الفصل السادس

الأدب الوصفي

سيداتي سادتي

قلت إن الأدب إنشاء ووصف، وقلت إن أجيالنا المعاصرة قد أتيح لها نجحٌ عظيم في أحد هذين النوعين؛ في الأدب الإنشائي؛ فهي قد وطنت فنًّا جديدًا في هذا الأدب وهو فن القصص، وحاولت أن توطن فنًّا آخر جديدًا وهو فن التمثيل، فحالت ظروف بينها وبين ذلك؛ لأنها لم تقصر في الإنتاج ولا في الإنشاء، وإنما قصَّر الذين كان ينبغي أن يمثِّلوا وأن يُعربوا عن هؤلاء الكتاب والمؤلفين.

ولكن هناك فنًّا آخر أو نوعًا آخر من الأدب نقصِّر فيه، وتقصر فيه الأجيال الحديثة بنوعٍ خاص تقصيرًا خطيرًا جدًّا؛ وهو هذا الأدب الذي أسميه أدب الوصف أو الأدب الوصفي.

هذا الأدب الوصفي ليس إنتاجًا خالصًا للأدب الفني بمعناه العام، وإنما هو إنتاج يمس الأدب نفسه؛ فهذا الذي ينقد كتابًا أو يؤرخ لونًا من ألوان الأدب، لا ينتج أدبًا إنشائيًّا، ولكنه يصف الأدب الذي أنتجه أدباء غيره. فإذا درستُ كتابًا من الكتب التي أنتجها هذا المؤلف أو ذاك، وكتبت عنه نقدًا موجزًا أو مفصلًا، فأنا لا أنشئ أدبًا جديدًا، ولكني أصف أدبًا قد أنشأه غيري. إذا وصفته فقد أحمده وقد أعيبه، وقد أسجل ما فيه من محاسن أو أسجل ما فيه من عيوب، وكل هذا وصف للأدب الذي أنتجه الأدباء المنشئون. هذا النوع من الإنتاج الأدبي قصرنا فيه تقصيرًا شديدًا في هذا العصر الأخير، منذ عشرين سنة أو أقل من عشرين سنة تقريبًا؛ لسببٍ بسيط وهو أن استعدادنا للقراءة قد ضعف، واستعدادنا لقراءة الأدب بمعناه الصحيح قد ضعف أيضًا، فنحن ننفق أوقاتنا في قراءة الأشياء اليسيرة التي لا تكلف جهدًا ولا عناءً، ولا تحتاج إلى روية ولا تفكير. وكثير منا يكادون يعتقدون أن قراءة الصحف على كثرتها تغنيهم عن أي قراءة أخرى، فإذا أتاحوا لأنفسهم قراءةً أكثر من قراءة الصحف، فهم يقرءون هذا القصص اليسير وهذه الكتب الهينة الميسرة التي لا تكلفهم جهدًا ولا جدًّا ولا كدًّا ولا تحملهم مشقة أو عناء، وهم من أجل ذلك يوشكون أن يكونوا سطحيين لا يتعمقون الأشياء ولا يفكرون فيها. وهم من أجل ذلك يقرءون لا ليفيدوا عقولهم، وإنما يقرءون ليستعينوا بالقراءة على قطع الوقت، أو على دعوة النوم إلى الجفون … وكذلك أصبحت القراءة تسلية بعد أن كانت القراءة تغذية، وأصبحت تسلية عند الكثرة الكثيرة من الشباب.

ربما صُرف الشباب عن القراءة واكتفى بالاستماع إلى ما يحمله الراديو إليه في كل ساعةٍ من ساعات النهار وفي أكثر ساعات الليل، وربما صرف عن هذا كله إلى شهود السينما وما إليها من هذه المناظر التي تعينه على أن يقطع الوقت في شيءٍ من الراحة والتخفف من الأعباء والأثقال، كل هذا تعطيل للقوة العاقلة وللمملكة الناقدة وللذوق وللطبع السليم، وكل هذا يحول بين شبابنا المتأدبين وبين هذه القراءة المتعمقة الناقدة الفاحصة التي تحاول أن تتعرف ما في الأدب من خيرٍ وما فيه من شر، وما فيه من جودة وما فيه من رداءة. وتستطيع أن تبصِّر كثرة القراء بما ينبغي أن يقرءوا وبما ينبغي أن يتركوا؛ بما ينبغي أن يقرءوا لأنهم سيجدون فيه هذه الخصلة أو تلك من الخصال التي يحبونها، أو أن يتركوا لأنهم سيجدون فيه هذا العيب أو ذاك من العيوب التي يكرهونها. كل هذه الأشياء جاءت من أننا لا نحب الآن أن نتثقف، ولا أن نتثقف هذه الثقافة الأصيلة العميقة الجادة التي تكلفنا جهدًا وعناءً ومشقةً ومزاولة، وإنما نحن نريد أسهل الأشياء.

يخيل إلينا أننا نستطيع أن نسوس عقولنا كما نسوس أجسامنا، فنحن لا نتكلف المشي إذا أردنا أن ننتقل من مكانٍ إلى مكانٍ بعيد، ونحن لا نتخذ الإبل ولا الحمر ولا البغال لننتقل من مكانٍ إلى مكان، وإنما يُسرت لنا المواصلات ويُسرت لنا الحياة المادية تيسيرًا خطيرًا. فخيل إلى كثيرٍ منا أنه ما دامت الحياة المادية قد يسرت، وما دام كل شيء في هذه الحياة الحديثة إنما يمتاز بالسهولة واليسر؛ فينبغي أن يخضع العقل لهذه المظاهر الحديثة. ولكن العقل شديد الجموح، وهو ثائر دائمًا، وهو مخالف دائمًا لما يألف الناس. فإذا كانت الحياة المادية ميسرة، فالعقل الجدير بهذا الاسم لا يحب اليسر، وإنما يؤْثر عليه المشقة والجهد والعسر … وصاحب الفن خاصة يفسد فنه إذا آثر فيه اليسر، وآية ذلك أن أيسر الأشياء أن تلتقط الصورة الفوتوغرافية، ولكن أعسر الأشياء أن تصنع الصورة التي يفرغ لها الفنان أيامًا طوالًا وشهورًا طوالًا، وربما احتاجت منه إلى عامٍ أو أكثر من عام. وتستطيعون أن تقولوا ذلك في المثَّال وفي كل صاحب فن بالمعنى الدقيق. فالأديب كذلك ينبغي أن يروض نفسه على الجهد وعلى المشقة في إنشاء الأدب أولًا، وفي وصفه ونقده ثانيًا، وينبغي أن يستقر في نفوس الشباب، كما استقر في نفوس الذين سبقوهم من الشيوخ. وكما هو مستقر في نفوس الشباب المعاصرين لهم في البلاد الأخرى، ينبغي أن يستقر في نفوسهم أن العقل لا يراض كما تراض الآلة، وأن العقل ليس طيعًا ولا مستجيبًا بهذه السهولة، ولكنه عصيٌّ أبيٌّ يحتاج إلى كثيرٍ من الأناة وإلى كثيرٍ من حسن السياسة وإلى كثيرٍ من الجهد والعناء؛ لينفذ إلى أعماق الأشياء، وليفقهها كما ينبغي أن تُفقه، وليؤديَها كما ينبغي أن تُؤدى.

وليس بد لتحقيق الأدب الوصفي والنقد الصحيح في هذه الأيام، من أن يعود شبابنا إلى الدرس، وإلى الدرس الطويل الثقيل الشاق، وإلى القراءة الكثيرة المختلفة المُنوعة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