رصاص وظلام …!
اقترب وجه الرجل من وجه «عثمان» وكانت فرصة الشيطان الأسمر، فسرعان ما اندفعت أصابعه إلى عينَي الرجل الذي صرخ وهو يبعد رأسه، فخفَّ ضغط يدَيه على رقبة «عثمان»، فأخذ «عثمان» نفسًا عميقًا ثم التوى كالثعبان، ورفع ساقيه، وهبط بهما على رقبة الرجل كالقيد الحديدي وأخذ كلٌّ منهما يمارس الضغط على الآخر، وكأنهما ثعبانان يحاول كلٌّ منهما خنق الآخر!
وأخذا يتدحرجان على الأرض، وفجأة فُتحت إحدى النوافذ، وسقط الضوء عليهما وهما يتدحرجان، وسمعا صوتَ سيدةٍ تستغيث وأقدامٍ تجري، فترك كلٌّ منهما الآخر، وجريا … وخلفهما يرتفع صياح سيدة: لصوص … لصوص!
غاص «عثمان» في الحارة، بينما اتجه الرجل إلى الشارع المضاء، وخلفه عدد من السكان يجرون ويصيحون، وظل «عثمان» يجري من حارةٍ إلى حارةٍ دون أن يدري أين هو حتى وجد نفسه في شارع كبير تملؤه الأضواء والسيارات والمارة … ونظر إلى اللافتة «شارع الجيش» ودُهش، كيف وصل من أعماق حي الحسين إلى هذا الشارع الذي يربط ميدان العتبة والعباسية!
اقترب «عثمان» من أحد المحلات وطلب استخدام التليفون، واتصل ﺑ «أحمد» الذي سرعان ما ردَّ عليه … قال «عثمان»: ألم يحضر أحدٌ من الشياطين؟
أحمد: نعم.
عثمان: لقد وقعَت عدة أحداث هامة.
أحمد: هل أنتم بخير؟
عثمان: أعتقد هذا … المهم أننا عثرنا على أحدهم.
أحمد: عظيم … هل تبعتموه؟
عثمان: سأحضر إليك الآن لأرويَ لك التفاصيل، لقد فقدتُ أثر بقية الشياطين، ولا أظن أني أستطيع العثور عليهم.
ووضع «عثمان» السماعة، ثم أضاع بعض الوقت في البحث عن تاكسي، وبعد نحو ساعةٍ كان يفتح باب المقر السري ولم يكد يدخل حتى وجد «إلهام» تجلس مع «أحمد» وقد وضعا على المائدة بينهما قطعة صغيرة من الورق يفحصانها باهتمام …
صاح «عثمان»: «إلهام!»
إلهام: «عثمان!» … الحمد لله أنك بخير … لقد أخبرني «أحمد» أنك اتصلت به منذ نحو ساعة.
عثمان: ماذا فعلتِ؟
إلهام: وجدت نفسي مطاردة من الرجل، وعرفت أنك ستتبعنا فبذلت كل ما بوسعي للاختفاء … ووجدت أمامي مطعمًا كبيرًا فدخلت، واخترت ركنًا مظلمًا وبقيت هناك فترة ثم حضرت.
عثمان: هل وجدتما شيئًا مفيدًا في الورقة؟
أحمد: ليس بعد … إنها ورقةٌ رقيقة جدًّا، والكتابة التي عليها دقيقة وقد مُسحت تقريبًا، ولكننا سنعالجها، وسنراها ﺑ «البروجكتر»!
