بغداد
بغداد، قلب الإسلام، وبها مدينة السلام. ولهم الخصائص والظرافة، والقرائح واللطافة، هواء رقيق، وعلم دقيق. كل جيد بها، وكل حسن فيها. وكل حاذق منها، وكل ظرف لها. وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وكل ذبٍّ عنها. هي أشهر من أن تُوصَف، وأحسن من أن تُنعَت، وأعلى من أن تُمدَح.
الزمان: ربيع عام ٩١٧ ميلادية.
فوجٌ من السفراء يصل إلى بغداد، أرسلته الإمبراطورة البيزنطية زوي، من عاصمتها، القسطنطينية. هم هنا للتفاوض على بنود معاهدة سلام؛ بعد أن كانت الإمبراطوريتان البيزنطية والإسلامية تتحاربان لقرون على حدودهما المشتركة، التي تسري من الشرق إلى الغرب عبر شبه جزيرة الأناضول. يوضع السفراء في واحد من قصور المدينة الكثيرة، حيث يقضون شهرَين بانتظار أن يُجهَّز مُضيفوهم لاستقبالهم. يأمر حاكم بغداد المسلم، المقتدر (٨٩٥–٩٣٢)، الخليفة الثامن عشر للدولة العباسية، بتجديد مُجمَّع القصور بالكامل إكرامًا لهم؛ فيُعاد ترتيب الأثاث، وتُعلَّق مئات الستائر، وتوضع سجاجيد منسوجة جميلة آتية من كل أنحاء الإمبراطورية، وتُلمَّع السروج وتُشذَّب الحدائق.
ويحل أخيرًا يوم الاستقبال.
يمضي الخطيب فيصف، في تفصيل يحبس الأنفاس، دارًا تحوي مائة أسد، مُكمَّمة الأفواه ويُمسِك بها حراسها، وبستانَين بينهما بركة ونُهَير يحدهما رصاص مصقول يشع بياضًا كالفضة، ويطفو عليهما أربعة قوارب لها مجالس مُزركَشة. كانت الحدائق المحيطة مُمتلئة بأشجار غريبة، منها ٤٠٠ نخلة، كانت جذوعها مُحاطة بنحاس مُذهَّب. لا بد أنه قد استُخدِم مئات من الحِرَفيين لصنع هذه العجائب، التي تُظهِر كامل مجد الأشغال المعدنية والبراعة الفنية العربية للبيزنطيين. بعد ذلك جاء أكثر المشاهد روعة على الإطلاق: «دار الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة، مُدوَّرة فيها ماء صافٍ، وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها شاخات [أفرُع] كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مُذهَّبة ومُفضَّضة. وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مُذهَّب. وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تُحرِّك الريح ورق الشجر؛ وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر.» لا بد أن هذا كان منظرًا ساحرًا حقًّا؛ خليط من حِرَفية وأشغال ميكانيكية بارعة أظهرت إنجازات الثقافة البغدادية على أكمل وجه.
القصر التالي كان أقل خفاءً في رسالته؛ إذ كان مُعلَّقًا على حوائطه آلاف القِطَع من الدروع، وواقيات الصدر، ودرقات من الجلد، وجعبات مُحلَّاة وقِسِي، وكان يصطف في ممراته عدد لا يُحصى من العبيد من مختلف الأجناس، مختارين بعناية ليُظهِروا اتساع رقعة الممالك المسلمة. بعد طواف مُرهِق فيما لا يقل عن ثلاثة وعشرين قصرًا في حر يوليو القائظ، خفَّف من وطأته فقط مشروب الشربات والماء المُثلَّج، اقتيد السفراء أخيرًا إلى حضرة الخليفة المقتدر.
فوجدوه جالسًا على عرش من الأبنوس مُنجَّد بقماش مُطرَّز بالذهب، يُحيط به خمسة من أبنائه.
هذه الرحلة عبر دهاليز السلطة الإسلامية صُمِّمت لتُظهِر لسفراء بيزنطة أن الخلافة العباسية كانت لا تزال قوة لا يُستهان بها، رغم أنها كانت قد فقدَت أجزاءً كبيرة من حدودها السابقة؛ ففي أوج مجدها، كانت الإمبراطورية الإسلامية قد امتدَّت من الساحل الأطلسي لأفريقيا إلى جبال الهيمالايا. كان لا يزال في وسعها أن تستحضر السباع والفيلة ونافثي النار من الهند؛ وكان لا يزال في وسعها أن تُقدِّم عرضًا. وعاصمتها، بغداد، كانت لا تزال مركزًا مهمًّا من مراكز البحث العلمي.
ولكنها كانت في انحدار؛ فمنذ قرن واحد فقط، كانت بغداد في ذروة عصرها الذهبي، لم يكن لها مثيل في أي مكان في العالم لجمالها ورقيها وعلمها وروعتها. في القرن الأول الباهر من الحكم العباسي، كان الخليفة يُوصَف بأنه ظل الله على الأرض؛ كان حاكمًا رائعًا وكان نفوذه هائلًا. في هذه الفترة المُبكِّرة، صنع ثلاثة خلفاء تأثيرًا خاصًّا؛ المنصور (٧١٤–٧٧٥)، الحاكم الثاني للأسرة الحاكمة، الذي أنشأ بغداد وأصبح راعيًا مُلهِمًا للبحث العلمي؛ وحفيده، هارون الرشيد (٧٦٣–٨٠٩)، الأشهر في الوقت الحالي نظرًا للتجسيد المُمتِع، رغم كونه خياليًّا إلى حد كبير، لمغامراته في كتاب «ألف ليلة وليلة»، والذي لم يكن مُحارِبًا مُخيفًا وزعيمًا عالميًّا فحسب، وإنما كان أيضًا داعمًا مُتحمِّسًا للبحث العلمي؛ وأخيرًا، ابن هارون، الخليفة المأمون (٧٨٦–٨٣٣)، الذي استقطبَت بغداد تحت عنايته أعظم عقول ذلك الزمان، والذي دفع المعرفة الإنسانية إلى الأمام، عبر مزيج يجمع بين الثروة والتنوير والفضول والطموح.
