الخلافة الإسلامية
النقض – أبو بكر لا يخادع الناس بالألقاب الدينية – هل يقال «خليفة الله»؟ – الخليفة عند المسلمين غير معصوم – حكم المرتدين في الإسلام – حكم مانعي الزكاة – سبب حروب أهل الردة ومانعي الزكاة – واقعة قتل مالك بن نويرة – محاورة عمر وأبي بكر في قتال مانعي الزكاة – حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب – معنى طاعة الأئمة من طاعة الله – السلطان ظل الله في الأرض – وجه ذكر مسألة الخلافة في علم الكلام – تعسف المؤلف وغلوه في إنكار فضل خلفاء الإسلام وملوكه – معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة – الخلافة والقضاء من الخطط الدينية السياسية – لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تُساس على مُقتضَى شريعتها.
***
ملخصه
ابتدأ الباب بالحديث عن لقب «خليفة رسول الله» وقال: إنه لم يستطع أن يعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترعه، وزعم أن خلافة أبي بكر لرسول الله ﷺ لا معنى لها سوى أنه أصبح كما كان رسول الله ﷺ زعيمًا للعرب ومناط وحدتهم، وتطاول إلى دعوى أن أبا بكر اختار هذا اللقب ليجمع به القوم حوله؛ لأن فيه روعة وعليه جاذبية!
وادعى أن هذا اللقب حمل جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لأبي بكر كانقيادهم لرسول الله ﷺ، وأن الخروج على أبي بكر عند هؤلاء خروج على الدين وارتداد عن الإسلام، وزعم أن محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة لم تكن باسم الدين، وإنما هي السياسة والدفاع عن وحدة العرب، وادعى أن تاريخ تلك الحروب لا يزال مظلمًا، وأن قبسًا لاح من الحقيقة، وهو حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، وذهب إلى أنه نزاع بين مالك المسلم وأبي بكر القرشي، وأنه كان نزاعًا في ملوكية ملك!
وتعرض إلى إنكار عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — على أبي بكر قتاله المرتدين، وعاودته طبيعة التشكيك في المعلوم بالبداهة وقال: لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية جعلته مسئولًا عن أمر من يرتد عن الإسلام أم لا، وزعم أن ظروفًا خاصة بأبي بكر قد ساعدته على خطأ العامة، وسهلت عليهم أن يُشربوا إمارة أبي بكر معنى دينيًّا، وفسَّر هذه الظروف بما كان للصديق — رضي الله عنه — من منزلة ممتازة عند رسول الله ﷺ، ثم ما كان من حذوه حذوَ رسول الله عليه السلام في خاصة نفسه وعامة أموره.
وانساب بعد هذا في الحديث عن السلاطين وترويجهم الاعتقاد بأن الخلافة مقام ديني، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وأصبحت الخلافة تلصق بالمباحث الدينية وجزءًا من عقائد التوحيد، وترامى به التخبط في البحث حتى صاح صيحته الكبرى قائلًا: إن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها!
ثم أشار على المسلمين بأن يهدموا نظامهم العتيق ويبنوا قواعد ملكهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتنِ ما دلَّت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم، ثم أغلق الباب وانصرف شامخًا بأنفه، مُصِرًّا على عناده كأنه لا يؤمن بيوم تنشر فيه صحف ذلك الكتاب ويقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
النقض
قال المؤلف في ص٩٥: «لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر — رضي الله عنه — لقب خليفة رسول الله، ولكنا عرفنا أن أبا بكر قد أجازه وارتضاه.»
خلافة رسول الله ﷺ القيام مقامه في حراسة الدين وسياسة الناس بمقتضى شريعته. وهذا المعنى تحقق في أبي بكر على ما سنوضحه بمكان قريب، ولتحقق معنى الخلافة في أبي بكر أطبق أصحاب رسول الله ﷺ على ندائه وخطابه بهذا اللقب، ولكون خطابهم بهذا اللقب صادقًا رَضِيَ عنه أبو بكر وآثره على أن يُلقَّب بالملك أو السلطان.
فلم يبقَ سوى أننا «لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر — رضي الله عنه — لقب خليفة رسول الله.» وعدم استطاعتنا لأن نعرف ذلك عجز لا نأسف له، وجهل لا يمس تلك التسمية بسوء.
