عبده الحمولي مصلح اجتماعي في ثوب مغنٍ
كان عبده نموذج الرجل الصالح يحافظ على مواقيت الصلاة ويربأ بنفسه عن كل دنيئة صائنًا من الدنس عرضه وأعراض الناس، حريًا بأن يُعرف بالمصلح في ثوب مغنٍ. لم يقتصر جوده على جياع أطعمهم، أو عطاش سقاهم، أو عُرْيًا كساهم، أو مرضى وأساهم، أو سجناء زارهم، أو مقترعين دفع عنهم البدل العسكري حتى بلا سابق معرفته لأشخاصهم، بل تجاوز ذلك كله إلى أن بلغ حدود الساقطات اللواتي إذا لمحهن بوجه الصدفة في طريقه وهو عائد إلى بيته في عربة مستصحبًا معه بعض رجال التخت بعد الانتهاء من سهرته الغنائية استوقف لوقته الحوذي وجمعهن حوله وأفاض عليهن من سجال عُرفه عن تهلل وابتسام ما يملأ العين، ويستعبد الحرَّ، ثم انصاع ناصحًا لهن وقال: «يا بنات، الله يتوب عليكم». هذا ما رواه لي الأستاذ: محمد الشربيني العواد مؤكدًا أنه رآه يفعل ذلك رأي العين وهو حي يُرزق، ويبلغ من العمر ثمانين سنة. فطوباك يا عبده! يا من عرفت بحنكة وذكاء في جسم ضآلة الوتر الحساس، وضربت عليه بريشتك الخفيفة الشفيقة لتثوب إلى رشدها، وتستقيم على الطريقة المثلى للصالحين والصالحات علمًا منك أن الذنب ليس ذنبهن، إنما الذنب كل الذنب لا يقع إلا على أولئك الذين أضلوهن وجروا عليهن بأول هفوة ارتكبها ذيول العار والخزي، وقد طلبت إليهن التوبة من الغفور الرحيم إيماء إلى قوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وإلى الحديث الشريف «أن التائب من الذنب كمن لا ذنب لهُ».
وكفاه في العار فخرًا، وما أبهى جمال القلب، جمال التضحية، وما أعظم حبه للفقراء والأشرار، وما أعظم تضحيته للحزنى ومضطربي البال، بدليل أنه في ليلة غنى الملك الجواد الخديو إسماعيل، ولما أجاد سأله الخديو قائلا يا عبده اطلب تُعط، فأجابه لفوره وطلب بأن يعفو عن نشأت باشا، مدير القليوبية آنئذ، الذي كان صدره واغرًا عليه ويبعث إليه رحمة ومغفرة لا لعانًا وسبًا، فعفا عنه وكان ارتياح عبده للعفو عنه أعظم من ارتياح الأخير له؛ لأن العطاء خير من الأخذ، ولو طلب عبده من الخديو إسماعيل مالا جزيلا لنفسه دون سواه لناله حتمًا؛ لأن كلام الملوك ملوك الكلام، ولكنه آثر الخدمة العاملة على خدمته الخاصة.
