الفصل الثاني
سيداتي سادتي
كانت نهضتنا الحديثة في القرن التاسع عشر تمتاز بخصلتين أساسيتين: هما خضوعها لتيارين، يأتي أحدهما من أعماق التاريخ الإسلامي العربي منذ ظهور الإسلام إلى القرن التاسع عشر، ويأتي الآخر من وراء البحار، من حيث توجد البلاد الأوروبية التي تقدَّمت وسبقتنا إلى الرقي وازدهرت فيها العلوم والآداب. كانت مصر تتلقى هذين التيارين ويتأثر بهما القلب المصري، والعقل المصري، والمزاج المصري أيضًا، أما التيار القديم؛ فقد أخذ يصل إلى المصريين من هذه الكتب القديمة التي كانت نائمة منذ عصورٍ بعيدة في المساجد ومكتباتها، والتي أخذت تعرف الحياة وترى النور شيئًا فشيئًا بفضل المطبعة، والتي جعلت تدخل على الناس بيوتهم وتستقر فيها وتغري الناس بالنظر في صحفها وبالقراءة، وتحبب الناس إلى هذه القراءة وإلى هذه المعاني والألفاظ التي كانت مسطورة مسجلة في صفحات هذه الكتب، وأما التيار الآخر فقد كان يأتيهم من الغرب، يأتيهم أولًا مع الذين أرسلتهم مصر إلى البلاد الغربية، فدرسوا هناك وعادوا بعلمهم ينشرونه بيننا، ويأتيهم من الكتب التي كان هؤلاء الذين عادوا من الغرب يترجمونها إلى اللغة العربية، ويأتيهم بعد ذلك من جماعةٍ من الأوروبيين كانت مصر تدعوهم؛ ليعلِّموا فيما أنشأت من مدارس على النظام الحديث، وكذلك التقى التيَّار العربي القديم بالتيار الغربي الحديث على نحو ما التقى التيار العربي الجاهلي والإسلامي بالثقافة اليونانية والفارسية والهندية أيام العباسيين.
وكما أن التقاء الثقافة العربية بالثقافات الأجنبية أيام العباسيين قد أنشأ حضارة قوية مزدهرة، ونشر العلم في أقطار الأرض، ونشره بنوعٍ خاص في البلاد الإسلامية، ثم في بلاد أخرى هي بالضبط بلاد الغرب؛ فكذلك أثَّر التقاء التيَّارين، تيار القديم العربي والتيار الحديث الغربي في هذا العصر الحديث بمصر وبسوريا، أثر في القلوب والعقول والأذواق وجعلنا نحس أن أدبًا جديدًا يوشك أن يظهر.
وقد أخذ هذا الأدب الجديد يظهر في أواسط القرن التاسع عشر، وبنوعٍ خاص في أواخر القرن التاسع عشر؛ فظهر شعراء وظهر كُتاب تأثروا بهذين التيارين تأثرًا يختلف قوةً وضعفًا باختلاف ظروفهم وبيئاتهم وما أتيح لهم من الفرص، ووجد عندنا شعراء استطاعوا أن يمنحوا مصر ما لم يُتَحْ لها في عصورها الإسلامية كلها، استطاعوا أن يتيحوا لمصر تفوقًا في الشعر العربي، مع أن التفوق في الشعر العربي لم يتح لمصر في العصور الإسلامية من قبل، كانت مصر تتفوق في العلم وتتفوق في دراسات الأدب والتاريخ، وتتفوق في الحضارة، ولكنها لم تستطع قط أن تتفوق على العراق والشام في الشعر العربي، إلا في هذا العصر الحديث، عندما ظهر هؤلاء الشعراء الممتازون في أواسط القرن الماضي وفي أواخره، وأوائل هذا القرن. ظهرت هذه المدرسة الخاصة «مدرسة محمود سامي البارودي»، وتلاميذ هذه المدرسة شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وغير هؤلاء من الذين أخذوا ينشئون الشعر على نظام هذه المدرسة، وأخص مزاياها تأثُّرها بهذين التيَّارين، كان بعض أعضائها يتأثر بالتيار العربي أكثر مما يتأثر بالتيار الأجنبي، وكان بعضهم يشتد تأثره بالتيار الغربي، ولكنه لا يستطيع أن يجاريه مجاراة صحيحة؛ لأنه لم يذقه ولم يخلطه بنفسه وقلبه.
