الدولة العربية
النقض – حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية – أصحاب رسول الله ﷺ خير أمة أخرجت للناس – أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين – بيعة أبي بكر اختيارية إجماعية – كلمة في سيرة أبي بكر.
***
ملخصه
قال المؤلف في أول الباب: إن زعامة النبي ﷺ دينية، وزعم أنها انتهت بموته، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته، وادعى على غير خجل أن زعامة أتباعه من بعده غير قائمة على الدين، وأنها نوع لا ديني، ثم تعرض لتأثير دعوة الإسلام في الأمم العربية، ولتَهَيُّئهم لإقامة دولة سياسية على أساس الوحدة الدينية، وأتى على بيعة أبي بكر — رضي الله عنه — وباهت التاريخ بزعمه أنها قامت على أساس القوة والسيف، وأنها لم تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، وخاض في شُبَهٍ تنبئك أنه «يرى النملة جملًا، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلًا.» وانقاد في حديثه إلى أن أبا بكر وغيره من خاصة القوم لم يزعموا أن إمارة المسلمين كانت مقامًا دينيًّا، ووصل حديثه بأن هناك أسبابًا كثيرة ألقت على أبي بكر شيئًا من الصبغة الدينية، ثم قال: وكذلك وجد الزعم بأن الإمارة على المسلمين مركز ديني، وانصرف عن الباب بدعوى أن أهم أسباب هذا الزعم ما لقب به أبو بكر من أنه «خليفة رسول الله».
النقض
قال المؤلف في ص٩٠: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلًا بالرسالة ولا قائمًا على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئًا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية؛ زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين. وهذا الذي قد كان.»
هذه حلقة من سلسلة الآراء التي يسطو بها المؤلف حول شريعة الإسلام؛ ليزيحها من المحاكم ومن مظاهر الدولة، حتى لا يرى للسياسة العفيفة وجهًا، ولا للإباحية المتهتكة زاجرًا.
ذهب إلى أن التنفيذ غير داخل في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، وأنه لم يكلف بأن يحمل الناس على ما جاءهم به، وترامى في هذه الجمل على حكومات الخلفاء الراشدين يطعن في عفافها، ويقذفها بسبة اللادينية.
هل للمؤلف أن يغسل قلمه من المواربة ويحدثنا عن قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ويدلنا على المكلف بتنفيذ هذه الأحكام؟!
ليس بجائز في نظره أن يكون المكلف بتنفيذها الرسول عليه السلام؛ لأنه «لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
ثم هو ينفي أن يكون المكلَّفُ بتنفيذها ملوك العرب: أبا بكر وعمر وخلفاءهم؛ لأن النبي ﷺ «ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه.» وحكومات أولئك الملوك «نوع من الزعامة جديد ليس متصلًا بالرسالة ولا قائمًا على الدين. هو إذن نوع لا ديني.»
ولعله يجيب بأن الخطاب بها مصروف إلى الأمة، وأنها تتولى دون أولئك الملوك إقامة هذه الحدود على أولئك الجناة. وهي فوضى لا يرضى عنها المستر «أرنولد» ولا الفيلسوف «لك».
ولم يبق للمؤلف مخلص سوى أن يقول: إن هذه الآيات نزل بها الأمين على أكمل الخليقة ليتهجد بها الناس، وليرتلوها ترتيلًا!
استهتر المؤلف بمبدأ اللادينية ولم يقنع بأن يجاهد لإعلاء كلمته في الحاضر والمستقبل، حتى صعد نظره إلى الحكومة النبوية وحكومة الخلفاء الراشدين، فرمى الأولى بما رمى، وحاول أن ينزع عن الثانية لباس التقوى، والله يشهد إن أولئك القوم بآياته يوقنون.
كانت حكومة أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — حكومة إسلامية، تحكم بما أنزل الله، وتسير في سياستها على السبيل التي رسمتها حكمته البالغة، والأدلة على ذلك كثيرة، ولنكتف منها بالكتاب العزيز والتاريخ الصحيح.
•••
أما الكتاب فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وفي هذا دليل واضح على أن حكومة أبي بكر — رضي الله عنه — لم تكن من نوع اللاديني؛ إذ الحال الذي ينطبق عليه معنى الآية إنما وقع في عهد خلافته، فإن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي ﷺ إنما قاتلهم أبو بكر بمن معه من الصحابة الأكرمين، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم، وشهد لهم بأنهم يحبونه، ولو كان يحكم بغير ما أنزل الله لكان ظالمًا أو فاسقًا، والله لا يحب الظالمين، ويبغض الفاسقين، وليس لأحد ادعاء أن الآية مسوقة في غير المرتدين بعد وفاة النبي ﷺ؛ فإن تاريخ الإسلام لم يقص علينا أن قومًا قاتلوا المرتدين الموجَّه إليهم خطاب هذه الآية غير أبي بكر وجنده الغالبين.
ومما يشهد بأن حكومة الخلفاء الراشدين دينية إسلامية قوله تعالى: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
فانظر كيف أوجب الله طاعتهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم أو كافر، والله لا ينزل قرآنًا في إطاعة الظالمين أو الكافرين.
فقول المؤلف على حكومة أبي بكر: إنها نوع لا ديني. إنما نشأ عن نظرة لا دينية، فهو إذن قول لا ديني.
•••
قال المؤلف في ص٩٠ يصف الأمة المسلمة في عهد النبوة: «حتى استحالوا أمة واحدة من خير الأمم في زمانهم.»
•••
قال المؤلف في ص٩١: «واستعدوا بمثل ما يستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين.»
لكل شيء سبب، والمسببات تجيء على حسب أسبابها في القوة والغرابة، وتلك الأمة المسلمة بلغت أشدها وبسطت أجنحتها على تلك الممالك المترامية الأطراف لأسباب فوق الاتحاد، وفوق ما بأيديهم من قوة مادية.
وأحد هذه الأسباب اعتقادهم بأنهم يمتثلون أمر الله فيما يفتحون من البلاد، وأنهم يفيضون على العالم هداية وإصلاحًا، وهذا ما يجعلهم على ثبات لا يتزلزل، وإقدام لا يلوي على شيء.
ثانيها: أن حكمة القرآن وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام فتحت بصائرهم فجعلتهم أبعد الأمم نظرًا، وأحكمهم رأيًا، وأنجحهم تدبيرًا.
ثالثها: سمعة عدلهم ولين سياستهم تطير إلى الأمم المحاربة فتكسر من شدة عزمهم في الدفاع، وتخفف عليها أمر الاستسلام لأولئك الهداة الفاتحين.
فارتفاع شأن الأمة الإسلامية لعهد الخلافة الرشيدة له أسباب معتادة وأسباب غريبة؛ ولهذا كانت سيادتهم باهرة في سعة مظهرها، وحكمة نسجها، وسرعة تكونها إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ.
•••
قال المؤلف في ص٩٢: «وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر، تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية، عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف.»
أخذ المؤلف على قلمه ميثاقًا غليظًا، وفرض عليه أن لا يضرب خطوة إلا أن يخالف قرآنًا أو سنة صحيحة أو تاريخًا صادقًا.
جرى عقب وفاة الرسول الأعظم صلوات الله عليه مناقشة في أمر الإمامة كما هو الشأن في كل المسائل المهمة تطرح على بساط المفاوضة، وانتهت هذه المناقشة أو الجدال بمبايعة أبي بكر الصديق، وبعد أن انعقدت له المبايعة على اختيار من أهل الحل والعقد، وتبوأ منصب الخلافة صار له جند وسلاح، وكذلك دين الحق وسياسته الرشيدة تقوم على الحكمة والبيان، ويحرسها السيف والسنان، ولكن المؤلف يخطئ التاريخ الحق، ولا يصيب في فهم ما تقتضيه السنن الكونية.
فقول المؤلف: إن البيعة لأبي بكر قامت على السيف والقوة إنما هو وليد نظرة عجلى، وسقطُ فكر لا يفرق بين من يستولي على الأمة بخيله ورجله، ومن تبايعه الأمة أو جمهورها ثم تكون له جندًا وظهيرًا.
•••
قال المؤلف في ص٩٢: «كانت دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها. أجل، ولعلها كانت في الواقع ذات أثر كبير في أمر تلك الدعوة، وكان لها عمل غير منكور في تحول الإسلام وتطوره، ولكنها على ذلك لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكنت لهم في أقطار الأرض فاستعمروها استعمارًا، واستغلوا خيرها استغلالًا، شأن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار.»
نصوغ من سيرة أبي بكر كلمة يتذكر بها القارئ أن ذلك الخليفة الأتقى إنما كان يعمل لإعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته الغراء، وإذا نال العرب من وراء هذا العمل مصالح دنيوية، فذلك ما لا يبخس من عمله الصالح نقيرًا، ولا يمس نيته الخالصة بسوء.
اعتنق أبو بكر الإسلام عن يقين كفلق الصبح، وإخلاص لا يحوم عليه رياء، أسلم يوم قام النبي ﷺ يدعو إلى دين الحق، وأولئك القوم الغلاظ الشداد ينغضون إليه رءوسهم، ويسومون أتباعه سوء العذاب، أسلم يوم لا يخطر في خيال أحد أنه عليه السلام سيكثر تابعوه ويعتز جانبهم حتى تكون لهم دولة يخضع لسطوتها الجبابرة.
رمى أبو بكر وطنه وراء ظهره، وهاجر رفيقًا لرسول الله ﷺ صابرًا على مضض الاغتراب، ولم يغترب ليستدرَّ عيشًا، أو لينهض من خمول، وإنما هي نفس أشربت إيمانًا صادقًا، وتجردت لنصرة الحق وطمس معالم الباطل ما وجدت لذلك سبيلًا.
صعدت الروح النبوية إلى الرفيق الأعلى، فأخذت الدهشة من الصحابة مأخذًا اضطربت له الأفكار، ونطقت فيه الألسنة بما لا تنطق به في حال وقار وسكينة، فجاء أبو بكر من غيبة قريبة، وخطب بما دل على ثبات جنانه، ورسوخ علمه، فقال: «ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا ﷺ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهُ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.
فكان له في هذا الموقف حكمة أعادت الحائر إلى يقينه، والمضطرب إلى سكينته.
جاء أبو بكر الخلافة إذ كانت له قدرًا، ولم يبسط القوم أيديهم إلى مبايعته ليسوسهم بما يسوس به بعض الملوك رعاياهم من القوانين الوضعية، وإنما قلدوه تلك الرياسة على أن يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله والاجتهاد الذي يلتئم بأصول الشريعة، وعلى أن يقوم بحراسة الدين والدعوة إليه بحكمة وعزيمة.
والأدلة على أنه كان يتحرى في أحكامه وسياسته الكتاب والسنة مبثوثة في كتب السنة والآثار، وبالغة في الكثرة إلى أن يحصل بها علم لا تخالجه ريبة، وأقرب مثل لهذا محاورته لعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على فهم حديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» ولم يقدم أبو بكر على قتالهم حتى التمس الحجة من قوله في الحديث: «إلا بحقها.» وقال: «فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه.»
وإذا كان أبو بكر وغيره من الخلفاء الراشدين يتحرى مقاصد الشريعة، ويسوس الأمة بأصولها، ويحرس الدين من أن تعبث به يد الجهالة أو الأهواء، ويقوم على أمر الدعاية جهد استطاعته، فذلك معنى كون دولته إسلامية، وذلك معنى الخلافة، ولكن بعض الناس لا يفقهون.
•••
يقول المؤلف: «لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب وروجت مصالح العرب، إلخ.»
الذي وقع أن أولئك الخلفاء رفعوا منار الإسلام حتى ضربت أشعته في قلوب أمم كثيرة، وليس من السهل على المؤلف أن يضع على فم التاريخ كمامة، وينكر خدمتهم للإنسانية وإنقاذهم لتلك الأمم من عماية في العقائد، وسماجة في العادات، وجهالة بطرق السياسة الرشيدة، وإذا انجرَّت إلى العرب مصالح وتمكنوا في أقطار الأرض؛ فذلك من أثر قيامهم بالدعوة إلى الدين الحنيف، واعتصامهم بحبل شريعته الحكيمة وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.
ولم يسعَ أولئك الخلفاء لترويج مصالح العرب ولا للتمكين لهم في الأرض؛ فإن من يزهد في الدنيا زهد أبي بكر وعمر فيقنع منه بالثوب المرقع والرغيف الخشن، ويعود إلى منزله بضواحي المدينة ماشيًا على قدميه وهو قادر على أن يتمتع بملاذها كما تتمتع الملوك، لا تحمل مساعيه إلا على مقصد أسمى وأشرف من خدمة القومية وحدها؛ وهو امتثال ما أمر الله به من مد ظلال هذا الدين حتى لا تكون فتنة.
فالمؤلف يريد أن يقبض روح الإخلاص من سيرة الخلفاء الراشدين، ويبخس أعمالهم الجليلة قيمتها. وإذا التقت الضمائر النقية بالتاريخ الصحيح يحدثها بأن أولئك السراة رفعوا لواء الحق، وجدعوا أنف الباطل، فجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وكانوا واسطة عقد القوم المصلحين.
•••
قال المؤلف في ٩٣: «كان معروفًا للمسلمين يومئذ أنهم إنما يُقدمون على إقامة حكومة مدنية دنيوية؛ لذلك استحلوا الخروج عليها والخلاف لها، وهم يعلمون أنهم إنما يختلفون في أمر من أمور الدنيا لا من أمور الدين، وأنهم إنما يتنازعون في شأن سياسي لا يمس دينهم، ولا يزعزع إيمانهم.»
الاختلاف في المسائل العلمية ينشأ من اختلاف الآراء فيما يصلح أو فيمن يليق؛ فقد يتفق الناس على أن الرياسة العامة غير منفصلة عن الدين، ويختلفون في تعيين من يتولاها وكفايته لها اختلافًا ناشئًا عن تفاوت في النظر أو هوى في النفس. ومن شأن المؤمنين التنافس فيما يكون عمله أشق وثوابه عند الله أوفى، فلا عجب أن يقع التنافس في الخلافة، أو لا يرضى أحد عن ولاية شخص بعينه، مع اتفاقهم جميعًا على أنها سياسة ذات صبغة دينية.
•••
قال المؤلف في ص٩٤: «وما زعم أبو بكر ولا غيره من خاصة القوم أن إمارة المسلمين كانت مقامًا دينيًّا، ولا أن الخروج عليها خروج على الدين.»
والخروج على الخليفة بغير حق يعد في نظر الشارع معصية، ولا يسمى خروجًا على الدين إلا إذا صح أن يقال لكل مرتكب جريمة: إنه خارج على الدين، وهم لا يقولونه إلا لمن يرتكب المعصية على عمد واستحلال.