•••
قال المؤلف في ص٩٥: «ووجدنا أنه استهل به كتابه إلى قبائل العرب المرتدة وعهده إلى أمراء الجنود، ولعلهما أول ما كتب أبو بكر، ولعلهما أول ما وصل إلينا محتويًا على ذلك اللقب.»
يريد المؤلف أن يلوح منذ الآن إلى أن هذا اللقب مخترع لاصطياد «الذين رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر.»
•••
قال المؤلف في صحيفة ٩٥: «لا شك في أن رسول الله ﷺ كان زعيمًا للعرب، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل، فإذا قام أبو بكر من بعده ملكًا على العرب، وجماعًا لوحدتهم على الوجه السياسي الحادث؛ فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه بهذا الاعتبار خليفة رسول الله كما يسوغ أن يسمى خليفة بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر كان إذن بهذا المعنى خليفة رسول الله، لا معنى لخلافته غير ذلك.»
لا شك في أن رسول الله ﷺ كان هاديًا للعرب والعجم، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل، فإذا قام أبو بكر من بعده إمامًا للمسلمين، وجماعًا لوحدتهم على الوجه السياسي العادل فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه بهذا الاعتبار خليفة رسول الله كما يسوغ أن يسمى خليفة بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر كان إذن بهذا المعنى خليفة رسول الله، لا معنى لخلافته غير ذلك.
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «ولهذا اللقب روعة، وفيه قوة، وعليه جاذبية، فلا غرو أن يختاره الصديق، وهو الناهض بدولة حادثة يريد أن يضم أطرافها بين أعاصيرَ من الفتن، وزوابعَ من الأهواء العاصفة المتناقضة، وبين قوم حديثي العهد بجاهلية، وفيهم كثير من بقايا العصبية، وشدة البداوة، وصعوبة المراس، لكنهم كانوا حديثي عهد برسول الله ﷺ، والخضوع له، والانقياد التام لكلمته، فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم، ويلين بعض ما استعصى من قيادهم، ولعله قد فعل.»
بحث المسلمون في تاريخ أولئك الرجال المشهود لهم بالصدق فيما يقولون، والإخلاص فيما يفعلون، وقلبوه ظهرًا لبطن فلم يجدوا فيهم من يخادع الناس بالألقاب الدينية، ووجدوا كثيرًا منهم لا ينخدعون لمظاهر المرائين أو بهرج المحتالين، فأبو بكر أفضل من أن يخدع الناس بلقب «خليفة رسول الله»، وأمة فيها مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعقل من أن تنخدع للقب لا ينطبق على معنى في صاحبه، وأتقى لله من أن تترك الألقاب الدينية تُنصب حبائل لاصطياد أغراض دنيوية ورياسة ملكية.
ولو طالع المؤلف تاريخ أولئك الرجال بالعين التي طالع بها كتاب العلامة المستر أرنولد، لعرف أن في نفس الصديق شيئًا فوق «ما تستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين.» وذلك الشيء يقينه بأن الله سيظهر دينه، وأن حركة الارتداد سحابة صيف لا تلبث أن تتقشع. يدرك هذا كل من وقف برهة على حالته النفسية، أو أطل عليها من الكلمات التي كانت تصدر عنه في ذلك الشأن.
فالذي بلغت به قوة الإيمان هذا المبلغ العظيم لا يحق لأحد أن يرميَه باختراع لقب ديني؛ لينتفع به في تكوين دولة لا دينية.
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «ولقد حسب نفر منهم أن خلافة أبي بكر للرسول ﷺ خلافة حقيقية بكل معناها، فقالوا: إن أبا بكر خليفة محمد، وكان محمد خليفة الله، فذهبوا يدعون أبا بكر خليفة الله، وما كانوا يكونون مخطئين في ذلك لو أن خلافة الصديق للنبي عليه السلام كانت على المعنى الذي فهموه ولا يزال يفهمه كثير غيرهم إلى الآن، ولكن أبا بكر غضب لهذا اللقب، وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله.»
فإذا غضب أبو بكر من تسميته «خليفة الله»؛ فلأنه لا يجوز إطلاقه على مخلوق، أو لأنه لقب لا يستحقه إلا نبي أو رسول.
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «حمل ذلك اللقب جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لإمارة أبي بكر انقيادًا دينيًّا، كانقيادهم لرسول الله ﷺ، وأن يرعوا مقامه الملوكي بما يجب أن يرعوا به كل ما يمس دينهم.»
يعرف المسلمون — سلفهم وخلفهم — أن في الوحي الذي نزل به الروح الأمين على أكمل الخليقة عقائد وآدابًا ومبادئ حكمٍ وسياسة، وأن أبا بكر استحق اسم خليفة رسول الله من أجل حراسته لهذه العقائد والآداب، وأخذه في سياسة الأمة بتلك المبادئ، ولقيامه على هذه الوظيفة بأمانة وحزم كان جديرًا بذلك الانقياد الذي هو في الحقيقة انقياد للشريعة السماوية. وما كانوا ينقادون له انقيادهم لرسول الله ﷺ؛ فإن جميعهم يعلم أن حجرته لم تكن مهبط وحي، وأنه لم يكن بالمعصوم الذي يصيب في كل أمر ونهي، فالخليفة «عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة.»
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «لذلك كان الخروج على أبي بكر في رأيهم خروجًا على الدين وارتدادًا عن الإسلام، والراجح عندنا أن ذلك هو منشأ قولهم: إن الذين رفضوا طاعة أبي بكر كانوا مرتدين، وتسميتهم حروب أبي بكر معهم حروب الردة. ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله، بل كان فيهم من بقي على إسلامه، ولكنه رفض أن ينضم إلى وحدة أبي بكر لسبب ما، من غير أن يرى في ذلك حرجًا عليه، ولا غضاضة في دينه، وما كان هؤلاء من غير شك مرتدين، وما كانت محاربتهم لتكون باسم الدين، فإن كان ولا بد من حربهم فإنما هي السياسة والدفاع عن وحدة العرب، والذود عن دولتهم.»
زعم المؤلف أن الخروج على أبي بكر عند جماعة من العرب والمسلمين خروج على الدين وارتداد عن الإسلام، وزعم أن محاربة أبي بكر لهم لم تكن باسم الدين، وكلا الزعمين من الصور التي يضعها المؤلف في هيئة الحق، وينفخ فيها من روح الباطل، ثم يرسلها على النفوس الزاكية؛ لتخمش وجه عقائدها وآدابها.
ومن أجرأ تلك الجمل قوله: «ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله.» كأنه يريد أن يجعل عدم ارتداد جميعهم رأيًا ظهر له وحده، مع أن علماء الآثار والتاريخ يقولون: إن من قاتلهم أبو بكر طائفتان: طائفة تبدلت الكفر بعد الإيمان، وهؤلاء المرتدون، وأخرى قالت: نقوم بشرائع الإسلام إلا الزكاة، وهؤلاء يسمونهم «مانعي الزكاة»، وهم الذين عارض الفاروق لأول الأمر في قتالهم.
وأما أن محاربة أبي بكر في سبيل الدين ووحدة المسلمين؛ فلأنه قاتل فرقتين يوجب عليه الدين أن يقاتلهما، وهما أهل الردة ومانعو الزكاة.
أما أهل الردة فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، ولقتال المرتد حِكَمٌ، منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم، والذي نعلم أن المشاهدة الطويلة والتجارب الصادقة أرتنا أن أشد الطوائف عداوة للأمة الإسلامية، وأحرصهم على محاربة الدين بما ملكوا من كيد وتضليل هم الذين جاهروا بالخروج على الدين، وناصبوه العداء بعد أن كانوا يسمون أنفسهم المسلمين، ودل الاختبار الصحيح على أن المرتد عن الدين لا يمشي إلا مكبًّا على وجهه، فلا يرعى للفضيلة عهدًا، ولا للناس حقًّا، ولا ترى له من شأن سوى أن يقذف في طريق تقدم الإنسان وانتظام حال الاجتماع سمومًا قاتلة للعفاف والسكينة، وكذلك يجب إماطة الأذى عن الطريق.
وأما مانعو الزكاة فإن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضًا، وعين لهذا النصيب مصارفَ، ومن هذه المصارف ما يرجع إلى مصالحَ عامةٍ، كالاستعداد لمحاربة الأعداء المشار إليها بقوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللهِ، ومنها ما يرجع إلى مصالح أفراد غير معينين؛ كالفقراء والمساكين، وعلى كل حال فللإمام النظر في هذا النصيب المفروض، وله الحق في جبايته وصرفه في وجوهه المشروعة، وإذا امتنع الغني من دفع ما فرضه الله عليه وجب على صاحب الدولة انتزاعه منه ولو بالقوة، وإذا أشهر السلاح جاز قتاله، وكذلك كان قتال أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — لمانعي الزكاة.
