا التأثير إذا ألقى نظرة على فهارس الكتب الموسيقية القديمة».
إننا لم نواجه مبحثًا أكثر أهمية وأعظم شأنًا من مسألة تأثير الموسيقى الشرقية في الموسيقى الغربية في القرون الوسطى.
إن جميع مجموعات الآلات الموسيقية لعمل شاق يستلزم السنين الطويلة — وقد بدأت مصر — ولله الحمد — الخطوات الأولى منه، وأشارت لجنة الآلات بالإرشادات والمعلومات اللازمة لذلك.
هذا ما يخص المسائل الواسعة المدى. أما المسائل الدقيقة بل الشائكة — إن أردت — فأهمها اثنتان: تتابع المقامات، وإمكان الامتناع بأرباع الأصوات بالتقريب. وهنا لا يكفي العلم وحده بل تدخل عناصر فنية وبسيكولوجية.
غير أننا نستطيع أن نبذل المعونة للموسيقيين الشرقيين ليجتنبوا المناقشات غير المنظمة بما نبث في نفوسهم من طريق البحث والتحليل على النمط الأوروبي، وإني أذكر مثالاً لذلك الصوت المعروف بالسيكاه الذي أثار مناقشات حادة وهو الصوت الثالث من ديوان المقام، ويظهر أن الموسيقيين الشرقيين يريدون أن يثبتوا سيكاه وحيدة مطلقة، أو مثلاً أعلى للسيكاه، وقد قال لهم العلماء الغربيون حللوا وميزوا لأن سيكاكم يمكن تغييرها مع المقامات، حتى أن المقامات نفسها تختلف باختلاف البلدان، ولقد وجدنا بعد التجارب أن مقام الراست والسيكاه على حسب العزف عند كبار المغنيين مرتفعين قليلاً في سوريا عن مثيلهما في مصر، وهما في تركيا أكثر ارتفاعًا منهما في سوريا، وعلى العموم قد تحققنا أن في مصر استعدادًا فطريًا لدى المغنين والعازفين للاقتراب من الصواب. ا.هـ.
وأكبر مزية سيخلدها لك تاريخ الفنون الجميلة إلى دهر الداهرين القرار الإجماعي الصادر من أعلى منبر في هذا المؤتمر بحماية الألحان العربية من العجم، تلك التي كادت تبتلعها وتقضي عليها القضاء الأخير، وما حماية الألحان إلا حفاظ لروح القوم الخالدة. وفيك يا مصر يرجى الحفاظ، وها نحن أولاء من خلف أعوان وأنصار.
وقبل أن نختتم هذه الكلمة نرى من واجب الضيافة الكريمة التي حبينا بها في وادي النيل من جلالة الملك المعظم وحكومته وشعبه أن نرفع لهم جزيل الامتنان ووافر الثناء على ما لاقيناه من الحفاوة والإكرام. وكذا للنتائج الغالية التي سنعود بها إلى أقطارنا رافعي الرؤوس ونفوسنا ممتلئة إعجابًا بأننا أعدنا إلى الشرق — على يد مصر — ميزته الفنية وألحانه الشجية وتراثه القديم.
فدومي يا مصر لنهضة الشرق وذويه رافلة في مطارف العز والبهاء للحضارة والجمال والخلود. ا.هـ.
واسمحوا لي أن أقول كلمة في الختام، لما كنت قد وقفت حياتي على خدمة الموسيقى العربية، أعني القديمة منها، فإن هذا المؤتمر كان سبب مسرة خاصة لي إذ قد جعل الأماجد من رجال الثقافة العربية في العصور الغابرة يحيون مرة أخرى، وإن سماع الموسيقى الرائعة التي وضعها أسلافنا الموسيقيون الذين قضيت سنين عدة في الكتابة عنهم أدخل على قلبي سرورًا عظيمًا، وإني بالرغم من صعوبات كثيرة أشعر عن يقين أن هذا المؤتمر سينتج ثمارًا دانية القطوف. نعم لقد كان هناك تضارب في الآراء، ولكنا نستطيع مع شيء من الصبر والتسامح أن نجد طريقًا أمينًا للمستقبل.
وهناك أمر واحد لا ريب فيه وهو أن الموسيقى العربية لا تستطيع أن تقف جامدة، فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات ستدفع الموسيقى العربية إلى التقدم إلى الأمام، وعلينا متى ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن تسلك طريقًا بحفظ روحها الوطنية وطابعها؛ لأن فقدانها ذلك الميراث المجيد يعد كارثة عظيمة.
