رسالة لا حكم، ودين لا دولة
النقض – المؤلف يُدخل في الإسلام ما يتبرأ منه التوحيد الخالص – الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به – خطأ المؤلف في الاستشهاد بآياتٍ على أن وظيفة الرسول لا تتجاوز حدود البلاغ – خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي – خطأ المؤلف في فهم حديثين – الشريعة فصَّلت بعض أحكام ودلَّت على سائرها بأصول يُراعَى في تطبيقها حال الزمان والمكان – الاجتهاد في الشريعة وشرائطه – فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر.
***
ملخصه
خاطب قارئ كتابه يذكره بتلك العقبات التي أقامها في وجه من يعتقدون أن النبي ﷺ كان رسولًا ومؤسسًا لدولة سياسية، ويوحى إليه بأن هؤلاء القوم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة لقيتهم عثرات، وزعم أنه لم يبق إلا مذهب واحد خالٍ من المشاكل؛ وهو القول بأن محمدًا ﷺ ما كان إلا رسولًا، وأنه لم يكن له ملك ولا حكومة، ولكن الرسالة لذاتها تستلزم للرسول نوعًا من الزعامة، وبعد أن أطال الحديث عن هذه الزعامة وما لها من السلطان، قال: ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، وولاية الحاكم ولاية مادية.
وذهب إلى أن الإسلام إنما هو وحدة دينية، وأن من أراد أن يسمي تلك الوحدة الدينية ملكًا أو خلافة فهو في حل من أن يفعل، وزعم أن ظواهر القرآن تؤيد القول بأن النبي ﷺ لم يكن له شأن في الملك السياسي، وساق على هذا بعض آيات تخيَّل أنها تُسعده فيما يدعي، وقال: إن هذه الآيات صريحة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ الرسالة إلى الناس، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.
وادعى أن الأمر في السنة أصرح، والحجة فيها أقطع، واستشهد بحديثين من السيرة النبوية لزيني دحلان، وتخلص من هنا إلى أن أخذ العالم بدين واحد معقول، وأما أخذه بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية، فيوشك أن يكون خارجًا عن طبيعة البشرية، وزعم أن السياسة من الأغراض الدنيوية التي خلى الله بينها وبين عقولنا، والتي أنكر النبي ﷺ أن يكون له فيها تدبير، واستخلص من البحث أن القرآن والسنة، وحكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها، كل ذلك يمنعه من اعتقاد أن النبي ﷺ كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية.
النقض
قال المؤلف في ص٦٤: «رأيت إذن أن هنالك عقباتٍ لا يسهل أن يتخطاها الذين يريدون أن يذهب بهم الرأي إلى اعتقاد أن النبي ﷺ كان يجمع إلى صفة الرسالة أنه كان ملكًا سياسيًّا، ومؤسسًا لدولة سياسية، رأيت أنهم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة لقيتهم عثرات، وكلما أرادوا الخلاص من ذلك المشكل عاد ذلك المشكل عليهم جذعًا.»
يعتقد المسلمون أن النبي ﷺ كان رسولًا نبيًّا ومؤسس دولة سياسية، وساروا على هذه العقيدة ألفًا وثلاثمائة سنة فلم يجدوا في طريقهم مشكلًا تتعثر فيه أفهامهم، أو قتام شبهة يثور في أذهانهم، فضلًا عن عقبات تقوم في وجوههم، ولكن المؤلف بين خطتين: إما أن يكون تلقى الدين بصورة جامدة، ولم يدرك أنه يرشد إلى الحقائق والمصالح، ويدع كثيرًا من وسائلها إلى اجتهادات العقول وما يقتضيه حال الشعوب، وإما أن يكون عرف الحقيقة وأثار حولها هذه الضجة ليكتم صوتها؛ حتى لا يسمع الناس إلا نغمة الإباحية الفاسقة.
•••
قال المؤلف في ص٦٤: «لم يبق أمامك بعد الذي سبق إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده منهجًا واضحًا، لا تخشى فيه عثرات، ولا تلقى عقبات، ولا تضل بك شعابه، ولا يغمرك ترابه، مأمون الغوائل، خاليًا من المشاكل ذلك هو القول بأن محمدًا ﷺ ما كان إلا رسولًا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وأنه لم يكن للنبي ﷺ ملك ولا حكومة، وأنه ﷺ لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولًا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكًا ولا مؤسس دولة ولا داعيًا إلى ملك.»
الرأي الذي يقصده المؤلف — حسبما تصرح به ألفاظه وما يسوق عليه من الشبه — هو أن النبي ﷺ مُبلِّغ فقط، ولم يكن من وظيفته تنفيذ ما أوحي إليه بتبليغه، وأنه لم يأتِ بشريعة لها مساس بالقضاء وسياسة الدولة! وهو رأي لم ينسج على أصل شرعي، ولم يقم على بحث علمي، ولكن الافتتان بزخرف الحياة الإفرنجية يخامر العقل، فإذا الخيال ينقِّر بالقلم ما شاء أن ينقر، ويقلب صور الحقائق إلى ما لا يخطر على قلب أفاك أثيم.
•••
قال المؤلف في ص٦٧: «قد يتناول الرسول من سياسة الأمة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحده وظيفة لا شريك له فيها: من وظيفته أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد، وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور. له بل عليه أن يشق عن قلوب أتباعه؛ ليصل إلى مجامع الحب والضغينة، ومنابت الحسنة والسيئة، ومجاري الخواطر، ومكامن الوساوس، ومنابع النيات، ومستودع الأخلاق، وله عمل ظاهر في سياسة العامة، وله أيضًا عمل خفي في تدبير الصلة التي تجمع بين الشريك والشريك، والحليف والحليف إلخ.»
علم المؤلف أن الرأي الذي حام عليه في الأبواب الماضية، وشمر عن ساقه ليخوض مستنقعه في هذا الباب، رأيٌ لا يتلقاه قراء كتاب الله إلا بالرفض، ولا يعدون صاحبه إلا في زمرة من يتخذون آيات الله هزؤًا، فكان من دهائه ولطف سحره أن أطلق قلمه في مدح رسول الله ﷺ والثناء عليه، من جهة يرى أن الإطناب فيها لا يمس برأيه، وبمثل هذا الرياء يمكنه اقتناص بعض المستضعفين من الأطفال والبله، ولعله لم يمد حبالته إلا قانعًا بمن يقع فيها من أمثال هذه الطائفة. أما الذين ينظرون بنور الحكمة فإنهم يزِنون الكتابَ بروحه المطلة من خلال سطوره.
ويمثل هذا تفقه أن قلم المؤلف يدس في الدين الإسلامي من عقائد الوثنية ما يتبرأ منه التوحيد الخالص، وتأباه الفطرة السليمة.
•••
قال المؤلف في ص٦٩: «ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعًا تامًّا يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون له بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لصالح الحياة وعمار الأرض. تلك للدين، وهذه للدنيا. تلك لله، وهذه للناس. تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية. ويا بعد ما بين السياسة والدين!»
للرسول ولاية على قلوب أمته من أجل ما تحمله من تصديق رسالته، وإجلال مقامه، ومن مقتضيات التصديق برسالته الاعتقاد بحكمة ما يجيء به من أوامرَ ونواهٍ، والاعتقاد بحكمة أمره ونهيه شأنه أن يبعث الجوارح إلى الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه، ولكن ترتب الإقدام أو الإحجام على الاعتقاد بحكمة الأمر والنهي من باب ترتب السبب على مسببه، ومن المعروف أن تأثير السبب في وجود المسبب يتوقف على تحقق الشرط وفقد المانع، ومن موانع العمل على مقتضى العقيدة تغلب الأهواء وإيثار اللذة أو المنفعة العاجلة.
وليست هذه الأهواء ولا هذا الإيثار ناسخًا للتصديق بالرسول، أو للاعتقاد بحكمة ما يأمر به أو ينهى عنه، وإنما هو حال يعرض للنفس حتى تصغر في نظرها صورة ما يترتب على ترك المأمور أو فعل المنكر من عاقبة خاسرة وعذاب أليم.