مهما يكن من شيءٍ فقد امتاز أدبنا في آخر القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، امتاز بتفوقنا في الشعر، ثم لم تمض أعوامٌ كثيرة حتى امتاز بتفوقنا في النثر أيضًا، فابتكرنا فنونًا لم يعرفها العرب من قبل: ابتكرنا المقالات، وابتكرنا القصص، وابتكرنا التمثيل، وأكثرنا من الترجمة، أكثر مما ترجم القدماء من اللغات القديمة، وبهذه الطريقة استطاعت مصر أن توجد أدبًا جديدًا، ولم تستطع أمة عربية أخرى أن تضارعها في هذه النهضة الأدبية الممتازة، واستطاعت مصر أن تكون مُعلمة للعالم العربي بفضل هذه النهضة، ثم استطاعت أن تمد بعض البلاد الغربية بشيءٍ قليل من آثارها، نرجو أن يقوى وأن ينمو وأن يزدهر مع اتصال الزمن، ومع العناية الشديدة بهذه النهضة؛ حتى لا تذبل، وحتى لا تذوي، وحتى لا يدركها شيء من خمول.
هذا الأدب الحديث الذي أنشأناه والذي تختلف فنونه عما ألَّف القدماء في كثيرٍ من الأحيان، لم يكن بعيدًا عن الأدب العربي القديم في واقعيته؛ فأدباؤنا على اختلافهم لم يتكلفوا شيئًا غير حياتهم الواقعة، يصورونها كما يحسونها، ويصورونها كما ينبغي أن يحسها الناس، وكما ينبغي أن يتأثر بها الناس؛ ليصلحوها ويحسنوها ويزيدوها رقيًّا إلى رقي وازدهارًا إلى ازدهار.
من أجل ذلك أخشى أن أقول: إن هذه النهضة تتعرض في هذه الأيام لشيءٍ من الضعف ولشيءٍ من الفساد يأتي من أن هناك إهمالًا ظاهرًا للتيَّار العربي القديم؛ إهمالًا يؤلم كل حريص على النهضة المصرية والثقافة المصرية حقًّا؛ فما أكثر الذين يزعمون لأنفسهم الأدب ولا يقرءون كتابًا واحدًا من الكتب القديمة ولا ديوانًا واحدًا من الدواوين القديمة! وما أكثر الذين يزعمون أنفسهم كتابًا، ويجهلون حتى بسائط اللغة العربية وأولياتها، ويزعمون أنهم يستطيعون أن يؤدُّوا أغراضهم بهذه اللهجات الدارجة التي يتحدثها الناس في الشوارع وفي حياتهم اليومية، كأن الأدب قد ضعف وذبل، وفسد حتى أصبح لا فرق بينه وبين لغة الباعة المتجولين.
أؤكد لكم أيها السادة أن هذه ظاهرة خطيرة حقًّا في حياة نهضتنا الأدبية والعقلية كلها، وهي كارثة إذا لم نتداركها، أوشكت أن تجر علينا أخطارًا جسامًا، فالذين يحدثون الناس أنهم الأدباء والكتاب لا يكتفون بالإعراض عن الآداب العربية القديمة والكتب العربية القديمة وحدها حتى في الآداب الحديثة الأوروبية، وليسوا هم من الشرق وليسوا هم من الغرب، ولكنهم شيء بين ذلك، لا أدري كيف يصوَّر، ولا أعرف كيف يكون!
يجب أن تلتفت وزارة التربية والتعليم، وأن يلتفت القائمون بالأمر على الثقافة في مصر، يجب أن يلتفت هؤلاء جميعًا إلى أن الأدب العربي معرَّض في هذه الأيام لخطرٍ عظيم، مصدره الجهل باللغة العربية، ومصدره الإهمال للأدب القديم، وقلة القراءة في القديم وفي الجديد معًا.