على أني أرى ما يماثل ذلك وأكثر منه بدليل أن في الأوساط المسيحية أشخاصًا من رجال وسيدات كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع يبذل النصح للساقطات في محالهن لينزعن عن عيشتهن الفاسدة، وهم لا يأبهون لما قد يلحقهم جميعًا من غضاضة بغشيانهم منازلهن؛ لاعتقادهم في أنفسهم بأنهم في ذلك يؤدون واجبًا إنسانيًا شريفًا ذهابًا إلى أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، حتى أن منهم من يتناول من جيبه مبلغًا من المال يدفعه إلى من يراها في حاجة ماسة إليه؛ لتكف عن غوايتها وتقيم به أود معاشتها موقتًا إلى أن تحترف مهنة شريفة، وكثيرًا ما نرى جمعيات مؤلفة من فضليات النساء الغرض منها منع تعاطي الأشربة الروحية، والسموم المعروفة بالمرفين والهيروين؛ إبقاء على حياة مدمنيها، وحفظًا لإحساساتهم ووجداناتهم الشريفة، فلا يُرمى بذنب من يفعل مثل ذلك، بل يُشكر عليه، ولو لابسهم في بيئتهم. هذه هي ضالة المصلحين والمصلحات المنشودة، وتأييدًا لها لا بأس من إيراد ما قاله أدون مركهام الشاعر الأميركي، وهو «أن المتعصب رسم دائرة صغيرة لنفسه وجعلني أنا الجاحد الضال خارجها، ولكني والحب عوني غلبته، وقد رسمت معه دائرة كبيرة وجعلت الضال داخلها»، وكم كان يرتل القديس فرنسواي داسيز أناشيده عن الشمس والطبيعة، إذ أنه عظَّم الشمس وغنى قائلاً: الشمس أختنا، والقمر أخونا، والريح أختنا، والماء أخونا، والنار أختنا، والأرض أمنا، والعصافير أخوتنا الصغار، والزهور أخواتنا الصغيرات، وهو لا يعتبرها غريبة أو دخيلة؛ لأنها تمثل جزءًا من العائلة البشرية، وتعبد إلاهًا واحدًا مثله، وكان حقًا علينا نحن المصريين أن نعتبر عبده الحمولي الموسيقار العربي مصلحًا قوميًا ومربيًا اجتماعيًا استطاع بما حباه الله من الشعور وقوة الإلهام أن يفتح لنا ما تنكر من ذرائع الإصلاح، واتخذ من الذين تاهوا في شِعاب الباطل، وكثيرًا ما هم، وأثابهم إلى هداهم أنصارًا وأصدقاء حريين بأن يكونوا أعضاء للعشيرة البشرية، نافعين في البلاد، وعاملين على إحياء مجد مصر وأقدر من سواهم على إدمان تعاطي العلم والصناعة والتفرغ لهما عن ركوب متن غرورهم.
كرمه الحاتمي
دوام الحال من المحال فالدنيا غدور والدهر عثور وذكرهما القول المأثور «اكرموا عزيز قوم ذل».
مواساته للفقير
بينما كان ساكنًا بحارة التمساح (بقسم عابدين) بجوار منزل صديقه حضرة مخائيل بك تادرس طلب ذات يوم من أيام شهر شعبان من الأخير أن يذهب معه إلى جهة الحنفي بشارع الشيخ: صالح حيث كان يوجد دكان بقالة «ويميش» للمدعو علي أفندي النمر — المخزنجي سابقًا بسراي الجزيرة للمغفور له الخديو إسماعيل — ليشتري منه ما يلزمه في شهر الصوم المبارك فاشترى بالفعل أرزًا وسكرًا وفواكه ناشفة، وحلويات متنوعة بستة عشر جنيهًا دفعها إليه مما كان معه، ولم يبق في جيبه سوى ٢٧٥ قرشًا صاغًا، وقفل راجعًا مع صديقه إلى منزله، وقال له في الطريق «ربنا أكرم من كل كريم فالذي رزقني مصروف شهر رمضان ليس بعسير عليه أن يرزقني مصروف العيد»، وما كاد ينتهي من حديثه هذا ويقترب من منزله حتى أقبل عليهما رجل رث الثياب وسلَّم عليهما، وأخذ يقبل يد عبده، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مبلغ الـ ٢٧٥ قرشًا وأعطاه إياه، فاعترضه مخائيل بك ولامهُ على إعطائه كل المبلغ بدون أن يبقى لنفسه شيئًا منه، فأجابه عبده قائلا: إنك لو وقفت على حقيقة حال هذا الرجل لعذرتني فيما أتيت، لأنه كان من أكابر فراشي العاصمة، وكان يملك مفروشات وسجاجيد وفضيات ثمينة، وهو الآن كما تراه لا يملك شروى نقير، فقد تجاوز بصنيعه الحد الصحيح المعقول الذي اختطَّه السيد المسيح الذي قال: «إذا كان لك ثوبان فاعط واحدًا منهما لأخيك» تلك الحكمة المأثورة البليغة لجديرة بأعلى اعتبار، ولِي أن أعتبره هنا غبين الرأي ولا يبرأ في هذا التهور من الملام.
