الفصل الرابع
سيداتي سادتي
برغم الأزمات الكثيرة المختلفة التي كان الأدباء يتعرضون لها في تلك الأيام التي جاءت بعد الثورة المصرية، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ لم يقف الأمر عند اشتداد أصحاب السلطان من ناحية، وثبوت الأدباء لهم من ناحيةٍ أخرى، ولكن تلك الحياة الحرة التي كان الأدب يحياها أتاحت لكتابنا وشعرائنا أن يبتكروا فنونًا جديدة في الأدب، لم تكن قد ألفت في تاريخ الآداب العربية على طوله واختلاف عصوره.
فهذا شاعرنا أحمد شوقي يثبت على الشعر التقليدي في قصائده التي يعرض فيها للشئون العامة ولشئونه الخاصة، يثبت على هذا الشعر التقليدي، ولكنه يدخل في الشعر فنًّا جديدًا لم تألفه اللغة العربية في تاريخها القديم، ولم يألفه الشعر العربي في تاريخه القديم والحديث؛ وهو فن التمثيل، «وشوقي إذا تعرض للتمثيل صنع صنيع غيره من الأدباء، فعرض للموضوعات التي لا تمس الحياة الحاضرة في تلك الأيام من قريبٍ ولا من بعيد، ولجأ إلى موضوعات يأخذها من حياة العصور القديمة»، وكان تمثيل شوقي يجد في نفوس الجماهير صدى أي صدى، كان الناس يحبون أن يسمعوا له إنشادًا وغناءً وتمثيلًا، وكانوا يهيمون به هيامًا شديدًا، ويعجبون به إعجابًا لا ينقضي، وكان هذا كله يشجع شوقي على أن يمضي في هذا الفن الجديد، الذي أتيح له أن يفتح بابه للشعر العربي؛ فأنشأ قصة مجنون ليلى، وأنشأ قصة أنطوان وكليوباترا، وأنشأ قصة قمبيز، وألوانًا أخرى من القصص التمثيلي أعجب بها المصريون، ثم لم تلبث أن تجاوزت حدود الأرض المصرية، فأعجب بها العالم العربي كله، وفتح شوقي في الشعر أفقًا جديدًا للشعراء الذين يأتون من بعده.
وبينما كان شوقي يطرق هذا الباب الجديد أولًا ويفتحه للشعراء بعد ذلك، كان شباب آخرون يحاولون أن يطرقوا باب فن جديد أُلِف في الغرب منذ العصور البعيدة، ولكنه في الشرق لم يكن مألوفًا، لم يعرفه العرب في تاريخ أدبهم القديم، وأخذوا يعرفونه في العصر الحديث حين كان ينقل إليهم من اللغات الأجنبية؛ نقلًا صحيحًا أحيانًا، ونقلًا متصرفًا فيه — قليلًا أو كثيرًا — أحيانًا أخرى. فكان الناس يترجمون القصص التمثيلي من اللغات الأوروبية، ويلائمون بينها وبين الحياة المصرية أو الحياة الشرقية العربية بوجهٍ عام، ثم يقدمونها للناس على الملاعب، وربما أضافوا إليها ألوانًا من الغناء يدعون بذلك الجماهير إلى الإقبال إليها والاستماع لها.
وقد جعل الشباب المصريون يحسون بأن هذا الفن لا ينبغي أن يظل أجنبيًّا ينقل إلى العربية نقلًا، وإنما يجب أن يتوطن في مصر وأن يصبح عربيًّا خالصًا، وأن يشارك فيه المصريون كغيرهم من الأمم الغربية المختلفة، وكذلك جعل شبابنا ينشئون من عند أنفسهم قصصًا تمثيلية، منهم من يدور في قصصه حول السياسة؛ حول سياسة يخيل إلى الناس أنها بعيدة تقع أحداثها وخطوبها في عصورٍ مضت منذ قرون، كالذي فعله محمد تيمور — رحمه الله — عندما جعل يؤلف بعض قصصه باللغة العامية، وقصة خاصة منها وهي «العشرة الطيبة» أدارها حول أمير تركي غليظ فظ، يستذل رجال القصر ومن حوله من الناس، وجعله مصدرًا للضحك وللضحك الذي لا ينقضي.
وبعض هؤلاء الشباب كان يقصد إلى موضوعاتٍ لا تمس السياسة، وإنما تمس الأدب الخالص، كالذي صنعه صديقنا توفيق الحكيم، عندما أنشأ قصته «أهل الكهف»، وعندما أنشأ قصته «شهرزاد»، ثم عندما أنشأ قَصصه التمثيلي الكبير، وكذلك جعل هذا الفن الجديد الغريب، الذي لم يعرفه العرب من قبل؛ لأنهم لم يتصلوا بالتمثيل اليوناني ولا بالتمثيل الروماني القديم. لم يعرف العرب هذا الفن؛ فلم يحاولوا أن يحاكوه ولا أن يجددوا فيه، كما حاولوا ونجحوا في محاكاة الفنون الأخرى التي عرفوها وجددوا فيها تجديدًا خطيرًا. كان هذا الفن إذن غريبًا بالقياس إلى اللغة العربية، وكان غريبًا عن الوطن العربي؛ فاستطاع شبابنا من الكتاب واستطاع شوقي من الشعراء أن يوطنوه في اللغة العربية، ويجعلوه فنًّا عربيًّا أصيلًا نشأ أول مرة تقليديًّا، ولكنه لم يلبث أن مس الحياة المصرية وصورها تصويرًا دقيقًا قويًّا.
ولم يلبث الشباب أن رأوا فنًّا آخر، يجدونه في اللغات الأوروبية ولا يكادون يعرفونه في اللغة العربية، إلا أن يكون في بعض الآثار الشعبية التي كانت تقص على الشعب هنا وهناك؛ وهو الأقاصيص القصيرة التي تقرأ في غير مشقة، ويستمتع بها قارئها في غير عناء، ثم لا تستغرق منه وقتًا طويلًا، ولا تطلب إليه أن يفرغ نفسه لها وقتًا طويلًا أيضًا؛ فجعلوا أولًا يترجمون شيئًا من هذه الأقاصيص إلى اللغة العربية وينشرونها في الصحف، ثم لم يلبثوا أن جعلوا ينشئون قصصًا طوالًا وقصصًا قصارًا، مقلدين أول الأمر، ثم مستخلصين شخصيتهم من هذا التقليد آخر الأمر. وكذلك أصبح هذا الفن القصصي، سواء منه القصص الطويل والقصص القصير، أصبح هذا الفن فنًّا عربيًّا خالصًا، وأتيح للمصريين أن ينتجوا في الآداب العربية الحديثة ألوانًا من الفن لم يسبقوا إليها، ولم يعرفها القدماء من العرب. ولم يلبث العرب في الأقطار الأخرى أن حاولوا محاكاة المصريين في هذا الفن، ثم لم نلبث أن رأينا القصة الطويلة والقصيرة فنًّا عربيًّا لا يؤلف في مصر وحدها، ولكنه يشيع في البلاد العربية كلها.