الفصل الخامس
سهول فيليبي
(يدخل أوكتافيوس، أنطانيوس وجيشهما.)
أوكتافيوس
:
لقد تحققت آمالنا يا أنطانيوس. لقد خبرتني أن العدو لن يهبط بل سيبقى بالتلول والنجاد.١
ولقد بدا الأمر على خلاف ذلك؛ إذ دنت جنودهم حتى صارت منا على أدنى مدى،٢ ولعلهم يريدون أن يستفزونا إلى القتال ها هنا في فيليبي، فهم بذلك
يسبقون سؤالنا إياهم بالإجابة، ويبادرون إلى تحصنهم منا قبل الغارة عليهم.
أنطانيوس
:
هراء وعبث، لكأني محدث بما في ضمائرهم، مطلع على خبايا سرائرهم، فأنا أعلم
يقينًا ما الذي حدا بهم إلى سلوك تلك الخطة.
إنه ليسرهم أن يمروا بأماكن أخرى ثم يهبطون متظاهرين بالجرأة المفزعة،
والبسالة المرهبة المروعة، ليلقوا في روعنا وعقيدتنا أنهم من الشجاعة بالمكان
الأسمى.
ولكن الأمر على خلاف ذلك.
(يدخل الرسول.)
الرسول
:
تأهبا أيها القائدان، إن العدو لزاحف، وهو يبدي جرأة وبسالة، قد صعر خده
الزهو والصلف ورنح أعطافه التيه والخيلاء.
ولقد رفعوا الراية٣ القانية المدماة وعيدًا وإنذارًا، فلا بد والحالة هذه أن نبادر إلى
ما نستقبل به هذا الخطر المباغت.
أنطانيوس
:
اسمع مني يا أوكتافيوس، سر بجندك رويدًا مترفقًا على يسار الساحة
المنبسطة.
أوكتافيوس
:
بل على يمينها سأظل، التزم أنت يسارها.
أنطانيوس
:
لم تعارضني في هذه الأزمة الحرجة.
أوكتافيوس
:
أنا لا أعارضك، وإنما عزمت على ذلك وأصررت، ولسوف أفعله.
(زحف)
(طبول، يدخل بروتاس وكاسياس وجنودهما، ولوسيلياس وتيتنياس
وميسالا وآخرون.)
بروتاس
:
إنهم واقفون ويودون المفاوضة.
كاسياس
:
اثبت يا تيتنياس، إنه لا بد لنا من مخاطبة القوم.
أوكتافيوس
:
أي مارك أنطانيوس، أنعلن إشارة القتال؟
أنطانيوس
:
كلا يا قيصر، إنما ننتظر هجومهم، ثم نجيب على حملتهم بما لدينا من حول
وقوة.
تأمل! إن القواد يريدون خطابنا ليتبادلوا معنا بضع كلمات.
أوكتافيوس
:
لا تتحرك حتى تبدو منهم الإشارة.
بروتاس
:
المكالمة قبل الملاكمة يا بني الأوطان، أليس ذلك بصواب؟
أوكتافيوس
:
إذا وافقنا على هذا، فليس لأننا نؤثر الكلام، وأن القول أحب إلينا من الفعل،
كما هو شأنكم ومذهبكم.٤
بروتاس
:
اعلمن يا أوكتافيوس أن حسن الكلام خير من سيئ الضرب والصدام.
أنطانيوس
:
إنك لتشمع مساوئ ضرباتك بمحاسن كلماتك، ألا تذكر الصدع الذي صدعته في فؤاد
قيصر، وأنت إذ ذاك تهتف وتصيح: «فليعش قيصر ومرحبًا بقيصر.»
كاسياس
:
مارك أنطانيوس، إنه لم يبن بعد، ولم يعلم منحى ضرباتك ووجهتها.
أما عن خلابة لسانك، وسحر بيانك، فحدث ولا حرج، لكأنك — والآلهة — لحلاوة
لفظك وعذوبة نغمتك تسلب خلايا نحل «هيبلا»٥ وتتركها خلوًا من العسل.
أنطانيوس
:
إن ألفاظي إن استعارت أعسال ذلك النحل فهي لا تستعير حماته٦ وإبره.٧
بروتاس
:
كلا بل إن ألفاظك لتستعير حلاوته وإبره ودويه، ألم ترَ — يا أنطانيوس — كيف
سلبته طنينه، ولذلك نراك تتهدد وتتوعد قبل لسعك ولذعك؟
أنطانيوس
:
أيها الفجار الأشرار، إنكم لم تصنعوا صنيعي هذا يوم اصطكت خناجركم الممقوتة
بين جوانح قيصر وضلوعه، بل لقد كنتم وقتئذٍ تفترُّون عن أنيابكم وتبدون نواجذكم
كالقردة، وتبصبصون بأذنابكم كالكلاب الصائدة وتتحانون كالعبيد والأسرى تلثمون
قدم قيصر، بينما اللعين كاسكا حمل كالكلب على قفا قيصر فطعنه في وديجه، فتعسًا
لكم ونكسًا يا زمرة المنافقين المرائين.
كاسياس
:
المنافقين المرائين!
أي بروتاس: اشكر نفسك وأثن عليها بما هي أهله!٨ واعلم أن هذا اللسان٩ ما كان لينبذ بمثل هذا القذف والثلب لو أنكم عولتم على مشورة
كاسياس ونفذتم رأيه.١٠
أوكتافيوس
:
دعكم من هذا العبث، واعمدوا إلى جوهر الأمر ولبابه، إذا كانت المحاججة
والمناضلة ستفضح جباهنا عرقًا، فإن إقامة البرهان بالأسنة والظُّبا سوف تستمطر
من القطرات ما هو أشد احمرارًا من العرق.
تأملوا!
إني أجرد سيفًا في وجوه المتآمرين الغدرة، فمتى ترى هذا السيف يغمد في جفنه
ثانيًا؟
إن هذا لن يكون حتى آخذ بالثأر لجراح قيصر الثلاثة والثلاثين، أو يروح قيصر آخر١١ ضحية وفريسة للغدرة الخونة، وجزرًا لنصالهم وطعمة.
بروتاس قيصر
:
إنك لن تغتال١٢ بأيدي الخونة إلا إذا كنت قد استصحبتهم وأحطت نفسك بهم.١٣
أوكتافيوس
:
أرجو ألا يكون من الأمر إلا ذلك،١٤ فإني — والآلهة — لم أخلق ولم أكن ولم أسل من غمد الغيب١٥ إلى مجال الحياة لأموت بسيف بروتاس وتسيل نفسي على ظباه.
بروتاس
:
أما لو كنت خير عشيرتك، وسيد قومك، وأشرف أهل جلدتك، لما طمعت في قتلة تكون
أكرم لك وأعز وأمجد من أن تموت بحد سيفي أيهذا الحدث.
كاسياس
:
ما أراه إلا صبيًّا نزقًا، أخرق غرًّا، أرعن غير أهل لمثل هذه القتلة الشريفة
والميتة النبيلة، ولقد زامل واصطحب عربيدًا١٦ فاسقًا١٧ مستهترًا طالحًا غويًّا فاجرًا١٨ ماجنًا خليعًا.
أنطانيوس
:
لا تزال كسالف عهدنا بك؛ كاسياس العياب السباب الغماز الهمزة١٩ اللمزة٢٠ البذيء السلط الخبيث اللسان.
أوكتافيوس
:
هلم بنا يا أنطانيوس! أيها الخونة إنا لنقذف في وجوهكم بالوعيد، وإنا لكم لبالمرصاد.٢١
فإذا جرؤتم على القتال اليوم، فهلموا إلى الميدان، وإلا فالْبَثوا ريثما
تؤاتيكم طبائعكم وتطاوعكم نفوسكم.
(يخرج أنطانيوس وأوكتافيوس وجنودهما.)
كاسياس
:
ماذا يؤمل بعد هذا؟
اعصفي أيتها الأعاصير٢٢ الثائرة، وطيحي أيتها اللجة الزاخرة، وانطلقي أيتها
السفينة!
لقد ثارت العاصفة، وأحدق بنا الخطر، وأسلمنا الدهر بكف القضاء،٢٣ فلتصنع بنا الأقدار ما هي صانعة.
بروتاس
:
لوسيلياس، لي معك كلمة على حدة.
لوسيلياس
(يتقدم)
:
مولاي؟
(بروتاس ولوسيلياس يتحادثان على انفراد.)
كاسياس
:
ميسالا!
ميسالا
(يتقدم)
:
ماذا يقول مولاي القائد؟
كاسياس
:
ميسالا، هذا يوم ميلادي!
في مثل هذا اليوم ذاته ولد كاسياس.
أعطني يدك يا ميسالا، كن على ما أقول شهيدًا، إني علي الكره وعلى الرغم مني —
كما جرى للزعيم «بومبي» من قبلي٢٤ — أضطر اليوم إلى المخاطرة بتراث حريتنا الأقدس، وذخر استقلالنا
الأعز الأنفس، في غمار موقعة واحدة، عقباها إما الحرية والنجاة وإما الذل
والخسران.
أنت تعلم أني على مذهب «أيبيكور» شديد التمسك بمبادئه، راسخ العقيدة في تعاليمه.٢٥
فلتعلمن اليوم أنى قد غيرت رأيي، وبدلت عقيدتي، وأصبحت أصدق بالفأل والزجر
والعيافة والتكهن وأومن بالطوالع — أسعدها وأنحسها — وبالنذر والبشائر …
وإنى بعد مخبرك أنه بينما نحن على طريقنا من «سارديس» إلى ها هنا وقع على
لوائنا الأمامي نسران عظيمان، فجثما٢٦ ثمت يزدردان الزاد ويسترطانه٢٧ من أكف جنودنا وقد زاملا الجيش أثناء زحفه، ورافقاه طول مسيره حتى
هبطا معه فيليبي ها هنا.
ولكنهما قد طارا اليوم وارتحلا، وأعقبهما وحل محلهما غربان٢٨ وحِدْآن ترفرف من فوق رءوسنا وتطل علينا وتشرف كما لو كنا فرائس مدنفة٢٩ وهنى،٣٠ وأحراضًا٣١ هلكى، ولقد أظلتنا من شخوصها سحابة شؤم، وامتد منها فوق هامنا
سرادق نحس أصبح الجيش من تحته على شر حال، كأنما قد حان حَينه٣٢ وأوشكت أن تفيض روحه.
ميسالا
:
لا تؤمنن بأمثال هذه الأوهام.
كاسياس
:
أنا لا أومن بها إيمانًا تاما مطلقًا، وإني بعد لمتوقد الحمية، طامح الهمة،
منصلت العزيمة، موطن النفس على ركوب كل خطر وهول وخوض كل هلكة وقحمة، في أربط
جأش وأتم ركانة٣٣ وثبات.
بروتاس
:
هذا هو الواقع يا لوسيلياس.
كاسياس
:
أيها الأجل الأشرف بروتاس! كلأتنا الآلهة بالرعاية ولحظتنا بعين العناية،
ومدت آجالنا في سبيل الأمان وبين أكناف٣٤ الدعة والسلام إلى مدى الهرم والشيخوخة! وبعد فلما كانت شئون الناس
لا تزال قلقة مضطربة لم تستقر على حال من الهدوء والطمأنينة، ولم تنتهِ بحسم
النزاع، وفصل الخطاب إلى غاية من الوضوح والاستبانة، واستعلاء الحق وهزيمة
الباطل؛ فلنبحث فيما عسى أن تئول إليه هذه الحال، ولننظر ما سيكون لو وقع من
الأمر أسوؤه ومن البلاء شره وأنكله. فلتعلمن أننا إذا بُؤْنا من هذه الحروب
بالهزيمة وأسفرت الموقعة القادمة عن فشلنا وخيبتنا؛ فإن هذه الآونة تكون آخر
مجتمعنا ومتحدثنا.
فنبئني ماذا أنت فاعل؟
بروتاس
:
إني عملًا بتلك العقيدة الفلسفية — التي من أجلها أنكرت على «كاتو» ما جناه
على نفسه من إعدامها — أرى من الجبن والخسة أن يختصر الإنسان بالانتحار مسافة
عمره، ويقتضب مدى أجله؛ خشية ما قد يصيبه من هموم ومتاعب.
لذلك أوثر أن أتدرع الصبر والأناة، وأتحصن بالجلد والرزانة؛ ارتقاب ما عسى أن
تكون العناية السرمدية قد ادخرته لكشف غمتي من أسباب اليسر والفرج.
كاسياس
:
إذن إن خسرنا الموقعة سرك أن تساق بين طرقات روما تحت نير الرق مقهورًا، وفي حَكَمة٣٥ الذل منقادًا أسيرًا؟
بروتاس
:
كلا ثم كلا يا كاسياس لا يهجسن ببالك أيها الروماني الشريف أن بروتاس يرضى
بحال ما أن يساق مكبلًا إلى روما، يأبى له ذلك فؤاد ذكي، وأنف حمي.
ولكن في هذا اليوم٣٦ لا بد أن ينتهي ذلك الأمر الذي افتتح في منتصف مارس، ثم لا أدري
بعد أيتاح لنا اللقاء ثانيًا؟ لذلك ينبغي لنا أن نعد هذا آخر ملتقًى بيننا،
فيودع أحدنا أخاه وداعًا لا لقاء من بعده.
سلام عليك كاسياس سلام الوداع الأبدي السرمدي، ولئن كُتب لنا أن نلتقي ثانيًا
إذن لنلتقينَّ بسامين٣٧ ضحاكين.
وإذا لم يقدر لنا اللقاء بعد فبحسبنا ما نقضي الآن من واجب التوديع
وفرائضه.
كاسياس
:
سلام عليك بروتاس سلام الوداع الأبدي السرمدي، أما لو أتيح لنا اللقاء ثانيًا
لنبسمن ولنضحكن حقًّا، وإذا لم يتح فلقد أحسنا صنعًا بقضاء الواجب علينا من
رسوم التوديع وشعائره.
بروتاس
:
هلم إذن بنا، ألا ليت في استطاعة امرئ أن يعلم كيف تكون خاتمة هذا اليوم قبل
حلولها، ولكن بحسبنا علمنا أن اليوم سينتهي وأن خاتمته ستعرف.
هلم بنا!
المنظر الثاني
بطاح فيليبي: ساحة القتال
(صوت النذير – يدخل بروتاس وميسالا.)
بروتاس
:
اركب يا ميسالا، اركب واحمل هذه التعليمات والأوامر إلى كتائب الجناح الآخر
(صوت النذير).
ومرهم أن يهجموا في الحال، فإني أرى جناح٣٨ أوكتافيوس فاترًا متبلدًا، ولعله إن بوغت بحملة صادقة انهزم
واندحر.
اركب يا ميسالا، اركب ومرهم أن يهبطوا جميعًا.
(يخرجان)
المنظر الثالث
(موضع آخر من ساحة القتال)
(صوت نذير، يدخل كاسياس وتيتنياس.)
كاسياس
:
تأمل تيتيناس تأمل! إن الأنكاس الأوغاد ليولون فرارًا! لقد انقلبت عدوا
لجنودي وعسكري فيما يرون ويخالون.
وهذا العلم قد أبصرته آنفًا يستدير، ويمنحني ظهره،٣٩ فما هو إلا أن آنست ذلك حتى أهويت على حامله النذل الجبان فذبحته
ثم اختطفته من يده.
تيتنياس
:
أي كاسياس! إن بروتاس قد أصدر الأمر قبل أوانه، لقد أمكنته فرصة في جيش
أوكتافيوس، ولكنه بالغ واشتط في انتهازها وجار عن القصد وتهور.
ولقد تهافت جنوده على الأسلاب والغنائم فشغلوا بها بينما نحن قد أحاط بنا
أنطانيوس وأحدق.
(يدخل بنداراس.)
بنداراس
:
انج بنفسك فرارًا يا مولاي، انج بنفسك!
إن مارك أنطانيوس قد وطئ خيامك يا مولاي، ففر يا مولاي الأعز الأغر وأمعن٤٠ فرارًا.
كاسياس
:
إن هذا التل الذي نحن عليه لبمأمن وبنجوة. تأمل يا تيتنياس، أتلك خيامي التي
أبصر فيها النار؟
تيتنياس
:
تلك هي يا مولاي.
كاسياس
:
إن كنت تحبني يا تيتنياس فامتطِ جوادي، وأركضه ملءَ فروجه، ولتغيبن مهمازيك
في جنبيه حتى يبلغك الجنود القائمين هنالك ثم يعود بك إلى ها هنا؛ وذلك لأعلم
يقينًا أهؤلاء الجنود أولياء لنا أم أعداء؟
تيتنياس
:
سأرجعن إلى ها هنا كلمح البصر وسنوح الخاطر.
(يخرج)
كاسياس
:
انطلق يا بنداراس فاصعد في ذاك التل، إن بصري ما برح كَليلًا، فارقبن
تيتنياس، وخبرني ماذا تبصر في ساحة الوغى؟ (يصعد
بنداراس التل).
في هذا اليوم تنسمت أولى نسمات الحياة، وأرى الزمان قد استدار والتقى طرفاه
والْتأمَتْ حلقته، وأراني من حيث ابتدأت منتهيًا، ولا جرم فلقد جرى العمر شأوه
وبلغ مداه.
ما أنباؤك يا غلام؟
بنداراس
(من علٍ)٤١
:
يا ويلتا!
كاسياس
:
ما أنباؤك؟
بنداراس
(من علٍ)
:
لقد اكتنف الفرسان تيتنياس من كل جانب، وإنهم ليتمطرون٤٢ عليه، يستدرون٤٣ الجياد بالمهامز ويمترونها، ولقد أوشكوا أن يسقطوا عليه.
أي تيتينياس! أرى بعض الفرسان قد ترجلوا، وها هو يترجل أيضًا.
لقد أخذوه (صياح) أنصت! إنهم ليصيحون طربًا.
كاسياس
:
اهبط، حسبك ما رأيت، واكفف بصرك عن هذا المشهد.
تعسًا لي من هيابة٤٤ وَكِل٤٥ — إذ أرضى أن تطول حياتي، ويمتد بي أجلي، حتى صديقي الأحب الأعز،
يؤخذ أمامي وبمرأى مني. (يهبط
بنداراس).
ادنُ مني يا غلام! لقد أخذتك أسيرًا في «بارثيا»، ولقد حقنت دمك، وأمسكت عليك حوباءك،٤٦ ثم أخذت عليك عهدًا وميثاقًا أنه مهما آمرك به من شيء كان حقًّا
عليك أن تحاوله.
فهلم الآن ولتفين بعهدك ولتعلمن أني قد أعتقتك فأنت حر طليق منذ
الساعة.
إني آمرك أن تغمد في صدري هذا الحسام الذي خاض٤٧ أحشاء قيصر.
لا تحاولن معي تَسْآلًا ولا مناقشة، بل أمسكن ها هنا بالمقبض، ومتى رأيت وجهي
ملثمًا كما هو الآن فضع السيف مني حيث أمرتك (بندراس
يطعنه).
قيصر! لقد اقتص لك وانتقم بعين الحسام الذي أراق٤٨ دمك.
(يقضي نحبه.)
بنداراس
:
وهكذا أنا الآن حر طليق، على أني ما كنت لأصير حرًّا لو خيرت فيما أفعل،
وجريت علي هواي ومشيئتي ولم أرغم على ما أتيته إرغامًا.
أي كاسياس: إن بنداراس سيرحل عن هذه البلاد إلى حيث لا تقع عليه عين روماني
آخر الأبد.
(ينطلق)
(يعود تيتنياس وميسالا.)
ميسالا
:
إن هي إلا سجال٤٩ يا تيتنياس فلئن كان أنطانيوس دحر فيالق كاسياس، فقد هزم بروتاس
البطل العظيم جنود أوكتافيوس.
تيتنياس
:
هذه الأنباء حرية أن تسر كاسياس، سيكون له فيها عزاء وسلوى.
ميسالا
:
أين تركته؟
تتنياس
:
تركته مغتمًا حزينًا على هذا التل مع عبده بنداراس.
ميسالا
:
أليس هو هذا الطريح علي وجه الثرى؟
تيتنياس
:
ما رقدته هذه برقدة الأحياء، واحر قلباه!٥٠
ميسالا
:
أليس هو ذاك؟
تيتنياس
:
كلا! لقد كان ذاك، وما هو الآن بذاك، يا ميسالا، ما كاسياس الآن بكائن ولا
موجود.
أيتها الشمس الغائرة،٥١ مثلك كمثل كاسياس، فكما أنك ترسبين الليلة في أشعتك الحمراء —
فكذلك في دماء كاسياس الحمراء يغيب نوره ويفنى نهاره.
لقد غربت شمس روما! وانقضى يومنا وباخ ضياؤه، وأقبل السحاب بمدامع الطل
وأشرفت الأهوال والمخاطر.
ما أحدث هذا الحادث إلا مخافة كاسياس أن أرجع إليه بسيئ الأنباء.
يا لك من غلطة منكره، ما أقبحك وما أسوأك، لأنت وليدة الكآبة وسليلة الهم
والإطراق، لماذا تخيلين٥٢ إلى الضمائر الحساسة من الأمور ما لم يقع وتمثلين للأذهان الحادة
من الأشياء ما لم يكن؟ تبًّا لك أيتها الغلطة! سرعان ما تلقحين،٥٣ ثم لا تنتجين بعد ذلك إلا عناء، ولا تلدين إلا بلاء، إنك لتقتلين
الأم التي أوجدتك وأحدثتك.
تيتنياس
:
ويك يا بنداراس! أين أنت بنداراس؟
ميسالا
:
فتش عنه يا تيتنياس ريثما أذهب للقاء بروتاس المكرم فأطعن أذنيه وأصدم٥٤ مسمعيه بهذا النبأ، وإني إن أقل «أطعن» و«أصدم» فلا حرج عليَّ ولا جناح.٥٥
فلا والآلهة! ما كان الصفيح الخذم ولا النبل المسمم بأنكى وقعة وأوجع لذعة في
أذن بروتاس من أنباء هذا المشهد!
تيتنياس
:
أسرع ميسالا، ريثما أبحث عن بنداراس. (يخرج
ميسالا).
كاسياس أيها الشجاع! لماذا بعثت بي؟ أوَلم ألقَ ثمت صحابك وأولياءك؟
أوَلم يكللوا جبيني بهذا الإكليل من الزهر آية الفتح، وعنوان النصر المبين،
ويأمروني أن أهديكه؟ أو لم تسمع هتافهم؟
وا أسفاه! لقد أسأت تأويل كل شيء من هذا!
ولكن رويدك واحملن هذا الإكليل على جبينك، فبذا أمرني بروتاس وما كنت
لأعصاه.
أي بروتاس: أسرع إلى ها هنا وانظر ما بلغ من إجلالي لكاياس كاسياس!
بإذنك ومشيئتك أيتها الآلهة سأفعل الآن ما هو خليق بكل روماني حر كريم،
ادْنُوَنَّ مني يا سيف كاسياس واثْوِيَنَّ بفؤاد تتنياس.
(ينتحر)
(طبل، يعود ميسالا مع بروتاس وكاتو الصغير وستراتو وفولمنياس
ونوسلياس.)
بروتاس
:
أين يا ميسالا، أين جثته؟
ميسالا
:
هنالك، وعليها تيتنياس مكبٌّ٥٦ عاكف٥٧ يرثي ويندب.
بروتاس
:
إن وجه تيتنياس إلى السماء.
كاتو
:
إنه لقتيل!
بروتاس
:
أي يوليوس قيصر! إنك لا تزال عظيمًا شديد البأس! ولا تزال روحك جوالة جوابة
تطوف من حولنا وتلوب٥٨ وترد ذباب سيوفنا في صميم أحشائنا.
(أبواق خافتة.)
كاتو
:
أيها الشجاع تيتينياس، ألم ترَ كيف قد كلل جبين كاسياس الصريع؟
بروتاس
:
ترى هل يعيش في بني روما رجلان كهذين؟
سلام عليكما يا بقية السلف الصالح وآخر السادة من الرومان.
سلام عليكما سلام الوداع يا آخر سبيكتين في بوتقة المجد ودرتين في صهريج
الكرم، وعسجدتين في معدن النبل وسهمين في كنانة المروءة.
إن من المحال أن تنجب٥٩ روما نظيريكما وشبيهيكما، كلا وإن من دون ذلك لشيب الغراب.٦٠
أيها الأصحاب، إن لهذا القتيل في ذمتي أضعاف ما سترونني أذرفه عليه من
المدامع، ولكني يا كاسياس سأفسح من وقتي مجالًا أقضي٦١ به ما لك عليَّ من حق البكاء والرثاء، هلموا الآن وابعثوا برفاته
إلى ثاسوس، فلن تقام شعائر جنازته بمعسكراتنا لئلا يفتر ذلك من عزائم
جنودنا.
هلم يا لوسياس ويا كاتو الصغير، هلما بنا إلى الميدان، وأنت يا لابيو وأنت يا
فلافياس، ازحفا بجنودنا، الساعة الآن الثالثة، وقد عزمنا معشر الرومان على أن نبلوا٦٢ حظنا في معركة ثانية.
(يخرجون.)
المنظر الرابع
(موضع آخر من ساحة القتال)
(طبل، يدخل جنود مقاتلة من كلا الجيشين، وبعد ذلك بروتاس وكاتو الصغير ولوسياس
وخلافهم.)
بروتاس
:
لا تزالوا — بني وطني — لا تزالوا رافعي رءوسكم ثباتًا وجلدًا.
كاتو
:
أي زنيم٦٣ بلغ من لؤم نسبه، ودقة حسبه، أنه لا يفعل؟! أيكم يحب أن
يتبعني؟
سأجهر باسمي في أرجاء الميدان، أنا ابن مارك كاتو ألا أبا لكم!٦٤ عدو الجبابرة وولي الوطن وصفيه!
أنا ابن مارك كاتو! ويحكم.
(يحمل على العدو.)
بروتاس
:
وأنا بروتاس، مارك بروتاس، بروتاس صديق بلادي.
ها أنا ذا بروتاس، فاعرفوني. (يخرج حالًا على
العدو).
تتكاثر جماعة من الأعداء على كاتو فتقهره فيخر صريعًا.
لوسيلياس
:
أي كاتو الصغير النبيل!
أوقد صرعت؟ لقد مت كصاحبك تيتنياس ميتة الشجعان البسل.٦٥
لقيت من الإجلال والإكرام ما أنت أهله بما أنك نجل كاتو.
الجندي الأول
:
أذعن وإلا قتلت.
لوسيلياس
:
لا أذعن إلا بعد أن أقتل.
هاك شيئًا من النقد على شرط أن تعجل بقتلي (يعرض
عليه نقدًا).
اقتلن بروتاس تشرف نفسك بقتله.
الجندي الأول
:
لا ينبغي لنا، إنه لأسير جليل القدر عظيم الخطر.٦٦
الجندي الثاني
:
أفسحوا طريقًا ويحكم! ولتخبروا أنطانيوس أن بروتاس قد أُسر.
الجندي الأول
:
سأبلغ الخبر، ها هو ذاكم القائد قادم (يدخل
أنطانيوس).
قد أُسر بروتاس، أُسر بروتاس يا مولاي.
