«ساكنة» أستاذة «ألمظ»
لما كانت المرحوم (ساكنة) أقدم المغنيات (العوالم) عهدًا رأيت لزامًا عليّ أن أتكلم عليها أولاً في هذا الباب الذي أفردته لعبده وألمظ؛ لشدة ارتباطها بالموضوع من حيث «ألمظ» التي أخذت عنها فن الغناء، وقد توخيت دقيق الاستقصاء من الذين عاصروها، وتلمست الأخبار اختطافًا وتذريعًا فأقول بالإيجاز: إن «ساكنة» هي أول مطربة ظهرت في مصر في عهد عباس الأول، حيث بزغ نجم سعدها في سماء الغناء وزاد ضياءً حتى عهد ساكن الجنان سعيد باشا والي مصر، وكانت متصفة بحسن الصوت الذي كانت ترسله إرسالاً بدون عناء، فيبلغ صداه الرائح والفادي، والبعيد والقريب، وقد أعجب بها التُرك الذين كانوا مقيمين في مصر ولقبها العامة بلقب «بك»، وكان لها مزاح يضحك الحزين، ويفرح قلب العابد؛ لما انطوت عليه من تهذيب لسان، وخفة روح، وقوة البديهة، وسرعة الخاطر، وكان المزاح في ليالي الأفراح عادة مألوفة في مصر حتى في عصر عبده الحمولي الذي كان فيه يُحتم على صاحب العرس أن يستحضر مُضْحِكَيْن ينزلان إلى ميدان المضاحكة بين كل وصلة غناء وأخرى تخلصًا من الملل في أثناء انتظار تصليح الآلات وطلبًا للرَوْح (بالفتح).
واستمرت «ساكنة» تتمتع بحسن الأحدوثة في غنائها إلى أن ظهر في أفق مصر هلال «ألمظ» فأخذ ينمو ويكبر حتى أضحى قمرًا منيرًا، ولما سمعت «ساكنة» صوتها الرخيم العذب أخذت تتجاهلها، ولكنها لم تستطع صد تيار نجاحها القوي، ومنع إقبال الناس عليها؛ فرأت تفاديًا من المنافسة غير المنتجة أن تضمها إلى فرقتها فتكون فيها تابعة لها وتحت إشراف بدون أن تستطيع أن تُزري بصيتها أو تُنزل من رتبتها، فمكثت معها «ألمظ» مدة تدّربت فيها على فن الغناء فحذقته لكن «ساكنة» قد حقدت عليها لعظم وقع غنائها عند الناس، وهي ضمن فرقتها وأخذت تسيئ الظن بها حتى تركتها، وألَّفَت لها فرقة خاصة، وأحرزت خطر السبق، وقضت على صيتها قضاءً مبرمًا، ومن ذلك الحين بدأ نجم «ساكنة» بالأفول، وأخذ الدهر يقلب لها ظهر المجن إلى أن وافاها الحِمام بعد أن بلغت سن الشيخوخة، وذلك في عهد المغفور له الخديو إسماعيل.
أما «ألمظ» فاسمها الحقيقي «سكينة»، واسمها الفني «ألمظ» وهو تحريف الماس تشبهًا بماله من بهاء ورونق ولمعان، وإشارة إلى ما لها من صوت رخيم رنان وجاذبية. أما صناعة والدها، فقد تضاربت آراء الرواة عنها وتباينت أقوالهم فيها. فمنهم من ذهب إلى أنه بنَّاء، لأنها كانت تحمل قارب المونة على رأسها لتقدمه للبنائين وهي تغني في مقدمة زمرة من الفتيات العاملات معها، ومنهم من قال إنه صبَّاغ، وقد ظهر أن الزعم الأخير هو الأصح، وظلت طريقة الغناء شائعة في مصر في الوجهين القبلي والبحري حتى الآن، وهي تجلب الجذل وتبعث على النشاط في أثناء العمل، وتطلق النفس من عقال السأم.
ومصداقًا لما تنتجه الموسيقى من التأثير في العمل أشير إلى قصة أنفيون جوبيتر الذي بنى أسوار (طيبة) بينما كان يعزف على قيثارته على حد ما قاله الدكتور كلارك من أن ذلك لم يكن خرافة.
على أن صوت يوسف المنيلاوي على ما شهد به المرحوم: محمد المسلوب الكبير لم يكن إلا شيئًا ضئيلاً إذا قيس بصوت «ألمظ»، بالرغم من عذوبته ولينه ورنينه، وقد صدق واجنر الموسيقي الشاعر فيما قال وهو أن الموسيقى مؤنثة وكانت امرأة.
