نظام الحكم في عصر النبوة
النقض – بحث القضاء في عهد النبوة – العرب والسياسة الشرعية – القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان – البحث في تولية معاذ وعلي وعمر — رضي الله عنهم — القضاء – القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء – نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه – المالية في عهد النبوة – لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس؟ – احتمال الأذى في سبيل الذود عن الحق.
***
ملخصه
زعم المؤلف أنه بحث عن تاريخ القضاء زمن النبي ﷺ فلاحظ أن حاله لا يخلو من غموض وإبهام، واعترف بأن في التاريخ الصحيح شيئًا من قضائه عليه السلام، ولكن يقول: «إن ذلك المقدار لا يبلغ أن يعطي صورة بينة لذلك القضاء ولا لما كان له من نظام إن كان له نظام.» ونقل ما روي في ولاية عمر وعلي ومعاذ القضاء زمن الرسالة، فذهب إلى أن ما روي في ولاية عمر إنما هو استنتاج، وأن في روايات ولاية علي ومعاذ اختلافًا يسوِّغ له أن يستنتج ما قاله من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي ﷺ.
ثم انفلت وكاء عقيدته وصرح بأنه وجد عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجودًا على وجه واضح لا لبس فيه، وتصامم عن صوت التاريخ الصحيح وهو يزجره أن يقول على رسول الله زورًا فقال: «إن الباحث المنصف يستطيع أن يذهب إلى أن النبي ﷺ لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة لإدارة شئونها وتدبير أحوالها.» وتعدى إلى ما بعد القضاء والولاية من العمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها، وحراسة الأنفس والأموال وغير ذلك مما لا يكمل معنى الدولة إلا به، ومسح عليه من صبغة اللبس والإبهام ما اتخذه ذريعة إلى مخادعة السذج من قراء كتابه، وجرِّهم إلى الاعتقاد بأن الحكم في زمن النبوة كان جاريًا على غير نظام، وختم الباب بدعوى أن تفكيره في حال القضاء وغيره من أعمال الحكم والولايات قد انتهى به إلى مجال مشتبه حائر، فإذا هو إزاء عويصة أخرى ومعضلة كبرى؛ وهي أن النبي ﷺ كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية أم لا؟
النقض
قال المؤلف في ص٣٩: «لاحظنا إذ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي ﷺ أن حال القضاء في ذلك الوقت لا يخلو من غموض وإبهام يصعب معهما البحث، ولا يكاد يتيسر معهما الوصول إلى رأي ناضج يقره العلم، وتطيب به نفس الباحث.»
عرف الذين أوتوا العلم أن القضاء حقيقة شرعية فرجعوا في تقرير أحكامه ورسم خطته إلى أصول الشريعة بأجمعها، فأحكموا صنعه وأقروا عين العدالة بما فصلوه من أحكام وآداب ونظام، ولكن المؤلف يريد اصطياد السذج من قراء كتابه واستهواءهم «إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر»، فلفت قلوبهم عن تلك الأصول القائمة، وأخذهم إلى تعرُّف حال القضاء مما بحث عنه في هذا الباب، وجنح إلى إنكاره؛ وهو توليته عليه الصلاة والسلام لأشخاص يفصلون بين الناس فيما شجر بينهم، ولهذا فاتحهم بقوله: لاحظنا إذ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي ﷺ … إلخ.
وإذا شئت كلمة حق تنفض من حولك غبار هذا التشكيك الخاسر؛ فاربأ بنفسك عن الإذعان لغير الحجة، وألقِ سمعك وأنت شهيد.
من ذهب في التاريخ إلى الوقوف على حالة العرب النفسية قبل أن تطلع عليهم شمس الإسلام، أو حين ابتدأت ترمي بأشعتها في قلوبهم، وجد طباعهم كانت تأبى لهم أن يخضعوا لسلطان، أو يدخلوا تحت نظام، كما قال النعمان يصفهم لكسرى: «وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون إليهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين.»
ومما ينبهك على ما ملأ نفوسهم من الغلو في العظمة والتنافس في السيادة كثرةُ ما كان ينعقد بينهم من المفاخرات والمنافرات، ثم ما تراه في أشعارهم من الفخر والحماسة، ولشدة ما يصف به الرجل نفسه من الحول والقوة وعزة القبيلة يخيل إليك أنه ملك يجر وراءه جيشًا عرمرمًا.
تجد هذه الروح سارية في نفس كل من له مكانة في قومه، حتى إن الرجل لا ينال شيئًا من الرياسة في قومه إلا بالإحسان والكرم ولين الجانب ومناصرتهم ولو في الباطل، ولا يكاد يبسط يده لكفهم عن الظلم وعقابهم على عمل منكر مخافة أن ينفضوا من حوله، ويضربوا برياسته في وجهه.
قضت حكمة مبدع الكون أن يطلع هلال الإسلام بين هؤلاء الأقوام الذين حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين، وقضت سنته أن لا تنسلخ الأمم من طبائعها دفعة، فكان من مقتضى حكمته أن يأخذهم الدين الحق إلى هدايته، ويبين لهم قوانينه على طريق المطاولة والتدريج: فاتحهم بالدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وبعض العبادات، ولما أنسوا بشيء من الأوامر والنظم الدينية طفق ينتقل بهم في أحكام المعاملات والجنايات والسياسات، ويشرع لهم في خلال ذلك أصولًا تضم بين جوانحها أحكامَ جزئياتٍ لا يحيط بها حساب، حتى نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، ومن الحقائق التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة رسم خطة القضاء والإرشاد إلى مبادئه السامية.
القضاء تطبيق الأحكام على الوقائع الجزئية، وأحكام الوقائع قد قررتها الشريعة؛ إما بتفصيل كحدي السرقة والزنا، وإما بعرضها في ضمن أصول كلية ككثير من الأحكام القائمة على رعاية العرف أو المصالح المرسلة، على ما سنلقي عليكم بيانه في أمد قريب.
وأما تطبيق الأحكام فيرجع النظر فيه إلى مبادئَ يتوقف عليها حفظ الحقوق، ولا يخرج الحكم في قالب العدل إلا برعايتها؛ كالاستناد إلى البينات، وضرب الآجال لإقامتها. ووراء هذه المبادئ نظم ترجع إلى تسهيل وسائل النظر، والاحتياط في ضبطها، أو إصدار الحكم على وجه أدل على إنصاف القاضي، وأدعى لرضا المحكوم عليه، كتسجيل أقوال المتداعيين أو الشهود في محاضر، وتقرير الحكم ببيان مستنداته الشرعية، وإخراج نسخة منه لمن يستحقها.
أما المبادئ التي هي كالأركان للعدل في القضية، فلتجدنها قائمة في دلائل الشريعة دون أن تشذ منها كبيرة أو صغيرة، فتفقهوا فيها لعلكم تعقلون، أو اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
•••
قال المؤلف في ص٣٩: «لا شك أن القضاء بمعنى الحكم في المنازعات وفضها كان موجودًا في زمن النبي ﷺ كما كان موجودًا عند العرب وغيرهم قبل أن يجيء الإسلام.»
لا يرتاب مسلم في أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتولَّ فصل القضايا بين الناس من تلقاء نفسه، وإنما هو منصب استمده بوحي سماوي، قال تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ، فناط بعهدته فصل القضايا، ثم وضع في أعناق الأمة فريضة التسليم لقضائه فقال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
فيمتاز قضاء رسول الله ﷺ عن القضاء الذي وجد عند العرب قبل الإسلام بأن ولايته قامت على وحي يوحى، وأن التسليم له والاعتقاد بحكمته من شرائط الإيمان بالله.
فما ينبغي للمؤلف أن يقيس محكمة إلهية بمحكمة جاهلية، ويوحي إلى من يشاكله في ذوقه أن كليهما جارٍ على غير نظام! فإن وصفه لحال القضاء النبوي بالغموض والإبهام ثم قوله: «إن كان له نظام!» لا معنى له سوى إنكار أن يكون لتلك المحكمة العادلة نظام. ولقد كان هذا الإنكار أقرب إلى الصراحة من معانٍ أخرى لا تكشف قناعها إلا حين تلتقي بمن مارس لغة المرتابين، وتفقه في لحن خطابها.
•••
قال المؤلف في ص٤٠: «وفي التاريخ الصحيح شيء من قضائه عليه السلام فيما كان يرفع إليه، ولكننا إذا أردنا أن نستنبط شيئًا من نظامه ﷺ في القضاء، نجد أن استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن؛ لأن الذي نُقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بينة لذلك القضاء، ولا لما كان له من نظام إن كان له نظام.»
الأدلة السمعية وما يتفرع عنها من نحو القياس والقواعد بالغة حد الكفاية في إقامة محاكم تسير على قانون العدل، وتزن الحقوق بالقسطاس المستقيم، فإن تراءى لأحد أن الأخبار التي تقص شيئًا من القضايا التي رفعت إلى النبي ﷺ هي من القلة بحيث لا تعطي صورة بينة للقضاء في عهده، قلنا: التشريع كامل، وسيان بعد هذا أن تكثر الخصومات لعهد الرسالة أو تقل، تنقل إلينا وقائعها أو لا تنقل، على أن طبيعة ذلك العصر وروحه الاجتماعي يقتضي أن تكون الخصومات بين القوم ذات عدد يسير. وإليك كلمة تنبئك بسبب قلة ما يرفع إلى مقام الرسالة من قضايا المتخاصمين، وتؤكد لك صحة ما نبهنا عليه من أن القضاء العملي ليس وحده المرجع لتعرف حال القضاء النبوي، ومعرفة ما «له من نظام إن كان له نظام.»
- أحدهما: قضايا تنشأ عن تجاحد الخصمين فيدعى أحدهما ما ينكره الآخر. وهذه هي التي يحتاج فيها إلى إقامة البينات، ويمتاز فيها منصب القضاء عن منصب الفتوى.
- ثانيهما: قضايا يقرر فيها الخصمان الواقع، ولكنهما يجهلان وجه الحق ولا يعلمان المحق من المبطل في نظر الشارع. والقاضي في هذا النوع بمنزله المفتى؛ لأن الخصمين يكتفيان ببيان وجه الحق وينصرفان عن تراضٍ. والخصومات التي تنشب بين الجماعات المطبوعة على فضيلة الإخاء والتقوى إنما تكون من هذا النوع القائم على عدم معرفة الحق، وكذلك قضايا المسلمين لعهد النبوة؛ فإن أغلبها من قبيل الاستفتاء. أما المشاجرات الناشئة عن التجاحد فنادرة جدًّا، قال الحافظ ابن تيمية: «ولو عد مجموع ما قضى به النبي ﷺ من هذا النوع — يعني ما قام عن تجاحد — لم يبلغ عشر حكومات.»
هذا سبب قلة ما تحمله الرواية من القضايا التي رفعت إلى رسول الله ﷺ وتجاوزت حد الاستفتاء، ويضاف إلى هذا أن أحكام الشريعة كانت تطبق بعزم وإخلاص، وهذا يقتضي بوجه خاص أن تقل القضايا المتعلقة بالجنايات. وقلة القضايا لعهد النبوة لا تجعل حال القضاء مبهمة؛ فإن الأدلة بجملتها تعطينا صورة بينة لسنة القضاء الكافلة بإقامة العدل وصيانة الحقوق.
•••
قال المؤلف في ص٤٠: «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي ﷺ غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولى ﷺ أحدًا غيره القضاء أم لا.»
لم تكن حال القضاء في عهد النبوة غامضة ولا مبهمة؛ فقد أريناك أن ما بين أيدينا من الكتاب والسنة الصحيحة يجعلنا على بصيرة من سنته المتبعة لذلك العهد، وليست الشواهد على هذه السنن بالشيء القليل حتى تسعه هذه الورقات المقصود منها تنبيه سليم الفطرة؛ كي لا يفتتن ببهرج ذلك الكتاب وزخرف قوله غرورًا، وسيمر نظرك على أمثلة من سنن القضاء الإسلامي في غير هذا المقام.
•••
قال المؤلف في ص٤٠: «هنالك ثلاثة من الصحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن رسول الله ﷺ.» ونقل بعد هذا ما حكاه رفاعة بك في نهاية الإيجاز من أن رسول الله ﷺ قلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، ثم قال المؤلف: «وينبغي أن يضاف إليهم أبو موسى الأشعري — رضي الله عنه — فقد كان في عمله على ما يظهر نظيرًا لمعاذ بن جبل سواء بسواء.» وقال المؤلف بعد هذا: «أما أن عمر — رضي الله عنه — تقلد القضاء في زمن النبي ﷺ فرواية غريبة من الوجهة التاريخية، ويظهر أنها إنما أخذت بطريق الاستنتاج.» ثم أورد الأثر الذي استند إليه صاحب تخريج الدلالات ونقله عنه صاحب نهاية الإيجاز، وهو ما رواه الترمذي من أن عثمان «قال لعبد الله بن عمر: اذهب فاقض بين الناس، قال: أَوَتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: وما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟! قال: إن أبي كان يقضي فإن أشكل عليه شيء سأل رسول الله ﷺ، فإن أشكل على رسول الله سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأله.»
•••
ثم حكى المؤلف ما نقله صاحب نهاية الإيجاز عن تخريج الأدلة السمعية من أن رسول الله ﷺ بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن وهو شاب ليقضي بينهم، مستدلًّا على ذلك برواية أبي داود، ونقل المؤلف بعد هذا ما جاء في صحيح البخاري من أن رسول الله ﷺ بعث عليًّا مكان خالد إلى اليمن ليقبض الخمس، وقدم بسعايته إلى مكة والنبي ﷺ بها، ثم نقل عن برهان الدين الحلبي أن رسول الله ﷺ بعث عليًّا — كرم الله وجهه — في سرية إلى اليمن فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وهي السرية الأولى. والسرية الثانية بعث فيها رسول الله ﷺ عليًّا — كرم الله وجهه — إلى بلاد مذحج من أرض اليمن، فغزاهم وجمع الغنائم ثم رجع، فوافى النبي ﷺ بمكة قدمها لحجة الوداع.
ثم انتقل إلى الحديث عن معاذ بن جبل، فحكى ما نقله صاحب نهاية الإيجاز أيضًا، عن كتاب تخريج الأدلة السمعية، من أن رسول الله ﷺ أرسله قاضيًا إلى الجند من اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل له قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، ثم نقل ما رواه البخاري من أن رسول الله ﷺ بعث أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وقال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا.»
ونقل بعد هذا حديث البخاري الذي يتضمن أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ: «إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فإذا جئت فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، محمدًا رسول الله إلخ.» ثم نقل ما أورده زيني دحلان في السيرة النبوية من أن النبي ﷺ بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وروى ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث معاذ الذي يتضمن أن النبي ﷺ لما بعثه إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.»
بعد أن حكى المؤلف هذه الأخبار والأحاديث، قال في ص٤٤: «تلك الروايات المختلفة التي قصصنا عليك نموذجًا منها تريك كيف يسوغ لنا أن نستنتج ما قلناه لك قبل من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي ﷺ. وها أنت ذا قد رأيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة بعينها، فبعث علي إلى اليمن يرويه أحدهم أنه تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة.»
وإذا كان علي بن أبي طالب بعث ليقوم مقام خالد بن الوليد، فقد بعث أميرًا، والإمارة لعهد رسول الله ﷺ تتناول القضاء ونحوه، ولكن بعض الرواة يقول: إنه أرسل مكان خالد، وبعضهم يقتصر في الرواية على الأمر الذي يناسب غرض الحديث، فهذا يقول: بعث قاضيًا؛ ليناسب خبر: «وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء إلخ.»
والآخر يقول: بعث ليقبض الخمس؛ ليناسب ما يذكره بعد ذلك من إنكاره عليه بعض تصرفاته في الخمس وقول النبي ﷺ للمُنكر: «لا تبغضه؛ فإن له في الخمس أكثر من ذلك.»
فقول بعض الرواة: بعث قاضيًا، أو قول الإمام: بعثت قاضيًا، لا يعارض قول بعضهم: بعث ليقبض الخمس، متى كان النبي ﷺ صرح له بالقضاء وقبض الخمس بوجه خاص، زيادةً على أنَّ بعثه مكان خالد يقتضي النظر في القضايا وفصل الخصومات.
ترك المؤلف ما رواه البخاري أولًا من أن علي بن أبي طالب بعث مكان خالد بن الوليد، ونقل الحديث الثاني الذي يقول فيه الراوي: بعثه إلى خالد ليقبض الخمس، وحاول أن يضرب بهذه الروايةِ روايةَ ولايته القضاء؛ ليخلص من أثر يشهد بأن للقضاء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حديثًا ينقل، أو اسمًا يدور على الألسنة. والعلماء الذين درسوا باب التناقض من علم المنطق، وباب التعارض والترجيح من علم الأصول؛ فهموا هذه الروايات على وجه جامع، ولم يروا بينها اختلافًا يدعو إلى حيرة أو إلغاء الروايتين، أو ترجيح إحداهما على الأخرى.
يقول الإمام البخاري: بعث عليًّا بعد ذلك ليقبض الخمس. ومن الجلي لدى المبتدئين من طلاب العلم أن المراد خمس الغنيمة، ولكن المؤلف الذي لم يقنع برتبة مجتهد، وحاول أن يكون مشرِّعًا يقول: «ويروي الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة.» وليس في الزكاة شيء يقال له: خمس، ولكن الله ضرب هذا المثل لنشهد به حظ المؤلف من فهم كتب الشريعة، وليعلم الذين يريدون أن يتبعوا خطواته أنهم ركبوا غارب عشواء، وفتحوا أعينهم في ليلة ظلماء.
•••
قال المؤلف في ص٤٤: «ومعاذ بن جبل كذلك، ذهب إلى اليمن قاضيًا في رأي، وغازيًا في رأي، ومعلمًا في رأي، ونقل صاحب السيرة النبوية خلافًا في أن معاذًا كان واليًا أو قاضيًا؛ فقال ابن عبد البر: إنه كان قاضيًا، وقال الغساني: إنه كان أميرًا على المال. وحديث ابن ميمون فيه التصريح بأنه كان أميرًا على الصلاة، وهذا يرجح أنه كان واليًا.»
فرواية أن معاذًا كان قاضيًا باليمن من الروايات التي مُحِّصَتْ ووضعها المحدثون موضع القبول، وليس في الروايات الأخرى ما ينافيها حتى نحتاج إلى عرضها على ميزان الترجيح، فضلًا عن أن نعاملها معاملة الأحاديث الموضوعة ونضرب عنها جملة، كما فعل المؤلف حرصًا على أن ينتهي به النظر «إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر».
- أولًا: يظهر أن صاحب السيرة نقل هذا الخلاف من فتح الباري١٩ لابن حجر العسقلاني، ونص عبارة الفتح: «واختلف: هل كان
معاذ واليًا أو قاضيًا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني
بالأول.» والدليل على أن صاحب السيرة استمد الخلاف من كلام ابن
حجر: أن لفظ «الغساني» إنما جاء في نسخ فتح الباري. ونقل القسطلاني
في شرحه٢٠ لصحيح البخاري هذا الخلاف عن ابن حجر، وذكر المقابل
لابن عبد البر باسم «العسكري»، وكذلك ذكر الخلاف الإمام العيني في
شرحه للبخاري،٢١ وذكر المخالف لابن عبد البر باسم «العسكري».
والمعروف بالتأليف في تراجم الصحابة هو العسكري؛ وهو «أبو محمد عبد الله بن أحمد بن موسى العسكري المعروف بعبدان.»٢٢ وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الإصابة باسمه «عبدان» حين أخذ يسرد أسماء من ألَّفوا في الصحابة — رضي الله عنهم.
- ثانيًا: قول صاحب السيرة: وحديث ابن ميمون يرجح أنه كان واليًا. إنما هو استنتاج منه، ولا يصح إلا إذا أريد بالوالي من له سلطة أعم مما يفهم المؤلف، وهو العامل على المال الناظر في شئون البلاد.
- ثالثًا: أن ابن عبد البر صرح في الاستيعاب بأن معاذًا كان قاضيًا وواليًا على المال حسبما نقلناه آنفًا؛ فلا يصح أن يفهم من هذا الخلاف أن ابن عبد البر يقول: أرسل قاضيًا فقط، فهو لو قال: بعث معاذ قاضيًا وسَكَتَ، لم نفهم منه مخالفة لمن يقول: بعث واليًا، فما باله إذا صرح بالولاية علاوة على القضاء؟!
- رابعًا: إذا كان العسكري قال: إن معاذًا أُرسل واليًا، ولم يتعرض لنفي القضاء لم يعد هذا مخالفة لابن عبد البر، وكذلك رأينا الشيخ العيني لم يزد على أن قال: «وفي كتاب الصحابة للعسكري: «بعثه النبي ﷺ واليًا على اليمن.» وفي الاستيعاب: «بعثه قاضيًا وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن.»٢٣ فإذا كان الخلاف إنما أخذ من اقتصار العسكري على ذكر الولاية من غير تعرض للقضاء؛ كان الخلاف بين العسكري وابن عبد البر لا يزيد على أن يكون اختلافًا في العبارة.
- خامسًا: يترجح أن يكون العسكري عندما تحدث عن معاذ اقتصر على ذكر الولاية ولم يتعرض لنفي القضاء، فإن ابن حجر ومن نقل كلامه كالقسطلاني، ثم من نقل عن كتاب العسكري مباشرة كالعيني، لم يذكروا أن العسكري نفى القضاء صراحة، ولو نفاه لذكر الوجه في نفيه وعدم قبول روايته، ولو ذكر هذا الوجه لنقلوه وتلقوه إما بمناقشة وإما بتسليم.
- سادسًا: على فرض أن يكون العسكري أو الغساني نفي ولاية معاذ القضاء بصراحة، فإن الرواية التي تشهد بهذه الولاية حجة على المنكر إلا أن يأتي بدليل مسموع أو معقول يطعن في شهادتها.
•••
قال المصنف في ص٤٥: «ذلك بأننا وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجودًا على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي ﷺ لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلًا لإدارة شئونها، وتدبير أحوالها، وضبط الأمر فيها، وما يروى من ذلك فكله عبارة عن توليته أميرًا على الجيش، أو عاملًا على المال، أو إمامًا للصلاة، أو معلمًا للقرآن، أو داعيًا إلى كلمة الإسلام، ولم يكن شيء من ذلك مطردًا، وإنما كان يحصل لوقت محدود، كما ترى فيمن كان يستعملهم ﷺ على البعوث والسرايا، أو يستخلفهم على المدينة إذا خرج للغزو.»
دعوى أن النبي ﷺ لم يولِّ قضاة يفصلون الخصومات ولم ينصب ولاة لتدبير أحوال البلاد من بنات فكر المؤلف وحده، فهو الذي اخترعها دون أن يسبقه إليها ألمعي خبير أو بحاثة بصير، وإذا كان كل رأي جديد — حقًّا كان أو باطلًا — يخف بصاحبه إلى منزلة يشار إليها بالبنان، ويطير صيته في الآفاق إلى أمد بعيد، فليتبوأ المؤلف مقعده بمكان تومئ إليه الأصابع من كل ناحية، وليهنأ بسمعة تطير مع الشمس كل مطار، ولكن ما دام القرآن يُتلى، وكتب السنة تُدرس، وفي القلوب إيمان، وفي الأدمغة عقول؛ فإن هذا الرأي الجديد لا يبقى على وجه الأرض إلا أن يحتمل ما تخلعه عليه النفوس الفاضلة من برود التهكم والتفنيد، ويرضى بما تناديه به ألسنة الصادقين من ألقاب الباطل والبهتان.
ولا يلاقي هذا الرأي تفنيدًا من إخوان الإسلام فقط، بل يرمي في وجهه بالتزييف كل من درس تاريخ عهد النبوة، ووقف ساعة من نهار على روح التشريع وإن كان من المخالفين الذين لا ينتمون للإسلام.
يزعم المؤلف أن النبي ﷺ لم يرسل أميرًا للحكم وضبط الأمر في البلاد، وإنما كان يرسل غزاة أو عمالًا أو أئمة ودعاة للإسلام، ولا ندري ماذا دفعه إلى إنكار حقيقة تضافر عليها المحدثون والمؤرخون؟! وإذا كان المدار في تحقيق المسألة على الرواية فلا سبيل للمنكر عليها إلا أن يردها بطعن في سندها، أو يبين أن العقل السليم لا يقبلها. وهل مشى المؤلف في هذا السبيل المعقول فتعرض لسند الروايات التي تثبت أن للنبي ﷺ أمراء ينظرون في شئون البلاد، ويحكمون فيما شجر بين الناس، ونقدَها ببينة وعقل، أو أقام برهانًا على أن وجود ولاة يفصلون القضايا ويدبرون أحوال البلاد في عهد الرسالة مما يأبى العقل سماعه؟!
كل ذلك لم يكن، ولكنه يبتغي مرضاة قوم لا يؤمنون، وتخيل أنه بلغ في البيان أن ينكر الحق فيذهب هباء، أو يشير إلى باطل فيستقبله الناس باحتفال وتكريم.
قد أريناك أن انتصاب معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب للقضاء ثابت بأدلة ناطحها قلم المؤلف فأوهى قرنه قبل أن يوهنها، وإن شئت زيادة تحقيق في الموضوع فلدينا مزيد: عني الإسلام بوسائل العمران وأركان الدولة، وبالأحرى مقام الفصل فيما شجر بين الناس، ولهذا كان ﷺ لا يترك قومًا دخلوا في الإسلام إلا أمَّر عليهم من يسوسهم بأحكام شريعته.
وقد نقلنا لكم آنفًا قول الحافظ ابن حجر: «والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أُمِّرَ عليهم.»
ولا يعد قيام الأمير بفصل القضاء وتنفيذ الأحكام وغير ذلك من شئون الولاية أمرًا شاقًّا، فإن وسائل العمران من مثل الفلاحة والصناعة والتجارة لم تكن ظاهرة في البلاد التي فتحت زمن النبوة بهذا المظهر الواسع حتى تكثر الخصومات والمنازعات لحد أن يُعيَّن لها قضاة شرعيون زيادة على الأمراء السياسيين.
•••
قال المؤلف في ص٤٥: «إذا نحن تجاوزنا عمل القضاء والولاية إلى غيرهما من الأعمال التي لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها «المالية»، وحراسة الأنفس والأموال «البوليس» وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة، فمن المؤكد أننا لا نجد فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئًا واضحًا يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن نقول: إنه كان نظام الحكومة النبوية.»
بعث النبي ﷺ بمكة فأقام بها عشر سنين أو ثلاث عشرة سنة وهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما أذن الله بأن يقيم لهذا الدين دولة تحمي دعوته، وتحرس شعائره، وتدبر سياستها على محور تعاليمه، كان أول لبنة وضعها ﷺ في أساس هذا الغرض الأسمى ما أخذه على الأوس والخزرج من عهد البيعة على أن يكونوا أنصاره إلى الله، ثم هاجر إلى المدينة وواصل العمل بما أوحى الله إليه حتى اتسقت للإسلام شريعة ذات مبادئ عالية ونظم حكيمة.
كانت المدةُ منذ شرع الإسلام في بناء دولة تحرس دعوته وشعائره، وتعمل لإسعاد أهله إلى أن انتهى عهد الرسالة نحوَ عشر سنين.
ماذا فعل محمد بن عبد الله صلوات الله عليه في عشر سنين، تلك المدة التي قضى المؤلف مثلها بالتفكير في منطق يميت شريعة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؟
رأينا وسمعنا أن الحكومات إذا دخلت في عهد حرب أفرغت مهجتها في تدبير وسائل الدفاع من جند وسلاح ونصب مكايد، وتذهل عن الشئون المدنية والعلمية فلا تكاد ترى لهما أثرًا من نظم العلم والسياسة، إلا ما كان قائمًا قبل دخولها في مواقع الحروب، ولا سيما حيث يكون عدوها أوسع بلادًا وأكثر قبيلًا. هذا شأن الدول العريقة في الحكم والقوة، التي تكون سلطتها وسياستها موزعة على نفوس كثيرة من قائمين بالسلطة التشريعية إلى قائمين بالسلطة التنفيذية، ومن وزارة داخلية إلى خارجية إلى حربية إلى مالية، فكيف يكون حال جماعة قليلة ظهروا بعقيدة وشريعة خالفوا بهما القبائل والأمم التي تكتنفهم من كل جهة؟
كان ذلك الرسول الأعظم مظهر السلطة التشريعية، ومصدر السلطة التنفيذية، فالحكمة تجري على لسانه، ودم النفوس الخبيثة يجري على سنانه. يرسل الموعظة الحسنة تحت مثار النقع، ويسن القانون العادل وهو يقاتل وحوشًا غابها الرماح. ولقد كان في تشريعه الحكيم أو عزمه النافذ عبرة لأولي الألباب.
دولةٌ بنتُ عشر سنين فتحت بلادًا واسعة، ونشرت تعاليم نافعة، وشرعت قوانين جامعة، إن في قصر المدة التي استحكم فيها أمر هذه الدولة لآية كبرى، ولكن المواربين بآيات الله يجحدون.
أنكر المؤلف أن يكون في عهد الرسالة ولاة يحكمون بين الناس بقانون الشريعة، فأقمنا له من الرواية بينات تشهد بأن النبي ﷺ كان يبعث إلى البلاد المفتوحة أمراء يدخل في إمرتهم فصل الخصومات بين الناس، ومنهم من يصرح له بالسلطة القضائية كما جاء في حديث معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب. وتوسع في الإنكار حتى زعم أن النبي ﷺ لم يرسل واليًا لتدبير أحوال البلاد، وإنما كان يرسل غازيًا أو عاملًا على المال، فكافحناه بشهادة التاريخ على أن النبي ﷺ كان يبعث أمراء من غير أمراء السرايا والعمال على المال، ولا شأن لأولئك الأمراء إلا تدبير أحوال البلاد والحكم بينهم على سنة القضاء في الإسلام.
وتطوح به نزق التمرد إلى أن يقوِّض سائر أركان الدولة الإسلامية، فلوح بإنكار ما وراء القضاء والولاية السياسية من أعمال «لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها «المالية»، وحراسة الأنفس والأموال «البوليس» وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة.»
لنبحث مع المؤلف في القضاء والمالية والبوليس مع رعاية ما يقتضيه المقام من إيجاز، ونرجئ البحث فيما عدا هذه الأصول الثلاثة إلى مقام أليق بها من هذا المقام.
القضاء
ذكرنا فيما سلف أن للقضاء مبادئ لا يستوفي الحكم نصيبه من العدل إلا برعايتها، ولا يمتري ذو أثارة من علم أن الإسلام قد أدار سياسته على محورها، وهناك نظم مطوية في أصول عامة هي موكولة إلى اجتهاد الحاكم ومقتضى حال البيئة، ومن هذه النظم ما نعلم حق اليقين أن حال الأمة في عصر النبوة لا يزال في غنى عنها.
نحدثك في هذا المقال عن بعض مبادئ القضاء ونظمه المنبه عليها في الكتاب والسنة؛ لتعلم أن القضاء في عهد النبوة لم يكن في نظر علماء الإسلام غامضًا.
ملاك القضاء العادل علم القاضي، واستقامته، واستيفاؤه النظر في وسائل الحكم، واستناده إلى البينة، وقوة العزم في الفصل، وبسط مجال الحرية للخصوم حتى يدافعوا عن حقوقهم باطمئنان جأش، وطلاقة لسان.
وعلى هذه السيرة اقتدى علماء الإسلام فاشترطوا في القاضي أن يكون بالغًا في العلم مبلغ الاجتهاد؛ حتى يتناول الأحكام من أصولها مباشرة، وكذلك كانوا يفعلون.
ويترتب على هذا الشرط أن لا يُقلَّد أحدٌ القضاء إلا بعد معرفة مكانته في العلم، وقد اختبر النبي ﷺ معاذ بن جبل حين توليته القضاء ليزداد خبرة بمبلغ علمه بالقضاء فقال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ إلخ.»
وأما الاستقامة فالكتاب والسنة طافحان بالأمر بالعدل، وتشديد الوعيد على التهاون بواجبه، فلا بد أن يكون قضاة رسول الله ﷺ أتقى الناس قلوبًا، وأعدلهم في الحكومة ميزانًا. وهذا أحدهم، وهو عمر بن الخطاب، يقول في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: «وآسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.»
ومما يتصل ببحث الاعتماد على البينة أن القاضي لا يستند إلى ما يعلم في القضية، ومن شواهده حديث «فأقضي له على نحو ما أسمع.» ولهذه الحكمة نص الفقهاء على أن القاضي الذي تقدم إليه بينة بخلاف ما يعلم من حال القضية، ولم يجد طريقًا واضحًا للقدح في شهادتها، تخلى عن الحكم فيها كما يتخلى عن الحكم في قضية يكون هو نفسه أحد الخصمين مدعيًا أو مدعى عليه، ويصبح بين يدي مَن يُكلَّف للقضاء فيها كشاهد بما يعلم، دون أن يكون لمنصبه القضائي في النازلة أثر كثير أو قليل.
وأما إطلاق الحرية للخصوم فشاهده حديث البخاري: أن رجلًا أتى النبي ﷺ يتقاضاه فأغلظ له، فَهَمَّ به أصحابه، فقال: «دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالًا.»
وتجد في حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.» ما يرشد إلى أن الحكم الذي يظهر على خلاف الأصول القاطعة يتحتم نقضه، ثم يُستأنف النظر في القضية على طريق الاجتهاد الصحيح.
وكان في حديث معاذ وأبي موسى الأشعري مستند لأهل العلم في وضع السلطة القضائية في يد شخصين أو أشخاص، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب العارضة: «إرسال معاذ إلى اليمن مع أبي موسى الأشعري وَالِيَينِ قَرِينَينِ أشركهما النبي فيها، وأمرهما بأن ييسرا ولا يعسرا، ويبشرا ولا ينفرا، ويتطاوعا ولا يختلفا، فكان ذلك أصلًا في تولية أميرين وقاضيين مشتركين في الإمارة والأقضية، فإذا وقعت النازلة نظرا فيها، فإن اتفقا على الحكم وإلا تراجعا لقول حتى يتفقا على الصواب، فإن اختلفا رجع الأمر إلى من فوقهما، فينظر فيه، وينفذان ما اتفقا عليه، ولولا اشتراكهما لما قال: «تطاوعا ولا تختلفا.»
هذه أمثلة اقتبسناها من تعاليم الإسلام ليطلع القارئ الكريم على أن مبادئه القضائية واقعة من العدل موقع الروح من الجسد، وأن القضاء في عهد رسول الله ﷺ كان على سنة مُحكَمة، وإذا زعم منتمٍ للإسلام أن نظمًا يتطلبها العدل، أو يتوقف عليها حفظ الحق كانت مهملة في عهد النبوة، فإنه يقف له من التاريخ ثم من مقام الرسالة مِدْرَه يطعن في زعمه، ويقيم الحجة على ريائه.
المالية
أما مصرفها فالأصناف الثمانية المنصوص عليها في آية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وإنما اختلف الفقهاء في وجه صرفها، فقال الإمام الشافعي: لا بد من قسمها على الأصناف الثمانية، وقال الإمامان مالك وأبو حنيفة: يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف إذا رأى المصلحة قاضية بذلك، وعلى كل حال فإن مصرفها لا يخرج عن الأصناف الثمانية، وهو مضبوط إما بتلك الأصناف المعدودة أو بما تقتضيه المصلحة منها.
وأما مصرفها فإنها كسائر الفيء وخمس الغنيمة توضع في بيت المال، وتصرف إلى ذوي الحاجة وفي وجوه المصالح العامة.
فإذا كان المال المفروض على الأمة في عهد النبوة مقدرًا، والعامل عليه عالمًا، ومتى جاء به يناقش الحساب على القبض والصرف ثم يُنفق في وجوه المصالح بتدبير، فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن المالية لذلك العهد لم يكن لها نظام؟!
فإن أراد المؤلف من النظام أن يؤلف لها ديوان قلنا: كان للنبي عليه السلام كتَّاب معروفون، وهَبْهُم لم يتقيدوا بمكان يختص بهم ووقت يحدد لهم، فإن هذا وحده لا يسم المالية بوصمة الخلو من النظام، ورب تقييد يعد في بعض الأزمنة نظامًا، وهو في عصر آخر حيث لا تدعو إليه الحاجة عدم نظام.
وموجز القول أن نظام المالية لعهد الرسالة موافق لما يقتضيه حال ذلك العهد، ولقد كان المال يقبض بحق، ويصرف على وجه لا يدخله خلل ولا يحوم عليه شطط، قال ابن خلدون في مقدمته: «واعلم أن هذه الوظيفة — يعني ديوان الأعمال والجبايات — إنما تحدث في الدولة عند تمكن الغلب والاستيلاء، والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد. وأول من وضع الديوان عمر — رضي الله عنه — يقال: لسبب مال أتى به أبو هريرة — رضي الله عنه — من البحرين، فاستكثروه وتعبوا في قسمه، فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق، فأشار خالد بن الوليد بالديوان وقال: رأيت ملوك الشام يدوِّنون.»
فأنت ترى أن الحاجة إلى الديوان لم تعرض إلا في عهد الخليفة الثاني، وعندما حدثت الحاجة وجد الخليفة من قاعدة رعاية المصالح ما يحثه على المبادرة إلى أن ينشئ الديوان، ويعين له من الكتاب بمقدار ما تدعو إليه المصلحة، فإن كان المؤلف يذهب إلى أن المالية التي لم تتسع حتى تلجئ إلى إنشاء ديوان يحق له أن يصفها بعدم النظام، قلنا له: إن المقدار الذي تسمح به حالة الأمة لعهد النبوة كان يُستخلص بالقسطاس المستقيم، وينفق في سد الحاجات، وإعداد القوة ووسائل المنعة، وقد خاض رجال هذه المالية حروبًا فكانوا هم الغالبين، ولم يكونوا يومًا في حاجة إلى قرض داخلي أو خارجي، ولم يضعوا على رقاب الأمة ضرائب فادحة مثلما تصنع الدول ذات الدواوين الطويلة العريضة، فنحن نسميها مالية تؤخذ وتصرف بنظام، وللمؤلف الذي أشلى قلمه ليلغ في عرض الحكومة النبوية أن يسميَها بما شاء.
الشُّرَط أو «البوليس»
للحكومة مقومات: قانون يخضع له الجمهور، ورجال يقومون على تنفيذ هذا القانون، وأموال تقبض وتصرف في المصالح المشتركة، وقوة من الرجال والسلاح لدفاع العدو وكبح الثورة، وما عدا هذا من المشروعات والنظم فإنما يأتي على حسب تطور الزمان وما يعرض من الحاجات.
فإذا رأينا جماعة يمسكون بأيديهم قانونًا يحفظ الحقوق، ويوجد بينهم من ذوي الكفاية للقيام على تطبيق هذا القانون وتنفيذه عدد غير قليل، ويجبي إلى خزانتها العامة من الأموال ما يقوم بمرافق حياتها الاجتماعية، وتنهض لحمايتها أو حماية قانونها جنود تخوض مواقع الحروب بما استطاعت من قوة، صح لنا أن نقول: إن هذه الجماعة ذات حكومة، وربما كانت الحقوق فيها محفوظة، والأمن سائدًا، وإن لم تكن بها إدارة بوليس، وكذلك كان حال جماعة المسلمين لعهد النبوة بحيث لو وضعت في تلك المناطق الإسلامية دوائر بوليس لم يصر الأمن فيها أمكن، ولا الحقوق أكثر صيانة. وإليك الحجة والبيان: كانت حالة الأمة لعهد النبوة بالغة من الاستقامة إلى حيث تجدها في غنًى عن دائرة محافظة أو «بوليس».
وقد يقول الناشئ في مدينة يجوس الشرطي خلالها، ويسيطر على كل شارع من شوارعها: كيف يحفظ النظام في جماعة لا يقوم على رءوسها رجال يلبسون في الشتاء سوادًا وفي الصيف بياضًا؟! ويعد كلمتنا مثلًا من أساطير الأولين، أو شهادة خطرت في موقف الدفاع عن أحكام سيد المرسلين. كلا، إن هي إلا حقيقة تسعدها الأدلة البينة والتاريخ من ورائها شهيد.
بقيت راية الإسلام مرفوعة على المدينة المنورة وما حولها نحو سبع سنين؛ إذ كان من المحتم على كل من يعتنق الإسلام من القبائل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ولا يقيم بين قوم لا يؤمنون، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا، والحكمة من تلك الهجرة أن يتقوى بهم جانب الدين، وليخلصوا من البيئة المتعفنة، فإنها تذهب بالغيرة على الحق، وتلبس الوجوه رقعة الصفاقة، وربما سرى وباؤها إلى النفوس الضعيفة فزلزل عقائدها وأطفأ نور إيمانها.
وفي السنة الثامنة من الهجرة فتحت مكة المكرمة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجًا وقبائلَ، فقال النبي ﷺ عندئذ: «لا هجرة بعد الفتح.» وولى على جميع البلاد والقبائل أمراء، وبث فيهم معلمين للقرآن وأحكام الشريعة، وتوفي في السنة العاشرة من الهجرة بعد أن فتحت مكة وتجاوز حكم الإسلام المدينة المنورة إلى مكة والطائف واليمن وما داناها من البلاد.
إذن ننظر إلى حال المدينة المنورة مدة عشر سنين وإلى حال غيرها من البلاد المدة التي أصبحت تحت حكم الإسلام لعهد النبوة وهي السنتان.
هاجر النبي ﷺ إلى المدينة المنورة وهاجر لهجرته أصحابه الأكرمون، فانعقد بين المهاجرين والأنصار إخاء صادق، واتحاد متين، وكانت قلوبهم تفيض بتعاطف وتراحم بلغا حد الإيثار عن النفس، حتى قال الله تعالى في حق الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
إيمان راسخ وأدب متين هما أثر ما كانوا يشهدونه من دلائل النبوة، ويتلقونه من حكمة بالغة وموعظة حسنة. وشأن القوم الذين بلغوا في التعاطف إلى حد الإيثار على النفس أن تكون الحقوق بينهم محترمة، وشأن القوم الذين يبصرون نور النبوة صباحًا ومساء أن لا ترى لهم عينًا تطمح إلى هتك عرض، ولا يدًا تمتد إلى الاعتداء على مال، ولا فمًا ينطق بكلمة قذع أو فحشاء.
ومن عرف أن هذه المبايعة من قبيل تأكيد العهد، ودرى كيف كان العرب يحترمون ما يؤخذ عليهم من ميثاق، أدرك ما كان لها من أثر في اتقاء المحارم، والكف عن كثير من المخالفات التي لا يتحاماها بعض أسارى الشهوات إلا إذا كانوا بمرأى من شرطي لا يمالئ على باطل، ولا يلوث يده بارتشاء.
يحتاج إلى الشرطي في قرية أو مدينة تفتح فيها حانات لتجرع المسكرات، وبيوت يتجر فيها بنات الهوى بأعراضهن، ونواد يستباح بها لعب الميسر، ولكن المدينة المنورة وكل بلاد فتحت لعهد النبوة كانت طاهرة من حانات الخمور، نقية من بيوت الدعارة، سالمة من نوادي الميسر، خالصة من كل ما يثير العداوة والبغضاء.
وللإيمان الصادق زاجر لا يعصى، وسلطان لا يرشى، وهو الذي يجعل الرجل خصيمًا للمنكر، حليفًا للحق، وكذلك كان الناس في عهد النبوة، فكل مسلم بمنزلة شرطي أمين يحاسب نفسه، ويغير المنكر بيده أو لسانه، ويجيب إلى التقاضي بين يدي رسول الله أو أحد خلفائه، ويقيم الشهادة بالقسط ولو على أبيه أو زوجه أو بنيه.
كان في خلال الأمة المسلمة نفر من المنافقين، ولكنهم كانوا يصوغون مظاهرهم في أسلوب المؤمنين، ولمهارتهم في صناعة النفاق قال الله تعالى يصفهم لنبيه الكريم عليه السلام: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ، ثم إن النبي ﷺ وخلفاءه كانوا يقيمون الحدود والزواجر بعزم تبيت له النفوس الكريمة مطمئنة، وترتعد له القلوب القاسية رهبة. ومتى علم المنافق أنه ملاحظ بأعين شرط لا يغيبون عن مشهد، وتيقن أنه مساق إلى محكمة لا تأخذها في الحق لومة لائم، انصرف عن أهوائه خشية، وانكف عن الشر رياء وتصنعًا.
فغلبة التقوى والتراحم بين الأمة، واعتقاد كل واحد منها أنه مسئول عما يشهد من إثم أو عدوان، وإجراء الحدود والزواجر بعزم لا يعرف هوادة، كل ذلك مما امتاز به عهد النبوة، وجعل الناظر في التاريخ بقلب سليم يشعر بأن الناس لذلك العهد ليسوا في حاجة إلى أن يقوم على رءوسهم رجال يقال لهم: الزبانية أو البوليس.
وقد أوجسنا خيفة بعد هذا أن ينظر المؤلف إلى كل ما يتصل بالحكومات الغربية أو الشرقية من نظام أو إدارة، ويتخذ عدم وجوده في عهد النبوة حجة على أن ليس هناك حكومة ونظام، حتى خشينا أن يسوق على هذا الغرض آيات بينات، وهي أنه لم يكن في عهد النبوة مجالس مختلطة، ولا صندوق دين عمومي، ولا أقلام تشفي غليل الإباحية بما تأذن به من تعاطي ما يدنس الأعراض، أو يفتك بالألباب.
•••
قال المؤلف في ص٤٥: «ومما يستأنس به في الموضوع أننا لاحظنا أن عامة المؤلفين من رواة الأخبار يعنون، في الغالب، إذا ترجموا لخليفة من الخلفاء أو ملك من الملوك، بذكر عماله من ولاة وقواد وقضاة إلخ، ويفردون له بحثًا خاصًّا، يدل على أنهم عرفوا تمامًا قيمة ذلك البحث من الجهة العلمية، فصرفوا من الجهد فيه والعناية به ما يناسبه، ولكنهم في تاريخ النبي ﷺ إن عالجوا ذلك البحث رأيتهم يزجون الحديث فيه مبعثرًا غير متسق، ويخوضون غمار ذلك البحث على نسق لا يماثل طريقتهم في بحث بقية العصور.»
أنكر المؤلف أن يكون لعهد النبوة حكومة ذات نظام، واستأنس لهذا بأن رواة الأخبار إذا ترجموا لملك أو خليفة يفردون لولاته وقضاته بحثًا خاصًّا، وإذا عالجوا مثل هذا البحث في تاريخ النبي ﷺ زجوا الحديث مبعثرًا غير متسق، ولا ندري كيف يتم له هذا الاستئناس وما يدعيه من أنهم يزجون الحديث مبعثرًا، فقصارى ما يؤخذ منه أنهم لم يجيدوا صنع التأليف في السيرة النبوية؛ إذ لم ينسجوا على المنوال الذي نسج عليه المؤرخون في تراجم الخلفاء والملوك، فإن قصد إلى أن عدم تنسيقها على الوجه المذكور يدل على عدم صحتها قلنا: هذه دلالة خفيت على المناطقة حين قسموا الدلالة إلى مطابقة وتضمن والتزام.
المؤلفون في سنة الرسول عليه السلام وأحواله: محدِّثون، وأصحاب سير، ومؤرخون، أما المحدِّثون فعنايتهم مصروفة إلى البحث عن أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله وتقريره، وغايتهم الأولى رواية الأحاديث التي يمكن أن يستمد منها أحكام شرعية أو آداب نفسية. وهؤلاء إنما يذكرون اسم قائد أو والٍ أو قاضٍ إذا جاء في رواية تتعلق بشيء من أقوال النبي ﷺ أو أفعاله أو تقريره.
وأما أصحاب السير فإنهم يبحثون عن أحوال رسول الله ﷺ من يوم ولادته إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويرتبون مؤلفاتهم ترتيبًا طبيعيًّا، فيبتدئون بالحديث عن ولادته عليه السلام، ويتابعون البحث بمقدار ما وصل إليه علمهم حتى يأتوا على أيام قيامه بدعوة الرسالة، ثم هجرته إلى المدينة المنورة، ثم غزواته وسراياه والوفود التي قدمت عليه، والرسل الذين وجههم إلى الملوك، ذلك كله مرتبًا على حسب الأيام والسنين، ويذكرون لكل سرية قائدها، وإذا تحدثوا عن قوم اعتنقوا الإسلام ذكروا من أُمِّرَ عليهم أو عُيِّنَ عاملًا لقبض صدقاتهم.
•••
عرف المؤلف أنه سيتناول في الباب الثاني وما بعده بحثًا لا يمشي فيه على سبيل، ولا يتشبث فيه بأصل، وعرف أنه سيلقي من الشبه خيالات لا تسحر إلا أعين المستضعفين علمًا وعقيدة، وتيقن بالطبيعة أن العلماء الذين درسوا الشريعة بحق، ووقفوا على مقاصدها خبرة سينكرون عليه بدعته، وينذرون الناس لكي يتقوا فتنته، عرف هذا وذاك فأخذ يستعمل السلاح الذي أعده للدفاع عن رأيه المحال؛ وهو رمي المنكرين بالجمود، فقال في ص٤٧: «وأما ثانيًا فلأن المغامرة في بحث هذا الموضوع قد تكون مثارًا لغارة يشب نارها أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ليس للعقل أن يحوم حولها، ولا للرأي أن يتناولها.»
يريد المؤلف بهذه القذيفة إرهاب أهل العلم ليحجموا عن نقض آرائه؛ حذرًا من وصمة الجمود، وينوي مع هذا استدراج ضعفاء الأحلام إلى اعتناق مذهبه؛ إذ يريهم أنه مذهب الباحث بقريحة مرنة ونظر مستقل، ألا إن أهل العلم لا يرهبون، وذوي الفطر السليمة لا يفتنون، وإن سره أن يخبَّ في أثره قوم لا يبصرون، فإن الفرق التي لا تتقلد الإسلام دينًا ليسوا بقليل.
إن في العالم الإسلامي علماء شبوا على حرية الفكر، وإطلاق العقل من وثاق التقليد الأصم، فهم لا يكرهون لذوي الألباب أن يبحثوا حتى في أصل العقائد «وجود الخالق»، وهم لا يستطيعون أن يحولوا بين المرء وما يعتقد من باطل، وليس في أيديهم سوى مقابلة الآراء بما تستحقه من تسليم أو تفنيد.
وهل يرجو المؤلف من أمثال هؤلاء أن تقع أبصارهم على كتاب ينطوي على آراء تضع مكان الإيمان حيرة، ومكان التقوى فسوقًا، ومكان إباية الضيم ذلة، ثم يمرون عليها مرور الجاهل بسوء عاقبتها؟! فلا وربك لا يدعون وباءها يتفشى في النفوس الزاكية، والقلوب السليمة، وإن امتلأت الدنيا ألسنة تصفهم بالجمود، وتلقبهم بالحجارة، أو بما هو أشد قسوة.