كان الخلفاء العباسيون مُجتمِعين على الإخلاص لربهم ولدور الخليفة بوصفه «أمير المؤمنين». وارتبط بهذا إيمانهم بأن سلالتهم الحاكمة كان مُقدَّرًا لها أن تحكم، وأن تظل تحكم لقرون. من الصعب أن نُدرِك إدراكًا كاملًا مدى الأهمية التي كانت عليها القدَرية لرجال ونساء العصور الوسطى في كل أنحاء العالمَين الإسلامي والمسيحي. في عالم يعجُّ بمخاطر وفوضى لا تُوصَف، كان من المهم الشعور بأن أيًّا كان ما تفعله هو جزء من خطة إلهية؛ وكان هذا ينطبق على فلاحين يزرعون محاصيلهم أو تجار يشدون الرحال لرحلة، مثلما ينطبق على خلفاء يتزعمون إمبراطورية. وُجدَت وسائل مُتعدِّدة لاكتشاف إذا ما كان الإله الذي تعبده راضيًا عن خططك، لكن سماء الليل كانت أقوى تلك الوسائل. فمنذ بدء الحضارة، خلبَت النجوم ألباب البشر، ولم يُستثنَ من ذلك أهل بغداد في العصور الوسطى؛ فخلال الليالي الطويلة الحارة، كانوا يستلقون على ظهورهم على الأسطح المُنبسِطة لمنازلهم، يُحدِّقون إلى أعلى نحو السماء المُتلألِئة، ويُضفون على النجوم أهمية هائلة. كما أوضح الخليفة المأمون نفسه:
في عالم مُتقلِّب تقلُّبًا مُخيفًا، قدَّمَت النجوم خريطة للمستقبل، لمحة عن عالم السماء الغامض وكذلك المفتاح لاكتشاف أسرار الأرض بالأسفل. في وقتنا الحاضر، نُميِّز بين علم الفلك، أي دراسة النجوم والكواكب، وبين التنجيم، أي تأويل تأثيرها على شئون البشر. أما في بغداد العصور الوسطى، فلم يُعتمَد مثل هذا التمييز بين الفرعَين المعرفيَّين؛ فقد كان الناس يعتقدون أن التنجيم يُمكِن أن يتنبأ بالطقس والكوارث الطبيعية والأوبئة، بل أيضًا بصحتهم الشخصية وطالعهم وسمات شخصيتهم (عن طريق خرائط الأبراج)؛ فاستخدموه لاتخاذ قرارات بشأن كل مجال من مجالات حياتهم. كان التنجيم جسرًا بين عالم البشر والإله، بين المعلوم والمجهول.
في العقود التي تلت الفتوحات الإسلامية، هاجر آلاف المسلمين نحو الشمال، حيث استقروا في العراق وإيران وإقليم خراسان الشاسع؛ وهي المناطق التي كانت خصبة ومُزدهِرة وموطنًا لمدن طريق الحرير الرائعة مثل بلخ ومرو ونيسابور وسمرقند. ومع ذلك، سرعان ما اكتشف حكام الإمبراطورية الإسلامية الجديدة، مثلما فعل الإسكندر قبلهم، أنه كان من المستحيل فرض الحكم بالقوة؛ إذ كانوا أقل مما ينبغي، وتفرَّقَت أعدادهم تفرُّقًا كبيرًا عبر الأقاليم الشاسعة التي كانوا قد غزوها. فتسامحوا مع رعاياهم من غير المسلمين وفرضوا عليهم الضرائب وفقًا للشريعة الإسلامية. وشجَّعوا الاستمرارية كي يبقى السكان المحليون ويزرعوا، واعتمدوا أنظمة قائمة للحكم، ووظَّفوا وقلَّدوا وصاحبوا الكثير من المُنتمين للصفوة الساسانية.
وكان مُفيدًا أن الثقافة الساسانية كانت واحدة من أكثر الثقافات تطوُّرًا وتأثيرًا على وجه الأرض، وأن الثقافة العربية كانت شابة وبدائية نسبيًّا. فقبل ذلك ببضعة أجيال فقط، كان قوم محمد بدوًا، يطوفون صحارى شبه الجزيرة العربية. أما حينذاك، فكانوا أثرياء ثراءً يتجاوز أشد أحلامهم جموحًا، وأرادوا أسلوب الحياة الذي يتماشى مع ذلك. أكل الساسانيون طعامًا فاخرًا، وعاشوا في منازل مُترَفة وأحاطوا أنفسهم بعلماء وموسيقيين وشعراء لامعين. وكان العرب مبهورين بذلك، فاستوعبوا بحماسةٍ كل الأبهة التي تُبديها فارس الساسانية، ودمجوها مع تقاليدهم الدمثة ليصنعوا واحدة من أكثر الثقافات التي رآها العالم إسرافًا وروعة. أصبحت بغداد هي التعبير المُطلَق عن ذلك الاندماج، بفضل خلفاء الأسرة العباسية أصحاب الرؤية الاستشرافية.
في السنوات التي سبقت عام ٧٥٠، حكمَت سلالة الأُمويين الإمبراطورية المسلمة، ولكن التصدعات الدقيقة التي كانت قد بدأت تشق صف الإسلام ما إن مات محمد كانت آخذة في التعمق؛ لا سيما الانشقاق الديني السني/الشيعي الذي قسَّم الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. مع تناحُر آل بيت النبي بشأن من الأحق بالسلطة، عمل العباسيون (الذين يرجع نسلهم إلى العباس، عم محمد) بهدوء لنشر السخط. في عام ٧٤٧، نشر زعيمهم، الذي كان يُعرَف باللقب الدقيق والمُعبِّر، السفَّاح، راياته السود على مدينة مرو وأطلق العِنان لثورة. وبعد أن استولى على السلطة، مضى في مُطارَدة وإبادة كل فرد من العشيرة الأُموية في مذبحة جماعية اتسمَت بالوحشية حتى بمقاييس عصرنا الحالي، والتي يُزعَم أنها بلغت الذروة في نبش القبور وحرق الجثث. ولكن أميرًا أُمويًّا شابًّا، يُدعى عبد الرحمن، فر إلى إسبانيا، حيث أسَّس أسرة حاكمة مُنافِسة. ومضى المُنحدِرون من نسله في بناء مركز نابض بالحياة في مدينة قرطبة، كما سنرى في الفصل التالي. كان حكم السفاح قصيرًا مثلما كان عنيفًا. وعندما مات مُتأثِّرًا بمرض الجدري في عام ٧٥٤، انتقلت الخلافة إلى أخيه، أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور (نحو ٧١٣–٧٧٥).