والدليل على أن ارتكاب الجنايات قد يدفع إليه طغيان الشهوة أو تخبط الغضب مع بقاء أصل الإيمان: أن الجاني بعد أن يُشبع شهوته أو يَشفي غيظه قد يعضُّ سبابته ندَمًا، من غير أن يجدد النظر في أصل إيمانه، أو في حال ما ارتكبه من منكر أو فحشاء.
فالنظر يقضي بأن الولاية على القلوب لا تكفي في صيانة الحقوق، وحفظ النفوس والأموال والأعراض، وأنه لا بد من ولاية يكون شأنها تنفيذ قوانين المعاملات والعقوبات فيمن يطغى به الهوى أو يتخبطه الغضب وإن كان من المؤمنين.
فولاية الرسول ﷺ كانت على القلوب ثم على الأجسام، وكانت ولاية هداية وتدبير لصالح الحياة، وكانت رياسة دينية وسياسية، وكلاهما من عند الله، ولا بعد بين السياسة والدين إلا في نظر قوم لا يكادون يفقهون حديثًا.
•••
قال المؤلف في ص٧١: «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي ﷺ لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان.» ثم ساق في الاستشهاد على هذا قوله تعالى في سورة النساء: وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، وقوله في سورة الأنعام: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ، وقوله في سورة يونس: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ، وقوله: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وقوله: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ، وقوله في سورة الإسراء: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، وقوله في سورة الفرقان: أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، وقوله في سورة الزمر: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ، وقوله في سورة الشورى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وقوله في سورة ق: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ، وقوله في سورة الغاشية: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، ثم قال: «القرآن كما ترى يمنع صريحًا أن يكون النبي ﷺ حفيظًا على الناس ولا وكيلًا ولا جبارًا ولا مسيطرًا، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ومن لم يكن حفيظًا ولا مسيطرًا فليس بملك؛ لأن من لوازم الملك السيطرة العامة والجبروت سلطانًا غير محدود.»
من الكلام البليغ ما يسلك معناه في قلب السامع غير متوقف على شيء سوى العلم بمدلولات الألفاظ المفردة، وقانون النظم والتركيب، ومنه ما لا يصل السامع إلى معناه ولا يلمُّ به من جوانبه فيستقر في نفسه على الوجه الذي يقصده المتكلم إلا إذا وقف على أحوال زائدة على العلم بوضع المفردات والتراكيب؛ ولهذا ترى أذكى الناس قريحةً، وأرسخهم علمًا باللغة ومذاهب بلاغتها، قد يعجز عن فهم بيت من الشعر البليغ، ولا يجد طريقًا إلى بيان ما يراد منه حتى يعرف الحال التي ورد فيها، والسبب الحامل على نظمه.
فكثير من الآيات لا ينكشف معناه ولا يستقر في النفس على وجه محكم إلا بعد معرفة سبب نزوله وحال نزوله، ثم القيام على غيره من الآيات التي ربما وجد فيها ما يخصص عمومه أو يقيد مطلقه أو يغير حكمه؛ لزوال علته، وقيام الحاجة الداعية إلى تبديله بحكم آخر.
إذن لا ينبغي لأحد أن يهيئ رأيًا ثم يصب عليه الآيات صبًّا، قبل أن يبحث عن حال نزولها، وينظر فيما عساه أن يخصصها أو يقيدها أو يرشد إلى تبدل حكمها.
فهل حافظ المؤلف على هذا الأصل الأصيل فرجع في فهم هذه الآيات إلى حال نزولها، وجال بنظره في القرآن جولة لعله يهتدي السبيل إلى الرسوخ في علمها؟
الظاهر أنه لم يفعل ذلك، وإنما أمسك المصحف الشريف بيده، ونقل منه هذه الآيات مرتبة ترتب سورها، فحرفها عن مواضعها، وتأولها على غير بينة من أمرها.
من المعلوم لدى المسلمين أن النبي ﷺ مكث بمكة نحو عشر سنين وعمله مقصور على الدعوة بالحجة والموعظة، وأنه كان يحزن لإعراض المشركين وعتوِّهم عن سبيل الهداية، ويأخذ منه الأسف كلَّ مأخذٍ حتى كأنه مأمور بتصريف قلوبهم من الغي إلى الرشد، ويزيد على هذا ما كانوا يعترضونه به من الأذى، ويسومون به أصحابه من سوء العذاب، فكانت الآيات تذكره ببيان وظيفته لذلك الحين؛ وهي مجرد البلاغ والإنذار، حتى إذا كانت منه على ظهر قلب، وعرف أنه قام بوظيفته كما يراد منه، خف عليه ما يجده من الحزن والأسى.
وبعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإقامته بها نحو سنة، قضت حكمة الله بأن يكون للإسلام مظهر غير مظهره الأول، ونزلت آيات الجهاد وحدود العقوبات تترى، والذي قال له: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ، وقال له: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. هو الذي أنزل عليه قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وقوله: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، وقوله: وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ.
وخلاصة المقال أن المؤلف سرد هذه الآيات على غير بصيرة، وصرف نظره عن آيات الجهاد التي يذهب رأيه إمامها عبثًا، فجلس كما قام، وسكت كما تكلم، بل جلوسه خير من قيامه، وسكوته أنفع من كلامه مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
•••
عاد المؤلف فأخذ يلتقط من القرآن آيات: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ، إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ، إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ، إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ، وأضاف إليها آيتين؛ وهما: قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ، وقوله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، ثم قال في ص٧٣: «القرآن كما رأيت صريح في أن محمدًا ﷺ لم يكن إلا رسولًا قد خلت من قبله الرسل، ثم هو بعدُ صريحٌ في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس، وأنه لم يُكلَّف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
يتساءل الناس أحيانًا عن الحال الذي لبس قلب المؤلف حتى أصبح يقول على الله غير الحق: هل اقتحم هذه الخطيئة لقصور في الفهم؟ أم لداعية افتتانه بملة أخرى؟
إذا صح للقارئ أن يتردد في بعض المباحث السابقة، فإن هذا المبحث لا يُبْقي له ريبة في أن المؤلف قد يقصد إلى قلب الحقائق حيث لا يصح أن تنقلب في نظره.
يعرف كل طالب علم في الأزهر أو في غير الأزهر أن في العلوم العربية علمًا يقال له: علم المعاني، وأن في المعاني بابًا يقال له: باب القصر، ولا شك أن من اطلع على هذا الباب يعلم أن القصر ينقسم إلى: قصر حقيقي؛ وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر، بحيث لا يتجاوزه إلى غيره أصلًا، وقصر إضافي؛ وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الإضافة إلى شيء آخر، بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشيء، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر.
ويعلم بعد هذا أن القصر الإضافي ينقسم إلى: قصر إفراد؛ والمخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، أو موصوفين في صفة، وقصر قلب؛ والمخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي يتصدى المتكلم لإثباته، وقصر تعيين؛ والمخاطب به من يتساوى في نظره أمران فيقصر له المتكلم الحكم على أحدهما.
هذه المباحث من بديهيات علم البلاغة، ومن مبادئه الملقاة على قارعة الطريق، بحيث لا يمتاز بمعرفتها الذكي عن الغبي، ولا قارئ الكتب المبسوطة عن قارئ المختصرات.
ومن عرف أن من فنون القصر ما يسمى قصرًا إضافيًّا عرف بوجه إجمالي أن الآيات التي ساقها المؤلف إنما هي من هذا القبيل، ولا يصح حملها على القصر الذي يراد به نفي كل صفة ما عدا الإنذار حتى يدخل في هذه الصفات المنفية القضاء الفصل والتنفيذ.
ولنضرب لك مثلًا تشهد به أن هذه الآيات منسوجة على منوال من البلاغة بديع، وأنها بريئة من نفي صفة التنفيذ عن النبي ﷺ كما يزعم مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم.
وسائر الآيات المفرغة على قالب القصر مما أورده في الصفحتين ٧٤ و٧٥ لا تخرج عن أن يراد منها القصر الإضافي، وهو لا يتعرض لصفة التنفيذ بحال. ولا يستطيع المؤلف أن ينكر هذا الفن من البلاغة إلا إذا تناهى به العناد إلى إنكار ما يضرب في الأفق من بياض النهار أو سواد الليل.
يقول المؤلف: «وإنه لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
هذه الفقرة تنادي بصراحة أن المؤلف يريد أن يلصق بعقول الأطفال والسذج الاعتقاد بأن جهاد النبي ﷺ وتصرفه في أموال الزكاة قبضًا وإنفاقًا، وحكمه بين الناس وإقامته الحدود لم يكن من عمله السماوي، فإن هذه الحقائق شيء غير ذلك البلاغ، ومنها ما فيه حمل للناس على ما جاءهم به، والقرآن يشهد بأن جهاده عليه الصلاة والسلام، وتصرفه في أموال الزكاة، وحكمه بين الناس إنما كان بوحي سماوي. ولا أحسب المؤلف يترك قلمه سائبًا حتى يقول على آيات الجهاد والزكاة والحكم بين الناس كما قال على أحاديثَ في الصحيحين: «لنا أن ننازع في صحتها.»
•••
قال المؤلف في ص٧٦: «إذا نحن تجاوزنا كتاب الله تعالى إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام وجدنا الأمر فيها أصرح والحجة أقطع، روى صاحب السيرة النبوية أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ؛ لحاجة يذكرها، فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له ﷺ: «هون عليك؛ فإني لست بملك ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة» … وقد جاء في الحديث أنه لما خير على لسان إسرافيل بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو نبيًّا عبدًا، نظر عليه الصلاة والسلام إلى جبريل عليه السلام كالمشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، وفي رواية: «فأشار إليَّ جبريل أن تواضع، فقلت: نبيًّا عبدًا.» فذلك صريح أيضًا في أنه ﷺ لم يكن ملكًا، ولم يطلب الملك، ولا توجهت نفسه عليه السلام إليه.»
لو التزم أحد على وجه المزح أن لا يقول إلا خطأ، ثم تحدث بمقدار ما تحدث المؤلف في ذلك الكتاب، لسبق لسانه إلى الصواب مرارًا، وربما لا يكون خطؤه أكثر من خطأ كتاب الإسلام وأصول الحكم.
بعد أن ساق المؤلف آيات: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ، وما جاء على شاكلتها مساق الاستشهاد على نفي أن يكون النبي عليه السلام منفذًا، أتى بهذين الحديثين يبتغي منهما أن يشهدا له على باطل، ولم يرعَ حرمة الأحاديث النبوية فيكف قلمه عن إيرادها حيث يدَّعي على مقام الرسالة غير الحق.
خذ أيَّ عالم أو شبه عالم أو عامي ذي فطرة سليمة، واقرأ عليه الحديثين، وخذ معه بأطراف الحديث في معنى «ملك» الوارد فيهما، فإنه ينظر إلى مساق الكلام وما يقتضيه حال الخطاب فلا يفهم من قوله: «لست بملك.» من الحديث الأول إلا ما هو الغالب على الملوك من البطش وقلة الأناة، ولا يفهم من قوله: «ملكًا.» في الحديث الثاني إلا مظهر العظمة والأبهة.
وأما معنى الرياسة السياسية وتدبير الشئون العامة، وهو ما يعنيه المؤلف؛ فإنه لا يقع في ذهن من يتلقى الحديث بروية، ولا يكاد يخطر له على بال.
ولو كان المؤلف يتنبه إلى معنى الحديث قبل إيراده؛ لسبق إلى اختيار المعنى الذي يسبق إلى فهم كل سامع، واحتفظ على مذهبه من أن الرياسة السياسية تنافي طبيعة الرسالة، فإن حمل الملك على الرئيس السياسي في قوله: «خُيِّر بين أن يكون نبيًّا ملكًا.» يجعل الحديث حجة على أن الرسالة والملك لا يتنافيان.
ولقد ذكَّرنا المؤلف بتأويله لتلك الآيات والأحاديث رجلًا من أهل مكة كان يئوِّل الشعر، قال ذات يوم: ما سمعت بأكذبَ من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
في رجل منهم، قيل له: فما تقول أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة: الحج، قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء، قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس، قيل: فنهشل؟ فصمت ساعة ثم قال: نعم نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل أسود، فذلك نهشل!
•••
قال المؤلف في ص٧٨: «معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن ينتظم البشرية كلها وحدة دينية، فلما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة؛ فذلك مما يوشك أن يكون خارجًا عن طبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله.»
أجمع المسلمون على أن إصلاح السياسة شطر من مقاصد الإسلام، وهل ادَّعوا مع هذا أن الإسلام رسم للسياسة خطة معينة، ووضع لكل واقعة حكمًا مفصلًا؟
الحق أنهم لم يفعلوا ذلك، بل ملئوا كتبهم ببيان أن الشريعة فصلت بعض أحكام لا تختلف فيها أحوال البشر، ثم وضعت أصولًا؛ ليراعى في تطبيقها على الوقائع حال الظروف الحافة بها. ومن هذه الأصول قاعدة «رعاية المصالح المرسلة»، وقاعدة «العادة محكمة»، وقاعدة «سد الذرائع»، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير»، وقاعدة «ارتكاب أخف الضررين»، وقاعدة «الضرر يزال».
قال شهاب الدين القرافي في قواعده: «إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقيه بانتقالها، ومن جهل المفتي جموده على المنصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف؛ فإن القاعدة المجمع عليها: أن كل حكم مبني على عادة، فإذا تغيرت العادة تغير الحكم، والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغيره في أصل وضعه والخطاب به، وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم، أو في عصر، فيكون مصلحة وتتناوله دلائل الطلب، فإن لم تقتضه عادتهم ولا تعلقت به مصلحتهم دخل تحت أصل من أصول الإباحة أو التحريم.»
ومما يوضح أن أحكام الشريعة تجري بحسب اختلاف الزمان والمكان قول عز الدين بن عبد السلام في قواعده: «تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات.»
ومن مثل هذه النصوص تعلم أن أخذ الأمم الإسلامية بحكومة واحدة لا يقتضي توحيد قانونها السياسي أو القضائي، بل يوكل أمر كل شعب إلى أهل الحل والعقد منه، فهم الذين ينظرون فيما تقتضيه مصالحه، ولا يقطعون أمرًا حتى يشهدهم مَنْ أوتوا العلم بأصول الشريعة؛ لئلا يخرجوا عن حدود مقاصدها.
ومن أجل ما لوحت إليه الشريعة من بناء الأحكام على أساس رعاية المصالح ذكر الفقهاء في شروط الحاكم أن يكون بالغًا رتبة الاجتهاد.
- أحدهما: فهم مقاصد الشريعة: وهذا يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها، والتفقه في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت أحكامها، وقد بصر مجتهدو الصحابة — رضي الله عنهم — بهذه القواعد والأحكام من النظر في القرآن وما يشهدون من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتلقى عنهم التابعون ما استنبطوه من الفروع، وتعلموا منهم كيف انتزعوها من مآخذها، فازدادت القواعد وضوحًا وتمهدت طرق الاستنباط، وتسنى للذين أوتوا العلم من بعدهم أن ينظروا في الحوادث ويفصلوا لها أحكامًا تأخذ بمجامع المصالح، وتنطبق على ما تستدعيه طبيعة الزمان والمكان.
- ثانيهما: القدرة على انتزاع الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنة: ولا سبيل للقدرة على الاستنباط إلا بمعرفة هذه الدلائل، وطريق إثباتها، وضروب دلالتها، وتفاوت مراتبها، ووجوه الترجيح عند تعارضها.
والتحقيق أن الاجتهاد لا يتجزأ؛ فإن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، فمن أحرز الشروط المشار إليها آنفًا تمكن من الاستنباط في كل حادثة تعرض له، وإن فاته بعضها أو كان نصيبه منها أقل من المقدار الكافي، لم يستطع أن يستنبط للواقعة حكمًا تطمئن له نفسه، أو يثق به غيره.
فمن أدركه النقص من جهة قلة التفقه في مقاصد الشريعة وعدم إحكام قواعدها، فلا يصح له الاجتهاد ولو في المسائل التي يجد لها بين الدلائل اللفظية منزعًا؛ فإن القواعد القطعية قد تدعو إلى التصرف في أقوال الشارع بنحو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو عدم الأخذ بالمفهوم.
وكذلك من عرف مقاصد الشريعة وأنس من نفسه القدرة على إلحاق الوقائع بأشباهها، ولكنه لم يصل في معرفة اللسان العربي إلى المرتبة الكافية للاستنباط، فاجتهاده غير موثوق به؛ إذ يشترط في المجتهد أن يكون عارفًا بأحوال الأحكام عن نظر مستقل. وتلك الأحوال مبثوثة في موارد الشريعة، فلا بد من رسوخ القدم في فهم تلك الموارد ومعرفة وجوه دلالتها.
فالتشريع الإسلامي قائم على رعاية المصالح، وما هي إلا المصالح التي توضع في ميزانه المستقيم. وهذا الميزان المستقيم لا يبخس شعبًا من الشعوب مصلحته التي يشهد بها العقل السليم، ولا يفصِّل حكمًا واحدًا يجريه على كل شعب وفي كل زمان، إلا إذا لم تختلف فيه مصالح الشعوب، فإن اختلفت اختلافًا يعقله العالمون؛ فلكل شعب حكم وسياسة، وذلك تقدير العزيز العليم.
فمن يذهب إلى أن أخذ العالم بحكومة واحدة، وجمعه تحت سياسة مشتركة خارج عن طبيعة البشر، إنما هو مثال الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ولم يرفعوا رءوسهم إلى الكتب التي أمتعت البحث عن أسرار الشريعة، وفصلت القول في أصولها العالية تفصيلًا.
•••
•••
قال المؤلف في ص٧٨: «ذلك من الأغراض التي أنكر النبي ﷺ أن يكون له فيها حكم أو تدبير، فقال عليه السلام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.»
كيف ينكر النبي ﷺ أن يكون له في سياسة الأمة حكم أو تدبير، ونحن إذا قلبنا نظرنا في سيرته نجده كان يحكم فيما شجر بين الناس، ويقيم الحدود والزواجر على من يجني على نفس أو مال أو عرض أو عقل، ويجمع المال من حيث أمره الله، وينفقه في وجوه المصالح وإسعاد ذوي الحاجة، ويتولى عقد التحالف والمعاهدات والصلح وإعلان الحرب، ويدبر أمرها، ويرسم لها الخطط، مع المشاورة في هذا السبيل والأخذ بأرجح الآراء؟
يتولى هذه الأمور بنفسه، وقد يندب للقيام بها من فيه الكفاية والخبرة، وهل بعد هذا التصرف الثابت كتابًا وسنة متواترة يخرج كتاب الإسلام وأصول الحكم في واد حافل بعلماء الشريعة ويصيح بأن النبي ﷺ أنكر أن يكون له في شئون الأمة حكم أو تدبير؟
وأما حديث: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.» فإنه وارد في واقعة تأبير النخل، فيحمل على هذا المعنى وما شاكله من فنون الزراعة والصنائع وغيرها من وسائل العمران المادية.
•••
قال المؤلف في ص٧٨: «ذلك من أغراض الدنيا، والدنيا من أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطفَ وشهواتٍ، وعلمنا من أسماء ومسميات، هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولًا، وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها.»
ننظر في الكتاب العزيز فنجده طافحًا بما يدل على أن إرشاده لا يقتصر على العقائد والعبادات، فنجد فيه نصوصًا في بيان ما يحل أكله أو شربه وما لا يحل فيه ذلك، قال تعالى: قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وقال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ونجد نصوصًا في بيان من يحل نكاحهن ومن لا يحل، ونصوصًا تحرم مباشرة الزوجة في بعض الأحوال، كما قال تعالى: اعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ.
ونجد نصوصًا في قسمة تركات الهالكين على ورثتهم كما قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ الآية.
ومن البين بنفسه أن الأكل والشرب والنكاح والأموال الموروثة عن أولي القربى، كل ذلك من أغراض هذه الحياة وغاياتها.
إذن فالمؤلف يريد بهذه المقالة استدراج السذج والأطفال إلى إنكار كل ما زاد على العقائد والعبادات، حتى يتسنى للإباحية السائبة أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وتضرب خيامها في كل واد، فإذا أصبح الناس يدخلون في دينها أشتاتًا، قام الشيطان مرة أخرى واستفز من استطاع منهم لتأليف كتاب يسمى: الإسلام وأصول العبادات.
•••
قال المؤلف في ص٧٩: «لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانًا في سيرة النبي ﷺ فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة؛ فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه ﷺ أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين، وتأييدًا للدعوة. وليس عجيبًا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل. هو وسيلة عنيفة وقاسية، ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران؟»
أريناكم أن من مقاصد الإسلام إصلاح السياسة وإقامة دولة، وأنه وضع لهذه الدولة أركانًا وأصولًا، وأن ما يحسبه المؤلف من مظاهر الحكومة النبوية هينًا هو عند ذوي العقول الراجحة والآراء الرصينة عظيم. وإنما نقلنا لكم هذه الفقرة من فقرات الكتاب لنريكم مثلًا من أمثلة تخاذل نسجه، وصورة من صور موارباته.
يقول المؤلف فيما سلف: «وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.» وأخذ يقرر هذا المعنى ويسوق في تقريره كل ما يملك من شبهة، ولم يزد هنالك على أن قال عقب البحث: «فذلك سر الجهاد عندهم.»
وقال ها هنا: إن الجهاد وسيلة من الوسائل التي كان النبي ﷺ يلجأ إليها تثبيتًا للدين وتأييدًا للدعوة. وبعد أن وصفه بأنه وسيلة عنيفة وقاسية، أتى بعبارة يتقرب بظاهرها إلى آراء أهل العلم، ويدس في لحن خطابها تشكيكًا لقوم لا يتفكرون، فقال: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟
وهل من الذوق الملائم للإيمان أن ينعت المسلم عملًا مشروعًا بأنه شر، ثم يقول على سبيل الاعتذار عنه: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟!
ومن يأخذ قول المؤلف في ص٥٢: «من أمثلة الشئون الملكية التي ظهرت أيام النبي ﷺ مسألة الجهاد.» إلى قوله هنا: «إن الجهاد من الوسائل التي كان النبي ﷺ يلجأ إليها تثبيتًا للدعوة.» وضم إلى هذا قوله في ص٧١: «إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان.» قام له شاهد عدل يناجيه بأن المؤلف يريد أن يضع في ذهن قارئ كتابه أن جهاده ﷺ من الأعمال التي ما أنزل الله بها من سلطان!
•••
قال المؤلف في ص٨٠: «ترى من هذا أنه ليس القرآن هو وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي ﷺ كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية، وليست السنة هي وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنة حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها.»
قد رأيت أن استشهاد المؤلف بتلك الآيات والأحاديث مبني على قصور في فهمها، أو قصد إلى تحريف الكلم عن مواضعها، فالكتاب والسنة لا يمنعان «من اعتقاد أن النبي ﷺ كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية»، بل يدلان بصراحة كفلق الصبح على أنه عليه الصلاة والسلام كان مبلغًا ومنفذًا، وأن قيامه على التنفيذ داخل في حدود وظيفته السماوية.
ودعوى المؤلف أن حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها يمنعه من اعتقاد أن يكون التنفيذ داخلًا في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، قد أريناك فسادها، وأنها كلمة هو قائلها، فلا العقل يمنع من أن يؤمر الرسول بالتبليغ والتنفيذ، ولا الأمر بإبلاغ شريعة يمنع بطبيعته من أن يضاف إليه الأمر بتنفيذها.