طليطلة
في المدارس العربية بقرطبة وطليطلة، جُمعَت وحُفظَت لنا بعناية، أقباس المعرفة اليونانية المُشرِفة على الخمود.
في وقتٍ ما في منتصف القرن الثاني عشر، يصل شاب إلى بوابات طليطلة، ويقف على حافة مضيق نهر تاجة قبل أن يعبُر الجسر إلى المدينة. بعيدًا بالأسفل منه، يتمخض النهر الجليدي وهو يمضي في مجراه بلا هوادة عبر الصخور بينما يُحدِّق الشاب بناظرَيه نحو المدينة الرابضة على قمةِ تلِّها الجرانيتية. اسمه جيرارد وهو مهتم اهتمامًا خاصًّا بعلم الفلك؛ فبعد أن تعلَّم كل شيء يُمكِنه تعلُّمه من مُعلِّميه في إيطاليا، سافر آلاف الأميال عبر اليابسة والبحر من موطنه في كريمونا بحثًا عن المعرفة. كان قد قيل له إنه، هنا، في مدينة طليطلة، في إسبانيا، سوف يكون في مقدوره أن يدرس اكتشافات العرب، وإن كان محظوظًا حقًّا فسوف يكون بمقدوره العثور على نسخة من أعظم كتاب كُتِب في علم الفلك على الإطلاق؛ كتاب «المجسطي». يشعر بالتعب ويكسوه التراب جرَّاء أيام كثيرة قضاها في الطريق، ولكن أخيرًا بلغت رحلته الطويلة منتهاها؛ فقد وصل. يرتجف ترقُّبًا للكنوز التي تنتظره مُتجِهًا بناظرَيه نحو الشوارع الضيقة المُتشابِكة المُظلِمة. وبينما هو يقف على أعتاب فصل جديد في حياته، تُوشِك أوروبا أن تكون على مشارف فصل جديد في تطوُّرها الفكري. إن جهد جيرارد البحثي في طليطلة سوف يجعل المدينة أهم مركز لنقل المعرفة العلمية بين العالمَين الإسلامي والمسيحي؛ سوف يُمضي بقية حياته هنا، يُترجِم الكتب من العربية إلى اللاتينية. سوف تُسافِر نُسَخ من هذه الكتب في كل أنحاء أوروبا، وتتناقلها الأيدي، وتُجمَع في صناديق، وتُكدَّس في السروج، وسوف ترتج وهي تُنقَل عبر الطرق من دير إلى مدرسة كاتدرائية، ومن قاعة محاضرات جامعة إلى مطالعة باحث. من مونبلييه إلى مرسيليا، ومن باريس إلى بولونيا وشارتر وأكسفورد، وبيزا وما وراءها، سوف تُشكِّل هذه الكتب إطار المعرفة العلمية لقرون آتية. أكثر من أي فرد آخر، سوف يكون جيرارد الكريموني مسئولًا عن جلب الأفكار العظيمة لليونان القديمة وإسلام العصور الوسطى إلى أوروبا الغربية.
تُبيِّن رحلة جيرارد أن شهرة المعرفة العربية كانت بالفعل قد انتشرت انتشارًا واسع النطاق في أوروبا الغربية. فموقع طليطلة على الحدود بين العالمَين الإسلامي والمسيحي جعل من المدينة، مثل باليرمو في صقلية وأنطاكية في سوريا، بوابةً تدفَّقَت من خلالها المعرفة. كان النصف الثاني من القرن الحادي عشر فترة نهضة مهمة لأوروبا الغربية؛ فقد استولى النورمانديون على صقلية من حكامها المسلمين، وفي عام ١٠٩٥، ألقى البابا أوربان الثاني عظةً دعا فيها إلى الحملة الصليبية الأولى، ليُرسِل المسيحيين من كل أنحاء أوروبا الغربية من أجل مُسانَدة البيزنطيين في حربهم مع الأتراك، ثم يمضون ليستولوا على الأرض المقدسة من الإمبراطورية الإسلامية. في صيف عام ١٠٩٩، دخل الصليبيون بيت المقدس ونجحوا في إعادة المدينة المقدسة إلى المسيحية. كانت هذه هي الحملة الأولى ضمن سلسلة من الحملات الصليبية ضد القوات المسلمة في الشرق؛ إذ جرَت حملتان إضافيتان في القرن الثاني عشر والعديد من الحملات في القرن الثالث عشر، فقد تصارعَت الديانتان الكبريان من أجل بسط مناطق نفوذهما، التي كان مركزها في بيت المقدس، والحفاظ عليها. أُقيمَت الإمارات الصليبية وقاتلت للاستيلاء على أنطاكية وطرابلس وأديسا؛ وجرى بعض التبادل الثقافي في ظل هذا الوضع، ولكن غياب الاستقرار السياسي وعمليات الاندلاع الدائم للعنف كان يعني أن انتقال الأفكار الثقافية كان محدودًا، وحجَبَه ما كان يحدث في صقلية، وبدرجة أكبر، في طليطلة.
من الممكن أن يكون جيرارد قد سلك أحد طريقَين إلى إسبانيا؛ جنوبًا، عبر صقلية؛ أو شمالًا، حول ساحل فرنسا. يتصادف أن بوبيو يقع على طريق من كريمونا إلى جنوة، وهي أقرب ميناء ومِن ثَم تُعَد نقطة المغادرة الأكثر ترجيحًا للاثنين. من المُؤكَّد أن مكتبة الدير كانت مشهورة بمجموعتها، وبعلم الفلك على وجه الخصوص؛ لذا ليس من المُستبعَد أن يكون جيرارد قد زارها في مرحلةٍ ما قبل أن يُغادِر إلى إسبانيا، إن لم يكن قد فعل ذلك وهو في طريقه إلى هناك. من الواضح أيضًا أنها احتوت على كتب متنوعة يمكن أن تكون قد حفَّزَت جيرارد للبحث عن النسخة الكاملة من كتاب «المجسطي».
وُلِد جيرارد في عام ١١١٤، ومن المحتمل أنه أمضى العشرين عامًا الأولى من حياته على الأقل في شمال إيطاليا، قبل أن يبدأ رحلته في مسعاه من أجل كتاب «المجسطي». لنتخيل أنه سلك الطريق الشمالي، بادئًا رحلته من جنوة على متن إحدى السفن التجارية الكثيرة التي كانت تتخذ سبيلًا مُتعرِّجًا على ساحل شمال إيطاليا إلى جنوب فرنسا، وترسو في موانئ أنتيب وفريجوس وهييريس. في العصور الوسطى، كانت السفن هي أسرع وسائل النقل وأقلها راحة؛ ففيما بين أبريل ونوفمبر، كان البحر المتوسط يعج بالسفن التي تأخذ الرُّكاب والسلع من ميناء إلى ميناء، وتبقى دومًا قريبة من الساحل، حيثما كان ذلك ممكنًا. من المحتمل أن يكون جيرارد قد وصل إلى مرسيليا في بضعة أيام فحسب، ولو كان قد نزل هناك، فربما يكون قد وجد ساحة فكرية مُزدهِرة. إذا كان قد قرَّر أن يبقى لبعض الوقت ويدرس، فمن الممكن جدًّا أن يكون قد التقى بعالم فلك يُدعى ريموند، الذي كان هناك في عام ١١٤٠، عاكفًا على تصميم مجموعة من الجداول للمنطقة المحلية. هذا كله، بالطبع، محض تخمين، لكنه يقع في حدود النطاق الممكن. كما أنه يُقدِّم إجابة للسؤال المُتعلِّق بالسبب الذي جعل جيرارد الكريموني يمضي بحثًا عن كتاب «المجسطي» في طليطلة، والكيفية التي عرف بها أنه سيكون هناك. كانت توجد صلات فكرية شتَّى بين طليطلة ومرسيليا؛ أهمها أن «جداول» ريموند استندت إلى «جداول طليطلة»، التي صُمِّمت في القرن السابق على يد الفلكي الزرقالي الذي لم يستعِن بأي شيء إلا ﺑ «زيج» الخوارزمي. لو كان جيرارد الشاب قد أمضى وقتًا في مرسيليا، فمن الوارد أن يكون الباحثون هناك قد أخبروه عن الاكتشافات المُذهِلة للعلوم العربية، وباحثيها اللامعين وكتبهم الرائدة. وإن لم يكن مُولِّيًا وجهته بالفعل إلى هناك، فمن المُؤكَّد أن يكونوا قد وجَّهوه صوب طليطلة.
أثناء وقوفه على حافة مضيق نهر تاجة، من المُرجَّح أن يكون جيرارد قد فهم على الفور سبب اختيار مُؤسِّس طليطلة لهذا الموقع؛ إذ تستقر المدينة على قمة تل مُنحدِر، ويحيط بها من ثلاث جهات النهر المُتعرِّج، الذي ينساب عبرَ وادٍ شديد الانحدار؛ مما يسهل للغاية إمكانية الدفاع عنها. من شأن الهجوم عبر النهر أن يكون بمثابة انتحار، فالنزول من الجهة الرأسية للجرف الشديد الانحدار سوف يكون صعبًا بما في الكفاية؛ وعبور المياه السريعة التدفق ثم التسلق صعودًا إلى الجانب الآخر، استعدادًا للقتال، من شأنه أن يكون مستحيلًا. وعلى حد وصف المؤرخ الروماني ليفي، فإن طليطلة «مدينة صغيرة، ولكنها مُحصَّنة بموقعها». ازدهرت المدينة في ظل حكم الرومان وكانت تُسمَّى «توليتم»؛ وكانت المركز المحلي لصناعة الصلب، الذي اشتهر بسبيكته المعدنية العالية الجودة التي كانت فائقة الصلابة، والذي أمد الجيش الإمبراطوري بالسيوف، وازدادت المدينة ثراءً. عندما استولى القوط الغربيون على السلطة في إسبانيا، اتخذوا من طليطلة عاصمة لهم، وجعلوها نواة سلطتهم السياسية والدينية والثقافية، في القلب من شبه الجزيرة تقريبًا. ازدهرت علوم القوط الغربيين هناك في القرن السابع؛ إذ اتخذها العديد من الكُتَّاب الكنسيين موطنًا لهم وضمَّت مكتبتَين على الأقل.
انتهت بغتةً فترة السيادة هذه في عام ٧١٢، عندما جاء الغزو العربي من الجنوب وأسَّس العرب مدينة قرطبة وجعلوها عاصمة لهم. ظلَّت طليطلة، تحت سيطرة المسلمين قرونًا عديدة، تحكمها عائلات محلية بدرجات متفاوتة من الاستقلال الذاتي عن الأُمويين. ونظرًا لكونها مدينة حدودية استراتيجية، بالقرب من الحدود مع مسيحيي شمال إسبانيا، فإنها تقع عند نهاية حدود العالم العربي. تدهورت المدينة في العقود التالية، فأصبحت مرتعًا خصبًا للتمرد والسخط، تحت رحمة أمراء الحرب المحليين، يُمزِّقها الصراع الداخلي، وعرضةً لعمليات حصار لا تنتهي. ولكن بعد سقوط السلالة الحاكمة الأُموية في عام ١٠٣١، أصبحت طليطلة دُوَيلة طوائف مُستقِلة، وعادت حالة من الاستقرار النسبي؛ مما أتاح للثقافة والبحث العلمي أن يزدهرا. عادت الحيوية إلى صناعة المعادن القديمة في طليطلة؛ مما جعل المدينة واحدة من أغنى المدن في إسبانيا. اشتهر حِرَفيو طليطلة بسكاكينهم ذات النصال الحادة والحلي الجميلة والأدوات المُبتكَرة، ولكن أكثر ما اشتهروا به كان السيوف الرائعة التي صدَّروها إلى كل أنحاء العالم المعروف، والتي كانت مُنية القلب لكل مُحارِب طموح.
في عام ١٠٢٩، عاش شاب، كان قد وُلِد لعائلة من الحِرَفيين، في قرية صغيرة على حافة المدينة. تدرَّب الزرقالي، ويعني اسمه «الصغير ذا العيون الزرقاء»، كغيره من الصِّبية في عائلته، ليُصبِح صانعًا للأجهزة العلمية، واسترعت مواهبه الكبيرة انتباه صاعد الأندلسي، الذي كان قاضيًا محليًّا، ومُعلِّمًا ومُؤلِّف كتاب «طبقات الأمم». في هذا الكتاب، يُقدِّم لنا صاعد مقارنة نابضة بالحياة بين الإنجازات الفكرية لبلدان شتَّى، مُستعرِضًا باحثيها وإسهاماتها في كل ناحية من نواحي المعرفة تقريبًا. ويُقسِّم سكان العالم إلى طبقتَين؛ أولئك الذين أسهموا في العلم وأولئك الذين لم يُسهِموا فيه. وليس من المُستغرَب أن الفصل الذي يتناول الأندلس هو الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر تفصيلًا، ولكنه كان في المجمل كتابًا مُؤثِّرًا وظل مصدرًا مهمًّا للمعلومات عن تاريخ العلم، واستكمالًا لجهد النديم الأكثر شمولية بكثير في كتابه «الفهرست».
تحت رعاية صاعد، صنع الزرقالي أجهزة مُعقَّدة لعمليات الرصد الفلكية. وفي الوقت نفسه، درس الفلك، وفي عام ١٠٦٢، انضم إلى مجموعة باحثين يُراقِبون السماء. أدَّت خبرته التقنية، مُمتزِجة بميله إلى الفلك، إلى أن يتولى مسئولية المشروع بأكمله. كان الزرقالي المُنتِج الأكثر ابتكارًا وبراعة للأجهزة الفلكية في العالم الإسلامي كله، وكان تصميمه لأَسطُرلاب «كوني» جديد، يُسمى الصحيفة، تصميمًا ثوريًّا للغاية حتى إنه نُسِخ في كل أنحاء أوروبا، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا بل حتى في أماكن بعيدة مثل الهند. وابتكر أيضًا عجائب أخرى؛ فجاء الناس من كل حدب وصوب ليروا ساعاته المائية الرخامية، التي كان يُعرَف منها الوقت بدقة لم يُسمَع بها من قبل. درس الزرقالي في قرطبة، ولكنه عاد إلى طليطلة، حيث كتب العديد من الكتب، منها كتاب يُدعى «القوانين» (القواعد) الذي شرح كيفية استخدام «جداول طليطلة». ترجم جيرارد الكريموني هذا الكتاب إلى اللاتينية واستمر تأثير هذا الكتاب في علم الفلك الأوروبي لقرون. كذلك كتب الزرقالي أطروحة فلكية أتى فيها بزعم غير مسبوق بأن مدار كوكب عطارد بيضاوي، وليس دائريًّا، كما كان يُعتقَد عادةً. في القرن السادس عشر، اعتمد يوهانز كيبلر على العمل ذي الرؤية الاستشرافية للزرقالي ليُثبِت أن مدار المريخ كان هو الآخر بيضاويًّا. سقطت طليطلة في قبضة ألفونسو ملك قشتالة في عام ١٠٨٥، وغادر الزرقالي المدينة، ولكن الباحثين المسيحيين شرعوا في معالجة أفكاره ومِن ثَم انتشرت في أوروبا بأسرها.
انتقل الزرقالي إلى الجنوب، ربما إلى غرناطة أو إلى مدينة أندلسية أخرى تحت الحكم الإسلامي، كما فعل كثيرون من بني جلدته من العرب. مكث المُستعرِبون، الذين ظلوا مُخلِصين للمسيحية طوال أربعة قرون من الحكم الإسلامي، يتعبدون وفق الطقوس التي توارثوها عن القوط الغربيين، وشاهدوا الحكام الجُدُد وهم يبدءون في فرض الطقوس الكاثوليكية اللاتينية المأخوذة من روما. لا بد أنه كان وقتًا صعبًا على هؤلاء الناس المُستقِرين منذ زمن طويل. فقد كانوا، كشأن اليهود السفارديم، قد أنشئوا مجتمعهم الخاص ضمن إسبانيا المسلمة، محافظين على معتقداتهم الدينية، ولكن مع تبني لغة سادتهم وملبسهم وخصائصهم؛ كان مجتمعًا هجينًا يُجسِّد دليلًا على الطبيعة المُتعدِّدة الثقافات للمكان الذي عاشوا فيه ويعتمد عليها. فمن ناحية، ربما شعر مُستعرِبو طليطلة ببعض الارتياح إزاء انتصار المسيحية وعودتها إلى بلادهم؛ ولكن من الناحية الأخرى، لا بد أنه كان ثمة حزن على فقدان أصدقاء ورفاق مسلمين، وقلق بشأن ما يحمله المستقبل تحت حكم الملك القشتالي. كان هذا مُبرَّرًا تمامًا؛ فخلال الأربعمائة سنة التالية، استوعبت إسبانيا الكاثوليكية تدريجيًّا ثقافة المُستعرِبين عن طريق مُصادَرة أراضيهم ورفض الاعتراف بهم بوصفهم مجتمعًا قانونيًّا مُنفصِلًا. كُتب البقاء لبعض البقايا المعزولة. وفي عام ١٥٠٢، جُمعَت نُسَخ من شعائر وطقوس المُستعرِبين، وخُصِّصت كنيسة صغيرة في كاتدرائية طليطلة لعقيدتهم؛ وما زالت موجودة حتى الآن.
احتل المُستعرِبون منطقة مُتفرِّدة بين ثقافتَين؛ فقد كانوا مسيحيين تحت حكم إسلامي، اعتنقوا العادات العربية، وظلوا يتكلمون لغتهم وعاشوا بقوانينهم. ومن المفارقة أنهم نجحوا نجاحًا كبيرًا في البقاء لوقت طويل في ظل عقيدة مُنافِسة، ولكنهم تعرَّضوا بعد ذلك للاضطهاد على يد الكاثوليكية، التي تُعَد شكلًا مختلفًا من ديانتهم. هذا يُنبئ بالكثير عن المُستعرِبين بقدر ما يُنبئ بالكثير عن قدرة إسلام العصور الوسطى على استيعاب أديان أخرى ضمن دائرة نفوذه. كانت قصة اليهود مُشابِهة؛ فقد تعرَّضوا للاضطهاد على يد القوط الغربيين، وازدهروا تحت حكم الأُمويين، ثم نُفوا وقُتِلوا على يد محاكم التفتيش الكاثوليكية. ولكن لم تتسم كل الأسر الحاكمة المسلمة بالتسامح. فقد اضطهد المُوحِّدون والمُرابِطون، الذين حكموا أجزاءً كبيرة من شبه الجزيرة الإيبيرية في القرنَين الحادي عشر والثاني عشر، اليهود والمُستعرِبين على السواء، مما جعل كثيرين منهم يفرون شمالًا، إلى إسبانيا المسيحية. ولكن، باستثناء بعض العداء المبدئي من جانب رجال الدين الإفرنج، لم يبدأ اضطهاد المُستعرِبين واليهود إلا بعد مرور وقت طويل، وذلك في القرن الخامس عشر. ففي أول الأمر، واصل هذان المجتمعان ازدهارهما في طليطلة، وبخاصة في المجال العلمي، حيث كانت مهاراتهم اللغوية ومعرفتهم بالمكتبات المحلية بالغة القيمة.
مع عودة طليطلة مُجدَّدًا تحت الحكم المسيحي، كانت الكنيسة الكاثوليكية بحاجة إلى ترسيخ سيطرتها الدينية. في القرن العاشر، كان الرهبان السود الذين يتبعون نظام القديس بندكت قد انتشروا من دير كلوني، سان لوار، عبر فرنسا وفي أنحاء وديان البرانس في شمال إسبانيا. ومن هذا النظام الديري جاء رجال الدين في طليطلة حينذاك. استقر البندكتيون في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية، وفي العقود التي تلت استعادة المدينة، كان «حي الإفرنج»، كما أصبح يُعرَف، هو المكان الذي يجتمع فيه الوافدون الجُدد؛ من رجال دين، وباحثين، وأجانب من أجل العيش والعمل وتشارُك أفكارهم. ونتيجة لذلك، فُتِح خط من الاتصال والسفر بين طليطلة وفرنسا دائمًا، وبالأخص مدارس كاتدرائية باريس وشارتر.
لم تكن تلك مهمة هيِّنة. فاللغة العربية لغة مُعقَّدة للغاية لها أبجدية واتجاه كتابة مختلفان، ونظام تشكيل مُعقَّد، ولكن كان يوجد فيما حوله كثير من المُستعرِبين ليُساعِدوه. فعاوَنه رجل يُدعى غالب في ترجمته لكتاب «المجسطي»؛ والأرجح أنه علَّمه اللغة العربية في الوقت نفسه. كان الطليطليون يتكلمون لغة محلية تمثل تُشكلًا مختلفًا للغات الإيبيرية الرومانسية (أي من الرومانية)، سلائف الإسبانية المعاصرة. لا بد أن جيرارد قد تعلَّم، دون شك، هذه اللغة أيضًا، حتى يتمكن من التواصل بسهولة مع غالب ومع الأناس المحليين الآخرين. شكَّل الباحثون اليهود، الذين كانوا يُجيدون ثلاث لغات هي العبرية والعربية واللغة الرومانسية المحلية، جسرًا مهمًّا آخر بين الثقافتَين، فساعدوا في الترجمة وأتاحوا اتصالًا بين الماضي العربي والحاضر المسيحي. على الرغم من أن كثيرًا من الطليطليين المسلمين كانوا قد انتقلوا إلى الجنوب عندما سقطت المدينة في يد ألفونسو السادس في عام ١٠٨٥، فقد بقي بعضهم، وغالبًا ما كانت الصلات بين المجتمعَين وطيدة. بل إن كثيرًا ما تحالفَت العائلات المسلمة الشمالية مع المسيحيين في مواجهة سلالة المرابطين الإسلامية المُتشدِّدة، التي كانت تزداد نفوذًا في الأندلس.
تتسم مكتبة بني هود بالأهمية لأنه يُمكِننا، بفضل يوسف المؤتمن بن هود، أن نتيقن من بعض الكتب التي احتوت عليها، ولكن كان يوجد بالفعل كثير من المكتبات الأخرى في طليطلة ولا نعرف عنها سوى النذر اليسير. كانت المدينة مركزًا مهمًّا للتعلم أثناء القرنَين العاشر والحادي عشر، وعندما استولى عليها المسيحيون في عام ١٠٨٥، كان انتقال السلطة سلميًّا. نتيجة لذلك، فإنه على الرغم من هجرة غالبية صفوة المسلمين جنوبًا، فقد حُفظَت ثقافتهم، وشُملَت مكتباتهم بالحماية وكان بمقدور المجتمعات المختلفة من الباحثين اليهود والعرب والمستعربين والمسيحيين أن تعمل معًا. وكان لهذا أهمية خاصة فيما يتعلق ببرنامج الترجمة من العربية إلى اللاتينية (غالبًا عبر اللغتَين العبرية أو الرومانسية) الذي تلا ذلك. في أوائل العصور الوسطى، كانت إسبانيا مجتمعًا ثنائيَّ اللغة. تحت حكم المسلمين، كانت اللغة العربية هي لغة التعليم والحكومة، ولكن كان الناس يتكلمون اللغة الرومانسية في الشوارع والحقول، مُمتزِجة بلهجات بربرية مُتعدِّدة. كانت اللاتينية لغة كنيسة المُستعرِبين، وبالطبع كانت العبرية موجودة دومًا في المجتمعات اليهودية الكبيرة. عندما استعاد المسيحيون طليطلة، اكتسبت اللاتينية، لغة الكنيسة الكاثوليكية، دورًا متزايد الأهمية، لكن المُستعرِبين استمروا في استخدام العربية حتى أواخر القرن الرابع عشر.
أصاب الذهول الباحثين الأوروبيين، الذين أتوا إلى طليطلة بعد استعادتها بوقت قصير، إزاء الكم الهائل من المعرفة الذي وجدوه هناك؛ ففي فترة العصور الوسطى، تضاءلت ثقافة كتب أوروبا الغربية بدرجة كبيرة للغاية أمام ثقافة الكتب العربية؛ فكان الباحث برنارد من شارتر، الذي عاش في القرن الثاني عشر، فخورًا بالكتب الأربعة والعشرين التي اقتناها، غير أنه في عام ١٢٥٨، كانت مدينة بغداد تتباهى بمكتباتها العامة التي بلغ عددها ستًّا وثلاثين وتجاوز عدد تجار الكتب فيها مائة تاجر. وفي حين احتوت أكبر مكتبة في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى، والتي كانت موجودة في دير كلوني، على بضع مئات من الكتب، اشتملت مكتبة قرطبة الملكية على ٤٠٠ ألف كتاب. وحتى مع التغاضي عن المبالغة وحقيقة أن العرب كانوا لا يزالون يستخدمون اللفائف بصفة أساسية، والتي لم يكن من الممكن أن تحتوي على القدر الكبير نفسه من النص (إذ يلزم العديد من اللفائف لمضاهاة النص الذي تحويه نسخة واحدة من مجلد المخطوطات)، وأن الورق لم يكن يُنتَج في أوروبا الغربية حتى القرن الرابع عشر؛ لذا كان يلزم استيراده، الأمر الذي جعل الكتب أكثر تكلفة، فإن المقارنة لا تزال صادمة. لم تكن الثقافة النصية العربية أضخم بكثير فحسب، وإنما كانت أيضًا أكثر ثراءً على نحوٍ لا يُضاهى. وأدَّى حجم إنجاز العرب في الأدب والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، وبالطبع في العلوم، إلى جعل الباحثين اللاتينيين يُصابون بالذهول إذ هالهم ذلك للغاية. فكان ثمة الكثير مما عليهم اللحاق به.
إحدى المعضلات التي كانت تُواجِه المُترجِمين أمثال جيرارد هي الاختيار بين التركيز على النُّسخ الكاملة للنصوص اليونانية القديمة، أو إعطاء الأولوية للنُّسخ العربية المُصحَّحة والمُحسَّنة، والمُؤلَّفة ببراعة من أفكار مصدرها فارس والهند ومصر. وكما هي الحال دومًا، لعب الاختيار الشخصي دورًا حيويًّا في نوعية الأعمال التي نُقلَت إلى الأجيال التالية، ونوعية الأعمال التي لم تُنقَل. واختار جيرارد مزيجًا من الاثنين، واستند على نحو فضفاض في اختياره للنصوص إلى كتاب «إحصاء العلوم» للفيلسوف العظيم الفارابي (٨٧٢–٩٥٠)، الذي كان قد أمضى جُل حياته في بغداد، حيث كان يُعرَف، من باب التحبُّب، بالمُعلِّم الثاني (إذ كان أرسطو يُعرَف بالمُعلِّم الأول).
كان إصدار جيرارد اللاتيني لأطروحة «العناصر» هو ثاني ثلاث تراجم من العربية في القرن الثاني عشر. الأولى قام بها أديلار الباثي، وشكَّل أساسًا للنسخة الثالثة التي أنتجها هيرمان الكارينثي وروبرت الكيتوني. على ما يبدو أن جيرارد قد استعان في الأساس بنسخة إسحاق وثابت، مع أجزاء مُعيَّنة من ترجمة الحجاج. قد يعني هذا أنه كان لديه نسختان عربيتان أمامه، ولكن ربما، بالمثل، كان ينسخ نصًّا يجمع بالفعل بين الاثنين؛ فكما رأينا في الفصل السابق، وُجدَت توليفات من النصَّين في عدد لا يُحصى من النُّسخ المختلفة بعد الإنشاء الأصلي لهما مباشرة، في القرن التاسع. لأن نص جيرارد كان مُستنِدًا بالأساس إلى نسخة إسحاق وثابت، فإنه النص الأقرب إلى النص اليوناني الأصلي بل إنه يشتمل على بعض الكلمات اليونانية. كذلك أدرج كل براهين إقليدس كاملة؛ وهو تحوُّل مهم عن النُّسخ الأخرى وأمر جعل فهم ما كتبه إقليدس أيسر. كانت طريقة جيرارد المعتادة هي أن يُترجِم ترجمة حرفية، بترجمة كل كلمة مُنفرِدة، بدلًا من محاولة نقل المعنى العام للنص؛ وهي طريقة شائعة في أوساط المترجمين في طليطلة في منتصف القرن الثاني عشر. ومن المُثير للاهتمام، أن أطروحة «العناصر» بترجمة جيرارد كان أكثر تأثيرًا بقليل من ترجمة هيرمان، ولكن طغى على الاثنتين ترجمة أديلار، التي انتشرت على نطاق أوسع بكثير وبقي منها عدد أكبر من المخطوطات، على الرغم من عدم وضوح أسباب ذلك. شكَّلَت ترجمة أديلار أساس النص المُنقَّح الذي أنتجه عالم الرياضيات الإيطالي العظيم الذي عاش في القرن الثالث عشر كامبانوس النوفاري، وكان هذا النص بمثابة أول نسخة تُطبَع، في مدينة البندقية، في عام ١٤٨٢.
إذا كان جيرارد قد اتبع الترتيب المقبول فيما يتعلق بدراسة الرياضيات والفلك، فمن المحتمل أن يكون قد ترجم أطروحة «العناصر» أولًا، قبل الشروع في ترجمة «المجموعة الوسطى» (النصوص التي كان يُفترَض قراءتها بعد أطروحة «العناصر» وقبل كتاب «المجسطي») ثم أخيرًا بدأ في ترجمة كتاب «المجسطي». من المحتمل أنه لم يكن لديه القدرة على نشر عمله بقدر كبير من الفعالية في بداية حياته العملية، وأن صلاته تحسَّنَت بمرور الوقت، ولهذا كانت نسخته من كتاب «المجسطي» أكبر تأثيرًا بكثير من ترجمته لأطروحة «العناصر». وبغضِّ النظر عن مدى تأثير كل من الكتابَين على حِدة، فقد ساهمَت كل إصدارات القرن الثاني عشر لأطروحة «العناصر» في جدل ازداد احتدامًا حول الرياضيات الإقليدية واستمر هذا الجدل حتى القرنَين الثالث عشر والرابع عشر. نُقلَت النظريات نفسها بطرق مختلفة كثيرة؛ منها التراجم الكاملة، والتراجم الجزئية، والتجميعات، والنسخ اللاتينية من التعليقات العربية، والتعليقات اللاتينية الجديدة، والأعمال الأصلية لباحثَين لاتينيَّين. بقي إلى وقتنا الحاضر سبع نسخ من ترجمة جيرارد لأطروحة «العناصر»؛ واحدة في كل من أكسفورد وبولوني وبروج وباريس، والنسخ الثلاث الباقية في مكتبة الفاتيكان. لا تذكر أي من هذه النسخ جيرارد بالاسم، وصدرت كلها تقريبًا خلال القرن الرابع عشر. أربعٌ منها فقط هي نسخ كاملة من ترجمة جيرارد؛ وتحتوي النسخ الأخرى على خليط من النصوص من الإصدارات المختلفة التي صدرت في القرن الثاني عشر، وهو ما يُبيِّن أن من نسخها كان لديه إمكانية الوصول إلى مخطوطات عديدة.
كما نعرف من الوقت الذي قضيناه في بغداد، فإن الرياضيات كانت قد اتسعَت اتساعًا كبيرًا لتشمل أكثر بكثير من مجرد الهندسة الإقليدية، وتعكس كتب الرياضيات الأخرى التي ترجمها جيرارد هذا الأمر. كان الخوارزمي قد استهل دراسة الحساب مُستخدِمًا الأرقام الهندية العربية والنظام العشري في «كتاب الجمع والطرح وفقًا للحساب الهندي»، وصنَّف الجبر بوصفه موضوعًا مُنفصِلًا في كتاب «الجبر». أُعيد إصدار هذين النصَّين باللغة اللاتينية بأشكال متنوعة من القرن الثاني عشر وما بعده. وترجم روبرت التشستري (الذي عادةً ما يُخلَط بينه وبين روبرت الكيتوني) كتاب «الجبر» في شِقُوبية سنة ١١٤٥، وتُرجِم أيضًا بواسطة جيرارد في طليطلة، بينما ساعدت النسخ اللاتينية من كتاب الخوارزمي عن الحساب على نشر النظام العشري في أوروبا.
كان تيري في طليعة الاكتشاف الأوروبي للعلوم اليونانية العربية، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًّا إلى الكتب التي أرسلها له هيرمان من إسبانيا. كان هيرمان قد درس على يد تيري عندما كان شابًّا؛ إذ سافر إلى شارتر من مسقط رأسه إستريا ليقوم بذلك، وبقيا على اتصال. أمضى هيرمان وزميل دراسته روبرت الكيتوني، أعوامًا كثيرة في السفر بحثًا عن النصوص، التي عكفا على ترجمتها ثم أرسلاها إلى فرنسا مصحوبة بخطابات مُفعَمة بالحماسة تُثني على عجائب البحث العلمي العربي.
كانت ثمة مشكلة كبيرة واجهَت كل مُترجِمي النصوص العلمية، في بغداء وطليطلة على حد سواء، وهي الحاجة إلى استحداث مفردات تُفسِّر الأفكار التقنية الجديدة. وكان هذا ينطبق بوجه خاص على فرعَي الفلك والرياضيات، حيث كانت ابتكارات العرب جنبًا إلى جنب مع غياب خبرة الثقافة اللاتينية يعني أن معظم المبادئ والمنهجيات التي تُترجَم كانت جديدة تمامًا، ولم يكن يوجد كلمات، حتى ذلك الحين، تُعبِّر عنها. قدَّم الباحثون اليهود، الذين كانوا قد اعتادوا بالفعل نقل أفكارهم من العربية إلى العبرية، إسهامًا كبيرًا وساعدوا الباحثين اللاتينيين على استحداث مصطلحات جديدة.
بينما كان دانيال في طليطلة، زعم أنه سمع جيرارد يُلقي محاضرة عن التنجيم، ولكنه مع ذلك، لم يستعن بتراجم جيرارد في عمله، مُفضِّلًا تراجم أديلار الباثي، وهيرمان الكارينثي ويوحنا الإشبيلي. ومن منطلق حقيقة أنه كان بوسعه الوصول إلى نسخ مختلفة من النصوص وكان بإمكانه أن ينتقي ويختار، تتبين السرعة الكبيرة التي كان المحيط الفكري اللاتيني يتغير بها. فقبل ذلك بمائة عام، في بداية القرن الثاني عشر، لم تكن أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي» وغالبية مجموعة كتب جالينوس متاحة باللاتينية؛ أما في ذلك الحين، فكان يوجد العديد من الإصدارات، إلى جانب مراجعات وتعليقات جديدة تظهر طوال الوقت.
يوجد كثير من أوجه التشابه بين ما كان يجري في طليطلة في القرن الثاني عشر وما جرى في بغداد في القرن التاسع. فقد جُمعَت المعرفة وصُنِّفت وتُرجمَت ونُظِّمت في فروع مُستقِلة من العلم، لكل فرع أسلوبه الخاص وأفكاره ومفرداته الخاصة. وكان هذا الازدهار في السعي الفكري مدفوعًا بالتطورات الضمنية نفسها الحادثة في المجتمع والتي اتسمت بها الثقافة العربية قبل ذلك بثلاثة قرون؛ مناطق مختلفة مُتحِدة تحت لواء دين مشترك، وتزايد في عدد السكان والإنتاج الزراعي والتجارة، ونمو المراكز الحضرية؛ مما أدَّى إلى إيجاد طلب على بِنية تحتية ولوائح تنظيمية؛ ومِن ثَم الإلمام بالحساب والقراءة والكتابة. في أوروبا، اتسمت هذه العملية باتساع نطاق التعليم العلماني، الذي تجلَّى في نشوء الجامعات باعتبارها المراكز الرئيسية للتعلم في القرن الثالث عشر. ومع اضمحلال مدارس الكاتدرائيات القديمة، تنافَس المُعلِّمون في أكسفورد وبولونيا وباريس بعضهم مع بعض على الطلاب؛ مما شجَّع على الصرامة والدقة الفكرية والأفكار الجديدة وميلاد النظام الحديث للتعليم العالي. مع بزوغ فروع جديدة للعلم، نمَت الفروع القائمة بحيث تعيَّن على الباحثين أن يكونوا أكثر تخصُّصًا. فلم يعد من الممكن للطالب أن يُتقِن معرفةً ما بكامل نطاقها. ولعبت طليطلة دورًا بارزًا في هذا. فقد كانت المدينة جسرًا بين الثقافة اليونانية العربية وأوروبا اللاتينية؛ إذ لم تكن مكانًا تُحفَظ فيه المعرفة العلمية في أمان فحسب، وإنما تُترجَم وتُنقَل إلى باحثي المستقبل. وفي القرن الثالث عشر، كفل ألفونسو العاشر (١٢٢١–١٢٨٤)، «الحكيم»، كما كان يُعرَف، استمرار المدينة منارةً للعلم والتعاون بين الثقافات. فأنشأ مدرسة من الباحثين اليهود والمسيحيين والمسلمين لترجمة النصوص المهمة إلى اللغة الرومانسية المحلية الدارجة، ودعم بحماسة برنامجًا للدراسة والرصد الفلكي. كانت النتيجة «جداول ألفونسين»، المُستنِدة إلى «جداول طليطلة» الأقدم، والتي استُخدمَت في سائر أوروبا على مدى الثلاثمائة سنة التالية.
كانت طليطلة المكان الرئيسي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، ولكنها لم تكن المكان الوحيد. بحلول نهاية القرن الثاني عشر، كان العالَمان السياسي والفكري قد تغيَّرا. وكانت أوروبا المسيحية في تصاعد؛ وأُقصِي الإسلام أكثر فأكثر إلى الجنوب، عبر إسبانيا، حتى عاد إلى شمال أفريقيا، وخرج من صقلية وأُبعِد عن بيت المقدس. أثناء القرن الثاني عشر، انتشرت الجيوش الصليبية في أنحاء منطقة شرق البحر المتوسط، مُحتَلةً أقاليم وجالبةً معها شعورًا جديدًا بالثقة والإمكانية. جاء في أعقابهم التجار يتبعونهم؛ رجال انتهازيون من دُوَيلات مدن إيطاليا، وضعوا الثروة نصب أعينهم، فاستقروا في المدن الشرق أوسطية وأسَّسوا مجتمعات تجارية. تاجروا في ثروات الشرق؛ من توابل، وحرير، وجواهر، وسجاد، وقطع أثرية، ومخطوطات، وقايضوا فيها وعقدوا الصفقات، وأبحروا بسفنهم وهي مليئةٌ جمالًا وعجبًا وحكمة صوب الديار على الخطوط الملاحية الواسعة، ليُغيروا أذواق الأوروبيين، وأسلوبهم ومعارفهم إلى الأبد.
هوامش
-
(١)
المكان الذي جرَت فيه أحداث رواية أومبيرتو إكو الكلاسيكية «اسم الوردة»، جريمة قتل غامضة تستكشف العالَم الفكري لأحد أديرة القرن الرابع عشر.
-
(٢)
جُلبَت نسخة من هذا النص، بالصيغة التي راجعها مسلمة المجريطي، مع تعديل الإحداثيات لتُناسِب قرطبة، إلى سرقسطة في وقتٍ ما في منتصف القرن الحادي عشر، حيث أُعيد إجراء حسابات الجداول لتناسب دائرة العرض المحلية.
-
(٣)
تُرجمَت أربع من هذه الأطروحات من اليونانية على يد حُنَين بن إسحاق في القرن التاسع.
-
(٤)
كان ليوحنا الإشبيلي والليمي، الذي عمل أيضًا في طليطلة، خلفية غامضة بعض الشيء. فيُشار إليه بأسماء كثيرة مختلفة في المصادر المتنوعة؛ فمثلًا يُشار إليه بالإسباني، والطليطلي، والليمي، وأفيندوث، وابن داود، حتى إن الباحثين تساءلوا عما إذا كان أكثر من شخص واحد. وجهة النظر الحالية هي أنه ربما كان يهوديًّا سفارديًّا فرَّ من اضطهاد الساميين في قرطبة تحت حكم الموحدين، واستقر في طليطلة واشتغل بالترجمة هناك في منتصف القرن الثاني عشر.
-
(٥)
هذا أمر غامض لأن دانيال مورلي، الذي قدِم إلى طليطلة من إنجلترا بحثًا عن المعرفة، يُورِد أنه سمعه يُحاضِر عن أهمية أطروحة أبي معشر «المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم». وبفرض أن دانيال كان يقول الحقيقة، فلا بد أن جيرارد كان على دراية واسعة بالموضوع، حتى إن لم تكن له تراجم فيه.