كلمة على رياض باشا١
عُظماء الرجال هم الأمثلة الحية لمعاني الإنسانية.
فالحكمة، والشجاعة، والبلاغة، واستنباط العلوم، واختراع الآلات، وتدبير المال، وقيادة الجند، وسياسة الملك: كلُّ هذه معانٍ للإنسانية العامة تتقاسمها الأناسيُّ تقاسمًا متفاوتًا حتى تفنى في بعضهم، ولكن هذه المعاني السامية قد نراها مُكَبَّرةً، مُعظَّمة، مُجَسَّمَة، حتى نكاد نبصرها بالعين ونَلمَسها باليد في عظماء الرجال: من الفيلسوف، والشجاع، والكاتب، والعالم، والمخترع، والاقتصاديِّ، والقائد، ومدبِّر أُمور الجمهور.
أولئك الذين يظهرون في الوجود في أزمان متباينة وفي أقطار متنائية. أولئك الذين يُلقون على أُممهم المغتبِطة بهم دروسًا عالية في الإنسانية الفاضلة، دروسًا واضحة جليَّة، فيجدِّدون ما اندرس فيها من معاني الإنسانية، أو يكملونها فيهم إن كانت ناقصة، أو يُظهرونها للعالَم على أيديهم إن لم يكن قد سمح بها الزمان.
بمقدار نبوغ العظماء في كل أمة، قِلةً وكثرة، تكون منزلتها بين الشعوب رفعةً وانحطاطًا. بل على قدر وجودهم في الدنيا تكون عظمة العالَم وتقدُّمه في مضمار الحضارة والعرفان.
أفلا ترون العالَم الراقي مدينًا في أخلاقه وحكومته ونظامه وصناعته وتجارته وأسباب رفاهيته إلى أفراد قلائل في الخلائق؟ قد كانت أفكارهم الثاقبة لِقاحًا للعقول، وأعمالهم الخصيبة بذورًا صالحة وأغراسًا مباركة لفائدة المجموع.
- أوَّلهما: تدوين سير هؤلاء الأعلام النبلاء وبيان الخُطة التي ساروا عليها، فكانت سبب نجاحهم في الدنيا. لا جَرَمَ حينئذ أنَّ من يأنس من نفسه القدرة على تحدِّيهم أو اللحاق بهم يسعى فيحاكيهم أو يربو عليهم، أو يتمم عملهم إن كان قد أُوتيَ حظًّا من نصيبهم.
- وثانيهما: إعراب المتمتعين بثمرات أولئك الأعيان عن شكرهم في السرِّ والعلن، لصنيعهم الحسن، وفي خدمة الأمة والوطن. والإقرار بالفضل بعد الموت آثر عند الله والناس منه في حالة الحياة.
وليس من دليل على الوفاء لهم بعد وفاتهم أكثر أثرًا وأحسن وقعًا من تجديد ذكراهم وتمجيد آثارهم. فلعمري إن هذا الصنيع! فوق إحاطته بفضيلة الوفاء — وإن كانت قليلة في طباع الناس — لممَّا يحيي فكرة النبوغ في نفوس المستعدِّين، لا سيما إذا كان العظيم عصاميًّا. وجلُّ العظماء عصاميون.
وإننا اليوم باجتماعنا — معاشر أعضاء المجمع العلمي المصريِّ والجمعية الجغرافية الخديوية — لتأبين فقيد مصر العظيم رياض باشا؛ نفي بإحدى الحُسْنَيَيْن؛ فنحن نجاهر على رءوس الأشهاد وفي هذا الجمع الحافل الموقر باعترافنا الجميل، لذلك الراحل الجليل، الذي بكاه النيل وأبناء النيل.
كلُّ الحاضرين (والمتكلم الضعيف في جملتهم) وجميع الغائبين (وأهل مصر بعض منهم) يشهدون بأن رياضًا كان في بابه من نوابغ مصر والشرق في هذا العصر.
ومن ذا الذي يُنكر أن نبوغ رياض لم يقف عند حدِّ تدبير الملك وسياسة البلاد، حتى تعدَّاه إلى كثير من الفضائل القومية والمزايا الإنسانية التي قلَّما تجتمع في شخص مفرد، وليس ذلك على الله بمستنكر.
فالرجل، كما هو معدود في طليعة السياسيين والمديرين، كذلك كان في مقدمة الهداة والمصلحين. وكما هو في عداد نوابغ الإداريين الحازمين، فقد انتظم في سلك أكابر المُشرعين والمُقننين. وبينما يحله قومٌ في زمرة الاقتصاديين الماليين، يرفعه آخرون إلى مكانة العاملين المجدِّين والمنظمين المجيدين. هذا إلى أدب بارع، وقول حكيم، وكرم حاتميٍّ، ورحمة لا تتناهى.
تلكم الصفات العالية والأخلاق الراضية عرفناها في رياض، وتجلَّت بأبهى مظاهرها على الجيل الماضي والجيل الحاضر. وها نحن نجتلي كل يوم آثارها الخالدة بين ظَهْرَانَيْنا في ربوع مصر، وطننا العزيز: ما بين وضع نظامات إدارية، وتشريع قوانين أهلية، وتأييد معاهد علمية، وتعضيد صحافة عربية، وتنشيط صناعة وطنية، ومؤاساة ملاجئ خيرية، وتفقد أندية أدبية.
كان المجمع العلمي المصريُّ والجمعية الجغرافية الخديوية ممن فاز بكثير من نفحات رياض ونال قسطًا كبيرًا من تلك الأيادي البيضاء التي لا ينساها ولن ينساها الأعضاء، ما بقيت محبة الرجل راسخة في قلوبهم، وهي راسخة ما جاش فيهم خاطر أو تحرَّك لهم لسان!
فلقد طالما عضدهما ومهَّد السبيل أمامهما بجاهه ورأْيه، وبلسانه وبنانه! وكم له فيهما — رغم أعماله السياسية والإِدارية الكثيرة — من موقف صدق جلَّى فيه غامضًا وأزاح باطلًا، وأيد حقًّا وحيا مستكشفًا، وعزّز باحثًا وأبَّن ميتًا!
وما ننس لا ننس موقفه المشهور المشهود في إحدى حفلاتنا الفريدة (٥ يناير ١٨٧٨) وهو يحيِّي بطل إفريقية العظيم، وأعني به ستانلي الرحالة الشهير، الكاشف لمجاهل السودان، والسالك للبقعة التي كنا نسميها بالمجهولة قبل الآن، وفاتح أبواب القارة السوداء لروَّاد المدنية وطلاب التوسع في العمران؛ فكان رياض أوَّل عظيم حيَّا ذلك العظيم، بل كان أوَّل نائب عن أهل المدنية في الترحيب بذلك الضيف القادم من تلك الفيافي الموحشة التي يأنس فيها الإنسان للوحش العادِي، ويفزع إذا لقيه الإِنسان العادِيُّ، ولسان حاله يردِّد قول الأحيمر السعديِّ:
يا سادتي إني أفتخر برياستي هذه، بتأديتي في هذا اليوم رسم افتتاح المحاكم الجديدة التي بكم هيئتها المجتمعة؛ فأنتم مدعوُّون للتعاون على إحراء هذا الأثر الجليل المقدار الذي يفتح عصرًا جديدًا بالنسبة للتأسيسات المصرية العدلية. وحيث إن إجراءه ونجاحه محوَّل عليكم، لا أرتاب في أن إقداماتكم ومساعيكم تكون مصروفة إلى أعلى مقصد مرغوب، وها أنا أعلن فيكم رسميًّا افتتاح تلك المحاكم.
وإذا أرجعنا البصر كرَّة أُخرى إلى المجمع العلمي المصريِّ نرى رياضًا صاحب الفضل في تخصيص الدار التي لا يزال هذا المجمع يعقد جلساته فيها إلى اليوم، وهي الكائنة في السرادق البحري الغربي من مجموعة المباني التي تجمعنا وإياكم الآن، وهي تقيم في معظمها نظارة الأشغال العمومية.
كان ذلك في سنة ١٨٨٠ حينما كانت مقاليد نِظارة الداخلية بيد رياض، وكانت تلك البقعة تُعرف في ذلك الوقت باسم مدرسة بنات الأمراء. ولقد أعرب في كتابه الفرنسي المؤرَّخ في ٤ فبراير نمرة ٥٦٤ عن مزيد سروره من تمكنه من مساعدة المجمع العلمي بهذه المنحة الباقية إلى عهدنا هذا، وقد كان مقرُّ هذا المجمع بمدينة الإسكندرية قبل ذلك اليوم. وبهذه المناسبة توجَّه وفد من زملائنا السابقين إلى نِظارة الداخلية ليشكروا زميلهم الوزير. ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن انتظام رياض في سلك هذا المجمع كان في ١٤ يونيو سنة ١٨٧٤.