أنطانيوس
:
أين هو؟
لوسيلياس
:
بمأمن يا أنطانيوس، بمأمن وبمعتصم، لا تحسبن أن في استطاعة عدو ما أن يأخذ
بروتاس حيًّا.
وقته الآلهة شر هذا العار العظيم!
ولئن لقيته حيًّا أو ميتًا لتلقين منه بروتاس الذي تعهد وتعرف.
أنطانيوس
:
ليس هذا بروتاس يا إخواني، ولكنه غنيمة لا تقل نفاسة عن بروتاس، فاجعلوه
بأحصن حرز وأمنعه.
أوسعوه مبرة وإحسانًا، فبودي أن أتخذ من أمثال هؤلاء الرجال أصفياء لي لا
أعداء.
ثم اذهبوا فتعرفوا أحيٌّ بروتاس أم ميت؟ وثوبوا إلى سرادق أوكتافيوس فنبئونا
كيف تجري الأمور وإلامَ انتهت وآلت؟
(يخرجون.)
المنظر الخامس
(مكان آخر من ساحة الوغى)
(يدخل بروتاس وداردنياس وكلايتاس وسنراتو وفوليومناس.)
بروتاس
:
أيها البقية الباقية من الإخوان، تعالوا نسترح على هذه الصخرة.
كلايتاس
:
لقد ألاح ستاتلياس بالمشعل، ولكنه يا مولاي لم يرجع فليس يعدو أن يكون قد
أُسر أو قُتل.
بروتاس
:
اقعدن ياكلايتاس، الأصح أنه قتل، فلقد أصبح القتل اليوم العادة السارية
والبدعة الفاشية.
استمع إليَّ يا كلايتاس.
(بروتاس يهمس
٦٧ في أذن كلايتاس.)
كلايتاس
:
الويل لي! أنا يا مولاي؟ لن أفعل ذلك ولو أن لي الدنيا وما فيها.٦٨
بروتاس
:
اسكت لا تفه بأدنى كلمة.
كلايتاس
:
أولى لي أن أقتل نفسي.
بروتاس
:
اسمع مني يا داردنياس.
(بروتاس يهمس في أذن داردنياس.)
داردنياس
:
ويحي! أنا أفعل هذا؟
كلايتاس
:
وا خطباه! يا داردنياس.
داردنياس
:
وا كرباه! يا كلايتاس.
كلايتاس
:
أي طلبة سوء وبغية شر سألكها الساعة بروتاس؟
داردنياس
:
أن أقتله يا كلايتاس انظر إليه، إنه مطرق يتفكر ويتدبر.
كلايتاس
:
انظر إلى أكرم إناء صيغ من مادة الإنسانية، كيف أفعمه الحزن، وأترعه الوجد
والجوى حتى طفق يفيض من مقلتيه.
بروتاس
:
ادن مني أيها البر الرحيم فوليوميناس، اسمع مني كلمة.
فوليوميناس
:
ماذا يقول مولاي؟
بروتاس
:
اسمع يا فوليوميناس. لقد طرقني خيال٦٩ قيصر مرتين أثناء الليل: مرة ونحن في «سارديس» وليلة أمس ها هنا في
ميادين فيليبي، إني لأعلم أنه قد حان أجلي، وحم حمامي.
فوليوميناس
:
لا تقل ذاك يا مولاي.
بروتاس
:
إني لأوقن أنه حق وأنه لا محالة كائن.
أنت تبصر الأمور كيف تسير، وإلى ماذا تصير، وترى العدو كيف هزمنا ودحرنا حتى
طردنا إلى شفير الهاوية؛ حيث غدونا بأحرج مأزق لا مضطرب أمامنا ولا مصطرف ولا
متحول ولا متنكب (أبواق خافتة).
أما وقد غدونا من الهاوية على شفا جرف، فأولى لنا وأمثل أن نلقي بأنفسنا في
أعماقها من أن نتباطأ ونتوانى حتى يدهمنا العدو فيقذف بنا فيها.
فوليوميناس! أيها الحدب الشفيق، أنت تعلم أنك صديق الصبا ورفيق الطفولة وأننا
دخلنا المدرسة معًا ونشأنا معًا.
فبحق ذلك الود العتيق والحب القديم، أسألك أن تمسك بمقبض سيفي ثم تدعني أرتمي
على طرفه.
فوليوميناس
:
ليس هذا من صنيع الصديق ولا مما يكلف به الصاحب يا مولاي!.
(صوت أبواق.)
كليتاس
:
انجُ بنفسك يا مولاي، انجُ بنفسك فرارًا، لا تتمكث ولا تتلبث.
بروتاس
:
سلام عليك ثم عليك ثم عليك يا فوليوميناس! أي ستراتو، لقد لبثت نائمًا طول
هذه البرهة، سلام عليك أيضًا يا ستراتو.
بني وطني وأخواني، شدَّ ما يسرني ويثلج صدري أني منذ نشأت إلى الآن ما صادفت
رجلًا إلا ألفيته أمينًا وفيًّا، سيكون لي في هزيمة اليوم من آيات المجد
والعلاء أضعاف ما سوف يناله أوكتافيوس ومارك أنطانيوس من وراء انتصارهم
الممقوت.
وبعد، فسلام عليكم، وحسبي ما قد فهت به الآن وكفى، وأن لسان بروتاس قد جرى
شأوه في مضمار الكلام، واستنفد جعبة ألفاظه، وعسى أن يكون هذا آخر حرف تفوه به
شفتاه في هذه الحياة الدنيا.
أرى الظلام يخيم على ناظري، وبودي أن أريح عظامي التي كأنها ما كدت وما كدحت
ولا سعت ولا دأبت إلا لتصل إلى هذه الغاية. (أبواق،
صياح من الداخل: الفرار، الفرار، الفرار!)٧٠
كلايتاس
:
فرارًا يا مولاي انج بنفسك!
بروتاس
:
اسبقوا فإني لاحق بكم (يخرج كلايتاس وداردنياس
وفوليوميناس).
هلا٧١ بقيت مع مولاك أيها البر التقي ستراتو، إنك امرؤ موقر مبجل.
إن حياتك مازال عليها مسحة٧٢ من النبل والكرم، وقد شيب٧٣ حسبك بأطيب مزاج.
وبعد فلتمسكن بسيفي ولتزوين وجهك ريثما أرتمي على ذبابه، أفاعل أنت؟
ستراتو
:
أعطني يدك أولًا، وداعًا يا مولاي.
بروتاس
:
وداعًا أيها البر ستراتو (يرتمي على ظبة
الحسام).
قيصر! لتطمئن الآن ولتهدأ، فما ارتاحت نفسي إلى قتلك نصف ارتياحها إلى
انتحارها الآن.
(أبواق – تقهقر)
(يدخل أوكتافيوس وأنطانيوس وميسالا ولوسيلياس والجيش.)
أوكتافيوس
:
من هذا الرجل؟
ميسالا
:
هذا رجل مولاي، أين مولاك يا ستراتو؟
ستراتو
:
إنه لطليق مما أنت فيه من الأسر يا ميسالا.
وجل ما يستطيع الظافرون أن يصنعوا به هو أن يحرقوا رفاته.٧٤
إن بروتاس هو الذي قهر نفسه ودحرها ولم يدع لأحد سواه سبيلًا لاكتساب الحمد
والفخار من وراء موته.
لوسيلياس
:
هكذا بروتاس وهكذا سجيته وشيمته، إني أحمدك يا بروتاس وأثني عليك، فلقد صدقت
ما قاله فيك لوسيلياس.
أوكتافيوس
:
كل من كان في خدمة بروتاس سألحقه بخدمتي أيها الغلام، أتحب أن تقضي معي
أوقاتك؟
ستراتو
:
أجل، إذا ذكرني ميسالا بخير عندك.
أوكتافيوس
:
افعل يا ميسالا.
ميسالا
:
أخبرني كيف مات مولاي يا ستراتو؟
ستراتو
:
أمسكت بالسيف وارتمى هو عليه.
ميسالا
:
خذه إذن في حاشيتك يا أوكتافيوس بما أدى لمولاي آنفًا من تلك المنة.
أنطانيوس
:
هذا كان أفضل روماني من بينهم جميعًا.
إن المتآمرين كلهم — ما عداه — قد أتوا ما أتوا من حسد وحقد على قيصر
الأعظم.
ولقد دخل هو في زمرتهم وانخرط في سلكهم متفردًا من بينهم بحسن القصد والنية،
وشرف المذهب والمطلب، والحرص على منعة الأوطان والصالح العام.
ولقد كان سمحًا سهلًا حليمًا، تلاءم واعتدل في تركيبه مزاج العناصر، فلو
وصفته لنا الطبيعة لقالت: «هكذا يكون الرجل!»
أوكتافيوس
:
فلنؤدِ إليه من آيات التكريم والإجلال ما هو أهله، ولنوفِّه حقه من شعائر
الدفن، ولتثوين عظامه الليلة في سرادقي؛ حيث تنال من التجلة والإكبار ما هو
خليق بالفارس المقدام.
وبعد فادعونَّ من بالميدان إلى الاستراحة، وهلم بنا نقسم غنائم هذا اليوم
ومفاخره.