لحسن الحظ، كان المنصور مختلفًا تمامًا عن أخيه. كان طويلًا، ذا لحية غير كثة وعينَين ثاقبتَين، وأمضى سنوات حكمه في توطيد السلطة وتحقيق الاستقرار. كان أعظم إنجازاته تأسيس عاصمة جديدة، أطلق عليها اسم مدينة السلام؛ المدينة التي ندعوها بغداد. في إطار إعادة تمركز السلطة بعيدًا عن معقل الأُمويين العربي في دمشق، عمد المنصور إلى تعزيز صلته بالصفوة الساسانية، عاملًا على ترسيخ دعائم مدينته الجديدة لتمتد إلى مجد التراث الفارسي القديم. كان هذا أمرًا رسميًّا وشخصيًّا على السواء؛ فأقرب أصدقاء المنصور كان فارسيًّا من خراسان، يُدعى خالد بن برمك، الذي قدَّمَت عائلته دعمًا أساسيًّا لثورة العباسيين. كان البرامكة، الذين كانوا يتصفون بالغرابة وبالثقافة، من بلخ، في أقصى شمال الإمبراطورية، حيث درسوا أرسطو وتعلَّموا قراءة اللغة اليونانية؛ فجسَّدوا، أكثر من أي أسرة فارسية أخرى، روح الثقافة الرفيعة والعظمة التي أبهرَت سادتهم العرب. عمِل ابن برمك على مساعدة المنصور في إيجاد موقع لعاصمته الجديدة. ومعًا، سافرا جنوبًا واختارا قرية بغداد الصغيرة، التي تبعد ثلاثين كيلومترًا فقط عن العاصمة الساسانية القديمة قطيسفون.
بعث المنصور مراسيم إلى جميع أركان إمبراطوريته، يطلب مهارات آلاف من العمال والمسَّاحين والمهندسين والمعماريين والحدادين والنجارين والبنائين والعبيد كي يأتوا من أجل إقامة مدينة أحلامه. وباستخدام الرماد في رسم تصميمه المُدهِش على الأرض، ابتكر مدينة دائرية فريدة. وإذ كان يُدير أولًا بأول شئون كل تفصيلة من تفاصيل إنشاء المدينة، كان يبعث الرعب في نفوس عماله بتدقيقه في إنفاقهم تدقيقًا شديدًا، مُلقيًا بهم في السجن إذا عجزوا عن تقديم كشف حساب بكل نفقة كبيرة وصغيرة. كان يُدفَع للعمال حبتان أو ثلاث حبات من الفضة في اليوم، و١ / ٢٤ من الدرهم للمعماريين المهرة. كانت كل طوبة تُوزَن، وكل قرش يُحسَب؛ فربما كان يبني أعظم مدينة على الأرض، لكنه لم يكن يعتزم إهدار حفنة واحدة من الطمي. يُخبِرنا الطبري أنه بعد سنوات، عُثِر على طوبة من الجدران الأصلية محفورًا على جانبها وزنها بالضبط. شكَّل جداران دائريان هائلان مُتحِدا المركز من الطين المُحمَّى مُحيط المدينة البالغ أربعة أميال، مع خندق مائي حول الجدار الخارجي. وشكَّل جدار ثالث في الداخل المكاتب الحكومية والمنازل. وقادت أربع بوابات شاسعة ثنائية القباب إلى أركان الإمبراطورية؛ البوابة الشمالية الشرقية إلى مدينتَي خراسان والري، والشمالية الغربية إلى سوريا، والجنوبية الشرقية إلى مكة، والجنوبية الشرقية إلى البصرة والخليج الفارسي. في أوقات العصر الصيفية الحارة، كان الخليفة نفسه يحب أن يجلس في الغرفة العلوية للبوابة الشمالية الشرقية ليستمتع بالنسيم ويشخص ببصره نحو إقليم خراسان البعيد، الذي ساعده أهله على الوصول بسلالته الحاكمة إلى السلطة.
في أواخر القرن الثامن، وصل بغدادَ مُنتَج جديد كان من شأنه أن يُغيِّر عالم الكتب إلى الأبد وهو الورق. في عام ٧٥١، كان العرب قد هزموا الصينيين في معركة طلاس، في قيرغيزستان الحالية، في أعماق سهوب وسط آسيا الشاسعة. نقل اثنان من أسرى الحرب، اللذان كانا قد أُخذا إلى سمرقند، سرَّ كيفية صنع الورق من القُنَّب ومن نباتات ليفية أخرى. وبُني أول مصنع ورق في العالم العربي في سمرقند، ومن هناك تنقلت الفكرة تدريجيًّا على طرق الحرير، حتى وصلت بغداد في عام ٧٩٣.
وتقريبًا في الوقت نفسه الذي وصل فيه الورق إلى بغداد، كان يوجد أيضًا أوجه تقدُّم تكنولوجية في تصنيع الحِبر والغِراء، وفي تقنيات تجليد الكتب. هذه التطورات مُجتمِعة كفلَت للكتب أن تُصبِح أكثر جمالًا وكذلك أكثر تحمُّلًا. ازدهرَت أيضًا فنون الخط وزخرفة المخطوطات ورسم المُنمنَمات مع توظيف أعداد متزايدة من الناس لتلبية الطلبات المتزايدة لهذه التجارة. وكان أعظم هؤلاء هم الوراقين، أو «تجار الورق»، الذين أداروا محال بيع الكتب. في أواخر القرن التاسع، أحصى الباحث المدعو اليعقوبي أكثر من مائة منهم في ضاحية ربض وضاح في بغداد وحدها. كان لديهم السوق الخاصة بهم هناك، ووظَّف كثيرون منهم فرقًا من النساخ لإنتاج الكتب التي كانوا يبيعونها، والتي كانت تُعرَض على مناضد ذات حوامل؛ فالتصفُّح كان مُشجَّعًا. كان كثير من الوراقين باحثين بحكم ما لديهم من معرفة وصارت متاجرهم أماكن يجتمع فيها أهل الفكر؛ فكانت بمنزلة أكاديميات غير رسمية وحِلَقًا للنقاش العلمي. وانضم بعضهم إلى عملية البحث عن المخطوطات، مُرتحِلين في كل حدب وصوب لكشف كنوز الحضارات السابقة. ساعد الوراقون أيضًا في تمكين الباحثين من كسب قوتهم من الكتابة، وبتطوير تجارة الكتب، نقلوا المعرفة من بغداد في كل أنحاء دار الإسلام، كما كان يُطلَق على محيط النفوذ الإسلامي. ولولاهم، لما صار الإنتاج الأدبي الهائل للعالم الناطق بالعربية — إذ كان يوجد أكثر من ٥٠٠٠ مؤلف مسلم يكتبون بحلول نهاية القرن الحادي عشر — مُمكِنًا.
في غضون أربعين عامًا من إنشائها، كانت بغداد حاضرة مُزدهِرة. جاء الناس إلى هناك من كل أنحاء دار الإسلام وما بعدها، يجتذبهم وعود المدينة بالتسامح والسلام. فازداد تعداد السكان زيادة هائلة ونمَت المدينة نموًّا مُطَّرِدًا؛ مما أوجد مشكلات عملية تتعلق بالمرافق الصحية والمؤن الغذائية والضرائب. احتاجت الإمبراطورية لبِنية تحتية؛ طرق وجسور وأنظمة وقنوات ري، والتي اعتمدت كلها على أوجه التقدم في التكنولوجيا والتصميم. حتى أبسط المشروعات الهندسية استلزمت حسابات رياضية. كانت المعرفة الطبية ضرورية للمساعدة في علاج الأمراض وإنقاذ الأرواح. وكان التنجيم جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وبخاصة في الطب، حيث كان يُستخدم في التشخيص. كان علم الفلك ذا أهمية جوهرية للتنجيم ولأي نوع من البحوث الجغرافية والملاحة ورسم الخرائط (التي كان لها أهمية عسكرية جلية). ولم يكن من الممكن مُتابَعة أي من هذه الأمور بدون الرياضيات؛ لغة القياس والحساب والدقة. كانت الدراسة الأكاديمية والمعرفة العملية مُتشابِكتَين، وكانتا تُمِدان الإنتاج الثقافي ومساعي البحث العلمي بما يحتاجان إليه من زخم.
