الفصل الثالث
سيداتي سادتي
في تلك الأيام التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد الثورة المصرية، ظهرت ألوان من الحرية لم يكن المصريون، بل لم تكن الأمة العربية، تعرفها من قبل إلا في تلك الأيام القديمة التي ازدهرت فيها الحياة الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين …
وكان أسبق الناس إلى أخذ حريتهم غلابًا هم الكتاب والأدباء بوجهٍ عام. هؤلاء الكتاب والأدباء لم يحتاجوا في تلك الأيام إلى استئذان السلطان ليتكلموا بما في نفوسهم، ولم يحتاجوا إلى استئذانه ليقولوا ما تنتجه عقولهم وقلوبهم وما كان يلائم أذواقهم، وإنما أطلقوا ألسنتهم بالقول وأطلقوا أقلامهم في الكتابة، فنشأت أحاديث في الصحف لم يكن الناس يألفونها قبل هذا العهد، وإن كانت هذه الأحاديث تمس الأدب وتمس أشياء أخرى غير الأدب، تتصل بكل ما يكوِّن الحياة العقلية، وكان الأدباء يطرقون هذه الموضوعات في حرية واسعة توشك أن تكون مطلقة، ثم كانوا يطرقون الموضوعات السياسية لا يحسبون حسابًا لشيءٍ، ولا يخافون أن يتعرضوا للمحاكمات أو التحقيقات التي كانوا ربما قدموا إليها بين حينٍ وحين، كان الأدباء أشد الناس إيمانًا بحريتهم، وأسبقهم إلى الانتفاع بهذه الحرية واصطناعها في إحياء الشعور وفي إحياء العقل، وفي تنبيه الذوق وفي تزكية القلوب.
وفي تلك الأيام أثيرت مسائل أدبية كان الذين سبقوا في أواخر القرن الماضي، وفي أوائل القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن قد أحسوها وتأثروا بها، فذهبوا في إنشائهم للشعر والنثر مذهبًا جديدًا، ولكنهم لم يتعرضوا لهذه المسائل بمناقشةٍ أو جدال، وإنما تأثرت بها عقولهم وأذواقهم، وكتبوا متأثرين بها دون أن يحققوا البحث في هذه المسائل.
أثيرت مسألة القديم والجديد في الأدب، وما يلائم العصر الحديث من ألوان الإنشاء الأدبي، وثارت حول هذه المشكلة خصومات لم تكد تنقطع، خصومات عنيفة أشد العنف، مع أن أنصار الجديد قد بينوا لخصومهم أن فكرة القديم والجديد في الأدب ليست مبتدعة، وليست مستحدثة، وإنما عرفها العرب القدماء؛ فكان الأدب الأموي تجديدًا بالقياس إلى الأدب الجاهلي، وكان الأدب العباسي تجديدًا، وتجديدًا مسرفًا، بالقياس إلى الأدب الأموي؛ وذلك لاختلاف العصور واختلاف ظروف الحياة، ولأن من شأن هذا كله أن يؤثر في الأدب وأن يلونه ألوانًا جديدة تلائم حياة الناس، وتخالف حياة الذين سبقوهم؛ فلم يعرف العرب أيام الأمويين ولا أيام الجاهليين شاعرًا كبشار أو كأبي نواس، ولم يطرقوا موضوعات كالتي كان الشعراء في القرن الثاني والثالث يطرقونها، ولم يعرفوا الكتابة على النحو الذي كان الكتاب يكتبون عليه في تلك الأيام، أيام الرشيد وأيام المهدي وأيام الخلفاء الذين جاءوا بعد هذين، وكذلك قد كان الأدب يتجدد كلما اختلفت الظروف وكلما اختلفت العصور.
وكان هؤلاء الأدباء يطالبون بأن يتجدد الأدب العربي في هذا العصر الحديث كما كان يتجدد في العصور القديمة، وكانوا يقولون إن الأدب العربي أدب حي، وما دام أدبًا حيًّا فلا ينبغي أن يجمد ولا أن يثبت على حالٍ من الأحوال، وإنما يجب أن ينتقل من طورٍ إلى طور، وأن يتبدل من حياة إلى حياة، كما تتغير الحياة نفسها وكما تتغير الظروف المحيطة بالناس في حياتهم. حدث ذلك عند اتصال المسلمين في العصور القديمة بالثقافات الأجنبية، وجاء أوانه في هذا العصر الحديث، وقد اشتد اتصال المصريين والعرب عامة بالآداب الأجنبية الغربية، التي لم تكن بينها وبين آدابنا العربية قبل القرن التاسع عشر صلة، أي صلة.
ولكن أنصار القديم كانوا يجادلون عن قديمهم جدالًا شديدًا، ويزعمون أن المحدثين لا يعرفون اللغة العربية ولا يحسنون الأدب العربي، وأن هذا هو الذي يدعوهم إلى أن يبتكروا فكرة التجديد، وكان المجددون يبينون إتقانهم للغة العربية وللآداب العربية في عصورها المختلفة، فيكتبون في فنون من الآداب قديمة ما كان الناس يكتبون فيها قبل تلك الأيام.
وكذلك اشتد الجدال بين أنصار القديم وأنصار الجديد في تلك الأعوام التي جاءت في إثر الثورة المصرية، حتى انتصر الجديد آخر الأمر وأصبح أنصار القديم أنفسهم يحاولون أن يجددوا، وإن كانوا ألحوا في التزام أساليب بعد بها العهد ومضى عليها الزمان.
وأكثر من هذا أن قراء الصحف اهتموا بهذه المسائل التي كانت تثار بين الأدباء واشتد اهتمامهم بها، وكان موضوع أحاديثهم عندما يلتقون هذه الخلافات بين أنصار القديم وأنصار الجديد، وكانوا يختصمون حول الكتاب، أيِّ الكتاب أثبت في الفن قدمًا وأي الكتاب أبرع في الكتابة قلمًا. كانوا يختصمون حول هذا كله، وكانوا يحرصون على قراءة ما يكتبه الكتاب في الصحف على اختلاف مذاهبهم السياسية، ونشأت عن هذا حياة عقلية لم تقتصر على طبقة بعينها من الأدباء، ولكنها تجاوزتهم إلى قراء الصحف؛ سواء منهم من كان له حظ عظيم من الثقافة، ومن كان على حظٍّ ضئيل منها، ومن لم يكن يحسن من الأمر كله إلا الكتابة والقراءة.
ونشأ في تلك الأيام شيءٌ غريب لم يكن مألوفًا؛ فظهر بعض الشبان الذين لم يكونوا قد تثقفوا وإنما يحسنون أن يكتبوا الحروف وأن يقرءوها، ويشتغلون بفنون مختلفة من ألوان الحياة الخاصة، منهم من يشتغل في الصناعة، ومنهم من يشتغل في التجارة، هؤلاء الشبان أكثروا من قراءة الصحف، فأهمتهم وأثرت في نفوسهم، وإذا هم يأخذون في تمرين أنفسهم على الكتابة، ويأخذون في القراءة والإكثار منها، وإذا هم يتجرءون ذت يوم فيرسلون أحاديثهم إلى الصحف وترضى عنهم الصحف وتنشرها، وكذلك جعل هذا اللون من الحياة الأدبية الجديدة التي أحدثتها الثورة المصرية تلك، جعل هذا اللون يؤثر حتى في جماعة كان أقصى أمرهم أن يصيروا إلى حياةٍ عامية خالصة فجعلت منهم أدباء.
في تلك الأيام ظهر شيء آخر يتصل بحرية الأديب وبحرية الرأي، ظهر في بيئات ما كان ينبغي في العصور الماضية أن يظهر فيها، وهو الاستمساك بحرية الرأي إلى أقصى الحدود، الاستمساك بحرية الرأي والبحث عن حقائق الأشياء، والجهر بما لم يكن الناس يجهرون به من قبل في بعض المسائل التي تمس السياسة والتي تمس الدين.