الرسالة والحكم
النقض – الملك – الرسول عليه السلام ذو رياسة سياسية – بحث في: «أعطوا ما لقيصر لقيصر» – الجهاد النبوي – الجزية – المخالفون أنواع ثلاثة – سر الجهاد في الإسلام – خطأ المؤلف في الاستدلال بآياتٍ على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة – من مقاصد الإسلام أن تكون لأهله دولة – تفنيد قول المؤلف: «الاعتقاد بأن الملك الذي شيَّده النبي عليه السلام لا علاقة له بالرسالة ولا تأباه قواعد الإسلام» – التنفيذ جزء من الرسالة – وجه قيام التشريع على أصول عامة – مكانة الصحابة في العلم والفهم – الشريعة محفوظة – معنى كون الدين سهلًا بسيطًا.
***
ملخصه
افتتح الباب بتهوين البحث في أن الرسول ﷺ كان ملكًا أم لا، وأخذ يستدرج القارئ إلى رأيه الصريح من بعد، ويخيل له أن الاعتقاد بأحد الطرفين — كونه رسولًا وملكًا، أو ملكًا فقط — ليس بدعًا في الدين، ولا شذوذًا عن مذاهب المسلمين، ثم ذكر أن الرسالة غير الملك، وأن من الرسل من لم يكن ملكًا، وقال بعد هذا في صورة سائل: هل كان محمد ﷺ ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولًا غير ملك؟ وادعى أنه لا يعرف لأحد من العلماء رأيًا صريحًا في هذا البحث، واستنتج أن المسلم العامي يجنح غالبًا إلى اعتقاد أن النبي ﷺ كان ملكًا ورسولًا، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية.
ثم قال: ولعله رأى جمهور العلماء، وساق عليه كلام ابن خلدون وما نقله رفاعة بك من كتاب تخريج الدلالات السمعية عن الوظائف والعمالات التي كانت قائمة في عهد النبوة، ثم أخذ يمر بالقارئ على شعاب من التشكيك، فذكر أن في الحكومة النبوية بعضَ ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكم السياسية، وتعرض لمسألة الجهاد، ورأى أن من الظاهر لأول وهلة أن الجهاد إنما يكون لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.
وعلل هذا بأن دعوة الدين لا قوام لها إلا البيان وتحريك القلوب بوسائل التأثير والإقناع، وضرب مثلًا آخر لمظاهر الدولة؛ وهو جمع المال من مثل الزكاة والجزية والغنائم، وقال: لا شك أن تدبير المال عمل ملكي، وأنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وعزز مسألتي الجهاد وجمع المال بثالث؛ وهو ما روي من أن النبي ﷺ وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجاله، وقال: من نظر إلى ذلك من هذه الجهة ساغ له القول بأن النبي ﷺ كان رسول الله تعالى، وكان ملكًا سياسيًّا. وتخلص من هنا إلى أن تأسيسه ﷺ للمملكة الإسلامية خارج عن حدود رسالته، أم جزء مما بعثه الله به وأوحى به إليه؟
وزعم أن القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن الرسالة، وأنها من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بها، ليس بكفر ولا إلحاد، وصرح بأن الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين بالقبول هو أن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة، وقال: إن هذا الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن الرسول مبلغ ومنفذ معًا.
وبعد أن نقل كلام ابن خلدون المتضمن أن الإسلام يجمع بين الدعوة والتنفيذ، ادعى أنه لم يَرَ لهذا القول دعامة، وأنه لا يلتئم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية، وخرج من هذا إلى مشكل آخر — فيما يزعم — وهو خلو الدولة السياسية النبوية من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم، ثم افترض جوابًا، بل عذرًا يقدمه إليه القائلون بأن من مقاصد الإسلام إقامة دولة، وهو أن للحكومة النبوية نظامًا بالغًا، وإحكامًا سابغًا، ولكنا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية، ورده بأن احتمال الجهل ببعض الحقائق لا يمنعه من الوثوق بما علم، واعتباره حقائق يبني عليها الأحكام، ويستخلص منها النتائج.
ثم التمس لعلماء الإسلام جوابًا آخر؛ وهو أن ما نسميه اليوم أركان الحكومة وأنظمة الدولة إنما هي أوضاع مصنوعة، والحكومة النبوية حكومة الفطرة التي ترفض كل تكلف، وردَّه بأن كثيرًا مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفًا ولا مصنوعًا، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ثم أغلق الباب بوعد أنه سيلتمس وجهًا آخر لحل ذلك الإشكال، وهو ما عرج عليه في الباب الثالث.
النقض
رفع المؤلف الحرج على الباحث في أن النبي ﷺ هل كان ملكًا أم لا، ونفى أن يكون هذا البحث ذا خطر في الدين يخشى شره على إيمان الباحث، وأفتى بأنه لا يمس شيئًا من جوهر الدين ولا أركان الإسلام، ثم قال في ص٤٩: «وربما كان ذلك البحث جديدًا في الإسلام لم يتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، ولم يستقر للعلماء فيه رأي واضح، وإذن فليس بدعًا في الدين، ولا شذوذًا عن مذاهب المسلمين أن يذهب باحث إلى أن النبي ﷺ كان رسولًا وملكًا، وليس بدعًا ولا شذوذًا أن يخالف في ذلك مخالف، فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها، واستقر لهم فيها مذهب، وهو أدخل في باب البحث العلمي منه في باب الدين.»
لو كان المؤلف يبحث بحكمة وإخلاص لافتتح البحث ببيان ماذا يريد من الملك، وأخذ يفتح عين القارئ فيما تقتضيه الأدلة من ثبوت حقيقته في تصرف النبي عليه السلام أو عدم ثبوتها، ولكنه علم أن دخوله في الموضوع من طريق الصراحة يرفع الستار عن طويته، فيأخذ المسلمون منه حذرهم، ويسهل على أهل العلم تحديد آرائه وطعنها بالحجة في نحورها؛ لذلك اختار لفظ ملك، وهو اسم لم يألف المسلمون إطلاقه على رسول الله ﷺ؛ ليمكنه أن ينفي تحت اسمه ما شاء من حقائق شرعيةٍ، دون أن يحس السذج بما يقصده من إنكار مزايا الإسلام وهدم كثير من أصوله.
ونحن لا نتقدم إلى الخوض في هذا البحث إلا بعد رسم حقيقة الملك، حتى يمتاز المعنى الذي يلتئم بالرسالة من المعنى الذي لا يليق بمقامها الرفيع.
الملك رياسة يتصرف بها صاحبها في أمور الجمهور أمرًا ونهيًا وتنفيذًا، فإن كان التصرف قائمًا على سنن العدل ومقتضى المصلحة كان الملك مقامًا محمودًا، ومرتقًى شريفًا. وهذا هو الذي يهبه الله لعباده المصطفين كما قال الله تعالى مخبرًا عن نبيه سليمان عليه السلام: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي، وقال تعالى مخبرًا عن يوسف الصديق عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ.
وإن كان التصرف جاريًا مع الأهواء، جامحًا عن سنن الهوى، كان الملك مظهرًا ممقوتًا، ومهبط خسر وشقاء. وهذا الصنف من الملك هو الذي يتنزه عنه أنبياء الله، ولا يصح أن يجتمع مع الرسالة بحال.
وإذا كان المراد من الملك سياسة الرعية وتدبير شئونها كانت السياسة نوعين: عادلة وجائرة، فإن السياسة العادلة هي التي يجيء بها الرسل عليهم السلام، وهي التي يعنيها المسلم إذا قال: إن الرسول كان ماسكًا بزمام السياسة، وإنما تحامى الناس أن يطلقوا على رسل الله لقب ملك؛ لأن لقب الرسول أرفع اسمًا، وأدل على العدل من لقب ملك الذي ينادي به كل سائس وإن كان مستبدًّا مترفًا.
ونحن نجاري المؤلف في هذا الصدد ولا نريد من اسم ملك — متى وصفنا به مقام الرسالة — إلا الرياسة السياسية، التي يحاول جحودها بالرغم من حجج تصيح به أَنَّى التفتَ وهو مُتَصَامِمٌ عنها تَصَامُمَ المفتونِ بأحدث «ما أنتجت العقول البشرية».
•••
يقول المؤلف: «إن البحث في أن الرسول عليه السلام كان ملكًا أم لا بحث جديد في الإسلام.» وهذا لا يصح إلا إذا عنى بالبحث نفي أن يكون للرسول عليه السلام رياسة سياسية، فإن البحث في ذلك على وجه الإنكار بحث مختلق في الإسلام. وأما كون الرسول ذا رياسة سياسية فأمر تقرر بالكتاب والسنة المتواترة، وتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، واستقر للعلماء فيه رأي واضح.
أما الكتاب فمن آياته الكثيرة في هذا المعنى قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وأما السنة فمن شواهدها: أقضيته ﷺ، وإقامته الحدود على مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإرساله الأمراء في طول البلاد المفتوحة وعرضها، وأما اعتقاد العلماء قاطبة بأنه عليه السلام كان رسولًا نبيًّا ومشرعًا سياسيًّا، فدليله إجماعهم على الاستدلال بأقضيته وأحكامه وسائر تصرفاته العائدة إلى شئون الدولة، إلا ما كان منوطًا بعلة فزالت وخلفتها فيه علة أخرى، على ما سنبينه في غير هذا المقام بيانًا شافيًا.
فاستخفاف المؤلف بذهاب الباحث إلى أن النبي ﷺ لم يكن رسولًا ملكًا، وقوله: إن ذلك ليس بدعًا في الدين ولا شذوذًا عن مذاهب المسلمين، ما هو إلا افتيات على الإسلام، ومن ذهب إلى أن الرسول لم يكن مدبرًا لشئون السياسة فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره، وشاقق الرسول، واتبع غير سبيل المؤمنين.
•••
ذكر المؤلف أن الرسالة غير الملك، ثم قال في ص٤٩: «ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وكان يوسف بن يعقوب عليه السلام عاملًا من العمال في دولة الريان بن الوليد، فرعون موسى، ومن بعده كان عاملًا لقابوس بن مصعب.»
أتى المؤلف بهذه المقدمة ليضع في ذهن القارئ تمثيل رسول الإسلام بعيسى ويوسف عليهما السلام، في أن كلًّا منهم لم يكن صاحب دولة ولا رئيسًا أعلى في السياسة، والذي يبطل هذا التمثيل أن رسول الإسلام لم يدعُ إلى الإذعان لقيصر، ولا كان عاملًا للمقوقس صاحب مصر، بل دعاهما إلى الإيمان به والدخول تحت سلطانه، وقد شاء ربك أن يكون انقراض دولتهما ودخول مملكتهما تحت راية الإسلام على يد أحد خلفائه الراشدين.
لم يرضَ محمد بن عبد الله عليه السلام أن يقيم تحت سلطان غير سلطان الله، ولم يرضَ لمعتنقي دينه الحنيف أن يستكينوا لسلطة غيرِ إسلامية، وفرضُ الهجرة والجهاد على ما نقول شهيد. وما ينبغي للمؤلف أن يحشر في غضون كتابه مثل هذه الكلمة التي تقضي حاجة في نفس المخالف المتغلب، وتبقي في النفوس أثر الاستكانة إلى أي يد تقبض على زمامها.
ولقد قلنا فيما سلف: إن هذه المقالة التي يعزوها إلى المسيح عليه السلام لا تجد في المناظرة أذنًا صاغية؛ إذ لم نعلم السند الذي ينتهي بها إلى المسيح عليه السلام، علاوة على أن الإسلام شرَع الهجرة والجهاد، وأبى لأتباعه إلا أن يلوذوا بالمنعة والعزة التي ليس بعدها مرتقًى.
•••
قال المؤلف في ص٥٠: «فهل كان محمد ﷺ ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولًا غير ملك؟ لا نعرف لأحد من العلماء رأيًا صريحًا في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه بحسب ما أُتيح لنا، ولكنا قد نستطيع بطريق الاستنتاج أن نقول: إن المسلم العامي يجنح غالبًا إلى اعتقاد أن النبي ﷺ كان ملكًا رسولًا، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية كان هو ملكها وسيدها.»
إن كانت لكتاب المؤلف مزية فهي أنه يُعلِّم الناس كيف يتنكرون لما عرفوا! وكيف يتخذون من الصفاقة برقعًا كثيفًا! رأى أهل العلم يتحامون أن يلقبوا الرسول عليه السلام بالملك أو يسموا رياسته ملكًا، فاتخذ ذلك ذريعة لما يخادع به قراء كتابه من أن المسألة صالحة لأن تدخل تحت طائلة البحث، وأنه ما وجد فيها للعلماء رأيًا صريحًا، ولا وجد من تعرض للكلام فيها.
لم يخطر على بال أولئك العلماء أن الأيام سيجيئها المخاض فتضع في بيوت المسلمين وليدًا يقال له: «كتاب الإسلام وأصول الحكم» حتى يُعدُّوا له ما استطاعوا من التصريح بأن الرسول عليه السلام كان ملكًا، وأن بجانب نبوته رياسة سياسية يقال لها: ملك!
ولا أدري لماذا لم تخطر على بالهم هذه النادرة وهم كثيرًا ما يفصلون أحكامًا لصور لم تجرِ العادة بوقوعها، ولعلهم لم يذهلوا عن مثلها، ولكنهم حسبوا أن القرآن والسنة النبوية المتواترة وبحثهم في الخلافة صريحة في أن للنبي رياسة سياسية، وأن هذه الصراحة تمنع من ينتمي للإسلام — وهو يحمل قلبًا يفقه — أن يقول: لا نعرف لأحد من العلماء رأيًا صريحًا في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه.
ومن حذق المؤلف في الخلابة أن جعل كون النبي عليه السلام ذا رياسة سياسية مما يعتقده المسلم العامي، قال هذا وهو إنما يقصد تنفير قارئ كتابه من أن يكون بمنزلة العامة؛ حيث يشاركهم في هذه العقيدة.
•••
قال المؤلف في ص٥٠: «ولعله أيضًا هو رأي جمهور العلماء من المسلمين؛ فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية ودولة أسسها النبي ﷺ، وكلام ابن خلدون ينحو ذلك المنحى؛ فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا شاملة للملك، والملك مندرج تحتها.»
يزعم المؤلف أن العلماء لم يصرحوا بدخول الرياسة السياسية في وظيفة رسول الله ﷺ، وإنما هو رأي العامة من المسلمين، وبعد أن فرغ من طريقته الشعرية قال — كأنه لا يزال في تردد من كونه رأي أهل العلم: «ولعله أيضًا هو رأي جمهور أهل العلم، إلخ.»
يؤكد لك أن المؤلف اتخذ من اسم «ملك» نافقاء يخرج منها إلى حيث يشاء: أنه قرأ ما يقوله العلماء في الخلافة من أنها نيابة عن الرسول عليه السلام في إقامة الدين وسياسة الدنيا، ولم يأخذ نفسه إلى الاعتراف بأن هذا صريح فيما يعتقدونه لمقام الرسالة من الرياسة السياسية، ونأى بجانبه عن هذا كله؛ حيث لم ينطقوا بكلمة ملْك أو مَلِك، وإنما تعرض لكلام ابن خلدون على وجه خاص؛ لأنه ذكر اسم ملك وقال: إن الملك مندرج في الخلافة.
•••
قال المؤلف في ص٥٢: «لا شك في أن الحكومة النبوية كان فيها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطنة، وأول ما يخطر بالبال مثالًا من أمثلة الشئون الملكية التي ظهرت أيام النبي ﷺ مسألة الجهاد.»
ليس المؤلف بالغبي لحد أن تصدر عنه هذه الكلمة دون أن ينتبه لما تنطوي عليه من مغامز، ولعله عدل عن التعبير الذي يألفه ذوق المسلم إلى هذا الأسلوب الغريب ليكون في لحنه خطاب لقوم آخرين، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض تناولوه بشرح تشمئز منه قلوب «الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة.»
استكثر المؤلف على الحكومة النبوية أن يكون لها ولو بعض مظاهر الحكومة السياسية، ولم يسمح قلمه الهماز إلا أن يجعل لها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية، وساق الجهاد مثلًا لهذا البعض الشبيه بمظاهر السياسة، واختار هذه الصيغة: «ظهرت أيام النبي ﷺ مسألة الجهاد.» كأنه يتجنب الكلمة التي يشتم منها رائحة التشريع؛ محافظة على ذلك «المجال المشتبه الحائر»، وليبعد بذهن القارئ عن الاعتقاد بأن الجهاد تنزيل من حكيم حميد!
•••
قال المؤلف في ص٥٢: «وظاهر أول أهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله، وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.»
قام النبي عليه الصلاة والسلام بمكة يجاهد في سبيل ربه بالحجة والموعظة الحسنة، ولاقى هو وأصحابه من أذية المشركين ما لا يحتمله إلا ذو عزم نافذ وإيمان كفلق الصبح، وكانت الآيات تنزل لتسليتهم ومطاردة ما عساه يعلق بنفوسهم من جزع أو أسًى.
وبعد أن امتحن الله قلوبهم للتقوى، وتألَّف حول مقام النبوة حزب لا يخنع للبأساء، ولا تستخفه السراء، طلعت بهم الهجرة الخالصة بين لابتي المدينة المنورة، وأصبحوا بين أقوام ينالونه بالأذى، وآخرين يناصبونهم العداء، ومن هؤلاء من يتربص بهم الدائرة، ومنهم من يجمع أمره ليأخذهم على غرة، ولكن الله سلَّم، إنه عليم بذات الصدور.
هذا البلاء الذي كان يسطو حول الجماعة المسلمة، أو يتحفز للوثوب عليها، كان حكمة تناسب الإذن للرسول عليه الصلاة والسلام بسلِّ السيف في وجه عدوه الكاشح؛ ليدفع شره، ولتسير دعوة الحق في سبيل لا تعترضها عقبات المفسدين.
لذلك نزل قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وقوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
فنهض النبي ﷺ يجاهد في سبيل حماية الدعوة كل خائن كفار، وكان مع هذا العمل المُطَهِّر لوجه الأرض من نجس الشرك والعادات القاتلة للفضيلة يعقد المعاهدات والمحالفات بينه وبين الأقوام المخالفين حيث جنحوا إلى السلم، وأخذوا على أنفسهم أن لا يظاهروا عليه عدوًّا، وكان يفي بشرطهم ويحترم عهدهم حتى تبدو منهم الخيانة ويمدوا أيديهم إلى مساعدة أعدائه المحاربين، قال تعالى: وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا، وقال: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
وصار المخالفون بعد تقرير الجزية إلى أنواع ثلاثة: أهل عهد، وأهل ذمة، ومحاربين. ومن تتبع سير الجهاد النبوي ينتزع منه أن النبي ﷺ كان يحمل المحاربين من مشركي العرب على الإسلام أو السيف؛ إذ كان الفساد الذي ينشأ عن الوثنية والمزاعم المتفرعة عنها وباء يفتك بالعقول والأخلاق، ويفتح على الإنسانية ينبوع شر ليس له من آخر، وكان مع هذا ينهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء، ويطلق سراح الأسرى؛ إما منًّا وإما فداء. وبعد أن استقر الأمر على حكم قبول الجزية أصبح الجهاد النبوي بعيدًا عما يشبه أن يكون من مظاهر الإكراه في الدين، كما أنه لا يخطر على بال مسلم أن الجهاد النبوي إنما يكون لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.
إذن ما هي الغاية من الجهاد؟
الإسلام عقيدة وشريعة ونظام اجتماعي، فهو بالنظر إلى أصول العقائد التي هي باب الإيمان به إنما يُدعى إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذ لا يمكن لبشر أن يُدخِل في قلب بشر عقيدة إلا أن يقرنها بما يثبتها في النفس من برهان أو إقناع، وأما الشرائع والنظم الاجتماعية فإن التجربة في القديم والحديث دلت على أنها لا تقوم في أمة ولا يطَّرد نفاذها إلا أن تكون شدة البأس بجانبها، والسيوف من ورائها، فلا بد للإسلام من دولة ذات شوكة لتقوم على إجراء هذه الشرائع والنظم، وتحول بينها وبين قوم لا يبصرون.
ثم إن ظهور الحق بمظهر العزة والمنعة مما يجذب إليه النفوس، ويحبب إليها التقرب منه، وربما انقلبت إلى تأييده بعد أن كانت من خصومه الألداء، فلا بد أيضًا من بسط ظل الإسلام وإعلاء رايته على دائرة واسعة من البسيطة؛ حتى لا تكون فتنة، وحتى يدرك المخالفون الذين يقيمون تحت سلطانه أنه دين التوحيد الخالص، والشريعة القيمة، والآداب السامية، فيعتنقونه عن عقيدة صادقة، ونفس راضية، وكذلك كان أثر الجهاد في البلاد التي انقلبت إسلامية في عقائدها وآدابها وسائر شئونها الاجتماعية.
•••
قال المؤلف في ص٥٣: «وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلًا حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف، ولا غزا قومًا في سبيل الإقناع بدينه، وذلك هو نفس المبدأ الذي يقرره النبي ﷺ فيما كان يبلغ من كتاب الله، قال الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وقال: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وقال: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، وقال: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي ﷺ كرسالة إخوانه من قبلُ إنما تعتمد على الإقناع والوعظ.»
من الجلي الواضح أن الرسول لا يغزو قومًا في سبيل الإقناع بدينه؛ فإن للحجة عملًا لا يقوم به السيف، كما أن للسيف عملًا لا تنهض به الحجة، فالحجة تلج بالعقيدة إلى أعماق القلوب. وهذا عمل لا تنهض به السيوف وإن كانت مشرفية، ولا الرماح وإن كانت سمهرية، والسيف يحمل الناس على الشرائع واحترام النظم الاجتماعية، وهو عمل قد تذهب الحجة دونه ضائعة وإن لبست بردة الفصاحة من منطق سحبان، أو قلم الفتح بن خاقان.
فالجهاد لا يقصد به نقل القلوب من الضلال إلى الهدى، وإشرابها الإيمان في الحال، وعدم إمكان هذا المعنى لا يمنع من أن يراد من الجهاد النبوي قبل شرع الجزية كف أذى القبائل المشركة العاثية في الأرض فسادًا، وإلباسها ثوب الإسلام ولو في الظاهر؛ لتدخل في نظام وشريعة، ويرجى منها بعدَ مشاهدة أنوار النبوة مرة بعد أخرى أن تدرك الحق حقًّا فينقلب جهلها علمًا، ونفاقها إيمانًا، وتستنير صدورها كما صلحت ظواهرها.
والجهاد لهذا القصد يلتئم مع قوله تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فإن الجهاد الذي يساق به الوثنيون إلى الإسلام يقصد به إصلاح ظواهرهم، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن يقصد به إخراج القلوب من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.
وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إنما يفهم منه إنكار أن يكون في استطاعة البشر إدخال الإيمان في القلوب بوسائل القسر والإكراه.
وقوله تعالى: وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وقوله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ هما من الآيات التي كانت تنزل قبل مشروعية الجهاد لتسلية النبي ﷺ حين يشتد به الحزن من إعراض المشركين عن سبيل الهدى، وتكاد نفسه الشريفة تذهب عليهم حسرات.
فرسالة النبي ﷺ تعتمد على الحجة والإقناع والموعظة، وكانت تتخذ الجهاد دفعًا لأذى المشركين، وعونًا على بث الدعوة إلى سبيل رب العالمين.
•••
قال المؤلف في ص٥٣: «وإذا كان ﷺ قد لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.»
- أحدهما: إجراء أحكامه العادلة ونظمه الكافلة بسعادة الحياة؛ إذ لا يقوم عليها بحق إلا من آمن بحكمتها، وأشرب قلبه الغيرة على تنفيذها.
- ثانيهما: الاحتفاظ بكرامة أوليائه وإعزاز جانبهم حتى لا يعيشوا تحت سلطة مخالف يدوس حقوقهم، ويرفع أبناء قومه أو ملته عليه درجات.
فالنبي ﷺ إنما أقام الحكومة الإسلامية لهذين المقصدين اللذين يتجليان في كثير من الآيات كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وقوله: وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.
ولقد أقام النبي ﷺ حكومة رفعها المسلمون على رءوسهم، وتلقوا تشريعها وتنفيذها بقلوبهم. والقوة والرهبة إنما كان يُعدُّها لمن يبدءونه بالقتال أو يبيتون المكيدة لأخذه على غرة، أو يقفون في سبيل دعوته، ولم يجاهد في سبيل الملك قط، وإنما كان يجاهد بإذن الله وفي سبيل الله.
وقول المؤلف: «فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.» إنما هو النافقاء يبنيها اليربوع حتى إذا حوصر من باب خرج من آخر وذهب بسلام، ولا ندري ماذا يريد بقوله «عندهم»، والظاهر أنه لم يرد بذلك علماء الإسلام، فإنه قال في صدر الباب: إنه لا يعرف لأحد من العلماء رأيًا صريحًا في بحث أن النبي ﷺ كان ملكًا أم لا. ولو قالوا: إن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك لكان هذا القول صريحًا في ذهابهم إلى أن النبي ﷺ كان ملكًا.
على أننا لا نعلم ولا يمكن أن نعلم أن أحدًا من علماء الإسلام يذهب إلى أن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، وكيف تصدق أن يذهب أحد إلى هذا السفساف وأنت لا تتلو قرآنًا أو حديثًا في الجهاد إلا وجدته يُصرح ويُرشد إلى أن يكون «في سبيل الله»؟
•••
ثم أتى المؤلف بمثل آخر من أمثلة الشئون الملكية؛ وهو ما كان في زمن النبي ﷺ من العمل المتعلق بالشئون المالية من حيث جمع المال وتوزيعه بين مصارفه، ثم قال في ص٥٤: «ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومات، على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلًا فحسب.»
الذي يعرفه رجال العلم أن تحديد وظيفة الرسول يرجع إلى إرادة المرسِل، فهو الذي يحد له العمل الذي يقوم به ويبلغه عنه، ومعرفة أن هذا العمل داخل في وظيفة الرسول إنما تتلقى من الأدلة السمعية التي يصدق بها المؤمنون برسالته.
إذن كل عمل يقوم الدليل على أن الرسول عليه السلام فعله عن وحي فهو داخل في وظيفته، ولا ريب في أن التدبير المالي الذي ذكره المؤلف كان النبي ﷺ يقوم به بأوامر إلهية؛ مثل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ إلخ. وهل بعد هذا ينشرح صدر مسلم لأن يقول: إن تدبير النبي عليه السلام لأموال الزكاة والجزية وخمس الغنيمة بعيد عن عمل الرسل من حيث إنهم رسل؟!
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن إلى الحكم بأنه ﷺ كان رسولًا وملكًا، فسوف يعترضه بحث آخر جدير بالتفكير؛ فهل كان تأسيسه ﷺ للمملكة الإسلامية وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته ﷺ، أم كان جزءًا مما بعثه الله له وأوحى به إليه؟»
نفث المؤلف كلمة الارتياب في أن للنبي عليه الصلاة والسلام رياسة سياسية، وأفتى بأن إنكار ذلك لا يمس جوهر الدين، فصادمته أعمال من السيرة النبوية لا تصدر إلا ممن قبض على زمام السياسة، فأخذ يقلل من شأنها ويسميها: «بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة.»
ثم خشي أن لا يجد الارتياب إلى قلوب بعض القارئين منفذًا فيخرجوا بضمائرَ طاهرةٍ، فسولت له نفسه أن يهمس في آذان الذين اطمأنوا إلى الحكم بأنه ﷺ كان رسولًا ملكًا، ويفتنهم من ناحية أخرى؛ وهي أن تأسيس النبي ﷺ للمملكة الإسلامية وتصرفه في ذلك الجانب: هل كان خارجًا عن حدود الرسالة، أو كان جزءًا مما أوحي به إليه؟
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة؛ فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي صالح لأن يُذْهَبَ إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا إلحادًا»!
كان المؤلف يرجو أن يجد في مذاهب المسلمين القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة، ولكنه لم يعرف ما يشاكل ذلك، ولا يذكر في كلامهم ما يدل عليه، وأراد أن يجعل لهذا الرأي المنشق عن الآراء الإسلامية مكانًا في النظر، فشهد له بالصلاح لأن يكون مذهبًا، وأذن للإيمان بأن يلتقيَ معه في نفس واحدة.
سبق للمؤلف آنفًا أن ذكر في الشئون الملكية الجهاد والزكاة والجزية والغنائم، وساق الكلام فيها على أسلوب يخيل إلى القارئ أنها لم تجئ عن طريق الوحي، وإذ صرف قلمه عن آيات الجهاد وآيات الزكاة والغنائم بدا له أن المجال فسيح، وطفق يشهد للآراء المطوية على الكيد للإسلام باللياقة لأن تكون مذهبًا.
تصرُّف النبي ﷺ في مثل الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يستند إلى صريح القرآن، فلا مفر لمنكره من الوقوع في حمأ الإلحاد، ولا أراني في حاجة إلى نقل شيء من نصوص الراسخين في علم الشريعة وفتواهم بأن من أنكر حقيقة معلومة من الدين بالضرورة فقد انقلب على عقبه مدبرًا عن الإسلام، ولا يحق له بعد ذلك الإنكار أن يتأثم من المسلمين إذا طرحوه من حساب أولياء دينهم الحنيف.
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «لا يهولنك أن تسمع أن للنبي ﷺ عملًا كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن — لأن التشدق به غير مألوف في لغة المسلمين — فقواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي ﷺ كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه، بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا.»
قد عرفت فيما سلف أن المؤلف يعني بالداخل في حدود الرسالة ما تقرر بوحي، وبالخارج عنها ما لم يكن كذلك. ومما هو صريح في هذا المعنى قوله فيما نقلناه آنفًا: «وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته، أم كان جزءًا مما بعثه الله به، وأوحى به إليه؟»
وبعد أن يريد بالخارج عن وظيفة الرسالة ما لم يكن مستندًا إلى وحي، ويذكر من شئون الملك الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يقول: إن الاعتقاد بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن وظيفة الرسالة ليس بكفر ولا إلحاد، وإن معنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي ﷺ كل ذلك لا يصادمه ولا يستفظعه. وتطاول بعد هذا إلى دعوى أنه يوجد ما يصلح له دعامة وسندًا.
لا يهول المسلم أن يسمع من مخالف أن عملًا كالجهاد والتصرف في شئون الزكاة والجزية والغنيمة كان النبي ﷺ يتولاه من نفسه دون أن يهبط عليه وحي بذلك، فإن المخالف لا يصدق بالقرآن ولا يطمئن لإجماع، وإنما يهول المسلم أن يسمع رجلًا نبت في بيت إسلامي، وشب في معهد ديني وهو يتشدق بهذا الرأي، رافعًا به عقيرته شأن من لم يطرق أذنه أمثال قوله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وإذا كانت الشئون الحربية والمالية والقضائية مما جاء به صريح القرآن، فأي شبهة تبقى بيد من يزعم أن قواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي ﷺ لا تصادم القول بأن تأسيس المملكة خارج عن وظيفة الرسالة؟
ولا ندري ما هذا الأمر الذي يصلح أن يكون دعامة وسندًا لرأي لو علق طلاؤه بأذهان المسلمين لنبذوا شطر كتاب ربهم وسنة رسولهم، وكانوا من القوم الذين خسروا أنفسهم وهم لا يشعرون!
وقول المؤلف: «ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا.» إنما هو النافقاء يبنيها عقب آراء يثيرها في وجه الحقيقة، ويقنع من أثرها بالتشكيك، ولو جاءت هذه الكلمة كما تجيء الكلمات التي تقتضيها طبيعة البحث لنبَّه على وجه بعده، كما أجمع أمره على تقريبه وتأييده.
•••
تعرض المؤلف للقول بأن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة متمم لها وداخل فيها، وقال: ذلك الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين فيما يظهر بالرضا، ثم قال في ص٥٦: «ومن البين أن ذلك الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن من عمل الرسالة أن يقوم الرسول، بعد تبليغ الدعوة، بتنفيذها على وجه عملي؛ أي أن الرسول يكون مبلغًا ومنفذًا، غير أن الذين بحثوا في معنى الرسالة، ووقفنا على مباحثهم أغفلوا دائمًا أن يعتبروا التنفيذ جزءًا من حقيقة الرسالة، إلا ابن خلدون؛ فقد جاء في كلامه ما يشير إلى أن الإسلام دون غيره من الملل الأخرى قد اختص بأنه جمع بين الدعوة الدينية وتنفيذها بالفعل.»
يدع المؤلف دلائل الشريعة ونصوص العلماء القائمة على أن التنفيذ جزء من وظيفة النبي ﷺ، ويلقي قلمه في مهاب الشبه تخفق به من أمام إلى وراء، ومن اليمين إلى الشمال، يريد أن يتخذ من بحث أهل العلم في معنى الرسالة دليلًا على أن التنفيذ غير داخل في وظيفة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد حام على غير هدى، وتشبث بأوهى من عهد دولة استعمارية!
•••
بعد أن حكى المؤلف ما كتبه ابن خلدون في الفصل الذي تكلم فيه عن اسم البابا والبطرك والكوهن، قال في ص٥٧: «فهو كما ترى يقول: إن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي، وإن السلطة الدينية اجتمعت فيه والسلطة السياسية، دون سائر الأديان.» ثم قال: «لا نرى لذلك القول دعامة، ولا نجد له سندًا، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية كما عرفت.»
ادعى المؤلف أنه لا يرى للقول بأن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي دعامة، ولا يجد له سندًا، وعزز هذه الدعوى بكلمة لا يحتمل تبعتها المنطقية إلا من شعر بأنه في بيئة تلذ صرير الأقلام المحاربة لدين الحق، وإن دمرت منطق أرسطو وطمست معالم الحكمة، وهي زعمه أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة ولا يلتئم مع ما تقتضيه طبيعة الدعوة الدينية.
يقول المؤلف: لا نرى لذلك القول دعامة، وهذه كتب السنة مملوءة بالأحاديث الصريحة في أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر بالقاتل فيقتص منه، وبالسارق فتقطع يده، وبالزاني فيجلد أو يرجم، وبشارب الخمر فيضرب بالجريد أو النعال، وفي صحيح البخاري: «أنه قام عليه السلام فخطب فقال: يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد يدها.»
زعم المؤلف أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع مقتضى طبيعة الدعوة، وهذا الزعم ينافي الواقع ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة البحث المنطقي.
أما منافاته للواقع فإن الله تعالى أمر رسوله بإبلاغ الناس قوله تعالى: وَآتُوا الزَّكَاةَ، وقال له: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وأما عدم ملاءمته لمقتضى البحث المنطقي؛ فإن التنافي يرادف التناقض، والمعنى أن القول بأن الإسلام تبليغي وتطبيقي يقتضي نفي معنى الرسالة، ومعنى الرسالة يقتضي نفيه. وهذا الحكم غير صحيح؛ إذ لا يصح إلا إذا كان في معنى التبليغ والتنفيذ ما يجعلهما متنافيين، والمعقول أنهما ليسا بمتنافيين، ولا أن الجمع بينهما يعود بخلل عليهما أو على أحدهما، وهل من عقل يشعر بتناقض في قولك لشخص: بلغ بني تميم أن يتعلموا المنطق حتمًا، ومن رأيته يخرج في كلامه عن قانون المنطق فقوِّمه بالتي هي أحكم؛ حتى تحمله على طريقة التفكير الصحيح.
•••
قال المؤلف في ص٥٧: «إذا كان رسول الله ﷺ قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا؟ ولماذا؟ نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص، أو ما شئت فَسَمِّه، في بناء الحكومة أيام النبي ﷺ، وكيف كان ذلك؟ وما سره؟»
- إحداها: أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب، فإذا وقعت الواقعة أو عرضت الحاجة نظر العالم في منشئها وما يترتب عليها من أثر، واستنبط لها حكمًا بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا.
- ثانيتها: أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين، والنص على كل جزئية غير متيسر، علاوة على أن تدوينها يستدعي أسفارًا لا فائدة للناس في كلفة حملها.
- ثالثتها: أن الشريعة لا تريد أسر العقول وحرمانها من التمتع بلذة النظر والتسابق في مجال الاجتهاد.
فإذا كانت الأحكام والنظم تفصل على ما يقتضيه حال الشعوب، وكانت وقائع المعاملات والسياسات لا تنقضي، وكان شارع الإسلام يراعي حق العقل ولا يريد حصره في دائرة ضيقة، فهل من العقل أو من الصواب أن يقول قائل: لماذا لم يتحدث النبي ﷺ إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟
ولنضرب المثل لهذه السنة الشرعية بقاعدة الشورى نفسها: فالإسلام أرشد إلى الشورى بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وقصد إلى إقامتها على وجه ينفي الاستبداد، ويجعل الحكام لا يقطعون أمرًا حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد، وأبقى النظر في وسائل استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولي الأمر وإلى ألمعيتهم؛ فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل، فيستطلعون الآراء باقتراع سري أو علني، بالكتابة أو برفع الأيدي أو بالقيام، ولهم النظر في تعيين من يستفاد من آرائهم وكيفية انتخابهم.
فالشريعة تحدثت في نظام السياسة وفي قواعد الشورى، ولكن بلسان أوتي جوامع الكلم، وخطاب يفهمه الذين يحملون في صدورهم قلوبًا باصرة، وسرائرَ خالصة.
يقول المؤلف: لماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟
جواب هذا السؤال هو ما كنا بصدد بيانه من أن الشريعة يهمها أن يقوم القضاء على القانون العادل ورعاية الحقوق، وقد سنت القوانين العادلة وأرشدت إلى بعض النظم القضائية بتفصيل، ولوَّحت بسائرها إلى اجتهاد القاضي وذكائه، فيتبع ما يلائم طبيعة الحال ومقتضى المصلحة. وقد كان قضاة رسول الله ﷺ من العلم والكفاية لهذا المنصب بالمكانة العليا، ولم يكن الصحابة — رضي الله عنهم — بمنزلة الأميين الذي يعيشون في دائرة محدودة من التعقل، بل كانوا يتفقهون في مقتضيات الاجتماع، ويغوصون على فهم السنن الكونية، ويعرفون كيف ينتزعون الأحكام من مآخذها. يشهد بهذا كله التاريخ الصحيح وآثارهم في قلب العالم من هيئة متخاذلة بالية، إلى هيئة نظر إليها أساتذة السياسة بإعجاب، وخرَّ لها عشاق العدالة سُجَّدًا.
نشأت تلك العقول في أحضان الشرع الإسلامي، وارتضعت أفاويق الحكمة من ثدي النبوة، فكان لها شأن لا يعرف عظمته إلا ذو عقل رشيد.
كان الأمراء والقضاة لعهد النبوة من هذا الفريق السليم الفطرة، الواسع النظر، القائم على أصول الشريعة، المستضيء بنور التقوى، ومتى تحققت هذه المزايا في حاكم باتت الحقوق في أمن، وجرت الأمور على نظام، وما زاد على ذلك فإما أن يكون ضروريًّا ونافعًا في حال دون حال، وإما أن يكون من قبيل «ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة».
•••
قال المصنف في ص٥٨: «قد يقول قائل يريد أن يؤيد ذلك المذهب بنوع من التأييد على طريقة أخرى: إنه لا شيء يمنعنا من أن نعتقد أن نظام الدولة زمن النبي ﷺ كان متينًا محكمًا، وكان مشتملًا على جميع أوجه الكمال التي تلزم لدولة يُدبِّرها رسول من الله يؤيده الوحي، وتؤازره ملائكة الله، غير أننا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية ودقائق ما كانت عليه الحكومة النبوية من نظام بالغ وإحكام سابغ؛ لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك إلينا، أو نقلوه ولكن غاب علمه عنا، أو لسبب آخر.»
- أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحًا وتلويحًا كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ … فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يدخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له، ودائرة حوله؛ فهي منه وإليه ترجع في معانيها …
- والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله ﷺ إلى الآن؛ وذلك أن الله عز وجل وفَّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل. أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلًا عن القراء الأكابر … ثم قيض الحق — سبحانه وتعالى — رجالًا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ﷺ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله ﷺ، وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسًا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابًا وسنة، وعمَّا كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز اتباع الحق عن أتباع الهوى.»
هذا أحد نصوص علماء الإسلام المتعاقدة على أن الشريعة محفوظة لم يترك الرواة شيئًا من أصولها، ولم يغب عن الباحثين بحقٍّ عِلْمُها.
•••
ثم بدا للمؤلف أن يلتمس جوابًا آخر عن «ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت فَسَمِّه.» فأملى عليه خياله أن أنظمة الدولة، التي هي اصطلاحات عارضة وأوضاع مصنوعة، لا تلائم بساطة الدين وبعده عن التكلف، وبعد أن أسهب في هذا المعنى وحشر فيما يزيد على صحيفتين كلامًا متشابهًا وغير متشابه، وصفه بعدم الوجاهة والصحة وقال في ص٦٢: «حقٌّ أن كثيرًا من أنظمة الحكومة الحديثة أوضاع وتكلفات، وأن فيها ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة، ولكن من الأكيد الذي لا يقبل شكًّا أيضًا أن في كثير مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفًا ولا مصنوعًا، ولا هو مما ينافي الذوق الفطري البسيط، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ولا ينبغي لحكومة ذات مدنية وعمران أن تهمل الأخذ به.
وهل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع مثلًا أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد إيرادها ومصروفاتها، أو أن لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شئونها الداخلية والخارجية إلى غير ذلك — وإنه لكثير — مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي ﷺ، إنه ليكون تعسفًا غير مقبول أن يعلل ذلك الذي يبدو من نقص المظاهر الحكومية زمن النبي ﷺ بأن منشأه سلامة الفطرة ومجانبة التكلف.»
لم يجئ في الشريعة تكليف بما لا يطيقه الإنسان قطعًا، ولا بما يطيقه وفيه مشقة فادحة بحيث يتبرم منه ذو الفطرة السليمة، وينقطع دون المواظبة عليه إعياءً وكللًا، وأما ما فيه مشقة عُهد من الناس احتمال أمثالها، بحيث يصبح بالاعتياد عليه كالأعمال التي تنساق إليها النفوس بطبيعتها، فهذا ما لا تتحاماه الشريعة، بل تأمره بما فيه مثل هذه المشقة لا قصدًا للإعنات، بل نظرًا إلى ما يترتب على العمل من مصلحة في هذه الحياة أو في تلك الحياة.
فسهولة الدين من حيث إنه وضع تكاليف يسهل على الناس القيام بها متى خففوا من طغيان الأهواء، وتدبروا في حكمة هذه التكاليف وحسن عاقبتها. وبهذا يتضح جليًّا أن سهولة الدين تلتئم مع الحقائق العائدة إلى أصول الحكم أو نظم السياسة.
ولهذه البساطة كان النبوغ في علوم الشريعة والبلوغ فيها إلى مكانة الاجتهاد والإفتاء ليس بالأمر المتعسر، ولا بالأمر الذي يحتاج إلى زمن طويل متى كان أسلوب تعليمها وتلقيها بنظام. ولا أضرب المثل بالعصر الأول يوم كانت وسائل العلم بها من لغة ونحو وبيان مطوية في ألسنة القوم فطرة، بل أضرب المثل بالعصور التي أصبحت فيها هذه الوسائل علومًا تدرس كما يدرس التفسير والحديث والعقائد: بلغ حجة الإسلام الغزالي في العلم مكانًا عاليًا، وصار من الأعلام المشار إليهم بالبنان في عهد أستاذه إمام الحرمين، وعمره يوم توفي إمام الحرمين نحو ثمان وعشرين سنة.
وتلقى القاضي أبو بكر بن العربي مبادئ العلوم بالأندلس ثم رحل إلى المشرق وقد أدرك السابعة عشرة من عمره، فدخل مصر والحجاز والشام والعراق ثم انصرف بعد ثمانية أعوام وهو بحر في علوم الشريعة، إمام في فنون اللغة العربية، حتى قالوا: إنه قدم الأندلس بعلم غزير لم يدخل أحد قبله بمثله. ولا أطيل في ضرب الأمثلة من أنباء الرجال الذين دخلوا في زمرة العلماء الراسخين، وامتلأت الحقائب من نفائس تحريراتهم وهم لا يزالون في عهد شبيبتهم؛ فإن الغرض بيان معنى بساطة الدين وكون أصوله تحمل أحكامًا وآدابًا لا يحيط بها حساب.
إن الإسلام منح الناس قانونًا فطريًّا بسيطًا غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقي المدنية المادية. إنه منح الحكومة دستورًا يلائم الحقوق والواجبات البشرية أشد الملاءمة؛ فقد حدد الضرائب، وساوى بين الخلق في نظر القانون، وقدس مبادئ الحكم الذاتي، وأوجد الرقابة على الحاكم بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية.
إن حسن كل واحد من هذه المبادئ، التي يكفي كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه، قد ضاعف في أهمية مجموعها، وأصبح للنظام المكون منها قوة ونشاط تفوق أي نظام سياسي آخر.
إن هذا النظام مع أنه وضع في أيدي قوم أميين، استطاع أن ينتشر في ممالكَ أكثرَ مما فتحته روما، في عهد لا يتجاوز عمر الفرد، ولقد استمر منتصرًا لا يمكن إيقافه مدة محافظته على شكله الفطري.
هذا ما يقوله غير المسلم، وذلك ما يقوله القاضي الشرعي. وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب …
•••