الفصل الأول١
أيها السادة
سيكون حديثي في هذه السلسلة عن أدبنا الحديث، ما له وما عليه، وهذا الموضوع في ظاهره يسيرٌ جدًّا، ولكنه كغيره من موضوعات تاريخ الأدب عسير في حقيقة الأمر؛ فتاريخ الأدب ليس من السهولة بحيث يسرد، وإنما هو في حاجةٍ إلى كثيرٍ من البحث وكثير من الاستقصاء ثم بعد ذلك إلى كثيرٍ من الروية والتفكير، وسأحاول ما استطعت أن يكون الحديث يسيرًا قريبًا لا تكلف فيه ولا عناء للسامعين.
وقد أظلنا هذا القرن الذي نعيش فيه وفي مصر أصوات أدبية قد ارتفعت بفنونٍ مختلفة من الأدب، فيها كثيرٌ جدًّا من الروعة، وفيها كثيرٌ جدًّا من الحق، وفيها كثيرٌ جدًّا من الإصلاح. وهذه الأصوات هي التي بلغت أسماعنا حينما كنا نخرج من طور الصبا وندخل في طور الشباب.
في أول هذا القرن كان هناك صوت البارودي لم يخفت بعد، وكان هناك صوت حافظ وصوت شوقي في الشعر، وكان هناك صوت الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول — رحمهم الله. كانت هذه الأصوات وأصوات أخرى غيرها، تصل إلى أسماعنا وإلى عقولنا فتنبهنا، تنبهنا إلى أشياءَ كثيرة بعضها لم نكن نقدره، ولا نحسب له حسابًا قبل أن نسمع هذه الأصوات؛ فالإصلاح الديني الذي كان يدعو إليه محمد عبده، والإصلاح الاجتماعي الذي كان يدعو إليه قاسم أمين، والإصلاح الاجتماعي والعقلي الذي كان يتحدث فيه إلينا أحمد لطفي السيد، كل هذا كان شيئًا غريبًا بالقياس إلينا نحن الذين لم نكن قد بلغنا أو قد تقدمنا في شبابنا بعد.
وكان بعض هذه الأصوات يصور لنا أشياء تأتينا من أعماق تاريخنا العربي الخالص كصوت محمد عبده، الذي كان يتحدث عن الدين، ويفسر القرآن، ويدرس في الأزهر كتبًا قديمة في البلاغة وفي البيان وفي المعاني؛ فهذه كلها كانت أشياء تأتي من أعماق تاريخنا العربي الديني والأدبي جميعًا، وكان صوت قاسم أمين يأتينا مصورًا لنا أشياء عبرت إلينا البحر، وجاءتنا من أعماق البلاد الغربية؛ فأحاديثه عن تحرير المرأة وعن تعليمها — على أنه من الأشياء التي عرفها العرب وعرفها المسلمون من قبل — ما كان قاسم أمين ليتحدث بها لو لم يكن قد تخرج في إحدى الجامعات الفرنسية، ورأى الحياة الفرنسية وعرف حقائقها وتعمق بعض نواحيها، وأحاديث الجلاء التي كان يدعو إليها مصطفى كامل، وأحاديث الدستور والاستقلال الخالص الذي لا يشوبه الخضوع للعثمانيين، هذا الاستقلال الذي كان يدعو إليه أحمد لطفي السيد؛ كل هذا كان ينبهنا ويشعرنا بأن الحياة التي نستقبلها فيها كثير من الأمل، وتحتاج إلى كثيرٍ من العمل لتحقيق هذه الآمال التي كانت تصورها أحاديث هؤلاء السادة جميعًا، وكل هؤلاء السادة كانوا قد بلغوا الشباب، وتقدموا فيه قبل أن يبدأ هذا القرن، أدركناهم نحن وهم رجال دعاة إلى دعوة الإصلاح على اختلاف فروعه؛ فليس غريبًا أن يكون هؤلاء هم أساتذة الجيل الذي بلغ أواخر الصبا وأوائل الشباب في مطلع هذا القرن، وليس غريبًا أن تكون الدعوات التي كانوا يدعونها ويحرصون عليها، ليس غريبًا أن تكون هذه الدعوات قد كونت خاصة نفوس فتيان هذا الجيل، وكونتها تكوينًا حيًّا قويًّا، يستطيع أن يقاوم أولًا وأن يقهر آخر الأمر، ما كان هؤلاء الفتيان قد ورثوه عن أسرهم وعن بيئاتهم من هذه المحافظة القديمة، التي لم تكن تلائم ما كان هؤلاء الأساتذة يدعون إليه من النهضة في هذا العصر الحديث.
وإذا ذكرنا أن كثيرًا منا كانوا يتأثرون في حياتهم الدراسية إما بالأزهر الشريف وإما بالمدارس التي كان يسيطر الإنجليز عليها، عرفنا أن هذه الأصوات إنما كانت تدعو إلى الحرية، وتدعو إلى الحرية، لا إلى الحرية السياسية وحدها، ولكن إلى الحرية بمعناها الواسع العميق؛ إلى تحرر النفس الإنسانية من كل تلك الأثقال التي كانت تلصقها بالقديم وتمنعها من أن تمضي إلى الأمام.
فلا غرابة في أن ينشأ من تلاميذ ذلك الجيل، الذي نشأ في القرن الماضي ونشر دعوته في أواخر ذلك القرن وفي أوائل هذا القرن، لا غرابة في أن ينشأ جيلٌ جديد يدعو إلى دعوةٍ تلقاها من هؤلاء الناس، ثم يزيد على ما تلقاه من هؤلاء السادة ما يكسبه هو بتجاربه الجديدة وبما يعرض له من الأحداث، وبما يتاح له من أنواع الدرس والبحث والاطلاع.
وكذلك نشأ في أول هذا القرن جيل خاص كان ينظر إلى تلك الأصوات التي كانت تأتيه من القرن الماضي نظرتين مختلفتين: ينظر إلى أصوات هؤلاء السادة الذين سميتهم إلى أشباه لهم نظرة فيها كثير من الإعجاب، وهي نظرة التلميذ المخلص لأستاذه البار، وكان ينظر في شيءٍ لا أقول من الإهمال أو الاستهانة، ولكن أقول في شيءٍ من النقد؛ إلى أصواتٍ أخرى لم تكن قد جدَّدت شيئًا، ولم تكن تدعو إلى شيءٍ ذي بال، وإنما كانت تحتفظ بالتراث القديم؛ لا بالتراث القديم الحي الذي كنا نحبه وتهفو إليه نفوسنا، وإنما بهذا التراث القديم الجديد الذي كنا نراه سمجًا باليًا أشد السماجة وأشنع البلى؛ وهو تاريخ العصر العثماني، وما كان في هذا التاريخ من ألوان الضعف والخمول والانحطاط.
لا غرابة إذن في أن نكون قد نشأنا بين هاتين العاطفتين أو بين هذين النوعين من الشعور؛ شعور السخط على ماضٍ قريب، والحب لماضٍ قديم من جهةٍ أخرى، وشعور التطلع لمستقبل جديد كنا نتوق إليه ونطمع فيه ونود لو نستزيد العمل لتحقيقه ما استطعنا إلى الاستزادة سبيلًا.