الفصل الثامن
أعود بكم إلى حديث الواقعية هذا الذي لم أتمه في الحديث الماضي، فقد بينت أن مذهب الواقعية الذي يمعن شبابنا الأدباء في التحدث عنه والمفاخرة به، ويظنون أنهم ابتكروه من عند أنفسهم في هذا العصر الحديث؛ ليس جديدًا وليس مبتكرًا في هذه الأيام، ولكنه قديم بمقدار ما يكون الأدب العربي نفسه قديمًا، قديم في الشعر وقديم في النثر، وهو على ذلك لم يفسد الشعر القديم ولم يفسد النثر القديم بمقدار ما أفسد نثرنا الحديث في هذه الأيام، وهو لم يفسد الأدب القديم؛ لأن القدماء لم يكونوا يجهلون ما يعملون، وإنما كانوا يؤدون خواطرهم ويعربون عن ذات أنفسهم بلغةٍ يعرفونها حق معرفتها … ولم يكونوا يتكلفون ولا يتصنعون، وإنما كانوا يرسلون نفوسهم على سجيتها، ويُعملون مقدرتهم الفنية في تصوير ما يريدون، ويؤدون هذا الذي يريدون أن يصوروه أداءً ملائمًا لما ينبغي للأدب من الجمال والارتفاع في صوره ومعانيه وألفاظه.
وأغرب من هذا أن هذه الواقعية ليست مقصورة على الأدب العربي القديم أو الحديث، ولكنها شيءٌ شائع في الآداب المختلفة؛ فالآداب القديمة كلها عرفت هذه الواقعية، ونجدها في الآداب اليونانية القديمة في شعر القصاص وفي شعر الغنائيين وفي شعر الشعراء التمثيليين، كما نجدها في العربية رائعة بارعةً تبهر السامعين والقارئين على بعد عهدنا بها، نقرؤها الآن فيخيل إلينا أننا نرى، مع ما بيننا وبين قدماء اليونان من آمادٍ بعيدة وقرون طوال، وكذلك الحال بالقياس إلى الشعراء والكتاب من الرومانيين عندما نقرأ الآثار اللاتينية التي حُفظت لنا عنهم في شعرهم، وفي خطبهم وفي رسائلهم وفي كتبهم؛ نقرؤها فيخيل إلينا أننا نرى ما يصورون، ولا نشك مطلقًا في أنهم إنما يشتقونه من واقع الحياة التي كان الناس يحيونها من حولهم.
وفي الآداب الحديثة نجد هذه الواقعية عند طائفة من الكتاب وعند طائفة من الشعراء، فنعجب بها ونرضى عنها ولا نجد في قراءتها ضيقًا ولا اشمئزازًا ولا نفورًا؛ لأنهم قد أحسنوا الملاءمة بين ما أرادوا تصويره من واقع الحياة، وبين ما ينبغي للأدب من هذا الجمال الذي يملك النفوس ويسحر القلوب، ويسيطر على القارئ والسامع ويضطره اضطرارًا إلى أن يقرأ ممعنًا، مستأنيًا في القراءة، وإلى أن يحفظ من الشعر ما يستطيع، وإلى أن يستعيد مرات قراءة ما يقرؤه من هذه الأبيات التي تصور الحياة الواقعية للناس …
كذلك تعوَّد القدماء والمحدثون حين أرادوا أن يصوروا واقع الحياة، ولكن شبابنا من الأدباء عندما يريدون أن يصوروا واقع الحياة يخيل إليهم أن عليهم أن يؤدوا هذا الواقع كما هو، كما يجري، لا يغيرون فيه قليلًا ولا كثيرًا، لا يعرفون كيف يصورونه بحيث يرتفعون به شيئًا ما ليملكوا علينا أنفسنا؛ وليضطرنا اضطرارًا إلى أن ننظر فيه وإلى أن نقرأه ونعيد قراءته؛ ذلك أن الحياة الواقعة نراها في كل وقت، نراها ونعيشها ونضيق بما نضيق به منها، ونرضى عما نرضى عنه منها، ولكننا لا نحب حين