وعلينا أن نمنع وقوع هذا ويجب أن تُعْنَى مصر بالمحافظة على ذلك المجد. فهي التي أنبتت الحسين بن علي المغربي والمسبحي في القرن الخامس بعد الهجرة، وقد وضع كل من هذين المؤلفين كتبًا على طراز كتاب الأغاني العظيم لمؤلفه أبي الفرج. ومصر هي التي أهدت إلى العالم الإسلامي الفلكي الشهير ابن يونس الذي وضع أيضًا كتابًا خاصًا في تمجيد العود بعنوان: «العقود والسعود» ومن أرض النيل المبارك خرج ابن الهتيم الذي وضع الشروح الوافية والنقد الصحيح لنظريات إقليدس الموسيقية. وفي هذه البلاد عاش أيضًا أبو الصلت أمية. وقد كانت رسالته في الموسيقى على جانب من الخطورة؛ إذ ورد ذكرها واستشهد بها في الكتب العبرية. وقد كان البياسي المعدود من أخصاء الفاتح العظيم صلاح الدين موسيقيًا بلغ شيئًا من الإجادة، وعلم الدين قيصر الذي كان من أبناء مصر كان أشهر أهل عصره في نظرياته الموسيقية. ثم ابن الطحان وهو مصري آخر وضع مؤلفًا في الموسيقى ربما كان أهم ما وضع من نوعه؛ لأنه يبحث فيه في تاريخ الموسيقى ونظرياتها جنبًا إلى جنب، وجميع هؤلاء عاشوا قبل القرن السابع للهجرة.
واليوم وذكريات الأسابيع الثلاثة الماضية لا تزال ماثلة بجمالها أمام أعيننا، نشعر أن مصر ستتخذ مرة أخرى مركزًا ساميًا ممتازًا في طليعة البلدان في عالم الفنون الإسلامية، فترسم الطريق في هذا الفن الشريف المجيد لغيرها من البلدان العربية وتنقش اسمها على تاريخ الموسيقى في الأقطار الشرقية. ا.هـ.
إن التبادل المستمر في الشعور والأفكار بين الأمم القريبة والنائية قد حصل في غالب الأحيان بواسطة الفنون؛ لأن الفن له مزية قائمة بنفسها وجدت بوجود الإنسان، وجعل لها الأقدمون صبغة روحية؛ فقد قال القديس أوجستان: «إن الفن موطنه الروح فلا ينفصل عنها»، وقد اهتم علماء إيطاليا بفنون الشعوب كلها؛ لأن إيطاليا الحديثة الناهضة تعلمت كيف تفكر للوصول إلى مطالبها العالية، وتمهيد السبل لمثلها في باقي الشعوب. والفن الشرقي له صبغة شخصية في غاية الطلاوة. ففي الفنون الحسية نرى الخطوط والدوائر مرسومة على ألوف من الأشكال البديعة التي أحدثت في الغرب تأثيرًا فنيًا مهمًا، ولما اكتست هذه الفنون بالأنغام الشرقية التي تمكنت من استعمال أدق الأبعاد التي بين صوت وآخر وأتقنتها ولدت في الغرب حاسة الخيال المبدع.
وقد كان في إيطاليا في العصور الوسطى نزعة قائمة على نقض الأنغام الكروماطيقية والهارمونية والاقتصار على الدياطونيقية، ولكنا نشاهد في العصور الحديثة حركة يقصد بها العود إلى الأنغام المهملة؛ فاتجهت لذلك الأفكار إلى الشرق، لأن الروح الموسيقية التي تكتنف الأرض وتصل الشعوب بعضها ببعض قادت الأفكار في هذه المرة أيضًا إلى المسلك القديم الذي سلكه الفن، وهو الاتجاه دائمًا من الشرق إلى الغرب.
يا أيها الأماجد إن معرفتكم لتاريخ هذا الفن وعلومه التي لم تزل غامضة علينا بعض الغموض سيكون لها في هذا المؤتمر شأن عظيم، فإن نهضتكم الموسيقية وأعمال سلفكم ومؤلفات علمائكم كشرف الدين هارون وغيره مما لم ينشر فوائدها بعد سيكون لها عظيم من البحوث والتنقيب في هذا المؤتمر الذي دعوتم إليه علماء أوروبا. ومن البدهي أن انتشار العلوم يساعد على المحافظة على الفنون. وقد ذكر ذلك القديس السالف الذكر «أن العلم المجرد عن الفن إنما هو معرفة سطحية»؛ لذلك أرى أن رقي الفن الذي هو ضالتكم المنشودة سيكون ضالة المؤتمر أيضًا ا.هـ.