ولم تقتصر خدمة رياض للعلم وأهله على هاتين الجمعيتين، بل قد امتاز بتعضيد الصحافة العربية على اختلاف المشارب والغايات، وحسبي أن أقول (ولا يستطيع معترف بالجميل أن يُنكر عليَّ قولي): إنه لولا رياض، لما كان للجرائد السياسية والمجلات العلمية هذا الصوت العالي الذي تتجاوب أصداؤه في مشارق البلاد ومغاربها.
سَلُوا من سبقوه إلى عالم الهنا، فهم الشهود العدول؛ سلوا محمد عبده وأديبا إسحاق، وسائلوا عبد الله النديم وسليمًا النقاش، واستخبروا إبراهيم المويلحي وسليمًا تقلَا والسيد وفا زغلول وبشاره تقلَا، بل عليكم بأبي السعود وأمين شميل، وإبراهيم اللقاني، وجرجس ميلاد. فإن لم يجيبوكم حِوارًا أجابوكم اعتبارًا. وكيف لا؟ وقد تركوا بين أيدينا من أياديه مآثر وآثارًا. بل هؤلاء الأحياء وهم كثير، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
على أن هذه العناية لم تقتصر على أهل الصحافة؛ فقد كان رياض وسيع الجناب لأهل التأليف والنشر والترجمة.
وماذا أذكر وماذا أترك؟ فالمجال فسيح ولكنَّ الوقت يضيق عن سرد الأسماء، فأكتفي بالإشارة إلى بيت البستاني، وقد جرت العادة بأن البستاني هو الذي يوالي الرياض، ولكن رياضنا هو الذي أولى البستاني نفحات تتلوها نفحات.
أفراد هذا البيت — وكلهم أفراد — لا يزالون يرطبون ألسنتهم بمديح رياض، ويشكرون إحياءه لهم وإعلاءه ذكرهم وتنويهه بقدرهم؛ لأنه هو الذي كانت له المأثرة الأولى واليد الطولى في ظهور ذلك السِّفر الحافل الذي تفتخر به اللغة العربية في العصر الحديث، أعني به دائرة المعارف التي هي آية الفخر لعميدهم الجليل المعلم بطرس البستاني ولبقية أهل بيته من بعده.
فهل يقوم بعد رياض من يُكمل عمل رياض مع دوحة البستاني؟ أم يبقى العمل مبتورًا بعد ذهاب ذلك العميد وذلك العماد؟ إنني أغتنم فرصة هذا الموقف الجليل، بين أيدي الغطاريف البهاليل، من سروات وادي النيل، لإبداء أمنية لا تزال تتردد بين جوانحي، وهي أن يوفقنا الله ويمنَّ علينا بوجود القادرين على التمام.
وما أكثر نظائر البستاني من المؤلفين والمترجمين والباحثين! قد كانت لهم من معونة رياض قوَّة فوق قوَّتهم اقتحموا بها غمار النبوغ والشهرة، وكانوا له خير معوان على النهضة بالأمَّة وترقية المعارف.
ماذا أُبدي وماذا أُعيد؟ أفتحدِّثني نفسي باستقصاء مناقب رياض في هذا الموقف الرهيب، الذي هو أشبه بجلسة الخطيب؟
حاشا لله! ما أريد ذلك ولن يريده غيري، ولكنَّ الواجب وذكرى الجميل يحتمان علينا معاشر أعضاء المجتمع العلميِّ المصريِّ والجمعية الجغرافية الخديوية أن نشيِّع هذا الراحل عنا، الباقي حبه في قلوبنا، بالاعتراف جملةً بتفضله علينا ومؤازرته لنا في جميع أعمالنا، ولكي ننوب بهذا الرمز الصغير عن جمهور الخادمين للعلم والأدب والتاريخ.
ففي رضوان الله يا رياض! فقد فارقت أمَّة راضية، وجاورت ربًّا راضيًا إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا.