الفوارق
تقدم لي في هذا الكتاب شرح مستفيض عن حياة عبده الحمولي وبيان المزايا التي اختص بها وما انتابه من محن وأمراض على قدر ما أدى إليه البحث وأعانت عليه البصيرة، وإثباتًا لما ذكره المرحوم: إبراهيم بك المويلحي في مصباح الشرق من أنه قلما يوجد مثله من يحسن في صناعته ولا يسيء في أخلاقه، وتسهيلا على القارئ معرفة الفوارق بينهما لتتمهد المقارنة، ويصيب بحكمه وجه الصواب أنشر موجز ترجمة حياة بتهوفن معربًا عن تاريخ حياته بقلم: سليڤان وهو كما يأتي:
- (1) Do not come to me any more. You are a false fellow, and the knaker take all such.
- (2) Good friend Nazerl.You are an honourable fellow, and I see you were right. So come this afternoon to me you will also find Schuppanzigh, and both of us, will hump, thump and pump you to your heart’s delight.
ومعنى أولهما يقول له «لا تعد تأتي إليّ لأنك شخص كذوب فليأخذنَّك وأمثالك ذباح الخيل الضعيفة».
وفي ثانيهما يقول: «صديقي الطيب نازرل.
أنت رجل معتبر وإني أرى أنك كنت محقًا ولذا تعال إليَّ بعد ظهر اليوم حيث تجد أيضًا شوبانزيج لكي نمرح ونطرب ونعزف معًا بما يشرح صدرك ويقر ناظرك».
وقد كانت لموسيقاه عدة نواحٍ مختلفة منها الناحية الروحية التي عبرت بها عن رؤيا الحياة على حد ما دلت عليه تآليفه الأخيرة مما وقع فيه من تجارب ومحن، وأصابه من آلام كانت من أهم البواعث على نمو حياته الداخلية، وأكسبته قوة عجيبة نادرة، ووسمته بطابع الجمال الذي به عبر عن موسيقاه تعبيرًا أنصع بيانًا من تعبير شكسبير، ولو تخير من المنظوم أحسنه وشيئًا، وأمتنه حبكا، فنشر في تاريخ الفن صفحات من آيات العبقرية المجيدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى أنه لم يعبأ في تعبيره بأي لفظ من طريق اللغة التي ليس له بأصولها خبرة بل كان يلجأ إلى النغمات وحدها ليعبر عن شعوره وأفكاره وميوله.
على أنه لما مات والده في سنة ١٧٩٢ ترك له أخوين هما كارل وجوهان وأختًا تسمى مرجريت ماتت بعده في شهر نوفمبر من السنة نفسها، وزادت مسئولية بتهوفن في حياته المرَّة المؤلمة؛ لأن والده لسوء سلوكه وإدمانه الخمر لم يترك له مالا، وقد تلقن دروسه الموسيقية عن موزارت في مدينة فيينا ابتداء من سنة ١٧٨٧ وما كاد يبلغ السادسة عشرة من سنيه حتى عرف نفسه، وتحقق من عبقريته، وكان فظ الطباع مكروهًا من الناس، لا سيما من الجنس اللطيف، حتى أن ماجدلينا إحدى المغنيات وزميلته في الدرس لما طلب يدها سنة ١٨٩٥ رفضت طلبه، وبعد موزارت تلقى دروسًا أخرى على هيدن وشتيك وألبر كستبرجر وأخذ ينتقد القواعد التي جروا عليها، وسلق جميع الموسيقيين بألسنة حداد، واتبع خططًا خاصة به نزولا على نزعاته وذوقه وميوله، وسما بنفسه تيهًا واستكبارًا إلى أن أُصيب بالصمم في سنة ١٧٩٨ وكتب إلى أمندا صديقته كتابًا في أول يونيو سنة ١٨٠١ قال لها فيه: «إنه سيئ الحظ وأن في صدره وغرًا شديدًا على الطبيعة، وعلى الخالق الذي يعرّض مخلوقاته للحوادث التي فيها تتلف أجمل البراعم، وبسبب صممه انقطع عن مقابلة الناس عدة سنين لأنه لا يقدر أن يقول لهم إنه أصم لا يسمع، ولو كان محترفًا مهنة أخرى غير الموسيقى لهان الأمر لكنه حُرم السمع، وبالتالي نضب معين مرتزقه؛ فانعدمت حياته وقُضي على مستقبله قضاء مبرمًا، وأردف قائلا لها في ختامه ومستطردًا في وصف مصابه الهائل: أنت تعلمين أن أعدائي يشمتون بي — وكثيرًا ما هم — ولو أمكن لي الانتقام من سوء الحظ لقبضت على حلقه بكلتا يديَّ»، وبدهي أن صممه جعله أبغض إلى الناس من قبل وأحقد من جَمَلٍ حتى على ذوي قرباه، إلا ابن أخيه الذي كان ولي أمره، ولم يعلق قلبه بحب سواه منذ وفاة والده، وكان محتفظًا بعدة أسهم لحسابه الخاص، ولم يمد إليها يده حتى في إبان اشتداد مرضه عليه اهتمامًا بشأن تربيته، وعمد إلى جمعية محبي الفنون والطرب في لندن فأسعفته مع صديق له بمبلغ مائة جنيه، صُرف منها جانب على جنازته، وكان ذلك العبقري المسكين يقول لطبيبه فيرنج الذي ضاعت حيلتهُ في شفائه: آه يا دكتور لو كان يوجد بين الأطباء الفطاحل من يستطيع أن يشفيني لأسميتهُ بالطبيب العجيب، وقال قبل أن يلفظ نفسه الأخير «إن عمل يومي قد انتهى» وقد رآه المجتمعون حول سريره يحرّك قبضة يده نحو السماء، بينما كان فاقد الشعور هو في سكرات الموت وغمراته، وليس أدل على ذلك من ذهاب نفسه شعاعًا، وعدم رضوخه لأحكام الله وعظيم ثقته بنفسه التي لم يقهرها سوى هادم اللذات دون ثقته بمن أنشأنا من الأرض نسمًا، ويسر لنا منها أرزاقًا وقسما. أما فقيدنا عبده الحمولي إذا قيس بيتهوفن في العقيدة والرجاء كان الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء لأن الأول كان أصبر منه على محن الزمان فأدرك نعيم الجنان، وآمن بالله في الحياة وفي الممات، وثبت على طاعته في وسط أمراضه وآلامه، وكان عظيم الرجاء بأنه سيبلغ الإرث في الآخرة بتركه في الدنيا ما يحب فمات وقلبه مليء بالرجاء وعلى فمه ابتسامة رحمهما الله أوسع الرحمات.