حقًا إن مثل هذه التضحية ينطبق عليها قول أحد علماء النفس من الإنكليز ومفاده معربًا كما يأتي: «إن الماء الذي لا يسمع أنين البؤساء، وآلام المرضى هو غير طاهر، ولو باركهُ كل قديس في السماء، أما الماء الذي انصب في آنية الرحمة فهو طاهر، ولو تلوَّث بالرمم وتأذى بالجراثيم».
اضطهاد المحافظة له
كان عبده من أكرم الناس شيمة وأصدقهم عهدًا، لا يلبّس الحق بالباطل، وقد أُشرب حب الديمقراطية. أتفق على ما ذكره لي مؤخرًا الأستاذ: سامي الشوا، نقلا عن الأستاذ: محمد كامل الرقاق أن طلب منه أحد محافظيّ مصر في عهد الخديوي توفيق أن يغني في ليلة معينة بداره فاعتذر عبده إليه من ذلك لسابق تعهده بالغناء في الليلة نفسها مع شخص آخر، فلم يرق للمحافظ الأرستقراطي إتباعه شرعة الديمقراطية المرعية، وأضمر له الحفيظة، وأخذ من ذلك الحين يقاطعه مقاطعة جدية أسفرت عن حرمانه الغناء عند عظماء العاصمة مدة ستة شهور، بمعنى أنه كان يشترط على من يدعونهُ منهم إلى حضور عرس من الأعراس بأنه لا يحضره إذا استحضروه للغناء، فاضطروا إلى الاستعاضة عنه بالشيخ: صالح العربي، الذي ظهر اسمه في عالم التطريب في ذلك الوقت أو غيره من المطربين، فانزوى في حلوان في تلك المدة دون أن يشتغل ليلة واحدة، فحضر إليه محمد كامل المذكور، ورجاه بأن ينزل معه إلى القاهرة لعل الله يفرج كربه، فوافقه على ذلك ونزلا في لوكاندة الكونتيننتال، وبيما كانا يشربان فيها القهوة ويتجاذبان أهداب الحديث أقبل عليهما محمد بك يكن، وكان في داره عرس فخم مساء ذلك اليوم، وبادر إلى الاعتذار لعبده وقال له إنه لتشديد المحافظ عليه في عدم استحضاره للغناء اضطر إلى الاستعاضة عنه بثلاثة مطربين وهم محمد عثمان ويوسف المنيلاوي ومحمد سالم.
ولما كان عبده من أكمل الرجال عقلا ولا يخشى في الحق لومة لائم آلي على نفسه ألا يسترضي المحافظ؛ لأنه لم يرتكب ذنبًا يعاقب عليه، وقال لمحمد بك يكن أن لأعضاء العالة اليكنية قدمًا في الخير وفضلاً عليه فإنه يجد لزامًا عليه أن يخدمهم بغنائه في ليالي أفراحهم، وأزمع على الحضور خلسة في منتصف الليل، ورجاه أن يكتم هذا الخبر عن المحافظ الذي سيكون غالبًا بين المدعوين، وتم الاتفاق بينهما على ذلك، فعاد محمد يكن بك إلى داره وتركه محمد كامل الرقاق استعدادًا للشغل على تخت المنيلاوي كرقاق في تلك الليلة، فما كاد الحضور في السرداق يرى عبده قادمًا نحو منتصف الليل حتى دوى المكان بالتصفيق، وصعد مباشرة إلى تخت يوسف المنيلاوي، وبدأ يعزف على العود بدون أن يجسه أو يصلحه وغنَّى قائلا: يا ليل، فرأى محمد الرقاق وهو على التخت المحافظ يُبدي لعبده صفحته ويستعد لمغادرة مكانه، وما كاد يسمع «يا ليل» ثانيًا حتى طرب واستقرَّ في مكانه، فدوى المكان الفسيح بصوته الرخيم وانتقل من يا ليل إلى موال، ثم إلى بشرف، فدور على تخت يوسف الذي انضم إليه كل من محمد عثمان ومحمد سالم وخلب العقول بغنائه، وأضحى المحافظ يطفر من الطرب، وأخيرًا صعد إلى التخت وأخذ يقبل عبده مرارًا وتكرارًا ودموعه تتساقط على خديه، وطلب منه أن يتناسى ما كان منه، وتعانقا وتصافحا على مرأى من الناس، فكان ذلك منظرًا مؤثرًا في الحاضرين ودليلا ساطعًا على أن الموسيقى ترمي وظيفتها إلى إيجاد المحبة، وتهيئ أسباب السلام، وظهر في أثناء تلك الليلة ميل الجماهير المحتشدة إلى عبده، واعترافهم بالإجماع بعبقريته وزعامته على جميع المطربين.
قوة ابتكاره
وللمرحوم عبده قوة عظيمة في الابتكار والارتجال وقد فاجأ الحاضرين في ليلة عرس فخم لأحد الأعيان في الإسكندرية بتغيير دور «أد ما أحبك زعلان منك» (صبا) تلحين: محمد عثمان، وقلبه رأسًا على عقب فغناه في الحال على نغمة النهوند، ولأول مرة لدى سماعه محمد عثمان يلقيه في العرس نفسه فافتتن الحاضرون بما حباه الله من قوة الصوت والسلطان على المقامات والابتكار والتأليف فجأة بدون استعداد، وكان محمد عثمان في مقدمة من أعجبوا بقدرته الفائقة على هذا الابتكار، وجهر بخضوعه لعبقريته وزعامته، ولا أعتقد أنه إذا أخذ لحنًا من ألحان أي ملحن وغناه يعتبر غير قادر على التلحين، كلا وألف كلا ولو عكف على التلحين للحن ألف لحن، لكنه لضيق وقته كان يصرف معظم أوقاته في مجالسه الأمراء ومنادمة العظماء ومواساة الفقراء.
ومن الأمور المسلمة والقواعد الثابتة في علم الموسيقى أن الفضل يرجع إلى الملحن في تلحينه الدور، وإلى المطرب الناشر ذلك الدور على حد سواء، وليس للأول أن يستأثر وحده بهذا الفضل إذ لا فائدة تنجم له من تلحينه إذا لم ينشره المطرب مثل، عبده بما أوتيه من قوة صوت، وحسن إلقاء، وكثيرًا ما كان يأخذ الأخير عن ملحن كبير مثل: محمد عثمان أدوارًا يبدلها ويزخرفها بريشة رفائيل وينحتها بإزميل ميكلانج وينفخ فيها من روحه ويلحنها تلحينًا خاصًا بما أوتيه من صوت في إمراره بجميع المقامات مما يعجز عن الإتيان بمثله الملحن الأصلي، إما لضعف صوته، أو لسبب آخر، بمعنى أن ما لحنه الملحن مثلا كان ضمن حدود معينة بحسب صوته، وقضى في إبرازه مدة من الزمن خلافًا لعبده، فإن الآلات الوترية لا تجارية في علو الصوت، وأن ابتكاره وتفننه واسعان كالكون ولا حدّ لهما.
على أن التلاحين المنسوبة للملحنين لا يمكن الجزم بصحة نسبتها كلها إليهم ولو كانت مدونة بأسمائهم في بعض الكتب الموسيقية، إلا إذا كانت تلك التلاحين مسجلة تسجيلا رسميًا، لأن الملحن الذي يدّعي أنها من بنات أفكاره، وأنه هو الملحن الوحيد لها لا يجد أمام القضاء إذا دعت الحال إلى ذلك ما يثبت زعمه، خلافًا لما هو حاصل في بلاد الغرب فإن في خزائن أنديتها الموسيقية ومهارق معاهدها من مودعات تلاحين موسيقييهم في ملفَّات خاصة بكل واحد منهم ما لا ظل عليه للريب؛ لأنها مسجلة رسميًا، وثابتة ثبوتًا غير مأخوذ فيه بالظن والتكهن، أو من طريق المشاعر كما هو حادث في أنحاء الشرق.
ومن المحتمل أن يُنسب تلحين دور إلى مغنٍ أجاد في إلقائه دون أن يكون ملحنه، كما ينسب خطأ تلحين دور مُلحن على أعلى الطبقات إلى ملحن ذي صوت ضعيف.
وليست الشبهة من جهة نسبة التلاحين إلى الملحنين بوجه عام مقصورة على الأدوار بل على مقاماتها أحيانًا، مثال ذلك مذهب «ياما أنت واحشني وروحي فيك» تلحين: محمد عثمان فإن المقول عنه في كتب الموسيقى أنه بنغم الحجاز كار والصحيح أن نغمه «الشاه ناز» (دلال الملوك) وقد قام عبده بتغيير نصف تلحين المذهب، ومن هنا يُستنتج أن الفضل لا يجب أن يكون مقصورًا على الملحن وحده، بل الأوجب إتباعًا لشرعة الإنصاف والمساواة أن يجمع الفضل بين الملحن ومؤدي اللحن.
وأزيد على ذلك وأقول أن مذهب «كادني الهوى وصبحت عليل» تلحين: محمد عثمان، لكنه منسوب إلى عبده كما جاء بكتاب كامل الخلعي ص ١٥٠، وقد يكون ذلك خطأ، وهو من مقام النهوند قد غناه عبده وأبدع فيه ذات ليلة إبداعًا أدى إلى غشيان المرحوم عزت بك — أحد كبار موظفي المالية وقتئذٍ — وكان من أعاظم هواة الناي فنزل عبده من التخت وأخذ يؤاسيه وينشقه بالأرواح المنعشة ويدلك أطرافه إلى أن أفاق وشكر له رقة عواطفه، ولطيف إحساسه، وشدة تأثير الموسيقى في نفسه.
ثم صعد إلى التخت وأخذ يتمم الدور وما لبث أن وصل إلى عبارة «بالطبع أنا أميل يا اللي تلوم دا شيء بالعقل انظر كده واحكم بالعدل» رغبة أن يقفل النغمة بدلاله وتفننه حتى صاح أحد الحضور وقال يا ابن… الـ… إيه… فقام العظماء نحوه ليزجروه ويطردوه فقال لهم عبده وهو على التخت «سيبوه دا معذور كمان» ولم يستقروا في مجلسهم إلا بعد أن تحققوا صدق إعجابه بغنائه بعبارته العامية التي لم يقصد بها إساءته واعتبروها مدحًا في موضع الذم.
على أني أطلت في الكلام على هذا الباب إلى ما لعله أدى إلى سأم المطالع فأقف منه عند هذا القدر؛ إذ ليس من غرضي في هذا المقام الإحاطة بكل ما ألقاه عبده من أدوار صادرة عنه، ومذاهب ملحنة منه، بل الإشارة إلى أنه كان يلقى من أدوار الملحنين ما كان يستحسنه ويجده مطابقا لذوقه السليم، فضلاً عن أنه كان يغيرها في الحال على أحسن طراز ويقلبها جملةً ومفترقًا حسب إرادته، وقد دُعي مرة عبده ومحمد عثمان والمنيلاوي للغناء في عرس عظيم من عظماء البلد على تخت واحد، وقد شهدت بعيني رأسي وليس لأول مرة عبده رئيسًا ومحمد عثمان عوادًا والمنيلاوي مساعدًا بدون أن يجرأ على إتيان أي حركة أو نغمة انفراديًا فهو بلا مراء أسبق المطربين الذين لا يُشق غباره.
لطيف هزله وخفة روحه
وتطيبًا للقلوب أروي من فكاهاته المليحة ومضحكاته المهذبة ما يضحك الحزين، ويذهل الزاهد، فضلا عن أنه يبين جليًا أنه كان يمتاز عن سائر المطربين بالجاذبية الشخصية الوليدة فيه والتي تعتبر منحة طبيعية كمنحة الصوت وإليكم البيان:
دُعي ليغني في الإسكندرية بدار عين من أعيانها أقيم فيها سرادق فسيح زُين بأفخر الرياش، وفرشت أرضه بالأبسطة النفيسة، وكُلِّف حاجب على الباب بأن لا يدخل أحدًا من المدعوّين إلى السرادق غير حامل تذكرة الدعوة، ولما آن أوان الغناء وكان التخت على أتم استعداد دار البحث عن عبده فلم يوجد في الداخل، وأخيرًا عندما وصل صاحب العرس وحاشيته إلى نحو الباب سمعوا لجاجًا ولغطًا شديدين بين الحاجب وعبده، فشرح لهم الأخير أن سبب تأخره عن مباشرة الغناء نشأ عن أن الحاجب منعه من الدخول بحجة أنه لم يحمل تذكرة دعوة فحملوه على أكتافهم إلى أن جلس على أريكته الموسيقية فارتجل موّالاً وغناه وهو كما يأتي:
يذيق الفقير من مختاره
كان لرجل حمَّار يناهز السبعين امرأة فتانة المحاسن رشيقة القد، وكان يحبها إلى حد العبادة، ولما حملت منهُ وعدها وعدًا وثيقًا بأنه يأتي بعبده الحمولي ليغني إذا وضعت ذكرًا، وأردف وعده بالطلاق ثلاثًا، وولدت ولدًا ذكرًا فوجد نفسه أمام أمر واقع فاكتأب لوقوع الطلاق حتمًا إذا لم يغن عبده، وبعد أن قلّب الزوجان الرأي ظهرًا لبطن ذهب الحمّار إلى منزل الأخير يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وقصّ عليه الواقعة بحذافيرها؛ فرّق عبده لحاله ولبّى طلبه، وما كان منهُ حتى أرسل إلى داره فراشًا نصب أمامها سرادقًا يناسب المقام، وعهد إلى طباخ في إعداد ما لزم من مأكل ومشرب وغنى على تخته المشهور إلى أن شابت ناصية الليل كأنه مكافأة بأعلى أجر، ثم ما لبث أن نزل من التخت حتى أفرد منديلا بادر إلى أن وضع فيه مبلغًا من جيبه ومده للحاضرين فجمع خمسين جنيهًا دفع منها المصروفات العمومية على ما سبق الإيماء إليه، وناول الحمّار ما بقي منها ليصرف على زوجته في النفاس، وبذلك الصنيع الجميل خلصت زوجته من الطلاق، وأمست حليلةً له تقاسمه السعادة والهناء.
وإليكم ما جاء بمصباح الشرق: صادف عبده بعد السهرة في الطريق رجل لا يعرفه وقال إن ابنه مطلوب للخدمة العسكرية، وليس معه شيء من البدل ليعفيه منها، فأخرج من جيبه صرة الدراهم التي تقاضاها أجرة الليلة وأعطاها له. وبلغه أن أحد تجار طنطا وقع في ضيق يُخشى عليه فيه من الفضيحة؛ فجمع ما لديه من الدراهم وأعطاه خمسماية جنيه ليستعين بها في عسرته ويحفظ صيته في تجارته.
ودُعي للاحتفال بليلة خيرية في مدينة سوهاج بأجر قدره ثمانون جنيهًا، ولما رأى القوم يتبرعون بالمال وثب من فوق التخت ووقف في وسطهم قائلا لأعضاء الجمعية «ولِم تحرمونني التبرع مثلكم؟ وتنازل عن الثمانين جنيهًا» ا.هـ.