فهذه البلاد التي نشأت قبل بلاد الغرب تريد الآن أن تقاسمها الحياة، وأن تتبوأ بينها المكان اللائق بها، فهي الأم التي تجدد صباها وأصبحت تعد نفسها أختًا لبناتها. وهاك شعار المؤتمر والروح التي تتجلى فيه عن مصر. إن هذه البلاد التي نعجب بجدها ونشاطها ترغب في ترقية موسيقاها وتجديدها. وهي التي غذت منذ ألف عام الموسيقى الأوربية. وقد تفضلتم جلالتكم فدعوتمونا وأدركتم مع منظمي المؤتمر أن هناك صعوبات جمة تقف في سبيل إصلاح الموسيقى العربية. لكنكم ذللتم هذه الصعوبات وتحملتم أعباءها؛ لأن الغرض هو توسيع نطاق فن الموسيقى العربية دون التورط في تقليد أوربا تقليدًا أعمى. فعلينا أن نسعى في هدوء إلى الرقي الذي ننشده؛ لأن الطفرة بعد انقضاء ألف عام كثيرة الضرر، كما يجب علينا أن نضع أسلوبًا جديدًا دون أن نهمل شيئًا من التراث النفيس الذي خلفته لمصر هذه الأجيال الكثيرة.
«إن للسعادة مظاهر تتم عنها، والموسيقى واحدة منها، لا يجوز إسقاطها، فإن الشعب الذي يغني لهو شعب سعيد، وفي عرفنا أن الترقية والتجديد لا يستلزمان حتما هدم القديم، بل نحن نعد جرمًا كل مساس بهيكل الموسيقى العربية القديم ونريد هذا الفن الجميل الذي ازدهرت به عصور الحلفاء الأقدمين، وتناقله الخلف عن السلف بعناية حتى وصل إلينا، نريد أن يحتفظ بصبغته التقليدية، وأن يبقى فنًا عربيًا حقًا». ا.هـ.
وإن اجتماع هذا المؤتمر وما ضم من العلماء ومن مختلف البلدان الغربية والشرقية المطلعين على أسرار فن الموسيقى العربية المحبين له واجتماعهم في صعيد واحد بالقاهرة عاصمة مصر لما يقدم لنا برهانًا جديدًا على أن التعاون الفكري بين جميع الأمم، وفي جميع نواحي النشاط العقلي من علم وفن وصناعة يؤدي إلى أحسن الثمرات. والحكومة المصرية تلحظ بعين السرور أن علماء الغرب في معاونتهم للشرق إنما يعاونونه لينهض في حدود مدنيته، ويرقى إلى أسمى الدرجات في دائرة تقاليده بغير أن يعتور مميزاته الخاصة تغيير أو يلحقها فساد.
ولقد حوى تقرير لجنة التعليم بيان القواعد الأساسية لتعليم الموسيقى العربية ودراستها والآلات الواجب استعمالها والوسائل المؤدية إلى ذلك من حيث التدريس والمؤلفات. وعنيت بصفة خاصة بحث المؤلفات الموسيقية التي وضعها الشبان المؤلفون المصريون، ونصحت لهم أن يتجنبوا الطريق الذي سلكوه لتكون الموسيقى عربية خالصة من ألوان الموسيقى الغربية.
وقدمت لجنة التاريخ الموسيقى والمخطوطات بيانًا وافيًا للمخطوطات العربية الهامة التي تجب العناية بدراستها والرجوع إليها لمعرفة تاريخ الموسيقى العربية وأصولها، وتحقيق الغاية التي ينشدها المؤتمر بإحياء مجد الموسيقى العربية، كما بينت فيه ما ترجم وما نشر من تلك المخطوطات.
أما لجنة المسائل العامة فقد عُنيت ببيان الوسائل المؤدية لترقية الموسيقى العربية والوصول بها إلى الدرجة المبتغاة لها من رفعة الشأن مع الاحتفاظ بطابعها ومميزاتها.