عبده الحمولي
وُلد المغفور له عبده الحمولي سنة ١٢٦٢ هجرية (تقريبًا) بمدينة طنطا، وكان والده الملقب بالحمولي (نسبة إلى حمول أو حامول من أعمال مركز تلا مديرية المنوفية) يمارس تجارة البن. وكان للفقيد أخ أكبر منه سنًا، وما عتَّم أن وقع بينه وبين أبيه شقاق حتى فرَّ به من وجهه، وهام كلاهما في الخلوات مشيًا على الأقدام. ولما تعب المرحوم عبده من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفيه واستمرَّا على هذا المنوال إلى أن صغت الشمس إلى الغروب، وضعفت نفساهما من التعب دون أن يجدا أحدًا يأنسان بصحبته، أو يلجآن إلى ضيافته. وقد هدتهما أخيرًا خاتمة المطاف إلى رجل اسمه شعبان لبى طلبهما بكل ارتياح، وآواهما على الرحب والسعة. وكان المضيف من حسن الصدف يشتغل بصناعة الغناء والعزف على القانون، وما لبث أن سمع صوت عبده الرخيم حتى افتتن به وعاد به إلى مدينة طنطا حيث اشتغل معه مدة وجيزة، وحضر به آخرًا إلى مصر واشتغل معه بقهوة عثمان أغا المشهورة التي كانت في وسط غابة من الأشجار موضع حديقة الأزبكية حالاً. ولما استقرَّ بهما المقام في مصر زوَّجه بابنته طمعًا في الانفراد عن مواقف المنافسين له بمزية استغلال مواهبه العبقرية وحده، وكان من وراء علمه أن المرء لا يخلو من أضداد على حد قول الشاعر. لأن «المقدّم» الرجل الطائر الصيت في فن الغناء ظهر له منافسًا، وذلك بعد أن علم بعبده وأعجب بصوته، وانتهز الفرصة التي فيها كان يغلظ شعبان لعبده في الكلام ويسيء معاملته استنادًا إلى رابطة المصاهرة وتوصل بدهائه إلى توسيع شقة الخلاف بينهما مما أدى إلى تطليق ابنته ثلاثًا، فألحقه بتخته واستمر يغني على الطريقة المعروفة عند محترفي هذا الفن من المصريين وقتئذٍ، وأصلها يرجع إلى رجل اسمه شاكر أفندي من حلب الشهباء ألقى عصا التسيار في هذه الديار في المائة الأولى بعد الألف حيث كان فن الألحان فيها مجهولاً، فنقل إليها عدة تواشيح وبعض قدود كانت البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهل حلب عن الدولة العربية، بدليل أن الحلبيين الأذكياء ينزعون إلى الموسيقى، وتهفو قلوبهم في أثر الطرب، ولذا لا تخلو دورهم ومجامعهم لغاية الآن من الآلات الموسيقية التي يحسنون غالبًا العزف عليها، ولما تلقاها عنه بعض المحترفين من المصريين ضنوا بها طمعًا وحرموا غيرهم من الانتفاع بها دون أن يذيعوها على الملأ طلبًا للتفرد بها، ولو تأذى الفن بمثل هذا الاحتكار، وكانت مقصورة على أمهات المقامات وبعض ما تفرَّع عنها مما يقارنها ولا يشرد عنها، فأخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها مضيفًا إليها ما عَنَّ له من النغمات تمشيًا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروحٍ مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربًا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة، ويشوّهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس. فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعًا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال؛ لاحتوائها على أنواع من السحر وعوامل من التطريب بما أدرجه في صلبها من نغمات النهوند والحجاز كار والعجم عشيران التي تلقنها عن مشاهير المطربين في الأستانة طيلة الرحلات المتعددة التي قام بها وهو بمعية ساكن الجنان أبي الأشبال الخديو إسماعيل، محيي الفنون الجميلة في وادي النيل الذي يرجع إليه كل الفضل في إنماء مواهب عبده الفنية، وتوجيهها للنهوض بفن الغناء العربي إلى المستوى اللائق به؛ لما وجد فيه من ميل فطري وسعة تصرف في النغمات. فكان يتنقل من نغم إلى نغم، ثم إلى أنغام أخرى ويحيط بكل فروعها ويعود إلى النغم الأساسي بطريقة فنية، وتصرف غريب، ولم يدع في الغناء القديم شواذًا إلا ردها إلى قواعدها، أو مسموعًا قبيحًا إلا طرح معايبه، وألبسه أنصع جلباب متحاشيًا اللغو والحشو والتعمية مرتفعًا عن مقام التلفيق والتحدي، منزهًا عن النسج في التلحين على منوال المحدثين بخروجهم عن جادة الصواب، ومسخ محاسن الغناء العربي الصحيح.