مع تحوُّل قالب اللغة العربية من مجموعة غير مُحدَّدة المعالم من التراث الشفاهي إلى لغة مكتوبة رسمية في القرن الثامن الميلادي، بدأ برنامج ضخم من الترجمة من اللغة الفارسية أو البهلوية (الشكل المكتوب من اللغة الفارسية الوسطى). كان كثير من الموجة الأولى من الكتب المزمع ترجمتها إلى العربية عبارة عن أطروحات عملية عن الحكومة والإدارة والنظام الضريبي، ولكن قبل ذلك بوقت طويل تحوَّل الاهتمام إلى المجموعة الفارسية الواسعة من الكتابات في التنجيم والفلك. لعبَت النجوم دورًا كبيرًا في الزرادشتية، ديانة الدولة في فارس الساسانية؛ فعلى مر القرون، كان الباحثون قد أنشئوا مجموعة مُعقَّدة من الأعمال حول هذا الفرع من فروع المعرفة، تضمَّنَت أفكارًا من الهند واليونان ومصر وخيوطًا امتدَّت عائدة إلى الحضارة البابلية التي ترجع إلى عام ١٨٠٠ق.م.
كانت الكتب تُنقَل من وإلى بغداد وعبر أنحاء العالم العربي بسهولة نسبية. وكان مما ساعد في هذه العملية خدمة البريد الحكومية، التي كانت تعمل في سائر أنحاء الإمبراطورية، مع رسائل كانت تُحمَل بواسطة مجموعات من الجمال والبغال والخيل والحمام تعمل بالتناوب. كان مُعلَّقًا على جدران المكتب الرئيسي في بغداد خرائط ضخمة يستخدمها المسافرون والحُجاج في التخطيط لرحلاتهم. وكانت شبكة من خانات القوافل (الفنادق الصغيرة) ودور رعاية المرضى وخزَّانات مياه على جانب الطريق تخدم الحُجَّاج والتجار والباعة المُتجوِّلين والجنود والرسل والوعاظ وغيرهم من المسافرين. أثناء الليالي الطويلة، كان الناس يتجمعون حول نيران مُخيَّمات خانات القوافل ليأكلوا ويشربوا ويستريحوا، والأهم من ذلك، ليتحدثوا ويتبادلوا أطراف الحديث؛ مما جعلهم مراكز حيوية للمعلومات، وكأنهم صحف ومواقع تواصل زمنهم. تآزر المسافرون معًا، مُنضمين إلى قوافل الجمال الطويلة التي كانت تنقل البضائع عبر الإمبراطورية؛ إذ كانت تلك القوافل هي أكثر الطرق أمانًا لمواجهة أخطار عبور صحارى شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وإيران. وكان من بينهم باحثون لديهم الاستعداد للسفر مئات الأميال، ومواجهة مخاطر العواصف الرملية والأمراض والسيول وقُطَّاع الطرق والحيوانات البرية في بحثهم عن الكتب، مدفوعين بمخافة أن تضيع تلك الأفكار إلى الأبد. فسافروا شرقًا عبر آسيا وشمالًا إلى بلاد الأناضول في الإمبراطورية البيزنطية، حيث كانت اللغة اليونانية لا تزال اللغة الرئيسية. هنالك، أيضًا، كانت توجد مدن قديمة تضم معابد قديمة وأديرة عامرة بالكتب.
في قرية كركر، خارج بغداد مباشرة، كان أحد النبلاء، ويُدعى المُنجِّم، يمتلك في قلعته مجموعة مهمة من الكتب، ومن المحتمل أن مكتبته كانت تُدار بطريقة مُشابِهة لتلك التي يُدار بها بيت الحكمة. جاء الباحثون من بلدان كثيرة مختلفة ليدرسوا في مكتبة المُنجِّم؛ فكان يحتفي بهم باعتبارهم ضيوفه، وفي المقابل، عزَّزوا سمعته باعتباره راعيًا للتعلم، مُتنوِّرًا ومُثقَّفًا. وانعكس هذا بالمثل في أنحاء الإمبراطورية؛ فأخذ الصفوة أمر رعاية البحث العلمي مأخذ الجد للغاية، برعايتهم للباحثين ومنحهم كل ما يحتاجون إليه من أدوات للكتابة، ومكان للمبيت والطعام، ومال، وكتب وتشجيع أكاديمي؛ كي يستفيدوا أكبر استفادة من مواهبهم. لا بد أن كل هذه العناصر كانت متاحة في بيت الحكمة، وكذلك عاملا التعاون والتنافس الفعَّالان؛ فالباحثون يعملون معًا على مشاركة أفكارهم وإمكاناتهم، ولكنهم أيضًا يسعون إلى التفوق بعضهم على بعض؛ ومِن ثَم توسيع نطاق حدود المعرفة دومًا.
ازدهر البحث العلمي في بغداد تحت حكم هارون، ولكن المتاعب كانت تلوح في الأفق واندلعَت أول عاصفة في عام ٨٠٣. فلأسباب غير واضحة، انقلب هارون فجأة على البرامكة، وألقى بمُعلِّمه الخاص السابق، يحيى، الذي كان قد صار رجلًا مُسنًّا، في السجن وقتل ابنه، جعفر، بوحشية. وسقطَت الأسرة الفارسية القوية، التي كانت قد رقصت على حافة سكين الرضا الملكي بنجاح كبير، ولم تقُم لها قائمة من جديد أبدًا. بعد ذلك مباشرة، تصدَّى هارون لمشكلة من يخلُفه، مُنصِّبًا عبد الله المأمون، ابنه من أَمة، والثاني في ترتيب الأحق بالخلافة بعد ابنه البكر الشرعي، الأمين، الذي كانت أمه زبيدة، تلك الشخصية التي كانت تتسم بالبهرجة. أثناء الأعوام السابقة على وفاة هارون في عام ٨٠٩، حاوَل أن يضمن انتقال تاجه سلميًّا إلى الأمين. لكن القدر لم يكن حليفه. فالمأمون، الذي استمر ليترأس أعظم حقبة للجهد الفكري العربي على مدى التاريخ، لم يكن بالرجل الذي يحتمل أن يأتي في المرتبة الثانية. أنشأ المأمون مركز قوة في مرو، عاصمة إقليم خراسان الشمالي الشاسع، مسقط رأس أمه، سائرًا على الخطى الدامية لعمه الأكبر السفاح (الذي كان قد أسَّس السلالة الحاكمة)، وانزلق إلى حرب أهلية دامية مع أخيه بلغَت ذروتها في حصار بغداد الذي استمر أربعة عشر شهرًا. لم يكن لدى الأمين أي أمل في النجاح. فقد كان المأمون ذكيًّا، وذا شخصية آسرة، ولا يمكن إيقافه.
تُوِّج المأمون خليفةً في عام ٨١٣، ولكنه بقي في مرو حتى عام ٨١٩، عندما قام أخيرًا برحلة الألف ميل عائدًا إلى بغداد. لم تتعافَ المدينة أبدًا من الحرب الأهلية تعافيًا تامًّا ورغم أنه كان قائدًا قويًّا، فقد عانت المدينة من اندلاع أعمال العنف والشقاق الحزبي. ومثل والده، عاش المأمون حياة لا تُصدَّق من الأبهة والرفاهية. كان قصره مُؤثَّثًا بأجمل الأغراض ودُعي أفراد حاشيته إلى أروع الولائم؛ فكانت تُغنِّي لهم فتيات راقصات وهم مُتكئون على وسائد حريرية ويستمتعون بأكل التين والفستق والعنب والرمان والبقلاوة المُشرَبة بالزعفران التي يتقطر منها العسل، وكل ذلك يُقدِّمه رجال مخصيون فاتنون. وفي الأوقات الأخرى غير أوقات استمتاعهم بالطعام وإفراطهم في شرب الخمر، كان أفراد البلاط ينخرطون في أنشطة أخرى عديدة مثل ألعاب الكرة والصولجان والصيد بالصقور والمبارزة والصيد وسباق الخيل.
تدفَّقَت المعرفة إلى بغداد من كل حدب وصوب، وبلغات متنوعة. كانت الكنيسة المسيحية في الشرق الأوسط راسخة، وتضخَّمَت أرقامها بسبب المسيحيين السريان، الذين كانوا قد انشقوا عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية الرئيسية على خلفية خلافات مذهبية وأنشئوا كنيستهم النسطورية الخاصة بهم. وإذ كانوا مُضطهَدين من قبل السلطات في بيزنطة في القرن الخامس، كان كثيرون منهم قد فرُّوا إلى الإمبراطورية الفارسية، حيث أقاموا مراكز للتعليم المسيحي في أنطاكية، وإديسا، ولاحقًا في نصيبين؛ مدينة الورود البيضاء والخمر والعقارب. في هذه المدن، كانت العلوم الإغريقية من لاهوت وفلسفة وطب وفلك تُدرَّس وتُدرَس باللغة السريانية؛ وهي إحدى اللهجات الآرامية واللغة الفصحى للشرق الأوسط المسيحي. جلب رجال، مثل ثيوفيلوس إديسا، كبير مُنجِّمي البلاط العباسي، أعمال أرسطو وفلاسفة إغريق آخرين معهم إلى بغداد. وكان للمسيحيين النسطوريين علاقات وثيقة بالمعارف اليونانية القديمة وكانت خبرتهم وترجماتهم الأولى للكتب اليونانية من السريانية إلى العربية أساس المعارف العلمية في بغداد. درس الباحث السرياني ساويرا سابوخت (٥٧٥–٦٦٧) كتاب «المجسطي» وكتب أطروحة عن الفلك أوصى فيها بكتابات بطليموس لأي شخص يريد أن يتعمق أكثر في هذا الفرع من العلم.
بينما كانت المخطوطات تُترجَم من السريانية والبهلوية إلى العربية، بدأ الباحثون في بغداد يُدرِكون مدى اتساع المعرفة القديمة، ومقدار ما يُعَد بعيد المنال. كان المنصور نفسه قد كتب إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منه نصوصًا علمية. لم يكن سرًّا أن مخطوطات يونانية قديمة كثيرة كانت مُخبَّأة خلف أسوار القسطنطينية المُحصَّنة، وهي مدينة استعصت على الغزو وحافظت على آثارها ومكتباتها القديمة. ورد الإمبراطور بإرسال صندوق من الكتب العلمية، تشمل أطروحة «العناصر» لإقليدس. في العقود التالية، ترجمها الباحثون إلى اللغة العربية، مُبتدئين تراثًا ثريًّا من دراسة علم الرياضيات. لم يُكتَب البقاء للنسخة الأصلية، ولكن توجد نسخة مماثلة، صُنعَت بعد ذلك بنحو مائة عام في القسطنطينية، وهي موجودة الآن في مكتبة بودلي. أُضيفَ إلى هوامش مخطوطتها اليونانية الدقيقة تعليقات وضعها مالكها الأول، أريثاس من باتراس، أسقف قيصرية، بينما كان يُحاوِل إتقان نظريات إقليدس. كانت نسخة المنصور هي أول نسخة، بلغت إلى علمنا، تصل إلى بغداد. إن كان ثمة نسخة أقدم من أطروحة «العناصر» بالسريانية، فإنه لم يُكتَب لها البقاء، ويبدو أن المنصور لم يحصل على نسخته مُترجَمة مباشرة؛ فأول نسخة عربية أُنتجَت في حكم هارون الرشيد.
أتت أيضًا الأفكار الرياضية إلى بغداد من الشرق. ففي عام ٧٧١، وصل رحَّالة إلى المدينة ومعه نسخة من عمل فلكي باللغة الهندوكية يُدعى «سيدهانتا» (مستهل الكون)، للعالم الرياضي الهندي براهماجوبتا (٥٩٨–٦٦٨). على عكس إقليدس، لم يُبيِّن براهماجوبتا بوضوح فرضياته الرياضية ببراهين، وإنما أضفى عليها غموضًا (كما كان معهودًا في الرياضيات الهندية) تحت ستار من الشعر؛ كانت جميلة، ولكن من الصعب للغاية فك طلاسمها. وعهد المنصور لمُنجِّم بلاطه، الفزاري، بالمهمة الجبارة المُتمثِّلة في ترجمة كتاب «سيدهانتا»، الذي أدخل إلى بغداد مبدأ «الترميز الموضعي»؛ وهي الطريقة التي نكتب بها إلى يومنا هذا، باستخدام الأرقام ١ إلى ٩، في أعمدة من الآحاد والعشرات والمئات وهلمَّ جرًّا. كانت الإمكانيات التي فتحها هذا النظام غير محدودة، وعندما اتُّبع في النهاية، أحدث تحوُّلًا في فرع الرياضيات بأكمله بإتاحته عمليات حسابية كانت ستُصبِح مستحيلة بالنظام الرقمي الروماني القديم. كان الترميز الموضعي معروفًا بالفعل في سوريا وأُعجِب به ساويرا سابوخت، الذي كتب عن «الرموز التسعة» لعلماء الرياضيات الهنود في عام ٦٦٢.
من المحتمل أن يكون كتاب «سيدهانتا» قد جاء إلى بغداد عن طريق مدينة جُندَيسابور، في إيران الحالية، التي كانت مركزًا للدراسات الطبية لقرون عديدة، فكانت مكانًا يستطيع الباحثون أن يلتقوا فيه ويمزجوا أفكارًا من اليونان ومصر مع تقاليد من الشرق الأقصى. في القرن الثالث، كان الملك-الباحث الفارسي شابور الأول قد جلب زوجته الرومانية الجديدة لتعيش في جُندَيسابور، يُرافِقها طبيباها اليونانيان. فدرَّسا نظريات جالينوس وأبقراط؛ ومِن ثَم جعلا المدينة مركزًا لدراسة وممارسة الطب، بوجود مستشفى وأكاديمية ومكتبة. بعد سنة ٥٢٩، وصل فلاسفة يونانيون من أثينا، فارِّين من اضطهاد الإمبراطور البيزنطي، في حين جاء أيضًا المسيحيون النسطوريون وأسَّسوا مجتمعًا هناك، جالبين معهم مخطوطة يونانية قديمة أثناء هجرتهم نحو الشرق. في القرن السادس، أرسل الملك الساساني، خسرو (كسرى)، واحدًا من أطبائه إلى الهند والصين ليدعو الباحثين للمجيء إلى جُندَيسابور وتبادل الأفكار الطبية. مُزجَت هذه الأفكار مع الأفكار الخاصة بالتقاليد اليهودية والفارسية واليونانية والسريانية، وجُلِب هذا الانصهار لمسارات مختلفة من الفكر الطبي إلى بغداد على يد المنصور، الذي، إذ كان يُعاني من آلام سيئة بالمعدة، استدعى الطبيب النسطوري ذا الاسم البهي جورجيوس بن جبرائيل بن بختيشوع (بختيشوع بالفارسية تعني «المُخلَّص على يد يسوع») من جُندَيسابور. عالج بختيشوع آلام معدة الخليفة، وبقي في بغداد وأنشأ سلالة من الأطباء الملكيين. جلب بختيشوع الثروة الكاملة للنظرية الطبية الجُندَيسابورية إلى المدينة، جاعلًا بغداد وريثتها في تطوُّر الطب، وأصبح بعدئذٍ راعيًا مهمًّا للمعرفة والترجمة في المدينة.
في بيت الحكمة الذي أنشأه المأمون، تلاقت كل التقاليد الفكرية الكثيرة التي كانت قد وصلت إلى بغداد بينما كان الباحثون الذين وظَّفهم يُترجِمونها ويستوعبونها ويبنون عليها، مُعيدين رسم خريطة المعرفة. كانت قلة فقط منهم عربًا من الناحية العِرقية؛ كثيرون كانوا فرسًا، بعضهم مسيحيون، وبعضهم زرادشتيون، واعتنق كثيرون الإسلام بوصفه طريقة للاندماج مع الصفوة وتسريع وتيرة مساراتهم الوظيفية. وهكذا ازدهر السعي الأكاديمي في ظل هذا المناخ من الثروة والتكنولوجيا والرعاية والتسامح الديني.
كان المأمون راعيًا صعب الإرضاء ولكنه كان ذا رؤية مستقبلية، وكان مُتغطرِسًا إلى أقصى حد، ولكنه كان طفوليًّا في حماسه، دائم التساؤل ويتوقع المستحيل من باحثيه. ولحسن الحظ، كان مُحاطًا بأشخاص يمتلكون خيالًا وذكاءً يُتيحان لهم التوصُّل إلى إجابات، ولم يكن أحد يفوق في ذلك الأشقاء بني موسى. كان هذا الثلاثي العبقري، الغريب الأطوار، يتألف من ثلاثة أبناء لأحد مُنجِّمي المأمون في مرو. عندما مات أبوهم على نحو مُفاجئ، أخذ المأمون الصبية في كنفه، فعلَّمهم حسب منهاج الدراسة اليوناني ثم جاء بهم إلى بغداد. استفاد محمد وأحمد والحسن من تعليمهم الممتاز وملكاتهم الفكرية استفادة جيدة، مُطبِّقين معرفتهم بالرياضيات على المشروعات الهندسية العملية؛ فصمَّموا القنوات والجسور ونظم الري. وأصبحوا لا غنى عنهم لدى الخليفة وأسعدَهم ارتقاؤهم إلى مستوى تحدي مطلبه الأجرأ؛ أن يقيسوا له العالم. في الواقع، كان قد سبق القيام بهذا الأمر. فوفقًا لتقديرات بطليموس، الذي استخدم معلومات من علماء فلك سابقين عليه، يبلغ محيط الأرض ١٨٠ ألف غلوة. لكن لم يوجد أي دليل فيما يخص المقدار الذي كان عليه طول الغلوة؛ وهي تفصيلة صغيرة، ولكنها ذات أهمية جوهرية. غير أن ما عرفه بنو موسى وعلماء الفلك التابعون للمأمون هو أن حسابات بطليموس كانت تستند إلى الافتراض البسيط بأنه إذا كان في استطاعتك أن تقيس درجة واحدة على أرض الكرة الأرضية الكروية الشكل، إذن فكل ما تحتاجه هو أن تضرب هذا الرقم في ٣٦٠ لتجد المحيط. أُرسِل فريق من أفضل علماء الفلك إلى سهل سنجار المُسطَّح في شمال غرب العراق. في جوف الليل، قُسِّم الفريق إلى مجموعتَين وسارت كل مجموعة في اتجاه معاكس للأخرى؛ واحدة جهة الشمال والأخرى جهة الجنوب. وباستخدام مواقع النجوم، توقفتا عندما قاستا زاوية مقدارها درجة واحدة لمُنحنى الأرض. بعد ذلك سارت المجموعتان عائدتَين إحداهما باتجاه الأخرى، وقاستا بعناية المسافة التي قطعتاها. بعد ذلك، أخذوا مُتوسِّطًا للقيمتَين، ٥٦٫٦ ميلًا عربيًّا (ما يُعادِل ٦٨ ميلًا من أميال العصر الحديث)، وضربوا هذا المتوسط في ٣٦٠ ليحصلوا على مجموع لمحيط الأرض بلغ ٢٤٥٠٠ ميل؛ أي أقل ٤٠٠ ميل فقط عن قيمة اﻟ٢٤٩٠٠ ميل التي قِيسَت بواسطة العلم الحديث. وكان هذا إنجازًا باهرًا، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار بساطة الآلات التي كانوا يستخدمونها. بالطبع، لم يكن لدى المأمون أي فكرة عن مدى القرب الذي وصل إليه علماء الفلك التابعين له من المجموع الفعلي، ونظرًا لأنه كان عازمًا على الحصول على إجابة دقيقة قدر الإمكان، بعث مجموعة أخرى لتُكرِّر التجربة في الصحراء السورية بعد ذلك بوقت قصير. كان المجموع الذي توصلوا إليه أعلى وأبعد من القياس الفعلي، ولكن بالطبع لم يكن ثمة طريقة يمكنهم أن يعرفوا بها على وجه اليقين.
كذلك كتب الإخوة الثلاثة كتبًا خاصة بهم؛ وكان أشهرها الكتاب المعروف باسم «كتاب الحِيَل»؛ وهو عبارة عن مجموعة من مائة اختراع أو تعديل ميكانيكي، بعضها تافه وبعضها نافع، تشمل مُشعِلًا مُضادًّا للريح، ومزمارًا يعزف وحده، وجرة مُضادة للانسكاب، وقنديلًا زيتيًّا ذاتي الضبط. استخدم كل هذه الأجهزة آليات إما سخَّرَت الطاقة الطبيعية، مثل الجاذبية أو الطفو، أو نقلَت قوة من جزء من الآلة إلى جزء آخر؛ وكلها ما زال قيد الاستخدام بصورة أو بأخرى. أحد أهم هذه الأجهزة كان ناقل الحركة، الذي اقتبسه بنو موسى من تصميمات كانت مُستخدَمة في أزمنة الرومان. وصلت هذه التكنولوجيا الثورية إلى أوروبا في أواخر القرن الرابع عشر، وهي مُكوِّن حيوي في المُحرِّكات من كل الأنواع في الوقت الحاضر. من المُؤكَّد أن «دار الشجرة» التي تعجَّب منها السفراء البيزنطيون كانت تعتمد على تكنولوجيا صمَّمها في الأصل بنو موسى. كان «كتاب الحيل» مقروءًا على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي ومن المُرجَّح أن أفكارهم سافرت إلى إسبانيا المسلمة، ومن هناك، مُترجَمة إلى اللاتينية، انتقلت إلى أوروبا الغربية.
صدرت أول ترجمة عربية لكتاب «المجسطي» على يد الحجاج في القرن التاسع، كاملة مع مصطلحات تقنية وتصويبات لكثير من أخطاء النص الأصلي. يُشكِّل إصدار الحجاج لكتاب «المجسطي» وإصدار إسحاق وثابت المجموعتَين الرئيسيتَين من المخطوطات التي وصلت إلينا اليوم، رغم أن كثيرًا منها يدمج النسختَين بطرق متنوعة مختلفة. ومِن ثَم فمن الواضح أن الكتبة الذين نسخوا كتاب «المجسطي» في القرون التي تلت غالبًا ما كان لديهم أكثر من نص أمامهم وهم يعملون، وعندما كانت النصوص تُنسَخ باليد، كان ثمة احتمالات لا حصر لها فيما يتعلق بالعمل الناتج. لم تكن فكرة النسخة القياسية الثابتة واردة إلى أن ظهرت آلة الطباعة في القرن الخامس عشر.
كان نظام بطليموس للكون رائعًا من نواحٍ كثيرة ولم يُستعَض عنه بغيره على مدى ١٥٠٠ سنة، لكنه كان مليئًا بالتناقضات والعيوب. وأصبح كثير من أخطاء الرصد أكثر وضوحًا حينذاك؛ أي بعد مرور ٧٠٠ سنة. فشرع علماء الفلك في بغداد، ومن بينهم الخوارزمي والكندي، في العمل على تصحيح وتحسين المعطيات في كتاب «المجسطي»، عن طريق إجراء عمليات رصد خاصة بهم، وهو شيء كان بمقدورهم فعله بطريقة أكثر فعالية بكثير في المرصد الأول في العالم الإسلامي، الذي كان المأمون قد بناه في حي الشماسية في المدينة. كان التقدُّم المُحرَز في كل من أجهزتهم وأساليبهم يعني أن معطياتهم كانت أكثر دقة من معطيات بطليموس؛ مما مكَّنهم من إدخال تحسينات كبيرة على نماذجهم.
هذه اللمحة عن العِلم العربي في العصور الوسطى تُوضِّح الترابطات الدقيقة المُعقَّدة بين الفلك والتنجيم والفلسفة والرياضيات والجغرافيا. لقد كان هؤلاء الباحثون البغداديون، بما امتازوا به من مجموعة واسعة من الاهتمامات والخبرات، يُمثِّلون رجال عصر النهضة الذين استبقوا عصر النهضة بقرون عديدة. فيكشف غزو المأمون للصحراء عن الدقة والاهتمام اللذَين أَولاهما علماؤه لعملهم. إن أساليبهم المُتمثِّلة في رصد وقياس الظواهر الطبيعية، وفحص ومقارنة المعطيات بدقة، ثم استحداث واختبار فرضيات، يمكن أن تكون مألوفة للعلماء المعاصرين. وقد حدَّدَت هذه المبادئ، بالإضافة إلى ابتكارات الرازي في الممارسة الطبية، معالم حقبة جديدة في الدراسة الأكاديمية. كذلك تُشكِّل هذه المبادئ، التي تُنوقِلَت عبر القرون، أساسًا لما يُعرَف الآن باسم «المنهج العلمي».
انتهى العصر الذهبي البغدادي، لكن شهرة باحثيه كانت قد انتشرت خارجها كتموجات على سطح الماء. في أوجِها، ألهمَت الخلافة العباسية ورجال بلاطها الحكام في أنحاء فارس وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا وإسبانيا وشبه الجزيرة العربية أن يملئوا مدنهم بالباحثين وأن يعلموا أطفالهم وأن يدفعوا المال من أجل الكتب وأن يبنوا المكتبات. وحدثت مضاهاة مع طراز رعاية البحث العلمي في القاهرة والموصل والبصرة ودمشق والكوفة وحلب وطرابلس وبخارى وشيراز، حيث نشأت وازدهرت مكتبات عظيمة. وبرزت على الساحة أجيال جديدة من الباحثين، من بينهم ابن سينا والبيروني والطوسي وابن الهيثم الذين قدَّموا إسهاماتهم الفريدة في العلم وأضفوا تألقًا فكريًّا على مدن مثل غزنة ومرو والقاهرة.
بيدَ أن ألمع نجم بين الجميع كان يتألق بعيدًا في الغرب، في إسبانيا. كانت الأسرة الأُموية، التي كاد العباسيون أن يُبيدوها تمامًا، ماضية في بناء صرح باهر في جنوب إسبانيا لتُنافِس بغداد هارون والمأمون. كانت قرطبة على وشك أن تُصبِح المحور الجديد الذي سيدور في فلكه عالم البحث العلمي، وهي المحطة التالية في رحلتنا.
هوامش
-
(١)
كما تناوَل بيتر فرانكوبان في كتابه «طرق الحرير»، كان الطلب على العبيد في هذه الفترة هائلًا؛ إذ كانت أعداد ضخمة من الناس يتعرضون للأسر والنقل ثم يُباعون في سوق الرقيق.
-
(٢)
بالطبع، كان يوجد نشاط ثقافي آخر يرتبط بنسخ الكتب في بلاط شارلمان وفي أديرة مُعيَّنة في هذه الحقبة، ولكن لم يكن يوجد أي بحث علمي ذي أهمية تُذكَر.
-
(٣)
انشق المسيحيون النسطوريون عن الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) على خلفية اختلافات عقائدية وهاجروا إلى بلاد فارس وسوريا في القرنَين الخامس والسادس للهروب من الاضطهاد في الإمبراطورية البيزنطية. وأقاموا أديرة وكنائس في كل أنحاء المنطقة، وبقي كثير منها تحت الحكم العربي بدءًا من القرن السابع فما بعده. كانت المسيحية قد انتشرت في المنطقة منذ نهاية القرن الأول.
-
(٤)
في هذه المرحلة، امتدَّت الإمبراطورية الساسانية (الفارسية) عبر إيران والعراق وسوريا ومنطقة القوقاز، وتوسَّعَت شمالًا في سهوب آسيا الوسطى الشاسعة وشرقًا حتى الحدود الجبلية مع الصين.
-
(٥)
كانت هذه الحدود تتغير باستمرار مع تقلبات القوة العسكرية، لكنها امتدَّت من الشرق إلى الغرب وسط ما يُعرَف حاليًّا باسم تركيا. كانت المنطقة الأوسع تُعرَف باسم آسيا الصغرى أو الأناضول، أو «بلاد الروم» في اللغة العربية.
-
(٦)
كانت المخطوطات الطبية اليونانية جزءًا من الكنز الذي ظفرَت به الإمبراطورية الإسلامية في معارك أنقرة (عاصمة تركيا الحالية) وعمورية، وهي مدينة يونانية قديمة في وسط غرب الأناضول لم تتعافَ أبدًا من آثار المعركة وهجرها الناس بعد ذلك بوقت قصير.
-
(٧)
ليس ثمة دليل على المكان الفعلي لبيت الحكمة؛ مما حدا ببعض الباحثين المعاصرين أن يقترحوا أنه لم يكن له إلا وجود رمزي، في أماكن عدة، وليس في مكان واحد.
-
(٨)
المدارس مؤسسات تعليمية عادةً ما كانت (ولا تزال) مُلحَقة بالمساجد.
-
(٩)
كان هناك ست وثلاثون مكتبة عامة في بغداد عندما غزاها المغول في عام ١٢٥٨.
-
(١٠)
كان مُعلِّمه الخاص هو جعفر بن برمك. ومن المحتمل أن أحد الأسباب وراء اغتيال هارون له كان من أجل كسر التحالف الذي كان قائمًا بين المأمون والأسرة الفارسية القوية؛ ليحُد بذلك من نفوذه ويجعله يقبل تولي أخيه للخلافة.
-
(١١)
الجاينية ديانة هندية قديمة تتمحور حول عدة مبادئ أساسية، تشمل المسالمة والعفة والاستقامة. يقطع أتباعها على أنفسهم عهدًا بعدم السرقة أو امتلاك الممتلكات؛ إذ يؤمنون بتناسخ الأرواح وبأن لكل نبات أو حيوان حي روحًا، ولكنهم لا يؤمنون بأي آلهة. مبدأ اللانهائية هو مبدأ محوري في العقيدة الكونية الجاينية، التي تستخدم أعدادًا ضخمة لتوقع حركات الكواكب والنجوم في المستقبل البعيد. ويوجد ما لا يقل عن ٤٫٢ مليون شخص يتبعون الديانة الجاينية في الهند في الوقت الحالي.
-
(١٢)
الخوارزمية هي مجموعة من العمليات تهدف إلى تحديد ناتج مُعيَّن وتُستخدم في الحساب، وفي معالجة البيانات، وفي المنطق الآلي. تلعب الخوارزمية دورًا جوهريًّا في طريقة عمل أجهزة الكمبيوتر وفي الرياضيات وفي عدد لا يُحصى من مجالات الحياة العصرية.
-
(١٣)
يُمكِننا أن نحصل على فكرة عن حجم إنجاز الكندي عن طريق الإشارات إليه والتي تبلغ ستًّا وعشرين صفحة مُنفصِلة في كتاب «الفهرست»، حيث يوصف بأنه: «مُتفرِّد خلال حقبته بسبب معرفته بالعلوم القديمة برمتها … كانت كتبه عن مجموعة متنوعة من العلوم، مثل المنطق، والفلسفة، والهندسة، والعمليات الحسابية، والحساب، والموسيقى، والفلك، وأمور أخرى.» لكن يبدو أن لا أحد يتصف بالكمال، والنديم يُكمِل هذه القائمة المُثيرة للإعجاب بتعليق أخير ينطوي على إدانة دامغة: «كان بخيلًا.» بايارد دودج (محرر)، «فهرست النديم: استعراض من القرن العاشر للثقافة الإسلامية» (نيويورك: دار نشر جامعة كولومبيا، ١٩٧٠)، ص٦١٥.
-
(١٤)
كانت الحيرة مُستوطَنة عربية مهمة في الإمبراطورية الفارسية في عصر ما قبل الإسلام. كانت تقع جنوب الكوفة، في جنوب وسط العراق.
-
(١٥)
لا يزال الإيرانيون يحتفلون بيوم الرازي في السابع والعشرين من شهر أغسطس من كل عام ويوجد مستشفيات ومعاهد تحمل اسمه في أنحاء البلاد.
-
(١٦)
كان واحدًا من تسعة كتب فقط في المكتبة الطبية الأولى في جامعة باريس.
-
(١٧)
كانت المعلومات عن الأَسطُرلابات قد وصلت إلى العرب في كتابات ثيون الإسكندري، الذي استعانوا بنسخته من أطروحة «العناصر» لإقليدس. كذلك كتب الخوارزمي الدائم الاجتهاد كُتَيبًا إرشاديًّا عن كيفية صنعها واستخدامها، وازدادت تعقيدًا أكثر فأكثر، ولاحقًا عرفتها أوروبا الغربية عن طريق الأديرة في إسبانيا.