الموسيقى فن سماوي
الحمد لله الذي خلق الإنسان خلقًا سويًا وسخره لتسبيحه وجعله موسيقيًا بارعًا، وجعل الكون بمثابة أرغن يحتوي على أنابيب قوية، ومزارد مكونة من الفضاء الفسيح اللانهائي والزمن والأبدية، وحسبك ما أنشأه مبدع الكائنات في الطبيعة من تناسب في المسموع كالسلم الموسيقي المؤلف عادة من سبع نغمات تتوالى من القرار إلى الجواب، وتلذ السمع وفي المنظور كالألوان السبعة الأساسية لقوس القزح التي تبهج النظر ولا تصل إلى محاكاتها مقدرة الفن، وتقسيم الزمن على قياس مضبوط، وجعل أيام الأسبوع سبعة معدودة، والأغرب أن الإنسان إذا بدرت من صوته نغمة ما تلقفتها الطبيعة وتمهلت ونقرتها بأصبعها لتختبرها هل هي من الغث أم من السمين؟ ولا ترد صداها موزونة متناسبة إلا بعد تنقيحها وتصحيحها، وحسبك الإنسان المخترع المبتدع الذي يعد أجمل المخلوقات صورة وأنضرها شبابًا وأعدلها خلقًا وأصغرها حجمًا وأحلاها صوتًا والذي استولى على مقاليد الطبيعة الطافحة بالأنغامآ وحاكى على ضعف جسمه وصغر حجمه مالها من قدرة وجلال، وجعل الأثير رسول خواطره وبريد نغماته وانفعالاته، وأصبح خدنًا لها ومتسلطًا على جوها وبرها وبحرها حتى إذا وضع أنامله الصغيرة على مفاتيح الأرغن قصفت في العالم على أصوات متجانسة متناسبة ومتتابعة رعود متعددة تثير في الخليقة كلها ضجيجًا حماسيًا يفضي بها في النهاية إلى حاد الهتاف وحار التسبيح باسم ربك الأعلى.
وإثباتًا لما قاله كارليل في أن الموسيقى مركبة للنبوة أبادر إلى إيراد قصة النبي إليشع التي تدل صريحًا على أن المواهب النبوية يصحبها غالبًا هياج جسدي وعقلي هو من القوة بمكان ويُعهد إلى الموسيقى وحدها في إنتاجه؛ وذلك أنه لما دعاه ملوك إسرائيل الحلفاء ويهوذا وإيدوم ليتخلصوا من مخاطر الحرب الناشبة بينهم وبين ميشا طلب منهم أن يأتوا له بموسيقي ليعزف أمامه على آلته الموسيقية استحضارًا لروح الإلهام النبوي، وقد شوهد ذلك جليًا بما ثارت في نفس إليشع من نزوة الإيحاء النبوي عندما سمع صوت الموسيقى التي بواسطتها تمت لهم جميعًا أسباب النجاة من ويلات تلك الحرب الضروس.
ومما لا شك فيه أن سفر التوراة يُعد أعظم الأسفار الشعرية طلاوة وأصفاها ديباجةً في عالم البديع وأكثرها احتواءً على الموسيقى صوتيةً كانت أو وترية، وحسبك ترنيمة الانتصار والشكر التي رنَّمت على ضفة البحر الأحمر (إصحاح ١٥ خروج من ١ إلى ٢١) وهي الترنم للرب لأنه تغلب على فرعون وجنوده حينئذٍ رسم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب، وقالوا «أرنم للرب فإنه قد تعظَّم الفرس وراكبه طرحهما في البحر» ولا يعزب عن البال أن سفر العهد الجديد يحتوي على مثل هذه الثروة الفنية على حد ما جاء في رومية ١٥: ١١ «سبحوا الرب يا جميع الأمم» من أفواه الأطفال والرُضَّع قد هيأت تسبيحًا «سبحوا الرب بالمزمار والقيسارة».
وقد جاء في القرآن الكريم ما يأتي وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وفي سورة الحديد سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وخاطب النبي الله سبحانه وتعالى وقال فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، وفي سورة المزمل يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
وعند قراءة القرآن فقد قال رسول الله ﷺ حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا، وكان داود عليه السلام يقرأ مزاميره بالألحان حتى أن بعض الطيور كانت تقع وتموت من شدة الطرب؛ لأنه كان حسن الصوت، وكانت أصوات الأنبياء كلها حسنة ذهابًا إلى ما قاله النبي ﷺ ما بعث الله نبيًا إلا حسن الصوت والمزامير، وقد رُوي عنه أيضًا ﷺ «قد أوتى مزمارًا من مزامير آل داود» وقد اتخذ بلال الحبشي (الذي كان أول من اعتنق الدين الإسلامي) موذنًا له، لما وجد فيه من حسن الصوت فكان يقول له أذن يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
على أن مارتن لوثر اللاهوتي القدير والزعيم الكبير فقد أبان للملأ الوظيفة المهمة التي تؤديها الموسيقى في المجتمع من إلانة الطباع وتهذيب الأخلاق وتسكين الهياج، وقال على رؤوس الأشهاد ما يأتي: إني أفسح بكل سرور للموسيقى بعد علم اللاهوت المكان اللائق بها.
ويستنتج مما تقدم أنها لغة الأنبياء وينبوع العواطف النبيلة، بل هي فن سماوي، ومن ظنَّ أنها إلهية يُتلهى بها قتلا للوقت وعدها أداة للسخرية فهو في ضلال مبين، ومن اعتقد أنها مفسدة للأخلاق ومؤذنة بخراب العمران ويمكن الاستغناء عنها فهو أضل سبيلاً.
فعلينا أن نتأمل ما نراه جميعًا ماثلا أمام أعيننا في الطبيعة من ثروة الجمال المدهشة، وفي مختلف مناظرها من الروعة والبهجة والسحر ما يعبر لنا عن دقة صنع الخلاق العظيم، والانسجام الموسيقي، والتناسق والتناسب بما نسمعه من هدير مياه الأنهار، ومن حركات المد والجزر، ومن حفيف الأشجار وتنهدات نسيم الأسحار، وصياح البلابل، وهطل الوبل والطل، وهبوب الرياح، ونغمات الكواكب عند مسيرها المتناسب في أفلاكها المتنوعة حول الشمس — تلك النغمات التي تختلف باختلاف حجم كل كوكب وتفاوت درجته الاهتزازية عند اجتيازه الأثير — التي تكون إيقاعًا متناسبًا لا يُعرف كنهه على وجه البسيطة، ويُكنى بموسيقى الأكوان، وقد صدق الدكتور فيربون فيما قال: وهو أن الطبيعة طافحة بالأصوات الموسيقية.