وبالجملة فإنه استطاع علاوة على تهذيبه التواشيح والقدود التي تلقاها على الطريقة الحلبية الوصول إلى التوفيق بين المزاجين المزاج التركي والمزاج المصري، بمعنى أن أهل الطبقة الحاكمة في مصر كانوا لا يطربون من الغناء العربي لكونهم يرجعون إلى محتدٍ تركي، فأصبحوا بفضل ما أدمجه من النغمات التركية التي سمعها وهو في الأستانة — على ما سبق الإيماء إليه — يميلون إلى سماعه ويفضلونه على سواه على حد ما حدث للمصريين أنفسهم، فإنهم أعجبوا بالنغمات الجديدة التركية التي عدَّلها ومزجها بالنغمات المصرية بما يلائم أذواقهم، ونفحها بروح العروبة، وعجنها من طينة الحرية، فدرجت من مهد السيادة الشرقية، والمجد المصري الأصيل، ونالت استحسانهم بالإجماع بعد أن كانوا ينفرون منها ولا يرتاحون إلا إلى نغمات الأنين والتوجع التي اقتصروا عليها في محيطهم الضيق.
على أننا إذا تأملنا عمله هذا وما نجم عنه علمنا أنه لم يقتصر على التوفيق بين أنغام الجنس المصري والجنس التركي فحسب، بل تجاوز هذا الحد وفات هذه النتيجة الفنية وصعد إلى ذروة العُلى من الوجهة الاجتماعية؛ بإيجاد صلات بين الشعبين متينة الأسباب حتى تقاربت قلوبهما بعد التباعد، وامتزجت أراحهما امتزاج الماء بالراح، وتمكنت بينهما الألفة ردحًا طويلا تمكنًا لا يشوبه كلال أو يعتريه ملال.
وكثيرًا ما كان يذكر في «بشارفه» وأدواره عبارة (آمان يا لللي)، والآهات التي أخذها عن الموسيقى التركية. وكان ينقل ترجمة الأغاني التركية إلى العربية وينظمها الشعراء، مثال بشرف «بلبل الأفراح غنى آمان في الرياض السندسي» ببعض التصرف تمشيًا مع الغزل العربي وتفكهةً للقارئ أروي الواقعة الآتية للدلالة على ما كانت ترمي إليه الأغاني من الأنين السائد على العقول، وهو أن سائحة أمريكانية سمعت رجلاً يغني بالقرب من فندق الكونتيننتال بشكل غريب الدور الآتي «حبيبي حبيبي شوفوه لي يا ناس شرد مني وبيده الكاس أترجاك تعمل معروف» فأوعزت من فورها إلى ترجمانها بأن يعطيه بالنيابة عنها دولارًا ليستعين به على شراء أي دواء من أقرب أجزاخانة طلبًا لإسعافه بالعلاج؛ ليتخلص من مغص كلوي كانت تتوجس منه خيفة، وترى بسببه أنه لم يبق من عمره إلا اليسير؛ فضحك الترجمان لكلامها وقال لها يا سيدة: «ليس المغني بمريض. إنما هو عاشق ومغرم صبابة»، فدهشت من قوله وسألته عن معنى غنائه، وما كادت تقف على كنه ما احتواه من معاني البلادة والخمول حتى ضربت برجلها الأرض قائلة: «دم فول» إنه حقًا عاشق كسول وعليه أن يبحث عن حبيبته، وليس للناس شأن في ذلك. ولقد قالت الحق الذي لا ريب فيه لأن المرء أحق بأن يعين نفسه من أن يعينه الغير، ولا خير فيمن لا يعين نفسه، والكسول كالميت لا فائدة ترجى منه، والأدهى أنه يشغل مكانًا أوسع من مكان الميت، وليست أغاني الأمة إلا رمز أمانيها، ومحك نفسيتها، ومجس قوميتها وثقافتها، وقد قام المرحوم إلياس الأيوبي بإيراد هذه القصة في تاريخه (عن الخديو إسماعيل) ونسب ما جاء بها من النقد إلى لورد كرومر. ففي الاستشهاد بما قالته السيدة الأمريكانية هنا، أو بما قاله الأخير في الموضوع استنتاج واحد، ولو اختلفت النسبة.
على أن تأثير الوحشة المؤلمة والتعب المضني والجوع والظمأ في ظهيرة اليوم الذي خرج فيه عَبْدُه من بيت أبيه طريدًا شريدًا كانت لا تزال مرسومة في مخيلته، حتى أنك كنت تراه في آخر أيامه يقطب وجهه وينقبض صدره ويتقلص بِشْرِه كلما دخل عليه وقت الغروب، ويُعْزَى كما لا يخفى انقلابه الفجائي من السرور إلى الكدر والانقباض في نفس ذلك الميعاد إلى ما كان منتقشًا في صفحة ذهنه من ذكراها المؤلمة، وذلك دليل واضح على قوة ذاكرته، وما كان في نفسه من الشمم والإباء، وحرصه على كرامته الشخصية بالرغم من صغر سنه حتى أمام والده الصادر عنه الضيم المسيء والعذاب الأليم اللذين كان يوجههما إلى ابنه الأكبر دون عَبْدُه الصغير الذي لم تفرط منه هفوة. ولذا كان في أثناء تكدره ينام على التخت وقت الغناء، حتى إذا استيقظ رجع إلى النغمة التي وقف عندها قبل نومه من غير مراجعة آلة ما، أو استنفاض التخت، أو الاسترشاد بأحد العازفين فيه، كأن الطبقة قد انتقشت في صفحة ذهنه وأنها في كِنٍّ من تأثير جميع الأصوات التي مرَّت عليه وهو في نومه أو غيبوبته، وأغرب ما في هذا الأمر أن الحضور كانوا يمهلونه وينتظرون تيقظه بكل سرور، حتى إذا ما استأنف غناءه بعد نصف ساعة أو ساعة يهزون أعطافهم، ولو حدث مثل ذلك البطء من أي مطرب آخر لغادر السامعون أماكنهم وانصرفوا إلى منازلهم.
ومما لا يختلف فيه اثنان أنه كان يصوّر معاني أغانيه، وما تخلل أجزاءها من أحوال وحوادث على أوضح صورها وأشدها تأثيرًا في عقول السامعين الذين يعجبون لسماعه يغني دورًا من تلاحينه (حجاز كار).
ويستغربون تشخيصه أمامهم صورة العليل ومر شكواه من داء حبه العقام، وطلبه من الطبيب أن يشفيه منه. ودور «أنا حبيت وزاد قلبي هيام» فإنه يخيل إليهم أنهم يقرءون الحب على وجهه. وأنه ذهب بفؤاده كل مذهب وبرى الشوق عظمه. ودور «سيكاه» تلحينه كان يغنيه في حلوان بالكازينو. وقد ظهر في عصر ساكن الجنان الخديو توفيق يوم أن نقلت محطة حلوان من المنشية (بالقلعة) إلى باب اللوق حيث هي الآن، وكان هذا الخط تابعًا لشركة سوارس، وقد غناه في حضرة الخديو توفيق فأعجب به وهو كما يأتي:
ودور (راست) تلحينه «المطر يبكي يا ناس لحالي» إذا غناه رفرف السامعون عليه بأجنحتهم ورءوا المطر ينهمر عليه، ودور (بياتي) تلحينه أيضًا«بسحر العين فيذكرهم فتور الجفون وسحر العيون وما يليه من نحول الخصور وابتسامات الثغور وسريان الريح بريَّا الزهور إلخ إلخ، على ما وقفت عليه بنفسي وسمعته بأذني وأيده حضرة الأستاذ قسطندي منسي الموسيقار من معاصريه.
ولما كنت أعرف المرحوم عبده حق معرفته من حيث أطواره ونفسيته وعبقريته؛ لما كان بينه وبين والدي من قوى الجمعة، وتمكن الألفة بينهما فضلا عن كثرة غشيانه الزقازيق عاصمة الشرقية، حيث كانت له عزبة بناحية الشولية على ترعة الإسماعيلية بمركز بلبيس يبلغ مقدارها ٧١١ فدانًا من الأطيان المرملة التي كان قسم منها يبلغ نحو ٨٦ فدانًا يؤجر بثمانية جنيهات، والبقية منها كانت تحت التصليح، كان عُهد إلى المدعو إبراهيم حلمي أخي معاون محطة حلوان في إدارة شئونها، وبعد وفاته قام المرحوم باسيلي بك عريان صديقه الحميم بالإشراف عليها بنفسه وتولى دفع الأقساط المستحقة عليها للبنك، وهو الذي اشترى منزله الكائن بالعباسية بشارع «عبده الحمولي» المسمى باسمه، وكان معدودًا من أكابر ملتزمي الأسماك هو وحسن عيد وعويس الذين اعتادوا التزام حلقات الأسماك في القطر المصري من وزارة المالية، وقد تولى باسيلي بك أمر ولده الدكتور محمد الحمولي الذي فاته والده وهو في الرابعة من سنيه، واهتم بشأن تربيته اهتمامه بولده الخاص وفاءً لوالده بعهده، أرى واجبًا عليَّ وخدمة للتاريخ أن أذكر كلمة موجزة عن حياته الخلقية والفنية، وأبين للقارئ الكريم كيف وقع إلقاؤه الأغاني في النفس موقعًا جليلاً، وأربى على الأكفاء من المحترفين لفن الغناء من أبناء عصره تذكيرًا لمعجبيه بأساليبه الحسنة، وحبه الشديد للإتقان، وإتحافًا للمحدثين الذين لم يسمعوه بما رق وراق من سلامة ذوقه وكمال ترتيبه وقوة ابتداعه؛ ليقفوا على حقيقة أمره، وما كان له من القدح المعلى في جميع فنون الغناء، فأقول كشاهد عيان سمع صوته الرخيم وسبر غور نفسه النبيلة بتمثيله للعواطف أحسن تمثيل، فإنه كان يغني وهو مشروح الصدر عن عاطفة ووجدان ألحانًا وأدوارًا تعبر عن نفسيته فيدركها السامع متأثرًا بمثل تأثره. ولم يمتز عن سائر المغنين في عصره، ليس بصوته القوي الرخيم وتلحينه الشجي الخاص به فحسب بل بما حباه الله من روح يسيطر عليه في إبان «السلطنة» على جميع النغمات، فيأتي من غرائب التفنن في الغناء، والإلقاء البديعين ما يحمل أفكار سامعيه على أجنحة تصوراته الساحرة، فيُخيّل إليهم أنهم ارتقوا إلى المراتب العلوية ورأوا أشياء لم يروها ولم يحلموا، بها فضلا عما له من لطيف الحس وشديد الحب للجمال الذي أمكنه بهما أن يبث في نفوسهم روح الغيرة والعظمة ومتانة الأخلاق والحماسة العربية، وكافة المحامد والفضائل ذلك سر تفوقه على نحو ما حدث لكل من بتهوفن الموسيقي الغربي الأوحد، وجون ملتن الشاعر الإنكليزي الكبير، وأبي العلاء المعري الشاعر العربي، فإن الأول كان أصم لم يمنعه الصمم عن التلحين ولو لم يسمعه، وكان الثاني والثالث أعميين لم يبصرا من حولهما فقام كل واحد منهما بوصف الجنة وجمالها وبهائها ورياضها ومائها والخلود وما ذلك إلا بما أوتوا من روح الإلهام وما تغلغل في نفوسهم من لطيف الحس، وحب الجمال، وروح الحب على نحو المثل القائل «أعطني حبًا أعطك فنًا» ومن أحكم ما يحسن إيراده بنصه الإنكليزي معربًا بقدر الإمكان.
ومما يؤثر عنه أنه بينما كان يغني بالهياتم في منزل صاحب السعادة الفريق: أحمد زكي باشا ياور ساكن الجنان الخديو إسماعيل، وأمامه الأستاذ: نخله المطرجي (الحلبي) أكبر العازفين على القانون في مصر، وكان قانونجي السلطان عبد العزيز، افتتن الحضور بشجي ألحانه وساحر نغماته التي كان يغنيها براحة ودعة محركًا بين أصابعه حبات المسبحة الكهرمان، ولما لم يسع المطرجي اللحاق به لقوة صوته وغريب تصرفه وسعة حيلته الفنية وبُحَّتِه وقهقهته الماسة مقامات الموسيقى كلها انتهى، وانتهى به الأمر أن أمسك قانونه وطرحه أمام «عبده» دلالةً على عجزه وقال له «خلاص ياسي عبده أجيب لك منين» إيماءً إلى المقامات العالية التي كان يأتيها، ولا قبل لأعظم عازف بها على حد ما كان يقصر عنه باع الأستاذ محمد العقاد الكبير القانونجي الشهير حالما كان يحاول عفق أوتار قانونه الخالي من العُرَب التي لم يألفها طلبًا لتصوير نغماته فكان يشير إليه عبده مبتسمًا بأن يكتفي بإمساك «بمب» على قانونه في أثناء لعبه بالنغمات.
وكان أحيانًا يند عن المألوف ويتحول في الدول من نغمته الأولى إلى نغمة ثانية، ثم يعود إلى الأولى ويقفل بها الدور بعد أن يفوت بصوته مارش النسر، وينزل متسلسلا إلى القرار على حد ما حدث ليلة زواج الأستاذ: إبراهيم سهلون الكماني، فغنى دور «أصل الغرام نظرة» على نغمة الرصد، ولما أطلق لصوته العنان في سماء التطريب أبدل جواب النغمة بالسيكاه، وتسلطن بها على الرصد، ونزل متسلسلا وأقفل الدور رصدًا مما أدهش الشيخ: محمد عبد الرحيم المسلوب الملحن الكبير وكاد يشق ثيابه من شدة الذهول وصاح قائلا «الله أكبر سبحان الوهاب ياسي عبده».
ومما يماثل ذلك ما حدث لعمر بن أبي ربيعة يوم غنته عزة الميلاء لحنًا لها فيه شيء من شعره، فشقَّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال القوم: «لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، فقال والله إني سمعت ما لم أملك معه لا نفسي ولا عقلي». وقد روى عنه المرحوم: أنطون الشوا، والد الأستاذ: سامي الشوا، أمير الكمان أنه كان لقوة صوته يضطر إلى إعلاء كمانه ثلاثة مقامات عن المعتاد كلما كان يشتغل على تخته خلافًا لما كان يفعل، بينما يكون شغالاً مع محمد عثمان فإنه يوطئ كمانه ثلاثة مقامات إلى أسفل تمشيًا مع صوته.
وقد امتاز عن معاصريه من المحترفين في غناء القصائد والمواويل والأدوار يبدأه من القرار الهرمي المتين والقوي الواسع إلى الجواب ماسًا جواب الجواب، محيطًا بالمقام من أوله إلى آخره إحاطة الهالة بالقمر. وكان يستمر في إلقاء القصيدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات من دون أن يشعر من الاستمرار أو التكرار بتعب أو يرهقه عجز أو إعياء. فإذا استعيدت منه حركة من حركاته التي كان يلقيها فتارةً كان يغنيها مع تحسينها بإدخال شيء جديد عليها (ولكل جديد لذة) وطورًا كان يستبدلها بغيرها على طراز أبدع، فيصير السامع أحيَر من ضبٍ إلى أن ينتهي به العجب بأن يؤثر الثانية على الأولى؛ لما وجد فيها من طلاوة وعذوبة، وآونة كان نزولاً على رغبة الطالب يبدأ بالحركة نفسها المطلوب إعادة إلقائها، ويخرج منها إلى نغمات غريبة يعرضها عليه فجأة متنوعة الألوان متشعبة الفروع وصحيحة الأوزان ثم يعود إليها طبقًا للأصول الفنية سالمًا منصورًا.
أما تلحينه فحدّث عنه ولا حرج لما توفر في صوته القويّ من صفات نادرة في القرار، والجواب، وحسن التوقيع، ودقة الإيقاع، ومناسبة الأصوات، وجناس النغمات، وتشخيص الانفعالات الملائمة بلطيف الإشارات، وخفة الحركات، فتتمثل أمام السامع صور ما يلقيه على أتم معانيها، ويرجع إعجاز تلحينه إلى تعدد نغماته وتغييرها وتشكيلها ورسم ألوانها التي تحاكي ألوان زهور الربيع، وكثرة المقامات حتى يخيل إلى السامع أن نغماته إن هي إلا قطع التبر، وأن معانيها إن هي إلا أخذ السحر.
وبالجملة فإن صوته السحري إذا سخره لأي نغمة من النغمات، أو بعبارة أخرى إذا انتقل من نغمة إلى أخرى، أو من الأدنى إلى الأوسط وإلى الأعلى فمحال أن يقلده مجازف من المحترفين، أو يدرك شأوه، خلافًا للملحنين الآخرين فإن تلاحينهم كانت سهلة التقليد، وقريبة المتناول؛ لسهولة إلقائها، وبساطة مآخذها، فضلا عما فيها من جودة ومتانة، وحسن حبك، ولذلك كانت سريعة الانتشار لما تقدم من الأسباب، وكان يتلقنها المحترفون والهواة عن الملحن الذي لحنها بأسرع من لمح البصر، ويقلدونه فيها تمام التقليد، أما طلب تقليد تلاحين عبده فهو من المستحيلات؛ لما فيها من مهارة فنية، ومناعة بديعة، وحيلة واسعة، فكان وأيم الله آية من آياته في قوة البديهة، وحسن الارتجال، وغريب التصرف بأساليب الغناء، وضروب التطريب، وقد يُخيل إليك إذا لحن من فوره مذهبًا أو دورًا أنه يقرأ الفاتحة أو يتلو في لوح مسطور، وإليك الدليل المقنع كما أثبته لنا معاصروه الذين رأوه وسمعوه يلحن لساعته الدور الآتي نظم الشيخ: علي الليثي، أحد شعراء أبي الأشبال الخديو إسماعيل وهو:
(مذهب)
(دور)
(دور)
وقد سمعت الأستاذ: محمد السبع، المطرب المعروف ومساعده على التخت يقول بأن تخت عبده يشبه مدرسة أو جامعة فنية متنقلة، يتعلم فيها المحترف جمال الفن ويتضلع من قواعده الأساسية، ويقف على أصوله وفروعه، وإذا لم يتدرب على يديه لا يستطيع أن يفهم عظمة الموسيقى الشرقية وسحرها وتأثيرها في العقول وتغلغلها في النفوس، لما كان يأتيه من ضروب التجديد، وأنواع المفاجآت، وسريع التنقل من نغمة لأخرى، وبالعكس بطريقة فنية بشرط أنه كان يحرص في جميع ذلك على قواعد الفن، ولم يخرج عنها قيد شعره، ليس فقط في كل ليلة بل في كل ساعة وفي كل وصلة غنائية، حتى أن السامع نفسه كان يقرأ في ثنايا أغانيه صفحة من نفسيته أو فذلكة من حياته، ويقف بتعبيره على كنه أفكاره الشخصية وغاياته السامية وميوله الشريفة، ويرجع استظهاره وبيانه إلى ما استخرج من مأساة حياته من عبر وتجارب مما كان باعثًا على قوة تعبيره عن عواطف النوع الإنساني على اختلاف مشاربه، وتنوع نزعاته، بمعان سامية انفردت عبقريته بالتطبع بها، وتمثلت فيها المُثل العليا بأجلى مظاهرها، فهو الموسيقي المصري المشرق نوره على الآفاق كالشمس، وسيبقى للموسيقى رمزًا على مرور الأزمان، وللغناء العربي الذي أحياه، زعيمًا لا ينازعه منازع.
ومما رواه لي حضرة صاحب العزة مخائيل بك تادرس — رئيس الإدارة بالدائرة السنية سابقًا وصديق عبده الحمولي ووالد حضرة الأستاذ تادرس مخائيل تاردس المحامي أمام المحاكم الأهلية والمختلطة — أجتزئ منه بما يأتي لضيق المقام وتفاديًا من سأم القارئ قال: «إنه تعرف بعبده الحمولي قبل أن يبلغ رشده يوم كان يلبس جلبابًا من التوبيت الأسمر مفصلا على الذوق الإسكندري، ذا فتحة على صدره يتدلى منها أوستيك فضة، وعلى رأسه طربوش صغير غامق اللون من القالب العزيزي. وكان خفيف الروح، سريع الخاطر، رخيم الصوت وكثيرًا ما كان يشكو من تهالك المقدّم على المكاسب، وإجحافه بحقوقه، كما كان يفعل به المعلم شعبان قبله حتى انتهى الأمر بقطع الصلات التي كانت بينهما، وأسس لنفسه تختًا خاصًا وأخذ نجم سعده يضيء ويتجلى في فلك الغناء حتى كسف بتألف شعاعه بهاء من سبقه من المحترفين، والتف حوله القاصي والداني، واستوى على عرش الموسيقى الشرقية في العصر الذهبي لأبي الأشبال المغفور له الخديو إسماعيل الذي كان يجزل له العطايا ويعطف عليه عطف الوالد الحنون؛ جزاء خدمته لفن الغناء العربي، وتشجيعًا له على الاستمرار في الإجادة والإتقان — شأن كل حاكم عادل يحرص على فنون قومه وعاداتهم ونزعاتهم ومميزاتهم القومية». وقد سمعت من حضرة مخائيل بك المذكور أن الخديو إسماعيل دعا عبده ليغنيه في قصره ليلة كانت تهب عليه ريح بليل، ولما أراد أن يخلع عنه البالطو الذي كان يلبسه أمره الخديو بالدخول به مع رجال تخته والجلوس على أرض الصالة المفروشة بالسجاد على الطراز العربي؛ ليتسنى للعازفين على الآلات أمثال «القانونجية» وغيرهم أن يقوموا بعملهم بدون صعوبة، فبدأ البلبل الصياح يغنيه أدوارًا عربية تتخللها النغمات الساحرة والآهات التي طبقت نواحي السماء، فاجتذب إليه قلب الخديو إسماعيل، وصبت روحه إلى سحر الموسيقى العربية دون سواها فكان يضع يده الكريمة في جيب عَبْدُه كلما أعجبته نغمة من نغماته دون أن يعرف غرضه من ذلك، إلا أنه لاحظ أنه مد يده الفياضة إلى جيبه اثني عشرة مرة. ولما انتهت السهرة وخرج من السراي وضع يده في جيبه وقلَّب فيه طرفه، وإذا به اثني عشر قرطاسًا، وفي كل قرطاس مئة جنيه ذهبًا، فناول من فوره رجال التخت قرطاسين اثنين واحتفظ بالباقي. فهل وجد بين الملوك من كان أسخى من الخديو إسماعيل يدًا؟ كلا وألف كلا، فكان أجود من حاتم، واستمد عبده الجود منه، وبه اقتدى في إغاثة الملهوف، وعمل المعروف. على أنه كان صالحًا يقيم الصلاة في مواقيتها، وبارًا بوالده، وقد فر من وجهه كما تقدم بيانه لكونه غير راضٍ عنه لاشتغاله بفن الغناء الذي كان وقتئذ يعد في مصر مهنة محتقرة ومسقطة لمحترفيها من عيون الناس. وحدث نقلاً عن المقطم الأغر بتاريخ ١١/٩/٩٣٤ بتوقيع حضرة: رزق الله شحاتة الموسيقار، «أن الخديو إسماعيل قصد زيارة مديرية الغربية، فأراد سعادة المدير أن يجعل الاحتفال بقدومه في غاية الفخامة والأبهة، ورأى أنه لا يكمل السرور في تلك الحفلة إلا بإحضار أعظم المطربين؛ فدعا المرحوم عبده الحمولي، ورأى أن هذه خير فرصة يسترضي فيها والده عنه، فقال لسعادة المدير أريد أن أطلب منك شيئًا واحدًا، وهو أن تجعل أبي يرضى عني. فأرسل سعادة المدير تلغرافًا في الحال لوالده فحضر الحفلة الليلية، وكان عبده جالسًا في حضرة الخديو إسماعيل وحاشيته فدعاه المدير إلى جانبه، وسأله هل أنت غاضب على ابنك، وأنت تراه في حضرة أفندينا، فكان جوابه «أنا وابني وأولادي عبيد لأفندينا، وأقبل عليه وعانقه».
على أن «عبده» كان عفيف النفس عالي الكعب، كتومًا إذا أطلعته على دخائلك، ناهيًا برجال التخت من المساعدين له والعازفين عن الحط من قدر المهنة ومن قدر شخصياتهم، بدليل أنه كان يُنبه عليهم في أثناء الأفراح والأعراس التي أقيمت سنة ١٨٧٣ احتفاء بزواج أنجال الأمراء توفيق وحسين وحسن بألا يلتقطوا شيئًا مهما غلا ثمنه مما كان يبدره الأمراء والأميرات من الجواهر والنقود الذهبية — تلك عادة كانت شائعة في عهده الذهبي بين الناس لا سيما في أفراح أولاد العظماء، والوزراء اقتداء بهم، والناس على دين ملوكهم.
وهناك نوادر أُخرى ومميزات اختصَّ بها عَبْدُه تنبه لها العارفون بفن الغناء، ووقف معاصروه على كنهها اكتفيت فيها بما ذكرته هنا، فلو أردت استيفاء الكلام على جميع خصاله ومناحي حياته الشخصية والفنية والاجتماعية لطال بي القول بما لا يحتمله هذا المجال.
وقد مات عبده (رحمه الله) في مدينة حلوان بالسل الرئويّ في فجر اليوم الثاني عشر من شهر مايو سنة ١٩٠١ بعد أن صنع في حياته العظائم، وأقام للموسيقى الشرقية والغناء العربي بناءً رفيع الدعائم. فلا تحسبن يا صاح أنه مات وهجع، وهمد صوته الرخيم الرنان، وسكنت جوارحه وخُرس لسانه، وقطع حبل نبراته العربية؟ كلا. فإنه لم يمت، ولم ينم، لكنه استيقظ من حلم الحياة، بل تحقق حلمه على حد قول الإمام كرم الله وجهه: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». أما نحن البشر فإننا بعكسه نسير بعد في طريق وعث المبتغي وتنشب بيننا حرب ضروس لا يغني قتالنا عنها فتيلا. والحق الذي لا ريب فيه الجهر بأنه حي في السماء فسح له ربه بجواره مكانًا سنيًا، تغمده الله برحمته وأجمل جزاءه في دار النعيم.
وإثباتا للحكمة المأثورة عن الإمام علي نورد هنا قطعة شعرية نفيسة عن خلود النفس للشاعر الإنكليزي (شلي) بنصها لشدة ارتباطها بالموضوع وهي: