الفصل التاسع
سادتي
لست مسئولًا عن المحاضرة ولا عن عنوانها؛ فالمحاضرة فرضها عليَّ المجمع فرضًا، وما كان لي أن أخالف عن أمره.
والعنوان فرضه عليَّ زميلنا الأستاذ إبراهيم مصطفى.
وأعترف بأني وقفت من هذا العنوان — غير مرة — موقف الحيرة، وخفت أن يكون مصدر الاضطراب في أفكار الذين يقرءونه.
فكلمة الإعراب كلمة مخيفة جدًّا، وليس منا — وليس من حضراتكم — من لم يخف من هذه الكلمة حين كان تلميذًا في المدرسة الثانوية أو طالبًا في الجامعة.
ويكفي أن نذكر تلك الأسئلة التي كانت تلقى على الطلاب — حين يتقدمون للشهادة الثانوية — وفيها بيت من الشعر معقد، يطلب إلى الطلاب إعرابه، فيَلقى الطلاب في هذا الإعراب عناءً شديدًا؛ يخطئون كثيرًا ويصيبون قليلًا.
والغريب أني بحثت عن كلمة الإعراب هذه، بهذا المعنى الذي اصطلح عليه النحويون، والذي عذَّبنا حين كنا في الأزهر، والذي عذبنا حين كنا تلاميذ، وعذب أجيالًا كثيرة من التلاميذ؛ فلم أجد له أصلًا في المعاجم العربية.
وإنما هو اصطلاح من اصطلاحات النحويين، ومن اصطلاحات النحويين المتأخرين منهم خاصة.
ومهما أنسَ فلن أنسى أن أول كلمة ألقيت علينا في الأزهر ونحن طلاب هي إعراب «بسم الله الرحمن الرحيم»، على التسعة الأوجه المعروفة المشهورة: سبعة منها جائزة واثنان ممتنعان في حالتي رفع «الرحمن» أو نصبها.
فالإعراب كما أجده في المعاجم هو: أن يتكلم الإنسان على نحوِ ما كان العرب يتكلمون، فإذا أحسن الإنسان أن يفصح عن ذات نفسه فقد أعرب. وهم يقولون: أعرب الرجل عن ذات نفسه؛ أي إنه تكلم فأبان ما في نفسه من المعاني على الطريقة التي كان العرب ينهجونها حينما يؤدون ما في نفوسهم من المعاني.
وواضح ان هذا العنوان لهذه الكلمة — مشكلة الإعراب — لم يرد به المعنى الذي اصطلح عليه النحويون.
وما كان لمؤتمر المجمع اللغوي أو لمجلسه أن يدعو حضراتكم ليصدع أدمغتكم برفع الفاعل بالضمة — إن كان اسمًا معربًا — وبنائه على السكون مثلًا إن كان اسمًا مبنيًّا، أو بالواو إن كان جمع مذكر سالم أو من الأسماء الخمسة، إلى آخر هذه الأشياء التي نرجو أن يبرئنا الله من عقابيلها يومًا ما. فالذي أراده المجمع إنما هو الإعراب بالمعنى الذي أجده في معاجم اللغة؛ وهو التكلم في إبانة وإفصاح على الطريقة التي كان العرب ينهجونها حينما كانوا يعربون عن ذات نفوسهم.
والأمر ينتهي آخر ما يكون إلى التفكير في هذه الخصومة التي قامت غير مرة بين اللغة العربية الفصحى وبين اللغة العامية على اختلاف أقطارها. ففي غير وقتٍ وفي غير موطنٍ من المواطن شَعَرَ المتكلمون بهذه اللغة العربية بمصاعب لا تحصى، عندما حاولوا أن يتكلموا أو عندما حاولوا أن يعربوا؛ سواء أكان الإعراب عن ذات نفوسهم بالكلام أو بالكتابة.
وجدوا في هذا كله مصاعب لا تحصى، وضاق كثيرٌ منهم بها، وأشفق كثيرٌ منهم من احتمالها ومواجهتها، ففزعوا إلى اللغة العامية التي لا تكلفهم درسًا ولا بحثًا ولا إعرابًا ولا إعجامًا، ولا شيئًا من هذه المشكلات التي يتعرض لها كل من حاول أن يتكلم اللغة العربية الفصحى.
ومن الناس من كتبوا بهذه اللغة العامية مباشرة ولم يحفلوا بالمنكرين ولا بالمعارضين.
ومن الناس من لم يكتف بالإعراب عن ذات نفسه بهذه اللغة، وإنما حاول أن يجادل عنها وأن يناضل، وأن يقيمها مقام اللغة العربية القديمة أو الفصحى، وأن يدعو إلى أن تكون هي لغة الأدب.
وهذه الخصومة تكررت كما قلت في أوقاتٍ كثيرة ومواطن متعددة، وهي الآن تعود جذعة.
ففي مصر وفي غير مصر قوم يدعون إلى العدول عن هذه اللغة وعن مشكلاتها إلى اللغة العامية، التي لا تكلف مشقةً ولا تحمِّل صاحبها عناءً.
والمجمع أنشئ — حينما أنشئ — للمحافظة على اللغة العربية الفصحى، ولتمكين هذه اللغة من أن تلائم العصور المختلفة التي تعيش فيها، ومن أن تلقى الحضارة الحديثة غير هيابة لها ولا مشفقة منها، ولا عاجزة عن إساغتها وإذاعتها بين غير المثقفين وبين أوساط المثقفين فضلًا على المثقفين الممتازين.
ولغتنا — اللغة العربية — قد صادفت من المشكلات مثلما تصادف في هذه الأيام؛ فليس هذا الوقت هو الوقت الأول الذي لقيت فيه اللغة العربية حضارات لم تكن تعرفها وعلومًا لم تكن تخطر للعرب، وإنما عهد العرب بهذا قديم؛ فهم قد عاصروا الحضارة الفارسية واليونانية بُعيد ظهور الإسلام منذ كان الفتح العربي، وهم قد لقوا حضارات أخرى غير الفارسية واليونانية، وهم قد واجهوا هذه الحضارات وواجهوا ما كان فيها من ثقافاتٍ مختلفة، وهم قد استطاعوا أن يسيغوا هذه الثقافات، وأن يسيغوها لأنفسهم، وأن يفرضوا عليها لغتهم بعد ذلك.
فهم قد طوعوا هذه الثقافات للغتهم، وطوعوا لغتهم لهذه الثقافات.
ومن أيسر الأمور أن يرجع أحدنا إلى أي كتاب من الكتب الفلسفية العربية القديمة، ليرى كيف استطاع العرب أن يسيغوا ما كتب عن فلسفة أرسطو وأفلاطون وطب جالينوس، إلى آخر هذه العلوم التي استطاعت اللغة العربية أن تسيغها وأن تطوعها لقواعدها، وأن تطوع لها قواعدها أيضًا.
وإذا كان هذا قد دل على شيء فهو إنما دل على أن اللغة العربية ليست باللغة التي كتب عليها الجمود، وليست باللغة التي كتب عليها أن تقصر على أهل البادية ومن يشبههم من أهل المدن أو القرى العربية القديمة، وإنما هي لغة خلقت لتكون لغة عالمية، بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، دون أن تنزل عن أصولها وعن قواعدها وعن خصائصها التي تمتاز بها من سائر اللغات.
وقد رأينا لغات قبل اللغة العربية سادت العالم القديم، ولكنها لم تستطع — في يومٍ من الأيام ولا بحالٍ من الأحوال — أن تسود قلوب الناس ونفوسهم، وأن تصبح لغات شعبية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ فاليونان قد غزوا العالم الشرقي؛ غزوا الشرق الأدنى كله وتعمقوا حتى وصلوا إلى الشرق البعيد، ونشروا علومهم وفلسفتهم وحضارتهم، واستطاعوا أن يطبعوا الإنسانية القديمة بطابعهم الخاص، وهو العصر الذي تلا فتح الإسكندر، والذي استقرت فيه ممالك يونانية في الشرق، وعرفت فيه الفلسفة اليونانية بين الشرقيين، بل شارك الشرقيون في هذه الفلسفة أيضًا.
وكانت اللغة اليونانية لغة رسمية في الشرق كله كما كانت لغة رسمية للمدن اليونانية، وكذلك انتشرت اللغة اليونانية في مواطن من إيطاليا على السواحل، وفي مواطن من فرنسا على السواحل، ووصلت إلى إسبانيا واستقرت فيها وقتًا ما، وكانت لغةً رسمية أوقاتًا تقصر وتطول.
ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن اللغة اليونانية لم تستطع بحالٍ من الأحوال أن تصبح لغةً شعبية لهذه البلاد التي خضعت لسلطانها.
فالمصريون اتخذوا اللغة اليونانية لغتهم الرسمية للسياسة والإدارة نحو عشرة قرون، ولكنهم لم يتخذوها — في يومٍ من الأيام — لغة شعبية، وإنما كانوا — في تلك الأوقات وتلك القرون الطوال — يتكلمون لغتهم الخاصة. استعاروا من اليونان كتابتهم، ولكنهم ظلوا يتكلمون ويتحدثون بلغتهم الخاصة.
والأمم السامية المختلفة التي كانت منتشرة في فلسطين وسوريا ولبنان والجزيرة وفي كثيرٍ من أجزاء العراق، كل هذه الأمم خضعت لسلطان اليونان، وكانت اللغة اليونانية لغة الإدارة والسياسة والقانون، ولكنها — على ذلك — لم تستطع أن تعرب عن ذات الشعب، ولا أن تكون لغة الحديث والتخاطب بين أفراد هؤلاء الشعوب.
وقولوا مثل هذا في اللغة اللاتينية التي انتشرت أيضًا؛ فاللغة اللاتينية انتشرت في الشرق كذلك، ولكنها لم تستطع أن تغلب اللغة اليونانية — حتى على لغة الدواوين ولغة الإدارة ولغة السياسة — في الشرق؛ فكانت اليونانية لغة الإدارة والدواوين والسياسة أيام الحكم الروماني في الشرق، وهي اللغة التي استطاعت أن تثبت للَّاتينية، مع أن اللاتينية هي لغة الحكام.
واستطاعت اللاتينية أن تسيطر على غرب أوروبا، ولكنها احتاجت إلى قرونٍ طوال، وإلى تطورات خطيرة جدًّا قبل أن تصبح لغةً شعبية في تلك البلاد.
وأكبر الظن أنها لم تصل إلى هذه المرتبة — في يومٍ من الأيام — وإنما ظلت لغة الخاصة الذين يكتبون في العلم وفي الفلسفة وفي الدين. واستطاعت اللاتينية عندما غزاها البرابرة، وأضافوا إليها لغاتهم أن تنشأ عنها هذه اللغات الأوروبية التي نعرفها الآن.
ولا كذلك اللغة العربية؛ فإنها لم تكد تخرج من الجزيرة أثناء الفتوح الإسلامية، حتى اتصلت بنفوس الأمم المغلوبة في وقتٍ ليس بالطويل.
ومع أننا نعلم — مثلًا — أن المصريين احتاجوا لبعض الوقت لتصبح اللغة العربية هي لغتهم، فإننا نستطيع أن نقطع بأن القرن الثاني لم ينتصف حتى كان المصريون — جميعًا — يتحدثون اللغة العربية، ويتخذونها أداة في الاتصال بالحكومات والدواوين، وفيما بين أنفسهم، إلا في مواطنَ ضيقة كانت أشبه بالجزر التي يأخذها الماء من جميع أقطارها بين هذه البلاد التي كانت تتكلم العربية، وكذلك استطاعت اللغة العربية في أقل من قرنين أن تغزوا هذا العالم القديم.
ولكنها غزته غزوًا آخر، لم تغزه هذا الغزو الرسمي الذي نعرفه عندما يفرض المتغلبون لغتهم على السياسة والإدارة والثقافة، ولكنها غزتهم في عقر دُورهم، حتى أصبح الناس يتحدثون بها فيما بينهم؛ يتحدث بها الأب إلى أبنائه وبناته، ويتحدث بها الأبناء إلى الآباء؛ أي إنها أصبحت لغة الأسرة نفسها.
هذا الغزو الذي أتيح للغة العربية لم يُتَحْ للغةٍ قديمة أخرى في وقت من الأوقات مطلقًا.
وما أعرف أنه أتيح ذلك للغةٍ حديثة من اللغات الأوروبية — على أقل تقدير — في هذا العالم الشرقي الذي نعيش فيه.
فالأمم الحديثة الأوروبية قد قهرت الشرق الأدنى وتسلطت عليه وقتًا طويلًا أو قصيرًا، وفرضت لغاتها على الإدارة والسياسة والثقافة أوقاتًا تقصر أو تطول، ولكن هذه اللغات لم تستطع — بحالٍ من الأحوال — أن تصل إلى نفوس الشعوب، وأن تصبح لغة شعبية كما أصبحت اللغة العربية لغة شعبية. ونحن نعرف أن الاستعمار الفرنسي الذي استقر في موطنٍ من مواطن أفريقية الشمالية منذ قرن، حاول — وجدَّ في المحاولة كل الجد — أن يفرض اللغة الفرنسية على أهالي هذا الموطن — وهو الجزائر — واستطاع أن يجعل اللغة الفرنسية لغة التعليم ولغة الثقافة كما كانت بالطبع لغة السياسة والإدارة، ولكنه لم يستطع — إلى الآن — وما أرى أنه سيستطيع في يومٍ من الأيام أن يجعلها لغة الناس.
فاللغة العربية إذن فيها هذه القوة التي لم تُعرف في لغةٍ قديمة ولم تُعرف في لغةٍ حديثة، وفيها من جهةٍ أخرى المقاومة العنيفة؛ هذه المقاومة التي تحميها من طغيان اللغات.
وأنتم تعرفون أن الترك قد تسلطوا على مصر قرونًا طوالًا، ولكن لغتهم لم تستطع قط أن تكون لغة المصريين — حين يتحدث بعضهم إلى بعض — وظلت اللغة العربية في هذه البلاد مسيطرة إلى الآن منتصرة في هذه المقاومة، ظلت لغة الثقافة وظلت لغة الشعب يتحدث بها الناس، ولا يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا.
فهذه اللغة التي استطاعت أن تنتصر هذه الانتصارات المؤزرة، والتي استطاعت أن تسيغ ما أساغت من ثقافات اليونان والفرس والهند، والتي أخذت تسيغ — في يسرٍ أعظم جدًّا مما يظن المتحرجون — ما تحمله الحضارات الأوروبية والأمريكية من ثقافةٍ وعلم، هذه اللغة التي تجد الآن خصومًا من أبنائها، يعرضون عنها ويحملون الناس على أن يعرضوا عنها.
وإذا كان المجمع قد أنشئ ليحافظ على هذه اللغة — ما وجد إلى ذلك سبيلًا — وإذا كان قد أنشئ ليمكن لهذه اللغة من أن تتطور مع الزمن، ومن أن تلائم العصور المختلفة التي تعيش فيها؛ فأول ما يجب على المجمع هو أن يتحدث إلى المتكلمين باللغة العربية ليبين لهم الوسائل التي ينبغي أن يتخذوها لتبقى هذه اللغة قوية — كما كانت قوية دائمًا — مرنة كما كانت مرنة دائمًا، قادرة على أن تغالب وتغلب، وتقاوم وتنتصر، وأن تظل هي لغة الحضارة في المستقبل كما كانت لغة الحضارة في هذا الجزء من الأرض في الماضي القريب والبعيد أيضًا.
وواضح جدًّا أن المجمع لا يستطيع أن يكتفي بما يصنعه أعضاؤه حين يلقى بعضهم بعضًا في مجلسهم أو في مؤتمرهم؛ فالمجمعيون مؤمنون جميعًا باللغة العربية ومؤمنون بقوتها ومرونتها وقدرتها على المقاومة، ولكن إيمان المجمعيين وحدهم لا يكفي مطلقًا؛ فهو يكفيهم هم ولكنه لا يكفي المهمة التي من أجلها أصبحوا أعضاء في هذا المجمع.
فليس لهم بد من أن يلقوا الناس، وأن يتحدثوا إليهم ليقنعوهم بقدرة اللغة على إساغة الحضارة الحديثة وبقدرتها على المقاومة والمرونة والتطور، كما أساغت الحضارة القديمة أيضًا.
وليس معنى هذا أني مطمئنٌّ إلى أن هذه اللغة لا تجد أمامها من المشكلات والمصاعب ما هو خليق أن يعرض بعض الهمم لشيءٍ من الفتور، أو لشيءٍ من الإشفاق؛ فالمصاعب التي تلقاها اللغة خطيرة جدًّا ولا تخلو من عسر، ولكن هذا العسر لا يأتي منها هي، وإنما يأتي من أصحابها.
لغة حية مرنة قادرة على التطور يتكلمها قومٌ لا يزالون في حاجةٍ إلى الحياة، ولا يزالون في حاجةٍ إلى المرونة، ولا يزالون في حاجةٍ إلى التطور. فإذا لم يكن بد من أن نصلح اللغة لتلائم العصر الحديث والحضارة الحديثة، فأول ما ينبغي هو أن نصلح الذين يتكلمون هذه اللغة؛ فالذين يتكلمون بهذه اللغة هم الذين يستطيعون أن يبعثوا فيها الحياة — إن كانوا أحياء — وواضح أن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.
وإذا كانت تنقصهم المرونة فلا عيب عليها ألا تكون مرنة؛ لأن اللغة العربية ليست شيئًا يعيش في السماء أو يعيش في الجو، بل هي شيء يعيش في النفوس والقلوب وتنطق به الألسن، شيءٌ ملازم للأحياء يؤدي ما في نفوسهم.
فإذا كان عندنا شيءٌ نريد أن نؤديه بهذه اللغة ثم قصرت اللغة عن تأديته، هنا نستطيع أن نعدل عن هذه اللغة، وأن نبحث عن لغة أخرى؛ لأنها لم تستطع أن تؤدي لنا المعاني التي نريدها.
والشيء الذي لا شك فيه أن ضعف اللغة العربية لم يثبت إلى الآن، وإنما الذي ثبت هو ضعف المتكلمين بها؛ لأن المتكلمين بها جاهلون، لم يكن عندهم علم فلم يكن فيها علم، ولم تكن عندهم حياة ففقدت اللغة الحياة، وجمدت اللغة لأن المتكلمين بها أصابهم الجمود، فجمدت اللغة بجمود أصحابها.
يومَ يمرن المتكلمون باللغة العربية، ويوم يشعرون بالحياة الكاملة، ويوم تمتلئ بها قلوبهم ونفوسهم وعقولهم؛ ستجاريهم اللغة في الحياة والعلم، ما في ذلك شك؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا خرسًا — لا ينطقون — وهي ميسرة أمامهم. فإذا لم يؤدوا بها عن ذات نفوسهم، فهم الذين يقع عليهم الذنب.
