الفصل العاشر
لن أجمع عليكم أيها السادة بين الثقل والطول، فالحديث الذي أريد أن أسوقه إليكم الآن لا يخلو من ثقلٍ ثقيل؛ لأنه عن فن من أغرب فنون الشعر العربي؛ وهو فن الرجز.
وهذا الفن كما ذكر في برنامج هذه الجلسة قد تطور بأعين التاريخ؛ أريد أن التاريخ المعروف الذي نستطيع أن نتتبعه وأن نستقصيه، قد رأى تطور هذا الفن كيف تقدم وكيف ارتقى حتى بلغ أوجه، وكيف تأخر شيئًا فشيئًا حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن، على حين أن غيره من أنواع الشعر قد فاتتنا أوليته فلم نعرف كيف نشأ، وإنما صادفناه في أواخر العصر الجاهلي وأول العصر الإسلامي كاملًا مستتمًّا.
والذي نعرفه عن الرجز أنه في العصر الجاهلي كان فنًّا من فنون الشعر الشعبي، لا يحفل له الشعراء، ولا يقفون عنده ولا يلتفتون إليه، وإنما كان شيئًا أشبه بالزجل، أو بهذه المواويل التي يتغنى بها العمال حين يعملون ويتغنى بها حملة الأثقال والدافعون لما يشق دفعه. وقلما كان الجاهليون يصطنعون الرجز حين كانوا يقدمون على الحرب، وإنما كانوا يصطنعون نوعًا آخر من الشعر هو الهزج.
وربما كان من الأمثلة التي تصور الرجز في العمل والعمال وحمل الأثقال واحتمال الجهود، هذه القطعة الصغيرة التي كان المسلمون ينشدونها وهم يحتفرون الخندق في غزوة الأحزاب، والتي يروي ابن سعد وغيره من أصحاب السيرة أن النبي — عليه الصلاة والسلام — كان ينشدها وهو يحمل الأحجار، وقد رفع ثوبه حتى بان بياض بطنه:
ويختلف العلماء القدماء في قيمة الرجز؛ فيرى بعضهم أنه ليس شعرًا، ويستدلون على ذلك بأن النبي أنشده، وفي القرآن: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ.
فإنشاد النبي للرجز دليل عندهم على أن الرجز ليس شعرًا، ويذكرون أن النبي — عليه الصلاة والسلام — أنشد مرة أخرى:
وغيرهم يرى أن الرجز فن من فنون الشعر، والنبي — عليه الصلاة والسلام — لم يعلَّم الشعر، ومعنى لم يعلم الشعر أنه لم يعلم قول الشعر وإنشاءه، فأما أن ينشد البيت أو البيتين، فليس بعد هذا تعليمًا ولا قولًا للشعر.
مهما يكن من شيء فقد كان الشعراء في العصر القديم يحتقرون الرجز ويزدرونه، وظل الشعراء كذلك في العصر الإسلامي يحتقرونه ويزدرونه، ولكنَّ بين النوعين من الاحتقار فرقًا.
فالشعراء الجاهليون يزردون الرجز؛ لأنه لم يكن من الفنون التي ارتقت، بحيث تصور الفن العالي كما نزدري نحن الآن بعض الشعر الشعبي. والإسلاميون يزدرونه؛ لأنهم كانوا يغارون من الرجاز ويرونهم منافسين لهم، زاحموهم فزحموهم في كثيرٍ من الأحيان.
وقد عني النقاد بالرجز عناية خاصة، فإذا كان الشعر العربي متن اللغة فيمكن أن يقال إن الرجز كنز اللغة العربية، وهم من أجل ذلك عنوا بالرجز ليسجلوا اللغة العربية كما جاءت فيه، وظلوا يعرضون عنه ويزدرونه؛ لأن وزنه أيسر من أوزان البحور الأخرى؛ ولذلك قالوا: إن الرجز حمار الشعراء.
وكان أبو العلاء في رسالة الغفران يزدري الرجز، ويحمل ابن القارح على أن يزدري الرجز أيضًا عندما مر بجنة الرجاز فوجدها ضئيلة متواضعة ليست كجنة الشعراء. وكانت بينه وبين رؤبة خصومة في قيمة الرجز، فابن القارح يغض منه ورؤبة يرفع من شأنه؛ لأن اللغويين يستشهدون به، وليس ذلك عند ابن القارح بالشيء ذي الخطر.
الذي يعنيني من حديث الرجز، ويدفعني إلى أن أتحدث إليكم عنه، هو أن هذا البحر الذي لم يكد ينمو إلا في أول العصر الإسلامي، قد أتاح للشعر العربي فنونًا من القول لم تُتَحْ لغيره من بحور الشعر.
وكلكم يعلم بالطبع أن الرجز إنما طول في عصر النبوة أو بعبارةٍ أدق في عصر الخلفاء الراشدين، وربما كان أول من طول الرجز هو الأغلب العجلي، ثم يمضي الأمر على ذلك حتى يظهر الرجاز الذين طولوا إلى حيث لم يستطع الشعراء أن يبلغوا من الإطالة.
يقال إن الرجز فن سهل؛ لأن وزنه بسيط: مستفعلن مستفعلن مستفعلن، ولكنكم تلاحظون أن الرجز إذا سهل وزنه شقت قافيته؛ فالشاعر من شعراء القصيد يلتزم القافية في القصيدة، بحيث يكون لكل بيت قافية على حين يلتزم الراجز قافية لكل شطر، فإذا قال طرفة فقصيدة تبلغ مائة بيت فلها مائة قافية، وإذا قال رؤبة أرجوزة تعدل هذه القصيدة في الطول فلها مائتا قافية، ويكفي أن تلاحظوا أن أرجوزة رؤبة:
قد زادت على ستين ومائة قافية، فبلغت تسعًا وتسعين ومائة، وللعجاج أراجيز زادت على المائتين.
هذا الفن الذي كان في أول أمره مهملًا يسيرًا، لا يصور من حياة العرب إلا أيسر نواحيها الشعبية، قد ذهب به أصحابه في صدر الإسلام مذهب الشعراء، وكان أول ذلك عنايتهم بالوصف الذي هو أهم ما كان يعنى به أصحاب القصيد.
فهناك رجاز كادوا يقصرون فنَّهم على وصف الطبيعة وما فيها من الصحراء والجبال والماء والنبات والحيوان والسماء والنجوم، وقد طولوا في ذلك تطويلًا لا عهد لأصحاب القصيد به، بحيث نستطيع إذا التمسنا شعر الطبيعة الخالص أن نجده عند الرجاز أولًا وأصحاب القصيد بعد ذلك.
وقد ذكرت لكم أرجوزة رؤبة المشهورة — وقاتم الأعماق خاوي المخترق — وحسبي أن ألخص لكم هذه الأرجوزة في كلمات لتعرفوا أن رؤبة لم يقصد فيها إلا الطبيعة وحدها.
فهو يبدؤها بوصف الطريق البعيد الذي ترامت أطرافه واشتبهت أعلامه، والذي يقطعه بناقته، وناقته هذه يصفها وصفًا موجزًا، ولكنه ينتقل منه إلى تشبيهها بحمار الوحش، فإذا وصل إلى حمار الوحش قص لنا قصته، كما تعود أصحاب القصيد في العصر الجاهلي أن يقصوها في كثيرٍ من التدقيق في وصف الحمار وزوجاته الثماني، ووصف عددهم واستمتاعهن بالربيع والتجائهن للغابة في الشتاء، ووصف الصائد الذي استخفى قوسه ونباله، وما أصاب من هذه الحمر وما فر منها. والظريف أن رؤبة نسي ناقته، وشغل عنها بالحمار وزوجاته، وانتهت أرجوزته دون أن يعود إلى هذه الناقة.
ثم لم يكتف الرجاز بوصف الطبيعة على نحو ما كان الشعراء يصفونها، وإنما جعلوا هذا الوصف أساسًا لفنهم، وهم ينافسون الشعراء كما قلنا، والشعراء في العصر الأموي قد غلوا غلوًّا شديدًا في المدح والهجاء، فلم لا يمدح الرجاز ويهجون كما كان يمدح أصحاب القصيد ويهجون؟ وهم من أجل ذلك مدحوا كالفرزدق وجرير، وهجوا كالفرزدق وجرير أيضًا، ولكنا نلاحظ أنهم في ذلك لم يوفقوا؛ فقد غلبت عليهم الطبيعة، فكانوا في المدح أطفالًا، وربما قصد الراجز إلى مدح أمير فيشغله وصف الطبيعة حتى إذا بلغ ما أراد، ذكر الممدوح في أبياتٍ قليلة ربما لم تتجاوز أربعة أبيات، وقد يبدأ أرجوزته ويطيل في وصف الطبيعة، ثم يخطر له أنه أنشأها للمدح فيعود، ولكنه لا يكاد يمضي في مدحه حتى يعود للطبيعة، وينسى المدح والممدوح ويعود إلى ما كان فيه.
فأما الهجاء فلم يصنع الرجز فيه شيئًا منذ ارتقى، وإنما برع فيه حين كان فنًّا شعبيًّا، وكلكم يذكر أمر هذه المرأة التي رجزت بالفرزدق حتى أخافته، ولم تكن من المشهورات وإنما كانت من عامة الشعب.
وصف الطبيعة الذي عني به الرجاز، وتفوقوا فيه تفوقًا رائعًا حتى جعلوه لونًا من أجمل ألوان الأدب العربي، لم يستطع الشعراء أن يبلغوه؛ تطور في آخر العصر الأموي تطورًا خطيرًا من وجهين: أحدهما أنه أمعن في عنايته بالطبيعة حتى اختص بفن الصيد والطرد، وحتى كان الشعراء في العصر العباسي إذا وصفوا خروج الخلفاء والأمراء والوزراء للصيد لم يصفوا ذلك إلا رجزًا، وكلكم يعرف أرجوزة أبي نواس:
إلى آخر الأرجوزة.
وظل الرجز لغة الصيد إلى آخر العصر الذهبي للأدب؛ أي آخر القرن الرابع في شعر المتنبي ومعاصريه. والوجه الثاني لتطور الرجز أنه أصبح لسان فنٍّ جديد من فنون الشعر في الأدب العربي لم يكن معروفًا في العصر الجاهلي والإسلامي، وإنما جاء مع العصر العباسي، عصر العلم والتعليم والمعرفة، وهو الشعر التعليمي الذي لم يقصد به إلا نظم الحقائق العلمية الخالصة، بحيث يسهل حفظها على الطلاب والمتعلمين.
هذا الفن عرف في أول العصر العباسي، ونظمت فيه أثناء هذا العصر فنون الحكمة أولًا كما نراها في ديوان أبي العتاهية، وفي نظم كتاب كليلة ودمنة لأبان بن عبد الحميد:
وأبان بن عبد الحميد قد تجاوز بهذا الفن نظم الحكمة ونظم القصيدة في أحكام الصوم، وقصيدة أخرى في أحكام الحب والغرام، ومضى هذا الفن من الرجز لسانًا للغة العلم والتعليم منذ أوائل العصر العباسي، وفي جميع الأقطار الإسلامية؛ حتى أصبح لغة المدارس عندما نظمت في العصور الوسطى، وكلنا يحفظ الألفية:
وكلنا قد حفظ الجوهرة والخريدة وما إليهما من متون العلم، وأكثرها قد نظم رجزًا فترون أن هذا الفن كان سهلًا من جهة لقصره ويسر وزنه، وهو لذلك قد اصطنع لسانًا للعلم والتعليم من عهد أبي العتاهية إلى الشيخ الدرديري، وكان عسيرًا كل العسر من حيث إن أصحابه قد تشددوا في القافية، وفرضوا على أنفسهم اصطناع الغريب في النظم، وكرهوا أن يصطنعوا الألفاظ اليسيرة كما كان الشعراء من أصحاب القصيدة يفعلون، فأصبح الرجز كنزًا للغة بأدق معاني هذه الكلمة.
ولكن المهم هو أن هؤلاء الرجاز في العصر الأموي عندما اصطنعوا الغريب، وأسرفوا في اصطناعه أتاحوا لأنفسهم ألوانًا من تمرين اللغة وتيسيرها وإخضاعها لحاجاتهم، قلما أتاحها الشعراء لأنفسهم.
فالراجز يصطنع اللفظ ولا يتردد في أن يشتق منه ألوانًا من الاشتقاق لا يحفل بأن تكون هذه الألوان مألوفة أو غير مألوفة؛ لأنه يشعر بأنه صاحب اللغة يصرفها كما يريد، وليس عليه بأس أن يخرج بتصريفها عما ألف الناس من حوله، وعما ألف الشعراء وألف اللغويون الذين كانوا يسمعون منه ويحصون عليه. وإذا رأينا الأصمعي يسجل أغلاطًا لرؤبة والعجاج ولغير رؤبة والعجاج، فالشيء الذي لا شك فيه هو أن رؤبة والعجاج لم يحفلا بما كان يسجل عليهما من الخطأ والغلط، وإنما كانا يقصدان إلى ذلك قصدًا، ويعمدان إليه عمدًا، ويريان أن اللغة ملكهما لا أنهما ملك للغة.
ومن أجل ذلك همَّ بعض العلماء كيونس بن حبيب أن يجادل رؤبة في بعض ألفاظه، فرماه بحجر وقال: علينا أن نقول وعليكم أن تعربوا.
إذا ذكرت هذا كله فإنما قصدت به إلى شيئين؛ الأول: أن أبعد بكم دقائق قليلة عن الحياة الحاضرة المعاصرة، وعما فيها من المشاغل، حتى مشاغل المجمع اللغوي، وأن أرتفع بكم إلى شيءٍ غير نافع، فقد يقال إن من أخص ما يختص به الأدب والفلسفة، أنهما يرفعان الإنسان عما يقرب نفعه إلى أشياءَ ليس لها من المنفعة إلا مجرد المعرفة، وملاحظة الحقائق التي تغذو العقل والذهن.
فإذا كنت قصدت إلى هذا الفن الغريب، فإنما أردت أن ألفتكم عما تحدث به إليكم زميلنا الدكتور منصور عن أعمال المجمع، ووضع الاصطلاحات وتحقيقها وكل هذه الأعباء الثقال، وعما تحدث به معالي وزير المعارف عن واجبات المجمع من تسجيل وابتكار، إلى آخر كل هذه الحقائق التي نُعنى بها في حياتنا اليومية، ونجد الحاجة إلى أن نسلوها وننساها ولو دقائق قليلة. والثاني: أني لعلي لم أقصد إلى مجرد التسلية، وإنما قصدت بالحديث عن هذا الرجز إلى أن ألفت زملاءنا من أعضاء المجمع إلى أن هؤلاء الرجاز كانوا يملكون اللغة، ويتصرفون فيها ويأبون أن يكونوا عبيدًا لها، ويحرصون على أن تكون خادمة لهم، وأنهم قد استطاعوا أن يستخلصوا من هذه اللغة أشياء لا تكاد تخطر لنا ببال.
فنحن لا نقرأ هذا الرجز، ولو قرأناه لرأينا العجب فيه من تصريف اللغة وتسخيرها لإرادة الراجز.
والرجز مظلوم منذ أبعد العهود حين وصف بأنه حمار الشعراء، ووصف بهذا عن جهلٍ لا عن علمٍ؛ فأكثر الذين عابوه لم يقرءوه، ويكفي أن أذكر لكم ما يروون عن بعض كبار العلماء من أن يونس بن حبيب أثنى على العجاج حين قال:
فقال: إن هذه القصيدة من أروع الشعر، وإن العجاج أشعر الناس؛ لأنه وضعها مقيدة القافية، ولو أطلقت لانفتحت قوافيها جميعًا. ومع الأسف الشديد ليست هذه الملاحظة صحيحة، فإما أن يكون الحديث الذي يعزى إلى يونس غير صحيح، وإما أن يونس لم يقرأ هذه الأرجوزة وحكم عليها من غير علم.
وأعتقد أن من اشتغل بالعربية ومعاجمها وبتمرينها وتيسيرها وتذليلها لحاجات العصر، لا بد له من أن يقرأ الأراجيز، ويتعمق قراءتها ويجد في هذه القراءة والتعمق غناء أي غناء ومشقة أي مشقة، لا بد له من ذلك ليفقه اللغة حق فقهها، ويعلمها حق علمها، ويسخرها لما يراد أن تسخر له.
ويكفي أن تسمعوا هذه الأبيات القليلة من شعر رؤبة؛ لتعلموا أن الزملاء من أعضاء المجمع، إن استجابوا لما أدعوهم إليه، وهم مستجيبون من غير شك، سيلقون من أمرهم عسرًا ويحملون أنفسهم عناء:
إلى آخر الأرجوزة، تسعة وستون ومائة بيت على هذا النحو، فتلاحظون أن أول القصيدة «وقاتم الأعماق …» يأتي خبره بعد ثمانية أبيات، وهو لا يريد أن يقول أكثر من أن هناك طريقًا مظلمًا بعيد الأرجاء مشتبهة أعلامه، لا سبيل إلى أن يصطبح الإنسان فيه ولا أن يغتبق ولا أن يقيم فيه؛ لأنه مجدب لا أمل فيه لمن يريد الحياة، وهذا الطريق قد غمره الآل واشتد فيه الغبار، بحيث إن الجبال قد ارتدت بالسراب والغبار، وبدت رءوسها منه كما تبدو الأعناق من الثياب، هذا الطريق قطعه بناقة وصفها بهذه الأوصاف الطويلة التي ذكرتها لكم، وأظن أنكم تعفونني من ترجمتها الآن؛ لا لأني لا أستطيع أن أترجمها، فقد أعددت الدرس إعدادًا حسنًا؛ وإنما لأني أريد ألا أشق عليكم، وأريد أن تسمعوا لذي الرمة في النسيب:
إلى آخر القصيدة، وهي تزيد على مائة بيت، فترون من هذا القليل البسيط الذي سمعتموه إلى أي حد مرن الرجاز اللغة، وإلى أي حد تجاوزوا ما وصل إليه الشعراء من تمرينها، وإلى أي حد نستطيع بل يجب علينا إذا أردنا أن نعرف اللغة العربية حق معرفتها، وأن نتذوق الأدب القديم حق تذوقه، وأن نحيي اللغة ونذللها ونجعلها أداة صالحة لما نحتاج إليه في عصرنا الحديث. إلى أي حد يجب علينا أن نعنى بدرس الرجز، وأن نسير على الأقل سيرة هؤلاء الرجاز، فنتخذ اللغة خادمًا لنا ولا نجعل أنفسنا خدامًا لها.