يتحدث إلينا الكتاب عنها أن يتحدثوا عنها كما هي في الشارع وكما هي في الأندية والمجالس، وإنما نحب أن يؤدوها إلينا تأديةً أرقى مما هي دون أن يُخِلوا بحقائقها، نحب أن تؤدى إلينا في هذه الصورة التي تروعنا — وواقع الحياة في نفسه لا يروع — فإذا رأيت هذا البائع المتجول بما يحمل من فاكهةٍ أو خضر، فليس في هذا شيء يروعك أو يدعوك لتنظر إلى هذا الذي يجول في الشارع بما يحمل من فاكهةٍ أو خضر، ولكن الأديب الحق هو الذي يرى هذا فيتأثر به، فينظر إلى أبعد من المتجول بما يحمل من فاكهة وخضر، ويشتق من هذه الحياة التي يحياها هذا الرجل ومن صورته وهو يسعى منذ تظهر الشمس إلى أن تغرب وبعد أن تغرب، وينظر إلى أشياءٍ كثيرة تحيط به وتحيط بالناس من حوله، ويشتق من ذلك صورة موجزة جميلة رائعة يعرضها علينا، فإذا نحن نرى هذا الشيء الذي ألفناه، والذي نراه كثيرًا وقد نضيق به أحيانًا، فإذا نحن نميل إليه ونضطر إلى الوقوف عنده والتفكير فيه.
وأدباؤنا يخيل إليهم أنهم لا يستطيعون أن يصوروا لنا الواقع، عندما يريدون أن يجروا الحديث والحوار بين شخوصهم في قصصهم وفي أحاديثهم، لا يستطيعون أن يفعلوا هذا إلا إذا أجروا الحوار كما يتكلم الناس في شوارعهم وفي أعمالهم، بهذه اللغة العامية التي يتكلم بها الناس عادة، يخيل إليهم أن هذا أدنى إلى الصدق، وأن هذا أدنى إلى الواقع الذي يحياه الناس. ولكننا نستطيع أن نعرب عن هذه الحياة الواقعية إعرابًا جليًّا واضحًا لا يغير منه شيئًا وإنما يؤديه كما هو، ومع ذلك يكون إعرابنا عنه بلغةٍ عربية واضحة جلية، لا أريد أن نصطنع فيها ألفاظ أهل البادية من القدماء، ولا الألفاظ التي تحتاج في فهمها إلى البحث في المعاجم على اختلافها، ولكن هذه الألفاظ اليسيرةُ القريبة التي لا مشقة فيها على أحد.
وأنا أتحدث إليكم الآن عن هذا كله وما أظن أنكم تحتاجون وأنتم تسمعونني إلى أن تبحثوا عن كلمة من هذه الكلمات التي أتحدث إليكم بها في معجمٍ من معجمات اللغة القديمة؛ لأني أتحدث إليكم بلغةٍ تفهمونها وتتحدثون بها، وتريدون أن تسمعوا الناس يتحدثون إليكم بها؛ لأنكم تحبون أن تسمعوا هذه اللغة الفصحى، تحبون أن تسمعوها لتخرجوا من هذه الحياة العادية المألوفة التي تحيونها، والتي تضيقون بها في كثيرٍ من الأوقات، والتي تحبون أن تستريحوا منها إلى لغةٍ خير منها وأنقى منها وأرقى منها وأصفى منها، تخيِّل إليكم أنكم تخرجون من أنفسكم ومن عالمكم، وتستعيرون نفوسًا أخرى وتعيشون في عالمٍ آخر، وهذا هو الذي نسميه الاستمتاع بالفن والاستمتاع بالأدب الرفيع.
من أجل هذا كله أتمنى أن يتصور الشباب مهمتهم كما ينبغي أن يتصوروها، وأن يعرفوا أنهم ليسوا مكلفين أن يصوروا لكم حياتكم تصويرًا فوتوغرافيًّا، فحسبكم من هذا ما ترونه في الصحف كل يوم، وإنما ينبغي أن يصوروا هذه الحياة لكم تصويرًا فيه شيء من فن، وفيه شيء من عناية، وفيه شيء من جمال، وأنا أعرف أن هذا كله ليس من اليسير.