من المشكلات الخطيرة التي تحول بين اللغة العربية وبين أن تؤدي ما يجب عليها أن تؤديه من الإعراب عن ذات النفوس في صراحة، مشكلة الكتابة قبل كل شيء.
ولا بد أن يلتفت إلى أن اللغة العربية عندما استحدثت الكتابة كانت شيئًا ضيقًا، يوشك أن يكون محتكرًا لقلة قليلة، قاصرًا على الخاصة الذين يقبلون على التعليم من الذين يصطنعون الكتابة في مصالحهم الخاصة، وكانت جمهرة الشعب لا تحتاج — أو لا تشعر بالحاجة — إلى أن تتعلم وتتثقف، أو لا يتاح لها حتى هذا الشعور، فكانت الكتابة شيئًا محتكرًا لهذه الطائفة القليلة من المثقفين.
وكان من الممكن للكتابة العربية — على ما فيها من عسرٍ ومشقة — أن يحتملها هؤلاء المثقفون؛ لأنهم قلة، على أن ينفقوا الوقت في التعلم حتى يستطيعوا أن يتقنوا هذه الكتابة كما ينبغي.
ولكن الدنيا قد تغيرت، وأصبحت الحياة الحديثة تفرض على الشعب كله أن يكون قارئًا كاتبًا، ولا بد للشعب كله أن يأخذ بحظه من الثقافة — قل أو كثر — سواء منه الرجال والنساء والبنون والبنات.
فمعنى هذا أن الكتابة التي كانت محتكرة قد أصبحت الآن شعبية شائعة بين الشعب كله، ومعنى هذا أنها أصبحت ديمقراطية بعد أن كانت أرستقراطية، ومعنى هذا أن الديمقراطية تدفع إلى السهولة وتأبى التعسر وإيثار المشقة؛ لأن الشعوب لا تثبت للمشقات، وعامة الشعب لا تفرغ وقتها للتعليم؛ فهي تعمل وتكد لتعيش، وظروف الحياة لا تتيح لهم من الفراغ ما كان يتاح للقلة التي كانت تفرغ للكتابة والقراءة والثقافة والتعليم.
فأول ما يجب على الدولة عندما تفرض تعليم الشعب هو أن تعالج مشكلة الكتابة، وإلا فهي تطلب المحال، وإذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع، فإذا طلبت المستحيل فلا حرج على الناس إذا لم يطيعوك.
وكتابتنا شاقة ما في ذلك شك، ولست في حاجةٍ إلى أن أبين لكم مشقتها، وإنما يكفي أنكم لا تستطيعون أن تقرءوا شيئًا قراءة صحيحة، وأنتم المثقفون، إلا إذا سبقت عقولكم إلى فهمه. وإذا كان هذا لا يتاح للمثقفين، فينبغي ألا تطالب به الجماهير من عامة الشعب، فيجب أن تكون القراءة وسيلة للفهم إلا أن يكون الفهم وسيلة للقراءة.
ومعنى ذلك أننا إذا أردنا أن نعلم الشعب، فيجب أن نصلح له الكتابة العربية، بحيث يستطيع القراءة دون أن يكد نفسه أو يكلفها ما لا تطيق ليستطيع أن يفرغ للفهم والتأمل، وأن يتعمق ما يقرأ، وأن يمتزج هذا الذي يقرؤه بقلبه ونفسه، وأن يدفعه إلى الشعور ثم إلى العمل ثم إلى الإنتاج.
كل هذا يفرض علينا — إذا كنا جادين في تعليم الشعب — أن نيسر وسائل التعليم له، وأول وسيلة من وسائل التعليم هي الكتابة؛ فليس بد من تيسيرها بحيث يستطيع الشعب كله أن يقرأ قراءة صحيحة، وأن يفهم بعد ذلك ويتأمل.
ولا تسألوني أنا عن تيسير الكتابة كيف يكون.
ولكن لكم الحق — كل الحق — في أن تسألوا المجمع والحكومة أيضًا والحكومات العربية، والمجامع العربية في محاولة إصلاح الكتابة، فهي التي ينبغي أن تُسأل عن هذا.
وأشهد لقد جد مجمعنا في إصلاح الكتابة من سنين، وما أرى أنه قصر إذا لم يكن قد وفق إلى هذا التيسير، ولكنه في حاجةٍ إلى العون الذي يتيح له أن يمضي في التيسير بحيث يستطيع أن يجعل هذا التعليم مفيدًا. وبهذا نستطيع أن نقول إننا — نحن المصريين — جادون في التعليم الشعبي، وأن نقول إننا موفقون في هذا الجد، وأن نقول — نحن لأنفسنا — إننا نعلم الشعب فيتعلم، وندفعه إلى الثقافة فيطيع، وندفعه إلى المعرفة فيستجيب، ولن يكون هذا قبل أن نيسر مشكلة الكتابة.