أما عبده فهو أسبق المطربين لا يشق غباره ويفوقها في غريب تصرفه وعظيم تفننه في ضروب الغناء وقوة التأثير في النفوس بما أوتى من روح فتان وإلهام طبيعي، وكثيرًا ما كان يجمعها عرس واحد بمعنى أنه كان يغني للرجال في «السلاملك»، وكانت تغني للهوانم في الشرفة «الشكمة» (لفظة تركية) على مسمع من الحريم والرجال معًا. وكان أحمد الليثي يصور نغماتها وهو في السلاملك على التخت، فكان يعلي العود كلما غنت عاليًا حتى أنه لما عجز في آخر الأمر عن مجاراتها في تصوير نغمات صوتها المحلق في الفضاء، قطع أوصال العود، وصرخ قائلا «مين ينكر صوتك يا ست». جرى ذلك في عرس فخم لعظيم بدرب الجماميز أقيم فيه أربعة تخوت، ولم يكن عبده حاضرًا لتغيبه بالإسكندرية، نقلاً عن رواية حضرة مخائيل بك تادرس صديقه الأمين، وهو أوفى من عوف لِما رأيت فيه من الولاء الشديد لعبده والترحم عليه، وقد آلى مثلي ألا يرضى عن غنائه بديلا.
أما «ألمظ» فقد حاربت عبده ردحًا من الزمن، ونافسته في صناعة الغناء لكنه تفوق عليها.
ألمظ مزاحة ظريفة
ومن المدهش أنها كانت ذات شخصية جذابة وكثيرة الميل إلى المداعبة في كل وقت لا سيما في أثناء الغناء. ومن مستملح الفكاهات أروي أنها ارتجلت دورًا غنته له قصدًا لأول مرة رأته في عرس بناحية الجيزة بعد أن اجتاز النيل على «المعدية» وهو بالمنيل (لعدم وجود «كباري» في ذلك الزمن) بقصد أن يسمعها. فقالت فيه ضمنًا:
وقد غنته موالاً آخر في عرس فخم جمعها وإياه وهو على تخته المشهور وهو كما يأتي:
فما كان من عبده إلا أن هدرت شقاشق ارتجاله وغنى الموال الآتي:
مما دل على أن الله فجّر ينابيع الذكاء والبديهة على لسانه وحباه بلطيف الحس وسرعة الخاطر وسامي الشعور. وقد اتفق لي أن عثرت في أثناء المطالعة على ما يشابه ذلك مبنىً ومعنىً وهو أن شاعرة من شواعر الإنكليز أهدت إلى زوجها ديوانًا من الشعر الذي نظمته ذكرت في افتتاحيته الأبيات الآتية التي أجترئ على إيرادها بنصها خشية ضياع طلاوتها إذا عرّبت وهي كالآتي:
ومن أدوارها التي امتازت بها وتداولتها الألسن أذكر ما يأتي:
وذلك فضلا عن أنها كانت تغني أدوار عبده وكانت تقتصر في الليالي التي تغني فيها على دورين اثنين فقط تلبية لطلبات الجماهير الذين ينزعون عن سماع غيرهما لتفننها في النغمات وقت التكرار، وقد روى لي الأستاذ: محمد الشربيني ما يأتي:
جمع قبل الزواج عبده وألمظ عرس فخم بدار وجيه، فبدأ عبده فاصلاً غنائيًا خلب عقول الحضور من تلامذة المدارس العليا والحربية وهواة ومحترفين. ولما انتهى منه قام عمران مطيب «ألمظ» يتمايل كعزة الميلاء بملابسه الغالية، والخواتم بأصابعه، والكتينة والساعة الذهب على صدره، وأخذ يخطب الجماهير كعادته المألوفة خطبة بمثابة مقدمة وقال «قولي لنا يا ست «ألمظ»الدور الفلاني» وسماه حسب طلب الحضور، فأجابته وقالت «رايحه أقول إيه بعد إللي قاله سي عبده» فردَّ عليها وقال: قولي إللي تقوليه. قولي يا فجل أخضر. فما لبثت تفكر في ذلك مدة دقيقتين حتى رتبت للفجل دورًا غنته ونال الاستحسان العام وكان مسك الختام، ومن مزاياها أنها كانت تغني أحيانا في سراي الخديو إسماعيل في حضرة حرمه المصون وهي تلعب النرد معه، مع رفع التكليف أو تلوح منديلاً بيدها بدون أن تتحمل من تصعيد غنائها أو تعاني فيه جهدًا على حد ما كان يطلق عبده صوته في الفضاء متجاوزًا مطارح النسر، وهو يلعب بحبات السبحة الكهرمان أو العنبر التي كان يفركها بكلتا يديه ويشم رائحتها، وكان لنغماتها الرنانة ما يذبذب في آذان سامعيها مدةً من الزمن، كما كان لصوتها من صدى يتكرر حدوثه بنفسه عدة مرات في السراي حين الغناء، ويكون سببه وجود سطحين متآزيين على جانبي الصوت، يرد كل منهما صداه إلى الآخر كما يكون مثل ذلك في المرئيات عند تقابل مرآتين متآزيين.
وكانت قمحية اللون واسعة العينين كثيفة الحاجبين مسحاء الثدي، وكان لها من عذوبة المنطق وجمال العقل والقلب ما يجعل لها أسمى موضع من النفوس، إذ أن جمال العقل والقلب سرمدي، وهو لأفضل من جمال الجسم الباطل الذي عرفه الفلاسفة وعلماء النفس ببَغِي قصير الأمد وغدر صامت وأذىً لاذّ فلأجل ذلك أحبها عبده حبا انطوت تحته نغمة من نغمات حب الوالدات وحنانها على الفطيم (وشبيه الشكل منجذب إليه) ومنعها من الغناء منعا باتا بعد أن تزوجها، وكان تخته ليلة زفافها إليه مؤلفا من أكابر العازفين أمثال: أحمد الليثي العواد، والجمركشي، وإبراهيم سهلون الكماني، ومحمد خطاب شيخ الآلاتية. وأبدع عبده في الغناء إبداعا أخذ بمجامع القلوب، وكان مدلوله دمعة الباكي، وقبلة العابد، وتعزية الحزين، وهادي المسافر، ورسول السلام، ومنعش المكتئب، ومحمس الجبان، ولا أبالغ إذا وصفت غناءه في هذا المقام كبستان فيه الزهور والورود والرياحين يفوح شذاها على الحاضرين، أو كمعرض تعرض فيه جميع النغمات الموسيقية التي خلقها الله وحصرها في صوت الإنسان حتى أضحى في الشرق مهوى الأفئذة وبهجة الناظرين.
وقد روى لي الأستاذ محمد الشربيني أن الخديو إسماعيل كان يأنف من عادات العامة في العويل والصراخ وراء الميت، ويتشآم من ذلك؛ فأصدر أمره الكريم بألا تمر الجنازات بساحة عابدين، ولما سمع بوفاة «ألمظ» رخص لآلها بأن يمر جثمانها منها، ولدى وصوله أطل من الشرفة بالسراي وترحَّم عليها مكبِّرًا موسيقاها العربية، وكان ساكن الجنان الخديو إسماعيل ولعًا بالموسيقى العربية؛ فعين للمرحوم عبده ١٥ جنيهًا مرتبًا شهريًا، ولكل من «ألمظ» وأحمد الليثي وإبراهيم سهلون ومحمد خطاب ١٠ جنيهات، واستمروا يتقاضون هذه الرواتب بعد تولي الخديو توفيق الأريكة الخديوية، وانقطعت في عهد الخديو عباس. أما ساكن الجنان السلطان حسين فكان ولعًا بالموسيقى العربية (وهذا الشبل من ذاك الأسد) إلى أبعد مدى بدليل أنه استدعى قبل وفاته بأربعين يومًا تختًا مصريًا مكونًا من الأساتذة: محمد العقاد القانونجي، وسامي الشوا أمير الكمان، وعلى عبد الباري المطرب، وحسنين العواد، والبرزي العازف على الناي، فغنوه غناء عربيًا ذا صبغة شرقية وروح مصرية، انفسح له صدره فأجزل لهم العطاء وأكرمهم إكرام إسماعيل أبي الأشبال، وصاح عند انصرافهم قائلا لهم اطلبوا إلى الله أن يطيل في عمري ليتسنى لي القيام بإحياء الموسيقى العربية وتجديد شبابها وإعادة مجدها الأثيل، ولم تعقب «ألمظ» نسلاً بل تركت لزوجها الحسرة على فقدها. كما أنها تركت له جواهر ونقودًا ومفروشات وشالات كشمير زيَّن بها رياشًا لعدة غرف وبهو وردهة منزله وستائر إلخ ومنزلاً بدرب سعادة باعه قبل سفره إلى أوربا للاستشفاء، وقد غنى عقب وفاتها المذهب الآتي على نغمة العشاق:
(دور)
ولما كان هذا المذهب وهذا الدور مدونين بالنوتة عن عبده بالمعهد الملكي بمعرفة الأستاذ: داود حسني لم يا تُرى لم يتلقنه الطلبة فيه احتفاظا بسحر الموسيقى الشرقية، وتوجد غيرهما أدوار له ولمحمد عثمان وإبراهيم القباني، فما فائدة تدوينها الذي صُرف عليه مبلغ طائل وهي من مودعات الخزائن؟