الفرق التمثيلية في مصر
إن كان فن التمثيل العربي تأخر، قامت الفرق التمثيلية المتتابعة في مصر لتحاول أن تدرأ عن وصمته، فمن العدل ألا ننسى أننا ما زلنا في طفولة الفن، وأن الذين يعالجون التقدم به يعالجون في آن لغة ليست مستعارة من أقوال وآراء للعلماء والشعراء الجمهور، فيسهل عليه فهمها، وتبين وقائعها، بل هي مستعارة له من شعب آخر كانت عيشته وبيئته وخلائقه غير عيشتنا وبيئتنا وخلائقنا، وناهيكم بهذه العقبة من عقبة كئود. ثم هم يعالجون موسيقى لا شيء فيها يصلح للعزف الجهوري، ولا للنغمات تسير بها الجيوش وتسمعها الآلاف من الناس. ثم هم يعالجون حركات ورموزًا قد اختلط شرقيها بغربيها، وليس بميسور تمحيصها إلى حين، فلنصابر العاملين منا ولنعاونهم كل بقدر مجهوده ذلك خير وأبقى من تغطية قصورنا بالتشدق والتشدد فيما لا يدرك إلا بميقاته من المطالب. وإنني لمورد بإيجاز منشأ التمثيل في هذه البلاد، ومنه نتبين أين نحن من الطريق وما الذي يبقى علينا اجتيازه للدنو من الشأو، إن لم أقل لبلوغه. على أن تاريخ الفن عندنا إنما هو تاريخ الفرق التي تولته وتوالت في القيام به. فأول من خطر له إدخال هذا الفن في لغة الناطقين بالضاد وهو المرحوم: مارون النقاش لخمسين سنة مضت أو نيّف، جمع فرقة من الشبَّان الذين استصلحهم في بيروت وعرَّب لهم روايات: «البخيل» و«الحسود» و«أبي الحسن المغفل» تعريبًا جاء أشبه بالتأليف؛ لحسن تصرف الرجل فيه مراعاة للذوق العربي، ولم تقدم تلك الفرقة هذا القطر، ولكن شدة الاشتراك المتصل بين الشام ومصر — ولا سيما منذ ابتداء هذا العصر — لا تدع فرجة للفصل بينهما في تاريخ الأدبيات والمعنويات. ففرقة مارون النقاش لبثت حيث نشأت إلى أن انحلت، ولكن رواياتها «البخيل»، و«الحسود» و«أبا الحسن المغفل» جابت التخوم إلى وادي النيل، وما برحت من لهجات مسارحنا إلى هذه الأيام، أُعقب مارون قريب له معروف بين أدباء المحروسة في زمانه هو المرحوم: سليم النقاش، وسليم هذا أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة أوجبت على نفسها بمقتضاه إمداده بمال، والترخيص له في استخدام الأوبرا زمنًا معلومًا لتمثيل رواياته، وأشهر تلك لروايات «مي» و«المقامر» و«عائدة» ثم أندروماك، وهذه بقلم أقدر أدباء وقته وأشهر خطبائه المرحوم: أديب إسحاق.
وفي تلك الأيام عينها كان المرحوم: إسكندر فرح وفي فرقته المرحوم الشيخ: سلامة حجازي يبلي البلاء الحسن ليجلب الجمهور، ويستمد للنوع الذي آثره ما يعربه بعض أقطاب الأدب في ذلك العهد كالمرحوم الشيخ: نجيب الحداد، والمرحوم أخيه الشيخ: أمين، والشاعران الناثران المرحومان: طانيوس عبده وإلياس فياض، على أنه قد تخلل روايات هذه الفرقة ما دل على حالة لو تهيأت لكانت الأمة أرغب فيها وأميل إليها: من تلك الروايات «أنيس الجليس» «وصدق الإخاء» للمحامي الشهير المرحوم: إسماعيل بك عاصم.
بعد ذلك تلاشت فرقة المرحوم: خليل القباني. وقد سمعت من نادرتي زمانهما المرحومين: عبده وعثمان، أنه على توسط صوته كان أكبر أساتذة الموسيقى علمًا وإنشاء وبراعة إيقاع. ثم انفصل الشيخ: سلامة من إسكندر فرح، وأسس فرقته التي لقيت النجاح العظيم، والفضل في ذلك لهمة الشيخ وثباته وسخائه، وخصوصًا لإحداثه ألحانًا شائقات، وتطبيقه إياها على قصائد مما تقوى به أغراض الرواية في القلوب والأذهان نهاية قوتها، ويستمد به الخيال من ظاهر الحقيقة غاية التشويق والتطريب. في هذه الفرقة تخرج غير واحد من مهرة الممثلين الذين يصفق لهم الجمهور الآن وفيها رأينا للمرة الأولى ظهور الأخوة العكاشيين وأخذهم بهذا الفن ذلك الأخذ الذي تطرقوا معه إلى تأليف فرقتهم مستقلين، ثم دخولهم في شركة: «ترقية التمثيل». وقد قامت إلى جانبهم آنئذ فرقة الأستاذ: جورج أبيض، ثم فرقة الشيخ: سلامة بعد اعتداله وأبيض، ثم فرقة أبيض مستقلا للمرة الثانية، كما قامت فرقة الأستاذ: عبد الرحمن أفندي رشدي، على أثر انفصاله من فرقة أبيض، وفي خلال اشتغال هذه الفرق وبعد أن وال بعضها، وجدت على الولاء فرقة الأستاذ: يوسف وهبي، وكلتاهما أبلت بلاء حسنًا في سبيل الفن، وأصابت حظًا من ازدهار. ثم فرقة السيدة: فاطمة رشدي، ثم آل كل أولئك إلى التحول والشتات إلى أن وُجدت منذ نصف عام الفرقة القومية المصرية.
هذا ما رغبتم إليَّ في إيجازه، أوجزته بقدر ما بقي في ذاكرتي، وأرجو الله ألا أُؤاخذ إن كان قد وقع سهو أو خطأ.