وقالت «إلهام» موجهةً الكلام إلى «عثمان»: أليس عندك أية فكرة عن مكان «زبيدة» و«خالد»؟
عثمان: مطلقًا، كل ما أعرفه أنهما تبعا «ستريت» بعد أن غادر المقهى …
وفي هذه الأثناء كان «خالد» و«زبيدة» يمرَّان بمأزق خطير، لقد تبعا «ستريت» الذي غادر المقهى ثم اتجه ناحية «الباطنية» الحي القديم الذي يلجأ إليه بعض الهاربين من القانون، وتجَّار المخدرات … والذي يعتبر الدخول فيه لمن لا يعرفه خطرًا …
ولم يكن «خالد» ولا «زبيدة» خبيرَيْن بهذه الناحية من المدينة؛ لهذا لم يترددا في متابعة «ستريت» وهو يسير في طريقه داخل حارات الحي الضيقة، التي ترتفع أحيانًا عشرات الأمتار ثم تنخفض حتى تصل إلى مستوى الكهوف … كانا يسيران بجانب الجدران، محاولين ألا يحسَّ بهما «ستريت» حتى وصل «ستريت» إلى مدخل بيت قديم، فوقف لحظات ينظر حوله، ثم دقَّ الباب ثلاث دقات متصلة، ثم ثلاث دقات متفرقة … وفُتح الباب وهو يحدث صريرًا مخيفًا، ودخل «ستريت» وأغلق الباب خلفه … وانتظر «خالد» و«زبيدة» فترةً طويلة ثم قال «خالد»: سأحاول الدخول …
زبيدة: من الأفضل أن نستمر في المراقبة، فمن الصعب دخول هذه المنازل القديمة التي تطرقع أخشابها إذا اقتربت منها، ثم إنك لست مسلَّحًا.
خالد: معي بعض الأدوات الدقيقة، وخنجرٌ مربوط على الساق.
وتحرَّك «خالد» واقترب من المنزل القديم، ثم مد يده فأخرج كيس أدواته الدقيقة، وأخذ يعالج بحذرٍ شديد نافذة في الدور الأرضي، بينما كانت «زبيدة» رابضة في الظلام تراقب الحارة المظلمة الساكنة … ونجح «خالد» في فتح النافذة دون إحداث صوت يلفت الأنظار، ثم أشار «لزبيدة» أن تبقى مكانها، ودخل من النافذة وأغلقها خلفه … وفي هذه اللحظة سمعت «زبيدة» طلقة رصاص لم تستطع تحديد مصدرها ثم انهالت الطلقات وسمعت صياحًا من أماكن متعددة، ثم سمعت صوت أقدام تجري في كل اتجاه … ولم تدرِ ماذا تفعل، وقبل أن تتحرك من مكانها، فُتح باب المنزل القديم وظهر رجل يحمل مدفعًا رشاشًا، أطلق منه دفعة أضاءت الشارع كالصواريخ، وألقت «زبيدة» بنفسها على الأرض. وفي هذه اللحظة لمعت كشافات قوية أضاءت المكان، وصاح صوت سيدة: الشرطة …
أدركت «زبيدة» على الفور أن رجال الشرطة يهاجمون المكان، بحثًا عن لص هارب أو تاجر من تجار الأسلحة المهربة أو المخدرات، وأن معركة حامية سوف تقع حالًا، وأن عليها أن تتصرف … وكان الرجل الذي أطلق المدفع الرشاش قد بدأ يجري في الحارة، وترك باب المنزل القديم مفتوحًا، ولم تتردد «زبيدة» فاندفعَت جارية عبر الحارة ودخلت المنزل، وأغلقت الباب خلفها …
سارت «زبيدة» في دهليز طويلٍ مظلم، حتى إذا سمعت أصوات بعض المتحدثين توقَّفت، وأخذت تستمع … كان أحدهم يقول: لا تخش شيئًا … إن الشرطة لا تستطيع أن تصل إلى هنا مطلقًا!
قال آخر: على كل حال لننزل في النفق تحت الأرض.
عاد الأول يقول: وماذا نفعل بهذا الولد؟
وأدركت «زبيدة» أن «خالد» قد وقع في مشكلة، وسمعت صوت الرجل الثاني يجيب: اضربه بالرصاص … فنحن لا نعرف من هو، ولعله أحد مخبري الشرطة!
أسرعت «زبيدة» إلى أقرب مكانٍ لترى ما يحدث … شاهدت «ستريت» ومعه رجل آخر ينزلان في نفق له باب في مستوى الأرض، وشاهدت «خالد» ملقًى على الأرض مغمى عليه، و«رجلًا» يمسك بمسدس.
وقال ذو المسدس: اذهبا أنتما، وسألحق بكما بعد الخلاص من هذا الولد.
واختفى «ستريت» والرجل الآخر في النفق ودار ذو المسدس ليواجه «خالد» وهو يرفع مسدسه. وفي اللحظة التي رفع فيها المسدس ليطلق الرصاص على «خالد»، كانت «زبيدة» قد طارَت في الهواء في قفزةٍ واسعة، وأصابَت وجه الرجل بضربةٍ قاسيةٍ من قدمها فسقط على الأرض، ووَقَع المسدس من يده واندفع إلى جانب الجدار.
استعاد الرجل توازنه سريعًا، ووقف وهو يسبُّ ويلعن وشاهد أمامه فتاة صغيرة حسناء هي التي ضربته، فصاح بها: من أنتِ أيتها الملعونة؟!
ودون كلمة واحدة، شاهد الفتاة الصغيرة تقفز مرة أخرى، وتصيبه بضربة على رقبته قطعت عنه الهواء، ثم لوت ذراعه فاضطر أن يلف معها وهي تديره كالكرة، ثم تقفز به إلى الجدار فيرتطم به ويسقط كجوال التبن … ومن المؤكد أن الرجل لم يشهد في حياته شيئًا مثل الذي حدث له وهو ينهار على الأرض، بينما اندفعت «زبيدة» إلى «خالد» … كان من الواضح أنه تلقَّى ضربة قاسية على رأسه، ولكن قبل أن تصل إليه، كان وجه رجل كريه المنظر يطلُّ عليها من النفق، وهو لا يصدق عينيه لما يحدث في الغرفة، وكان عليها أن تتصرف سريعًا، وبقفزة واحدة وصلت إلى المسدس، ورفعته وأطلقت النار، ولكن الرجل اختفى قبل أن تُصيبه الطلقة، ثم أغلق باب النفق الثقيل خلفه.
أسرعت «زبيدة» إلى «خالد» وكان قد بدأ يفيق من إغمائه، فنظر إليها وابتسم رغم آلامه فقالت: هيا بنا.
خالد: ماذا حدث؟
زبيدة: حكاية طويلة … المهم الآن أن نخرج من هنا لقد نزلوا في النفق، ولكن قد يعودون في أية لحظة، اعتمد على ذراعي.
وقف «خالد» مترنحًا، واستند على ذراع «زبيدة» وأخذا يسيران في بطء خلال الدهليز الطويل، وما زالت «زبيدة» تحمل المسدس في يدها حتى وصلا إلى الحارة …
كانت ثمة أصواتٌ كثيرة، وطلقات رصاص متفرقة تأتي من أماكن متعددة في المنطقة، فأخذا يسيران بجوار جدران المنازل … وفجأة ظهر الرجل ذو المدفع الرشاش يجري ويطلق خلفه بين لحظة وأخرى مجموعة من الطلقات وعرفت «زبيدة» أنه يهرب من رجال الشرطة، فرفعت مسدسها ثم أطلقت طلقة واحدة أصابته في قدمه، فصاح وسقط على ركبتَيْه.
ظل «خالد» و«زبيدة» يسيران في الظلام، محاذرَيْن حتى وصلا إلى الشارع المضاء، فوضعَت «زبيدة» المسدس في جيب «خالد» ثم سارا بهدوءٍ حتى وصلا إلى ميدان الحسين … كانت الحياة تسير عاديةً جدًّا كأنه ليس على بعد أمتارٍ تحدث معركة رهيبة في حواري «حي الباطنية» … وبعد فترة من البحث ركب الاثنان تاكسيًا، حملهما إلى المقر السرِّي في الدقي، وعندما دخلا كان الشياطين الثلاثة يستعدُّون للخروج للبحث عنهما …