•••
قال المؤلف في ص٩٧: «كم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه كلما حاولنا أن نبحث جيدًا فيما رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر فلقبوا المرتدين، وعن حروبهم تلك التي لقبوها حروب الردة.»
لم يكن في تاريخ تلك الحروب ظلمة، ولا في محاربة أبي بكر لمن لقبوا المرتدين ظلم، وحقيقة الحال أنه عندما ذاع نبأ وفاة النبي ﷺ في أنحاء الجزيرة رفع المضللون رءوسهم ونشطوا لإلقاء الوساوس في قلوب السُّذج من الأعراب، وأخذ الذين انحشروا في الإسلام رياء يعودون إلى جاهليتهم، فأصبح العرب على ثلاث طوائف: طائفة استمرت على إسلامها الخالص، وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإسلام كذلك إلا أنها جحدت الزكاة على زعم أنها خاصة بزمن النبي ﷺ، وهؤلاء كثير، ولكنهم أقل من الطائفة الأولى عددًا، وثالثة الطوائف انسلخت من الإسلام وجاهرت بالردة، وهي قليلة بالنظر إلى جاحدي الزكاة وحدها.
ذهب الذين ارتدوا في طغيانهم يعمهون، وأرسل منكرو الزكاة وفودًا إلى المدينة المنورة؛ ليفاوضوا أبا بكر — رضي الله عنه — حتى يقرهم على بدعتهم، فأبى لهم ذلك، وصمم على مقاتلتهم إذا هم ظلوا في جهالتهم يتردَّدون.
•••
قال المؤلف في ص٩٨: «دونك حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، أحد أولئك الذين سموهم مرتدين، وهو الذي أمر خالد فضربتْ عنقُه، ثم أخذت رأسه بعد ذلك فجعلت أثفية لقدر. يعلن مالك في صراحة واضحة إلى خالد أنه لا يزال على الإسلام، ولكنه لا يؤدي الزكاة إلى صاحب خالد «أبي بكر». كان ذلك إذن نزاعًا غير ديني، كان نزاعًا بين مالك المسلم الثابت على دينه؛ ولكنه من تميم، وبين أبي بكر القرشي الناهض بدولة عربية أئمتها من قريش، كان نزاعًا في ملوكية ملك لا في قواعد دين ولا في أصول إيمان.»
يقول المؤلف فيما سلف: «إن في فن التاريخ خطأ كثيرًا، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالًا كبيرًا!»
هذا ما يحكيه ابن خلدون، وهو خلاصة ما رواه ابن جرير الطبري وغيره، ويتلخص منه أن في قتل مالك روايتين؛ إحداهما: أن قتله وقع خطأ من جندي لا شأن له إلا أن ينفذ ما يأمر به رئيسه الأعلى.
ثانيتهما: أن خالدًا قتله لكلام دل على أنه لا يعترف بخلافة أبي بكر. وقد رأيت كيف أعرض المؤلف عن الرواية الأولى لأنها لا توافق ما يخالط نفسه «من عواطف وشهوات».
ولنساير المؤلف في هذه الرواية الراجحة عنده، ونبحث فيها من وجهين: هل كان خالد محقًّا في قتل مالك بن نويرة أم لا؟ وهل ما فعله الصديق من معذرة خالد صواب أم لا؟
الجواب عن السؤال الأول: أن كلًّا من عمر بن الخطاب وأبي بكر يرى أن خالدًا مخطئ في قتل مالك بن نويرة، غير أن عمر بن الخطاب رأى أن خالدًا قتله عمدًا بغير حق فيؤخذ بالقصاص، وأبا بكر رأى بعد أن اجتمع بخالد أنه قتله على خطأ في التأويل؛ ولهذا دفع أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — إلى أولياء القتلى دياتهم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن كل أحد، أستاذًا كان في السياسة أو تلميذًا، يعلم أن لوقت الحرب أحكامًا غير أحكام وقت السلم، فالإمام يتصرف في شئون الحرب على ما يقتضيه التدبير الناجح، ويتطلبه الانتصار الفاصل. ومن المتعين على الإمام أن يعطي لأمير الجيش الذي وثق بكفايته سلطة واسعة، وكذلك فعل أبو بكر عندما وضع لواء الإمارة في يد خالد. وكان لخالد الأثر العظيم في إطفاء فتنة المرتدين وإخماد ثورة المنشقين، وإنما وقعت منه هذه الحادثة؛ قتل مالك بن نويرة، على الرواية المختارة لدى المؤلف، وأبدى عذرًا يجعله متأولًا في قتله، فمن السياسة الشرعية أن يقول أبو بكر: «ما كنت أقتله؛ فإنه تأوَّل فأخطأ.»
وما ادعاه المؤلف من أن النزاع بين مالك التميمي وأبي بكر القرشي نزاع في ملوكية ملك لا في قواعد دين، فأمر اشتهته نفسه ولذَّه قلمه، والواقع أن أبا بكر «خليفة رسول الله» كان يدعو مالكًا المسلم لإقامة قاعدة من قواعد الدين؛ وهي الزكاة، ومالك المسلم يأبى إقامة هذه القاعدة، ومما يدخل في وظيفة أبي بكر أن يحمل كل طائفة مسلمة على إقامة القواعد الشرعية، ومما يدخل في وظيفته أن يجمع شمل المسلمين تحت راية واحدة.
ولو كان للمؤلف ذوق في الإسلام وإنصاف للتاريخ لقدر نتيجة تلك الحروب حق قدرها، واعترف بما كان لها من فضل على العالم أجمع، فإنها الوسيلة لإحكام عُرى دولة إسلامية خدمت حقوق الإنسان، ورفعت منار العلم، وأرت الناس المساواة والحرية في أحسن تقويم.
•••
قال المؤلف في ص٩٩: «ثم ألسنا نقرأ في التاريخ أيضًا: أن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قد أنكر على أبي بكر قتاله المرتدين وقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟!»
•••
قال المؤلف في ص١٠٠: «لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية صرفة جعلته مسئولًا عن أمر من يرتد عن الإسلام أم لا.»
لأبي بكر صفة دينية سياسية جعلته مسئولًا عن أمر من يعلن الردة عن الإسلام، وقد أوفى بعهد الخلافة، وألقى عن عاتقه عبء هذه المسئولية، فحمى الجزيرة من وباء الردة، وطهرها من رجس الجاهلية، فأصبحت أمة مسلمة قوية الحجة، بديعة الحكمة: إذا حاربت ظفرت، وإذا حكمت عدلت.
ولولا أن أبا بكر فصد عرقًا ارتجف في جسم الأمة بدم فاسد لانحرف مزاجها، واختل نظامها، ولم يجد الخلفاء من بعده أساسًا يقيمون عليه سياستهم العادلة.
•••
قال المؤلف في ص١٠٢: «حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.»
•••
قال المؤلف في ص١٠٢: «بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه، وظله الممدود على عباده. سبحان الله وتعالى عما يشركون!»
ينكر المؤلف أن يقال: «السلطان ظل الله.» ويشير إلى أنه من الشرك، مع أنه ورد «السلطان ظل الله في الأرض.» في أحاديثَ تُرفع إلى النبي ﷺ، وهي مروية بطرق متعددة؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف. تجد هذه الأحاديث في الكتب المتداولة كالجامع الصغير وغيره.
فإن كان المؤلف لا يدري أن هذه الكلمة «السلطان ظل الله في الأرض.» جاءت في الأحاديث النبوية؛ فقد ألقى بنفسه في بحث ديني وهو لا يملك من وسائله سوى القلم والدواة، وإن كان قد اطلع على أنها وردت في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله ﷺ؛ فليس من شأن العالِم المُحقِّق أن يعدَّها من أثر الشرك إلا بعد أن يفحصها بطريق علمي وينقيها من الأحاديث النبوية.
ولا شبهة للمؤلف في إنكار أن يقال: «السلطان ظل الله.» فإن معناه صحيح، وحكمته ملموسة باليد؛ إذ الكلام وارد على سبيل التشبيه، ووجه تشبيه السلطان بالظل أن الناس يحتمون به من الظلم والأذى، كما يأوون إلى الظل تفاديًا من حر الشمس، ولا يكون السلطان ظلًّا ينسب إلى الله إلا إذا كان يسوس الناس بعدل وحكمة.
•••
قال المؤلف في ص١٠٢: «ثم إذا الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءًا من عقائد التوحيد يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.»
يقول علماء الكلام بأصرح عبارة وأجلى بيان: إن مبحث الخلافة من الأحكام الفرعية، وليست من العقائد في شيء، ويُبدون لوضعها عقب مسائل الكلام عذرًا بيِّنًا، قال الكمال بن أبي شريف في حواشي السعد على العقائد النسفية: «والتحقيق أن مباحث الإمامة من الفقهيات، لكن لما شاع بين الناس اعتقادات فاسدة، وظهر من أهل البدع والأهواء تعصبات فيها تكاد تفضي إلى رفض كثير من العقائد الإسلامية، ونقض بعض العقائد الدينية، والقدح في الخلفاء الراشدين، أُلحِقت تلك المباحث بالكلام، وجُعلت من مقاصده.»
فهذا وما نقلناه [في الفصل الثاني] من كلام السعد في شرح المقاصد، والسيد في شرح المواقف، يشهد لكم بأن علماء الإسلام يصرحون بأن الإمامة ليست من العقائد، وإنما أوردها بعضهم في علم الكلام للوجه الذي قرره السعد والسيد والكمال، فما ينبغي للمؤلف أن يرمي أولئك العلماء بأنهم جعلوا مبحث الخلافة جزءًا من عقائد التوحيد، ويضع للبحث صورة مشوهة كأنه يصوِّت في وادٍ لا ينبت إلا أغبياء أو جهالًا!
•••
قال المؤلف في ص١٠٢: «تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، أضلوهم عن الهدى، وعَمَّوا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرَّموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا، حتى في مسائل الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة. وقد ضيقوا عليهم أيضًا في فهم الدين، وحجروا عليهم في دوائرَ عينوها لهم، ثم حرموا عليهم كل أبواب العلم التي تمس حظائر الخلافة.»
اندفع قلم المؤلف ينقر بشوكته في أساس الإسلام ليجرده من جميع مميزاته، ويخرجه عن فطرته، حتى إذا أصبح دينًا ضئيلًا خاملًا اندمج في الملة التي افتتن المؤلف بتقاليدها.
اخترع للخلفاء الراشدين تاريخًا غير التاريخ الذي يحكيه علماء التاريخ والآثار، وحشر في هذا التاريخ المخترع فلسفة المتهالك على أن يقطع صلة أصحاب رسول الله ﷺ بالإسلام إلا أن تكون صلاة أو صيامًا.
ذلك القلم الذي انتهك حرمة الشريعة، وساعده أدبه على أن يضع لتاريخ أولئك العظماء صورة مزورة، هو الذي يحثو على سمعك تلك الجمل التي يهجو بها خلفاء الإسلام وملوكه من غير استثناء.
نحن نعلم أن في بعض خلفاء الإسلام وملوكه استبدادًا وسيرًا بالأمة إلى وراء، ولكن الذي عرف أن في الفضائل فضيلة يقال لها: الأمانة، وأن فيما يدرسه الأطفال علمًا يقال له: التاريخ، لا يسمح لقلمه أن يلتقط من بين مآثرهم الفاخرة الخالدة سيئات يضيف إليها ما يقرؤه في لوح عواطفه وشهواته، ثم ينظم ذلك كله في خيط ويقول للناس: خذوا سيرة خلفائكم وملوككم.
لم يحكِ التاريخ أن خلفاء الإسلام وملوكه حرَّموا على الناس النظر في علوم السياسة، أو حرموا عليهم بابًا من أبواب العلم التي تمس حظائرَ الخلافة، بل كان الناس يؤلفون الكتب في السياسة فيتلقونها منهم بكل طمأنينة وارتياح، وترى كثيرًا منهم كانوا يظهرون بمظهر الحكمة والرصانة، ويطلقون لدعاة الإصلاح حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانوا يقرعون أسماعهم بالإنكار على ما يصدر عنهم من تصرفات غير لائقة، فيحتملونها بروية وأناة، وربما قابلوها بالشكر والإقلاع.
يقول المؤلف: «وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا، حتى في مسائل الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة.»
هذا كله رجم بجهالة، ورمي بسهام خاسئة؛ فإن القوانين التي يفصل بها بين المتخاصمين لا مرجع لها سوى أصول الدين مع مراعاة مقتضيات الأحوال، وأما الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة فشرط الدين فيها أن تكون دائرة على المصلحة، ملائمة للآداب التي شرعها. أما الطرق التي تؤخذ لاتباع الأصلح واللائق فإنها موكولة إلى نظر أولي الأمر، فيستنبطونها من عقولهم أو تجاربهم، أو يقتدون فيها بصنيع غيرهم. وهذا هو المبدأ الذي يعرفه العلماء، ويسير عليه خلفاء الإسلام وملوكه، غير أنهم يتفاوتون في القيام عليه، فمنهم من يمشى فيه على صراط سويٍّ، ومنهم مَن يخلُّ به في بعض تصرفاته فينحرف عنه إلى اليمين أو إلى اليسار.
ومجمل القول أن انسياب المؤلف في الطعن على خلفاء الإسلام وملوكه بهذه اللهجة التي قرأتم أو سمعتم، أوضح مثال وأصدق شاهد على أنه لا يكتب عن علم وروية وأمانة، بل يكتب عن شهوة وعاطفة غير إسلامية وغير عربية.
•••
قال المؤلف في ص١٠٣: «والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.»
أتى المؤلف بهذه الكلمات كالنتيجة للأبواب التسعة وما حشاها به من شبه ومزاعمَ، وقد نبهنا على منشأ هذه الشبه والمزاعم فتخاذل أمرها وذهبت جفاء.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على ما حاول الطعن به في أدلة الخلافة، وقد عرفت أن الخلافة من الأحكام العملية التي يكتفى فيها بدلالة حديث أو قاعدة أو إجماع، وقد قامت هذه الأدلة الثلاثة: السنة والقواعد والإجماع على وجوب نصب الخليفة، فكانت الخلافة ثابتة بما يفيد علمًا قاطعًا.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي ﷺ لم يولِّ على الناس من يقوم بالحكم فيما ينشب بينهم من الخصومات، وقد سقنا إليكم الروايات الصحيحة على أن القضاء كان داخلًا فيما يناط بعهدة الأمراء، وأن من الروايات ما نُصَّ فيه على القضاء باسمه الخاص؛ كحديث علي وعمر ومعاذ — رضي الله عنهم.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن ما شرعه الإسلام من أنظمةٍ وقواعدَ وآدابٍ لم يكن في شيء قليل ولا كثير من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وأنه لا يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما يلزم لدولة مدنية، وقد أريناك أن قواعد الإسلام وأنظمته قائمة على رعاية المصالح التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، فيصيبونها تارة، ويخطئونها تارة أخرى، وأن الواقف على روح التشريع الإسلامي يرى عين اليقين أنه يوافق طبيعة كل زمان ومكان، وأنه لا يهمل مصلحة يقتضيها حال شعب من الشعوب، ولكن المؤلف «من أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة.» ولقد كان علمه بأساليب الحكم السياسي وأنظمة الدول المدنية يشابه علمه بأنظمة الإسلام وقواعده وآدابه، ولكون بضاعته في العلم والسياسة مزجاة خرج كتابه مزيجًا من آراء دينية وأخرى سياسية، فابتسم من نوادرها رجال العلم ازدراءً، ونغض إليها السياسيون برءوسهم هزءًا.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن حكومة أبي بكر كانت لا دينية، وقد سقنا لكم الدليل إثر الدليل على أن أبا بكر — رضي الله عنه — لم يكن ظالمًا ولا فاسقًا ولا كافرًا، وأنه كان يحكم بكتاب الله أو سنة رسول الله، فإن لم يجد نصًّا في الكتاب والسنة استشار العلماء من أصحاب رسول الله ﷺ، وأخذ بالرأي الذي يرشده روح التشريع إلى أنه قول الحق.
فدعوى المؤلف «أن الخلافة والقضاء وغيرهما ليست في شيء من الخطط الدينية، وأن الدين لم يعرفها ولم ينكرها.» هي من سلالة آراء لا دينية، فلا دليل يركن إليها، ولا شبهة ظن تقوم بجانبها.
•••
قال المؤلف في ص١٠٣: «لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.»
ليس في الإسلام نظام عتيق يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وليس في الإسلام نظام عتيق يُعد الخاضع له مهانًا أو ذليلًا، وإن في أصول شريعتهم ما يثمر لهم قوانينَ تفوق قوانينَ البشر، وتأخذ بمصالحهم أخذ حكيم مقتدر.
فالمسلمون حقًّا لا بد أن يكونوا أرجح عقولًا، وأرفع هممًا من أن يسلوا أيديهم من أصول شريعتهم الفسيحة المجال، الناسجة على أحكم مثال، ويضعوها في تقليد أمم ليسوا بأصوب نظرًا، ولا أدرى بالمصلحة.
فنصوص الشريعة متضافرة على أن الرياسة العامة وما يتفرع عليها من نحو القضاءِ خططٌ دينية سياسية، فصاحب الدولة إذا ساس الناس بمقتضى نظر الشريعة كانت سياسته قيمة، وسمي عند الله عادلًا، فإن خرج في سياسته عن النظر الشرعي أصبح مسئولًا بين يدي الأمة في الدنيا، ومؤاخذًا بها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والقاضي إذا صاغ حكمه على أصول الشريعة كان قضاؤه صحيحًا، ووجب الإذعان له في السر والعلانية؛ فإن استند حكمه إلى قانون ما أنزل الله به من سلطان كان حكمًا جائرًا، ولا يحتمله المسلم إلا أن يوضع عليه بيد قاهرة.
وإذا كانت القوانين الوضعية لا يخضع لها المسلمون بقلوبهم، ولا يتلقون القضاء القائم عليها بتسليم كان تقريرها للفصل بينهم غير مطابق لقاعدة الحرية؛ إذ المعروف أن الأمة الحرة هي التي تساس بقوانينَ ونظمٍ تألفها، وتكون على وفق إرادتها أو إرادة جمهورها.
فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تساس بقوانينَ ونظمٍ يراعى فيها أصول شريعتها، وكل قوة تضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها فهي حكومة مستبدة غير عادلة.
فالذين ينقلون قوانينَ وضعها سكان رومة أو لندرة أو باريز أو برلين، ويحاولون إجراءها في بلاد شرقية كتونس أو مصر أو الشام، إنما هم قوم لا يدرون أن بين أيديهم قواعدَ شريعةٍ تنزل من أفق لا تدب فيه عناكب الخيال أو الضلال، وأن في هذه القواعد ما يحيط بمصالح الأمة حفظًا، ويسير بها في سبيل المدنية الراقية عَنَقًا فسيحًا.
ولو قيض الله للشعوب الإسلامية رؤساء يحافظون على قاعدة حرية الأمم، لألَّفوا لجانًا ممن وقفوا على روح التشريع الإسلامي وكانوا على بصيرة من أحوال الاجتماع ومقتضيات العصر، وناطوا بعهدتهم تدوين قانون يقتبس من أصول الشريعة، ويراعى فيه قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. وبغير هذا العمل لا يملك المسلمون أساس حريتهم، ولا يسيرون في سبيل سعادتهم آمنين.
قام في زمن قريب بعض من تخبطه الجهل والغرور، وصاح في وجه حكومة شعب مسلم صيحة المعربد، منكرًا عليها ما قررته في قانونها الأساسي من جعل الإسلام دينًا رسميًّا للدولة. وقد ردد المؤلف في نتيجة أبوابه التسعة هذه الصيحة؛ إذ حاول أن يقطع الصلة بين الدين والسياسة، ويحارب آداب الإسلام القاعدة للإباحية الفاسقة في كل مرصد، ولكن الفرق بين ذلك الصائح وهذا الصدى: أن الأول وثب على المسألة وثوبَ أهبل لا يعرف يمينه من شماله، أما المؤلف فقد أدرك أن الأمة مسلمة، وأن الإسلام دين وشريعة وسياسة، وأن هاتين الحقيقتين يقضيان على الدولة أن تضع سياستها في صبغة إسلامية، فبدا له أن يعالج المسألة بيد الكيد والمخاتلة، ويأتيها باسم العلم والدين، فكان من حذقه أن التقط تلك الآراء الساقطة وخلطها بتلك الشبه التي يخزي بعضها بعضًا، وأخرجها كتابًا يحمل سمومًا لو تجرعها المسلمون لتبدلُّوا الكفر بالإيمان، والشقاء بالسعادة، والذلة بالعزة وَلِلَه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ.