الفصل السابع
سيداتي سادتي
أشرت في الأحاديث الماضية إلى اختلاط الأمر في شئون الأدب كلها على شبابنا الذين يكتبون ويذيعون، ويملَئون الدنيا بما يكتبون وما يذيعون في هذه الأيام، وقلت إن هذا الاختلاط مفسدٌ لرأيهم ولرأي الذين يقرءونهم ويسمعونهم في الأدب؛ فهم يقرءون أشياء هنا وهناك، بعضها قديمٌ وهو قليل أو أقل من القليل، وبعضها حديث وليس بأكثر من القديم. يقرءونها مسرعين ويفهمونها مسرعين ويتأثرون بها مسرعين، ويرتبون عليها أحكامًا أقل ما توصف به أنها أحكام خاطئة؛ فهم مثلًا يظنون أنهم يبتكرون في الأدب العربي المعاصر مذهبًا حديثًا هو مذهب الواقعية، يظنون أنهم إذا اشتقوا ما يكتبون من واقع الحياة اليومية التي يحياها المصريون في هذه الأيام، فقد ابتكروا أدبًا لم يكن مألوفًا من قبلهم، وأضافوا إلى امتيازاتهم الكثيرة التي يزعمونها لأنفسهم في هذه الأيام امتيازًا جديدًا؛ وهو الابتكار في الأدب وفي الأدب العربي بنوعٍ خاص.
والواقع من الأمر أنهم لا يبتكرون شيئًا وأنهم لم يقرءوا الأدب القديم، ولا يكادون يعرفون من أمره شيئًا، وأنهم يأخذون واقعهم أو واقعيتهم من الآداب الأجنبية الحديثة التي لا يقرءونها حق قراءتها ولا يفهمونها حق فهمها، ولا يحكمون عليها ويتأثرون بها كما ينبغي أن يكون الحكم على الأشياء، وكما ينبغي أن يكون التأثر بالأشياء. فأيسر القراءة في الأدب القديم على اختلاف عصوره تبين لهم أن مذهب الواقعية هذا ليس غريبًا مطلقًا على القدماء من شعرائنا وكتابنا. وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فالشعر الذي يصور حياة الناس لا يمكن أن يبتكر هذه الحياة التي يريد تصويرها من عند نفسه، وإنما يأخذها من الناس الذين يحيونها ويأخذها من واقع أمرهم لا من شيءٍ آخر، لا يستنزلها من السماء ولا يستخرجها من الأرض.
والأديب حين يريد أن يغير أمرًا من أمور الناس يصور لهم هذا الأمر الذي يريد أن يغيره على أنه بغيض لا ينبغي أن يمضي على ما هو عليه، ويحبب إليهم شيئًا آخر يناقضه ويدعوهم إلى هذا الشيء، ويبين لهم ما فيه من محاسن وما ينبغي أن يقدموا عليه من أمر؛ لأنه يلائم المصلحة والمنافع ويحقق الغايات والمآرب. والقرآن الكريم نفسه، حين أراد أن يصلح من ينهاهم عما كانوا قد ألفوا من التشاؤم حين كانت تولد لهم البنات، يصور هذا أروع تصوير، وأروع تصوير واقعي ما أظن أن أحدًا يناقش في واقعيته، أو يستطيع أن يصور الواقع كما صور في القرآن: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ صدق الله العظيم.
هذا التصوير، تصوير الرجل الذي كان يسوءه أن تولد له الصبيَّة، فإذا بشر بها اسود وجهه وانعقد لسانه وكظم غيظه واستحى أن يظهر للناس، وأن يظهر لهم ما بشر به وجعل يناقش نفسه، ويراود ضميره ماذا يصنع بهذا الوليد الذي أقبل عليه ولم يكن يريده ولم يكن ينتظره؛ أيبقي عليه ويمسكه في الحياة مهانًا ذليلًا، أم يفرغ منه ويدسه في التراب كما كان بعض الجاهليين يفعلون حين كانوا يئدون بناتهم في التراب ساعة يولدن أو يوم يولدن!