أما المشكلة الأخرى — وهي ليست أقل من هذه المشكلة خطرًا — فهي مشكلة النحو، والفرق بين هاتين المشكلتين أن مشكلة الكتابة مشكلة محزنة حقًّا؛ لأننا نطالب الشعب بما لا ينبغي أن نطالبه به، ونفرض عليه أشياء صعبة لا ينبغي أن نفرضها عليه، ولكن قصة النحو هذه قصة أخرى؛ فهي لا تخلو من ظرف، وهي لا تخلو من فكاهة أيضًا.
وينبغي أن أعتذر للذين يخاصمون اللغة العربية فهم معذورون؛ لأن النحو يربكهم ويرهقهم، فمشكلة النحو موجودة الآن ومنذ زمن، بل من أقدم العصور، وقد قال أحدهم:
فالقدامى أنفسهم كانوا يشقون بالنحاة، وكانوا يشقون بهذا القياس الذي اتبعه النحويون، وفرضوا على العقول القديمة مشكلاته وألغازه، وكل هذه المشقات العسيرة التي طالما يشقى بها أبناؤنا في المدارس والمعاهد والجامعات.
وماذا تريدون إلى نحو يفرض على شاب لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره في هذا القرن العشرين، بين كل هذه المظاهر التي يعيش فيها، والتي تدل على أن العالم القديم قد أصبح تاريخًا، وعلى أن الدنيا قد تغيرت تغيرًا أقل ما يوصف به أنه تغير لا عهد للناس به من قبل في أي عصرٍ من العصور؟ ماذا تريدون إلى نحو يفرض على هذا التلميذ البائس حين يسأله أستاذه أن يعرب قول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ: فيقول: «أحد» مبتدأ، فيعنف به أستاذه أشد العنف؛ لأن «إنْ» لا يمكن أن توجد إلا مع الفعل، وهي — مع الأسف — قد وجدت مع الاسم، وكأن هذا هو ذنب التلميذ!
وإذن فينبغي أن يعرب التلميذ «أحد» فاعلًا لفعل محذوف. ما ذنب التلميذ والأستاذ يظن أنه يعرف أو يفرض عليه أن يعرف ذلك؟
وأذكر أنني ناقشت شيخًا من الشيوخ وقلت له: كيف تعرب «أحد» في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، فقال: «أحد» فاعل لفعل مقدر هو استجارك. فقلت: قد كذبت على الله — عزَّ وجلَّ — وأضفت إلى كتابه ما ليس فيه؛ فالله لم ينزل إلا «استجارك» مرة واحدة، وأنت تقول إنه قال: وإن استجارك أحدٌ من المشركين استجارك، فمن أين جاءت الثانية؟
وقد يسأل الأستاذ تلميذه كيف يعرب زيدًا رأيته، فإذا قال التلميذ إن زيدًا مفعول به وسكت، لامه الأستاذ وربما شهر عليه العصا، وما أكثر ما تشهر العصا حتى في هذه الأيام؛ لأنه لم يقدِّر فعلًا آخر ينصب زيدًا، فقد تبين أن يكون «زيد» منصوبًا بفعل مقدر تقديره رأيت زيدًا رأيته؛ لأن رأيته الثانية قد اتصل بها ضمير، وهذا الضمير لا ينبغي أن يعود إلا على متقدم عنه في اللفظ والرتبة، وإذا كان زيد هو نفس الضمير وهو مفعول لفعل غير الذي يعمل في الضمير؛ لذلك ينبغي أن يكون زيد مفعولًا لفعل محذوف تقديره «رأيت».
ويسأله الأستاذ أن يعرب: «نحن المصريين نجتهد في التعليم.»
فيقول: نحن مبتدأ والمصريين منصوب على الاختصاص. ومن العسير جدًّا على التلميذ أن يقول إنه مفعول لفعل محذوف تقديره نحن أخص المصريين. ومثل يقال في «إياك والنار»؛ أي أحذرك واحذر النار، ومن حيث إن الكاف ضمير متصل لا يستطيع أن يستقل بالكلام، أتينا بالضمير المنفصل «إياك»، وذلك بعد حذف الفعل، إلى آخر هذا الكلام الفارغ الذي ضاق به القدامى أنفسهم وضاق به فحول الشعراء أيضًا؛ فقد كان شاعر فحل — وكلكم يعرفه — وهو «الفرزدق» لا يحفل بالنحاة، بل كان يتكلم كما كان العرب يتكلمون؛ يندفع في الشعر مرتجلًا فيخطئ أحيانًا، ويدفعه أحيانًا وزن الشعر أو قافيته إلى أن يخالف عما ألف الناس الإعراب فيه. وكان هناك نحوي يتتبع «الفرزدق»، وينبهه إلى أغلاطه في النحو، فاضطر «الفرزدق» إلى هجوه وقال:
فسمع «عبد الله» هذا البيت، فقال: «وأخطأت حتى في هذا البيت، وكان يجب أن تقول: مولى موالٍ!» فالنحو إذن كان محنة للقدماء، وهو أجدر أن يكون محنة للمعاصرين.
وواضح جدًّا أننا لا نستطيع أن نطلب إلى أبناء القرن العشرين أن يتعلموا لغتهم على هذا النحو الذي كان الطلاب القدماء يجدون فيه مشقة منذ أكثر من ألف عام، وأن الشباب حينما يذهبون إلى المدارس يتعلمون اللغة العربية، ويتعلمون اللغة الأجنبية: الإنجليزية أو الفرنسية أو اللغتين معًا. والشيء المحقق — الذي لا جدال فيه — هو أن الشاب عندما يخرج من المدرسة الثانوية يستطيع أن يتحدث اللغة الإنجليزية أو الفرنسية حديثًا مستقيمًا، بينما يعجز كل العجز أن يتكلم العربية حديثًا عربيًّا مستقيمًا؛ لسببٍ بسيط وهو أنه لم يفهم من دروسه في النحو، ولا من دروسه حول اللغة العربية: صرفها ومعانيها وبيانها وبديعها؛ شيئًا.
وكما قلت منذ حين: إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع.
فلا تطلب إلى أهل القرن العشرين أن تكون عقولهم كعقول أهل القرن التاسع أو العاشر للمسيح، ومعنى هذا أن النحو لا بد أن يتغير.
والمطالبة بتغيير النحو قديمة كالمطالبة بإصلاح الكتابة العربية، ولكن الكارثة الكبرى تأتي من أن الذين يتعلمون اللغة العربية ويعلمونها يوشكون أن يحتكروها، هؤلاء السادة المحتكرون جمدوا فجمدت معهم اللغة وجمد معهم النحو، ولغة قديمة كاللغة اليونانية تعلم اليوم في المدارس الأوروبية ونحوها قديم لا يلائم العصر الحديث، فيوضع لها نحو حديث يلائم عقل ابن القرن العشرين، ويلائم طبيعته ومزاجه وأطوار حياته دون أن يؤثر ذلك — قليلًا أو كثيرًا — في نفس اللغة اليونانية أو في نفس اللغة اللاتينية.
ولكن محتكري النحو، أو محتكري اللغة العربية قرروا — فيما بينهم ذات يوم — أن إصلاح النحو إفساد للقرآن، وأن من مس النحو بسوء فقد أساء إلى القرآن.
وأعترف بأني حاولت أن أفهم هذا فلم أجد إلى فهمه سبيلًا.
فعندما أُنزل القرآن لم يكن النحو العربي موجودًا، وحينما تُلي القرآن طوال النصف الأول من القرن الأول لم يكن النحو موجودًا، وإنما وجد النحو بعد ذلك، فلم يكن ملازمًا للقرآن؛ وُجد القرآن دون أن يُوجد النحو.
وأغرب من ذلك أن النحاة بعد أن وضعوا نحوهم، وخاصة مدرسة البصرة — التي يحبها زميلنا الأستاذ إبراهيم مصطفى — قرروا أن يخضعوا نصوص اللغة العربية له؛ لأنهم وضعوا قواعد وينبغي أن تخضع العربية كلها لهذه القواعد التي وضعوها. فإذا خرجت كلمة أو لفظ أو إعراب في بيتٍ أو نص من النصوص عن هذه القواعد، أو إذا كان النص غريبًا، فهو شاذ لا ينبغي لأحد أن يذهب هذا المذهب الذي ذهبه صاحب هذا البيت أو النص الشاذ.
وإذا كان النص غريبًا اختصوه بالتأويل، وأجهدوا الناس معهم ليظهروا أنه منطبق على ما وضعوه من قواعد.
وأذكر أن صديقًا زارني منذ أيام وسألني كيف تعرب الآية: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ؛ فإن الحرف «إن» يجزم فعلين، وكان حقه أن يقال: لئن أخرجوا لا يخرجوا، مع أن الآية مستقيمة رضي النحويون أم سخطوا، ولكن المهم عندهم هو صدق قاعدتهم، فقدر النحويون حذف أحد الجوابين اكتفاء بجواب السابق منهما وهو القسم.
ولكني مطمئنٌّ إلى أن الذين سمعوا القرآن من سيدنا محمد ﷺ كانوا يفهمونه كما يتلى عليهم، ولا يحتاجون إلى تأويلٍ وحذف، وما أكثر ما يتكلف النحويون ليلائموا بين نحوهم وبين القرآن أو النصوص.
فإذا كان هذا كله جائزًا، ومستحبًّا أحيانًا، وعلم النحو من أحب العلوم العربية إلى نفسي؛ لأني أجد لذة في قراءة الكتب النحوية المعقدة — على ما فيها من هذه الفلسفة والتعقيد — مثلما أجد عند قراءتي لشعر رائع لجرير أو لبشار، أو لمن شئتم من الشعراء القدماء والمحدثين.
إذا كان هذا النحو مستحبًّا إلى الأخصائيين، وإلى الذين يفرغون لمثل هذه الدراسات، فمن الحمق كل الحمق — ولا أتجاوز هذه الكلمة — أن نفرض هذا على الشباب في هذا القرن وهم لا يحصون بعشرات الألوف، بل بمئات الألوف. من الخطأ ومن الحمق أن نأخذ عقول الشباب بتعلم هذا النحو والخضوع لمشكلاته وعسره والتوائه، هذا الذي لا يلائم الحياة الحديثة ولا التفكير الحديث.
ليس بد إذن من تيسير النحو، أو إن شئتم ليس بد من إنشاء نحو جديد يضبط قواعد اللغة العربية دون أن يمس جوهرها — من قريبٍ أو من بعيد — ولكنه يتيح للشباب أن يتعلم هذه اللغة في يسرٍ وفي غير عنف.
وإذا يسرت الكتابة، وإذا يسر النحو، وإذا أحسن المعلمون تعليم الأدب واللغة من نواحٍ مختلفة: من ناحية ملاءمة التعليم لعقول الأطفال من الناحية البيداكوجية، ولعقول الشباب من ناحية حسن الاختيار، بحيث يكون التعليم ملائمًا للذوق الحديث أيضًا، إذا أحسن هذا كله — وكما تعلمون قد فرض التعليم على الشعب كله — فلست أشك بحالٍ من الأحوال في أن يومًا من الأيام غير بعيد، لا أحب أن أحدده — كما تعود الناس أن يحددوا كل شيء في هذه الأيام — سيأتي وقد عادت الحياة القوية إلى هذه اللغة وأصبحت ليست لغة المثقفين فحسب، ولا لغة الأدب فحسب، ولكنها لغة المثقفين ولغة الأدب التي يفهمها الشعب كله.
هذا خير أم ما يعرض الآن ويدعى إليه هو الخير؛ وهو أن نتكلم اللغة العامية ونكتب بها، ونعرض عن هذه اللغة، ونتركها للذين يحبونها ويريدون أن يفرغوا لها؟
أما أنا فمطمئن إلى أن هذه الدعوة لن تلقى من يستجيب لها، وأصحابها أنفسهم لا يستجيبون لها — فيما بينهم وبين أنفسهم — وإنما هو قوم حيل بينهم وبين أن يتعلموا اللغة تعليمًا صحيحًا، وحيل بينهم وبين تذوق هذه اللغة؛ لأن الذين علموهم اللغة لم يحسنوا تعليمهم، ولأن النحو لا يلائم عقولهم؛ ولأن ما ألقي إليهم من دروس الأدب ليس هو الأدب الذي يلائم الذوق الحديث المعاصر؛ فهم معذورون إذن.
ولكن الشيء الذي أحب أن أحذر منه المصريين خاصة، والعرب عامة، هو أن مثل هذه الدعوة إن استجيب لها في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية، فسيأتي يوم — وما أرى أنه سيأتي — تصبح فيه الصلة بين البلاد العربية كالصلة بين البلاد الفرنسية والإيطالية والإسبانية؛ يحتاج الفرنسيون إلى أن يترجموا إلى لغتهم هذا أو ذاك، ويحتاج الإسبانيون إلى أن يترجموا إلى لغتهم هذا أو ذاك، وسنحتاج — نحن — إلى أن نترجم عن السوريين والعراقيين، وإلى أن يترجم السوريون والعراقيون عنا.
وما أظن أن أحدًا يفكر تفكيرًا جديًّا في مثل هذا.
وما أظن أن محبًّا للعرب وللحياة العربية ولتاريخها، ومحبًّا للقرآن الذي توارثته القرون، ومحبًّا لهذا التراث الضخم؛ يستطيع أن تطيب نفسه إلى هذا السخف الذي يدعى إليه.
وليس بد — إذن — قبل أن أختم هذا الحديث الذي أسرف في الطول، وأصبح كعرقوب تلك المرأة التي قال فيها الشاعر:
أظن أنكم جميعًا توافقونني وتوافقون المجمع معي — فأنا أتحدث بلسان المجمع وهذه إحدى جلساته، وكما روي: «المؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم» — أظنكم توافقون جميعًا على أنه إذا كان هناك شيء يجب أن نتعاون عليه تعاونًا صادقًا مخلصًا، يراد به ترقية العلم وترقية الأدب، وتحقيق الوحدة العربية تحقيقًا جديًّا لا ساخرًا؛ فهو أن تتعاون الحكومة والمجمع والمثقفون والهيئات المختلفة على تحقيق تيسير الكتابة العربية والنحو العربي؛ لتكون اللغة العربية قريبة التناول، لغة يمكن أن يتعلمها الشباب ويعلمها المعلمون.