توطئة
هذا البحث عنوانُه إعلانُه، فمتى طرق الأذن ذِكر موضوعه لمح العقل بداهة ما فيه من اتساع، وما له من سمو شأن، ولكني لست أطمع في هذه العجالة أنْ أُوَفِّيَه حقه بالتفصيل؛ لأن تفصيله يقتضي وضع كتاب يبلغ عدة مئات من الصفحات الكبيرة، مما أخشى أنْ يعجز عنه قلمي، أو وقتي، أو كيسي، أو الثلاثة معًا في الوقت الحاضر. ومن ثمَّ لم يكن لي بد من أنْ أقنع بالإجمال لهذا البحث، إجمال يطوقه بنظرات سريعة، أرجو ألَّا تكون على سرعتها مخطئة خائبة فأفي من حقه نصيبًا صالحًا.
للأدب بضعة تعريفات مختلفة في الظاهر، متقاربة في النتيجة، وأمَّا الذي أعنيه بالأدب العربي هنا فمنظوم العرب ومنثورهم، وقد رأيت بالاختبار الطويل — كما رأى كثيرون غيري من الذين سبقوني والذين عاصروني — أنَّ الأدب العربي خير صلة، وضمان ولاء بين الخاصة من العرب والمستعربين، وإنْ اختلفوا رأيًا ومبدأً وسيرةً في بعض نواحي الحياة والاجتماع، وتنافروا قليلًا أو كثيرًا من أجل ذلك. فعلى قدر التفافهم حول هذه الرابطة الجوهرية الشريفة — رابطة الأدب العربي — وحرصهم عليها؛ يقل خطر اختلافهم فيما عداها، ويخف تنافرهم أو يزول.
ولو لم يكن للأدب العربي إلَّا هذه المكرمة لكَفَتْهُ فضلًا وفخرًا، فكيف به وهو يحرز معها تاريخًا مجيدًا عريقًا في قِدَمِهِ، وقوة بيان تسحر الألباب، وتفتح لقضاء الحاجات الأبواب، ودستورًا واسعًا لمكارم الأخلاق، ودهاء رجال العقول. هذا شأن الأدب العربي، فكيف لا نلتفت إليه وننظر في ما له وفي ما عليه؛ لكي نتقي هذا ونستزيد من ذاك …
والأدب أشرف أنواع العلم، وأجمل ألوانه، وألصقها بخلجات القلوب، وومضات العقول، ومزاياه هذه تكاد تظهر بداهة، ويقنع بها الحس والوجدان في كل محادثة ومفاوضة ومظهر اجتماعي من أُمور الناس. ألا ترون أنَّ كلًّا من عالم الطبيعيات، وعالم الكيمياء، وعالم الفلك، وعالم الرياضيات، وعالم النبات والحيوان، والطبيب، والصيدلي، والفيلسوف، والفقيه، واللاهوتي؛ إذا لم يكن له مع تضلُّعه من الفرع الذي تخصص به نصيبٌ حسن من صناعة الأدب، يظهر على أسلة لسانه، أو أسلة قلمه عابه كثيرًا تقصيرُه ذاك، وأزرى به، وخفَّض قيمة ما أحكم تحصيله في العيون، وقلَّص من مهابته في النفوس.
وهذا الشرط لا يلزم الأديب تجاه العلوم إلى الحد الذي يلزم العالم تجاه الأدب، وإنْ كنا لا ننكر زيادة قوة وبهاء للأديب حين يضرب بسهم صالح من العلم. وهناك أيضًا للأدب مزية أُخرى عظيمةُ الشأن، وأريد بها الثبات والخلود لقوامه وأركانه، فإن ما يحسب اليوم من محاسن القول وبليغ الكلام، كان يحسب هكذا منذ ألف سنة، بل ألفين وأكثر، وما هو اليوم رديء كان عند الأقدمين رديئًا، فمبادئُ الأدب ونواميسه في التعبير والتفكير لم تتغير في جوهرها وفي الكثير من أعراضها، وأمَّا نظريات العلوم ومبادئها فقد تغيرت مرارًا، بل انقلب بعضها رأسًا على عقب، ولا تزال عُرْضة للتغيير والتبديل والانقلاب.
ولا بأس — قبل الدخول في صلب الموضوع — أنْ أشير باختصار إلى الأطوار الأساسية التي اجتازها أدبنا العربي، من أوائل نشأته حتى اليوم؛ فإن بين الموضوع الحاضر وهذه الإشارة لُحْمة نسب واضحة، أرى مراعاتها أقرب إلى الإنصاف، وأضمن لاستتمام الفائدة.
إنَّ الطور الأول للأدب العربي — حسبما تداوله وتناقله كُتَّابُ العرب ورواتُهم — هو عهد الجاهلية الثانية. وأول من اشتهر من شعرائها عدي بن ربيعة التغلبي المعروف بالمهلهل، وقد عاش قبل ظهور الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة. ثم تعاقب بعده شعراء المعلقات السبع، أو السبع الطوال، أو المذهبات السبع، ومعهم غيرهم من أمراء الكلام، كأعشى ميمون، والشَّنْفَرَى، وعلقمة الفحل، والنابغة الذبياني، وحاتم الطائي، وأبي كبير الهذلي، وعروة بن الورد، وقس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، وغيرهم جمهور كبير.
غير أنَّ جماعة من المحققين المحدثين وبينهم جرجي بك زيدان من أبناء عصرنا الحاضر، نظروا في الأدب العربي نظرة أدق وأوسع فرَجَّحُوا، بل أيقنوا، أنَّ عصر الجاهلية الثانية ليس أول عصور الأدب العربي، ولكن لنا أنْ نتسامح بتسميته كذلك باعتبار أنه أول عصر للأدب العربي وصل إلينا الشيء الكثير من آثاره وأخباره. وأمَّا النشأة الأولى للأدب العربي فهي قبل الجاهلية الثانية بقرون كثيرة، هي معاصرة لإبراهيم الخليل وربما سبقتْه، هي معاصرة لأبناء عمومتها من قدماء الأشوريين والبابليين والفنيقيين.
وقد أشار الكتاب العزيز إلى ذلك بذكر الجاهلية الأولى، كما أشارتْ إليه الأخبار المبهمة المبتورة عن العرب البائدة، وأعظم قبائلها: عادٌ الأولى، وعاد الثانية، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، ومن الإشارات إلى مدنية العرب القديمة ورود ذكر الإسماعيليين في التوراة، أي: العرب المستعربة المتحدرة من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، ومشتراهم ليوسف الصديق من إخوته، وذكر الملوك الرعاة الذين هم من أصل عربي، وتبوُّؤُهم عرش الفراعنة حقبة طويلة من الدهر، وقد سمي عصرهم عصر الملوك الرعاة، وقد ثبت أو كاد يثبت أنَّ أيوب الصديق الذي عاش في حوران واسع الثروة، عريض الجاه قبل الميلاد المسيحي بنحو سبعة عشر قرنًا؛ كان عربيًّا من العرب العاربة القحطانية.
ومن الأدلة على عروبته كلامه في سفره، فإن فيه كثيرًا من الصور المجازية المأنوسة في الأدب العربي، لا سيما عند وصفه الفرس، ولا شك أنَّ حوادث الدهر من حروب وثورات وزلازل وطغيان مياه اجتاحت تلك المدينة العربية القديمة، وطمست آثارها، وفي جملة ذلك لغتها، وأدبها، وعلمها، وصناعتها. على أنَّ لغة العرب البائدة وما تَخَلَّفَ عنها من لغة حمير وسباء، لم تكن نفس لسان مضر المبين، أي: لغة قريش، ولغة بعض القبائل الموثوق بعربيتها في الجاهلية الثانية، التي هي لغتنا الفصحى، بل كان بين اللغتين فروقٌ كثيرةٌ واضحة.
وقد قيل: إنَّ تلك اللغة القحطانية القديمة كانت وسطًا بين اللغة العدنانية الحاضرة واللغة السريانية، ولكنها إلى العدنانية أقرب، وإذا تسنى لشبه جزيرة العرب أعمال حفر وتنقيب عن الآثار كما تسنى ذلك لوادي النيل، فلا بُدَّ أنْ يكتشف البحاثون آثارًا وعاديات، وكتابات مختلفة توضح الشيء الكثير من مدنية العرب، وآدابهم من قبل الميلاد المسيحي بنحو عشرين قرنًا إلى ما بعده بأربعة أو خمسة قرون، كما دلت الآثار المكتشفة في وادي النيل على قسم كبير من تاريخ الفراعنة، ورعاياهم من قدماء المصريين، وعاداتهم، وآدابهم، ومعتقداتهم.
ومن أوجه ما قاله المحققون بهذا الصدد، أي: وجود أدب عربي قديم قبل الأدب العربي المعهود عندنا، المعمورة به مدارسنا ومجالسنا ومكاتبنا وصحافتنا؛ أنَّ لغات البشر لا يمكن أنْ تبلغ أشدها فجأة بل تدريجًا في عصور متطاولة، ولا شك أنَّ اللغة العربية خاضعةٌ لهذا الناموس الاجتماعي المعقول.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يعقل أنَّ القرن السادس للميلاد — وهو عهد الجاهلية الثانية — كان عهد النشأة الأولى للغة العربية وأدبها في منظوم القول ومنثوره، بل هو جزء من طور شبيبتها، فقد عهدناها فيه قوية بمفرداتها، وسبك قوالبها، ومترادفاتها، وطرق مجازها، وروائع أفكار أدبائها وخطبائها. فلا جدال أنَّ هذا الطور سبقه طور طفولة، وطور صبوة، ولا يمكن أنْ تولد اللغة شابة والأدب شابًّا، إلَّا إذا أمكن أنْ يولد الآدمي شابًّا، ومما يؤيد هذه النظرية التي تَشِفُّ عن بعد نظر قول زهير بن أبي سلمى المزني:
وقول عنترة بن شداد العبسي:
وفي هذين القولين دليلٌ واضحٌ على أنَّ القوم لم يكونوا يَدَّعُون لعصرهم ما قد يدعيه بعضنا له من ابتكارات في الأدب، وإحداث مذاهب خلابة فتانة في القول، بل يعتقدون ويعترفون أنَّ أسلافهم القدماء لم يكادوا يتركون زيادة لمستزيد في ذلك الصعيد. وبديهي أنَّ أسلافهم كانوا من أدباء العربية أيضًا بحيث يفهمون آثارهم ويتذوقونها، ويشيرون إلى فصل أصحابها كما رأيتهم. فلم يكن أولئك الأسلاف من أدباء الفرس، أو اليونان، أو الرومان مثلًا … ولو وجد التدوين والكتابة في الجاهلية الثانية لوصل إلينا شيء يستحق الذكر، مما كان يرويه ويعرفه أهلها من آثار وأخبار الجاهلية الأولى.
أمَّا الجاهلية الثانية فالمعروف عندنا من مزايا أدبها نظمًا ونثرًا: الصدقُ، والصراحة، والجرأة مما يلائم طبيعة أهلها، واستقلالهم في شئونهم، وأنفتهم. ويتبع ذلك اعتدال معظمهم في المبالغة مع فصاحة أسلوبهم، ومتانة كلامهم في مفرداته ومركباته. ولا غرو فَهُمْ أصحاب اللسان المضري المبين، وعلى أقوالهم بُنيتْ قواعده وأحكامه بالاستقراء، كما بُنيت على آيِ القرآن الكريم.
ثم جاء عهد المخضرمين فعهد الأُمويين، فحافظوا في أدبهم على هذه المزايا السامية، واكتسبوا فوقها مزايا أُخر، منها: تجافيهم عن كثير من مظاهر الخشونة البدوية، التي كانت تطفو على شيءٍ غير يسير من الأدب الجاهلي. ومنها: تحصيلهم فوائد ومعلومات وفضائل كثيرة بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على عقائده وآدابه ودقائق شريعته. وبعد توغلهم في المعيشة الحضرية، واصطدامهم بمدنيات الأنباط، واليونان، والسريان، والرومان.
فاتسعت أمام مداركهم وتصوراتهم آفاقٌ جديدة من التفكير، وقضتْ عليهم طبيعة العمران، وعوامل السياسة والإدارة والقضاء، والجندية أنْ يَتَأَنَّقوا، ويطيلوا أنفاسهم في الخطب والمراسلات والمحاورات والوصايا المختلفة. وكان الجاهليون لا يكادون يعرفون إلَّا البساطة والإيجاز والاقتضاب في هذه المطالب.
وهذا العصر أحظى جميع عصور الأدب العربي ببلاغة الأداء والقوالب العربية الصحيحة، وإنْ كان كل عصر من بقية العصور بعده لا يعدم من ذلك حصة جليلة أو ضئيلة، ومن المتعارف المتفق عليه بين علماء العربية أنه يجوز الاستشهاد على أيِّ بحث أريد من مباحث متن اللغة والصرف والنحو بأقوال الأدباء الأُمويين، كما يجوز الاستشهاد بأقوال الجاهليين والمخضرمين.
هذا هو الأوجُ العظيم الذي بَلَغَهُ أدب العرب في العهد الأُموي، وقد تولت زعامته بلادنا الشامية هذه.
وأمَّا من جاءوا بعد عهد أمية من عباسيين، وأندلسيين، وفاطميين، ومغاربة، فلا يجوز الاستشهاد بقول واحد منهم، ولو بلغ من العلم والفضيلة والشهرة مبلغًا عظيمًا، وإنما يجوز الاستئناس بأقوالهم في هذا السبيل لا اتخاذُها حجة دامغة، كما يجوز تقديم الأمثلة في علم البيان، وفي غيره من مصطلحات علم أو فن أو صناعة، أو عادة جارية، أو حادث تاريخي، أو حديث مأثور، من أقوال أي أديب كان إذا اشتملتْ على هذا المطلب، سواء كان الأديبُ متقدمًا في الزمان أو متأخرًا.
ثم جاء العصر العباسيُّ وما حاذاه من عصور أهل الأندلس، ثم عصور الدول التي انشقت عنه — أي: عصور الفاطميين، والمغاربة، وآل بُوَيْهٍ، وآل حمدان — وحَمَلَة الأقلام في هذه العصور يُعرَفون بالمولِّدين أو المحدثين، كما يعرف العصر السابق — أي: عصر بني أُمية — بالعصر الإسلامي الأول، أو العصر الإسلامي القديم، أو العصر الإسلامي بإطلاق اللفظ.
وقد وصلت المدنية العربية في العصر العباسي وفروعه إلى الذروة العليا في العلم والفن، والصناعة والسياسة، وترف المعيشة. واشتد اختلاط العرب بالأعاجم تحت الرايات العربية إلى حد مدهش، فتأثر الأدب العربي بهذه الأحوال الطارئة أيما تأثر، وظهرت له ألوانٌ وصبغات علمية وفنية واجتماعية لم تكن معهودة منه في الطور السابق — أو كان له منها لمحات يسيرة لا يكاد يتبينها إلَّا الباحث المتأمل — ومن ثَمَّ اتسع نطاق المنظوم والمنثور في ضروب التفكير والتعبير.
ولا شك أنَّ هذا التقدُّم الأدبي يُحسب حسنة كبيرة من حسنات تلك المدنية الزاهرة الباهرة، ولكن الناقد البصير لا ينسى أنه قام يومئذٍ إزاء ذلك الإحسان مساءة مخزية بعوامل المدنية نفسها. نعم، إنَّ المولدين ازدادت أساليبهم رقة وتفننًا، ولكنهم قصروا في متانة اللفظ وصحة التركيب عن أسلافهم، نعم، إنهم أبرزوا من دقائق المعاني والتشابيه ومدهشات التأويل والتعليل ما لم نعهده من رجال الأدب العربي القديم، ولكنهم قصروا عنهم مسافة شاسعة في الصراحة، والجرأة، والإباء، والأنفة، إذ قام مقام ذلك في كثير من آثارهم نفاقٌ وتدليسٌ وخنوعٌ واستخذاءٌ، ذهبت دولة البساطة والطبيعية لتحل محلها دولة التصنُّع والتكلف.
ولا شك أنَّ من نتائج ذلك التكلف ما مني به القوم من الولوع بالسجع، أي: الكلام المُقَفَّى إلى غايةٍ أفسدت محاسنه ونكرت معالمه، فقد أسرفوا في ذلك إسرافًا مستثقلًا، بحيث أصبح السجع ستارًا كثيفًا لعجز العاجزين إزاء السامعين والقارئين، إلَّا إذا كان فيهم أهل بصر وبصيرة لا يعوقهم ذلك الستار عن صحة النظر وصحة الحكم. هكذا شأن الكلام المسجع إذا أفرط فيه أصحابه، وأمَّا إذا جرى مجرى الاعتدال، وكان رصينًا حالًّا محله؛ فلا شك أنه يحسب حلية من حلى الأدب.
والذي قلناه في السجع يصح أيضًا في غيره من المحسنات البديعية اللفظية، وأهمها الجناس على اختلاف أنواعه؛ فقد أفرط القوم في ذلك على سبيل التحذلق، والمباهاة الفارغة، فأساءوا وافتضحوا، ولو اعتدلوا لَأحسنوا وأصابوا.
ومن مفاسد تلك الحقبة الطويلة، عادةُ التغزُّل بالغلمان والتمتع بهم، والتباهي بذلك والتنافس في سبيله. ومحصل القول: أنَّ استبحار الدول العربية في عمرانها، وشدة احتكاكها بالمدنيات القديمة للفرس، والسريان، واليونان، والرومان، والقبط، والنبط؛ أفادهم في عدة نواحٍ من العلم والأدب، والفن والصناعة، ورغد المعيشة، وأَضَرَّ بهم في نواحٍ أُخر بدبيب العدوى الخبيثة فيما أشرنا إليه من مفاسد القول والعمل.
ثم جاءتْ عصورُ الانحطاط من القرن الثامن أو التاسع للهجرة إلى أواسط القرن الثالث عشر، وأسباب الانحطاط ضعفُ الدول العربية، بل زوال كثير منها مع ما أصاب البلاد من جوائح هولاكو، وتيمور لنك، والحروب الصليبية، وحروب عرب الأندلس مع جيرانهم الفرنجة، وتطاحُن العرب هناك فيما بينهم، وانقسامهم إلى دويلات سمي أمراؤها: ملوك الطوائف، ثم ذهاب ريحهم جملة، وتركهم البلاد لأصحابها الأَوَّلِين.
إنَّ هذه الأحداث وقفتْ سدودًا عالية من حديد في وجه الأدب العربي في الثقافة العربية، فلم يكن أهل العلم والأدب يرون أمامهم من تنشيط مالي أو معنوي بعض ما كان يتمتع به أسلافُهم، ففترت هممهم، ثم كلَّت قرائحهم وأقلامهم، واقتصروا على التقليد الجامد، والمحاكاة الجافة بعبارات ركيكة وخواطر قاصرة.
ولكن هذا الطور — على ضعفه — أفادنا بإخراج عدة كتب نفيسة من الموسوعات العلمية والأدبية، حشدت فيها تحف وطرف كثيرة من أقوال المتقدمين والمولدين، ولم يحرم هذا الطور رجال قرائح نيرة وأذهان حادة، كابن خلدون، وجلال الدين السيوطي، وصفي الدين الحلي، وابن نباتة المصري، وابن النبيه، وغيرهم.
وقبل الخروج من التوطئة الحاضرة يجدر بي أنْ أوجه نظر القارئ إلى الكرامة العظيمة التي نالها الأدب العربيُّ في عُيُون الأعاجم، فضلًا عن عيون أهله، حتى إنَّ الإسبان جيران العرب وعشراءهم كانت فئاتٌ منهم تُقبل عليه وتتدارسه، وينبغ بينها من يجيد النثر والنظم في اللغة العربية.
ومن مرويات ذلك الزمان أنَّ أحد زعماء الدين المسيحي من الإفرنج، وكان أسقفًا لقرطبة كتب إلى بعضهم يشكو زهد أبناء أبرشيته، ولغته في اللغة اللاتينية التي هي عندهم لغة الدين، وتاريخهم الكنسي، وتاريخهم القومي، حتى إنَّ بعضهم ضعفاء فيها إلى درجة مخجلة، في حين أنَّ كثيرين منهم فُتنوا باللغة العربية والأدب العربي، وأقبلوا عليهما حتى بلغوا منهما درجة حسنة كأنهم عرب أقحاح أبًا عن جد.
ومدلول هذا الحادث جليٌّ واضح، لا يحتاج إلى شرح وتعليق، فوا أسفاه، ووا خجلاه! ما أعظم الفرق بين حالنا وحال أسلافنا أولئك! نصرتهم عزةُ الجانب حتى غزت الأجانب في عقر دارهم، كما نصرت الأجانب اليوم حوالينا حتى غزتنا في عقر دارنا.
ثم جاء بعد عهد الانحطاط عهد نهضتنا الحديثة الحاضرة، التي ابتدأت منذ مائة سنة تقريبًا على عهد المغفور له محمد علي باشا — مؤسس الأسرة المالكة اليوم في مصر — فقد انتصر للعرب والعربية انتصارًا صادقًا، مبارك الثمرات، وحذت حذوه في ذلك سلالته الطيبة، وقام أهل سورية ولبنان بقسطٍ كبيرٍ من مظاهر هذه النهضة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنهم قاموا بالقسط الأكبر منها في أوائل نشأتها، وكان معظم الفضل يرجع إلى هممهم وقرائحهم، لا إلى حكوماتهم وحكامهم، ولم يقصر في هذا السبيل أهل مصر، والعراق، والمغرب، وجزيرة العرب. ولكن بخطواتٍ أبطأ.
ولا يلزمني الساعة أنْ أفيض الكلام بشأن نهضتنا الحاضرة، فنحن اليوم لا نزال في قيد الحياة نخوض عبابها، ويكاد يغنينا فيها الخُبر عن الخبر، ولكن لا بُدَّ من إلقاء حكم إجمالي عليها بكلماتٍ وجيزة، فأقول: إنَّ الأدب العربي فيها — ومن مشتملاته المستحدثة صحافته القوية قوة نسبية — يفوقُ بصورة ظاهرة الأدب العربي الذي تاخمه وانسلخ عنه — أي: أدب عصر الانحطاط — فقد ترقَّى فيه النَّظْم والنثر إلى درجة محسوسة؛ إذ تخلص معظمه من التكلف والثقل في المقدمات والاستطرادات، والسجع وأمثاله من البديع اللفظي، ولكن نهضتنا الحاضرة في هذا العصر لا تزال مقصرة بصورة ظاهرة عن عهد المولدين وعهد الأمويين.
ولا شك أنَّ القُطر المصري السعيد بما له من اتساع رقعة وثروة، وكثرة سكان، ومئات الألوف من الجاليات العربية لعدة أقطار، ولكل منها علماء وأدباء وأساتذة؛ أصبح ذا حق اجتماعي بَيِّن في زعامة نهضتنا الأدبية هذه، ولكن هذا الحق المعنويَّ الشريف الذي له — ولا نظن بلدًا عربيًّا ينكره عليه — تُقابلُه واجبات يقتضي منه أداؤها، وأعظمها شأنًا أنْ يقدم الصبغة الأدبية العربية العامة على كل صبغةٍ وطنيةٍ مصرية، فالزعامة الصحيحة تتطلب من صاحبها أنْ يكون فوق الأحزاب والتقاليد والعنعنات، وإلَّا فلا يحسبن نفسه الزعيم الأعلى العام، بل زعيمًا خصوصيًّا لهذا الجيل من الناس، أو لهذا الإقليم من البلدان.
ويليق بي أنْ أختم هذه النبذة في تاريخنا الأدبي بإيراد كلمات مأثورة في الحكم على عدة من متعلقاته، أمَّا الإنشاء فقد قيل بشأنه: «بدئت الكتابة بعبد الحميد، وخُتمت بابن العميد.» وقال الصاحب بن عباد: «إنَّ بلغاء الزمان وفحول منشئيه أربعة: الصابئ، وأبو بكر الخوارزمي، وابن العميد، ولو شئت أنْ أذكر رابعهم لذكرتُه.» يريد نفسه، وهو بهذا الإضمار لم يَدَّعِ لنفسه أكثر من حقها.
وأمَّا الشعر فقد قيل بشأنه في الجاهلية: «أشعرُ الجاهليين امرؤ القيس إذا غضب، وأعشى ميمون إذا طرب، وزهير بن أبي سلمى إذا رغب، والنابغة الذبياني إذا رهب، وعنترة العبسي إذا ركب.» وقيل: «بدئ الشعر العربي بملك، وختم بملك» يريدون امرأ القيس، وأبا فراس الحمداني، وكان العرب يتوسعون في بعض تسمياتهم، فيسمون ملكًا كُلَّ أمير من أسرة مالكة، وعلى ذلك جَرَوْا في تسمية كل من امرئ القيس، وأبي فراس ملكًا.
وقيل: «من روى اعتذارات النابغة، وحوليات زهير، وحكم المتنبي، ومدائح أبي تمام، وتشبيهات ابن المعتز، وخمريات أبي نواس، وزهديات أبي العتاهية، ولطائف كشاجم، وروضيات الصنوبري؛ ولم يخرج إلى الشعر فلا أشب الله قرنه.» وهيهات أنْ يروي أديبٌ هذه الدواوين كلها، فالصحيحُ أنْ تروى منها خلاصاتٌ ومختارات كافية.
وهذه الأقوال التي أوردتها ربما وقع فيها تحريفٌ زهيد عن سهوٍ مني، أو عن اختلاف رواتها الأصليين فيما رَوَوْهُ، وعلى كلا الحالين لا يُعدُّ الفرق جوهريًّا يفسد جوهر القضية. والفائدة التي أتوخاها، ومما يتناقلونه ذكر تسعة من فحول الشعراء اشتهر كل ثلاثة منهم في عهد. فللجاهلية: امرؤ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير ابن أبي سلمى، ولعصر الأُمويين: الأخطل، وجرير، والفرزدق، ولعصر العباسيين: أبو تمام، والبحتري، والمتنبي.