هذا التصوير اشتقه القرآن من حياة العرب الذين كانوا يحيونها، لم يأت به من شيءٍ آخر، وإنما هو صورة صادقة توشك أن تكون صورة فوتوغرافية لهذا الذي يكون من عند تولد له صبيَّة وهو فيها غير راغب وهو منها نافر.
وهذا الشاعر القديم الذي يرى امرأته تهين ابنه؛ لأنه لم يكن ابنًا لها وإنما كانت ضرة لأمه؛ فيغيظه منها ذلك وينذرها ويخيرها بين أن تحسن العناية بابنه والرعاية له، وبين أن تفارق داره وتذهب إلى أبعد ما يكون منه. عندما يريد أن ينبئها بهذا كله وأن ينبئ الناس بألمه من هذا كله، يشتق من هذا الواقع شعرًا نقرؤه، فلا نرى فيه انصرافًا عن واقع الحياة ولا التماسًا لأشياء لم تكن ولا بحثًا عن غايته في أجواز الجو أو في باطن الأرض، وإنما يبحث عما يريد أن يقول في بيته هو لا في مكانٍ آخر:
يقول لها إن تكن أخلاق عرار لا ترضيك فإني لا أمك تغيير أخلاقه، وإن يكن سواد عرار لا يعجبك، فإن سواده يعجبني وهيئته تروقني وأنا أحب الغلام الأسود الضخم ذا الهيئة الرائعة.
ويقول الرواة: إن عرارًا هذا أقبل ذات يوم على عبد الملك يبشره بانتصار جيشه في وقعةٍ من وقعات المسلمين. فلما أدى إليه البشارة أحسن أداء، ذكر الخليفة هذه الأبيات، فأنشدها وهو لا يدري من هذا الذي كان يخاطبه، فقال له الفتى: «والله يا أمير المؤمنين ما قيل هذا الشعر إلا في.» فعرفه الخليفة.
هذا الشعر، كتلك الآيات الكريمة التي تلوتها عليكم آنفًا، إن صور شيئًا فإنما يصور واقع الحياة التي كان العرب يحيونها، واقع الحياة البسيطة الساذجة التي لم يكن فيها تكلف ولا تصنع، ترون صورتها لا تكلف فيها ولا تصنع، وإنما هي صورة مطابقة للأصل لم تُؤد في لفظٍ مهلهل، وإنما أُديت باللغة التي تلائم الشعر من جهة والتي تلائم الأدب، الكلام الذي يُراد أن يسمعه الناس وأن يقرءوه ويتناقلوه ويؤثروه ويحفظوه.
وكان القدماء من شعرائنا واقعيين في الغزل نفسه إلى أبعد ما يمكن أن تكون الواقعية، حتى إن من شعرهم في الغزل والهجاء ما نستحي الآن أن نقرأه أو أن نعرضه على شبابنا حين نعلمهم الأدب القديم؛ ذلك لأنه كان من الواقعية بحيث لم يكونوا يتركون شيئًا من الأشياء إلا صوروه، وصوروه كما هو، وسموه باسمه، ولم ينتحلوا له أوصافًا أو أسماء بعيدة عنه.
هذا الشاعر الذي يريد أن يتحدث عن صاحبته حين رآها ورأته، واختلس قبلتين في سرعة مخافة أن يشعر بهما شاعر أو يتنبه إليهما رقيب، «لا يزيد على أن يؤدي هذه الصورة في دقةٍ كما لو كنا نراها»:
وأبو نواس حين أراد أن يذكر أيضًا مثل هذه الصورة لم يزد على أن صورها كما صورها ذلك الشاعر البدوي القديم. فواقعية الشعر وواقعية الأدب ليست شيئًا جديدًا، وليست بدعًا من الأدب العربي القديم في جاهليته وفي إسلامه، وفي العصور التي بلغت الحضارة العربية فيها أقصى ما كان يمكن أن تبلغ في تلك الأيام من الرقي.
وتلاحظون أن هذه الواقعية لم تضعف من جمال الأدب، ولم تغض من شأنه ولم تضطر الكُتاب والشعراء إلى أن يعرضوا عن لغتهم إلى لغة الشوارع؛ لأنهم استطاعوا أن يؤدوا هذه الحياة الواقعية كما هي في لغة تلائم الشعر والأدب حقًّا.