الفرصة الذهبية
١
نجح باني في امتحاناته، وأصبح كما هو متوقع «طالبًا رزينًا بالسنة النهائية» في جامعة جنوب المحيط الهادي. وبمجرد تواصُله مع أصدقائه، وقع على كاهله الكثير من المشاكل! كان الجميع حرفيًّا يعانون من المشاكل! فقد عادت رايتشل وجيكوب مينزيس من قطف الفاكهة لهذا الصيف، ليجدا أن شقيقَيهما الأصغر سنًّا، «اليساريَّين»، قد زُج بهما في سجن المقاطعة! نجم ذلك عن مداهمة الشرطة لاجتماعٍ شيوعي، وإلقاء القبض على جميع المتحدثين والمنظِّمين وموزِّعي المنشورات، وكل من كان يضع شاراتٍ حمراءَ في عروات قمصانهم. وداهمَت الشرطة كذلك المقر الرئيسي للشيوعيين، حيث أعلنَت الصحفُ أن الشرطة كانت عازمةً على التخلُّص من كل عميلٍ روسي في المدينة. وقسَّموا السجناء، وفرضوا غرامات على بعضهم، واحتجزوا الباقين، بمن في ذلك ابنا مينزيس، بموجب تلك التهمة الفضفاضة «الاشتباه في التورط في نشاطٍ نقابيٍّ إجرامي» التي يسهُل إلصاقُها بأي شخص.
قالت رايتشل إن هذَين الصبيَّين الأحمقَين أوقعا نفسَيهما في المشاكل، ولكن ليس من العدل اعتقال أشخاص بسبب معتقداتهم، ومن المؤلم التفكير في أن أناسًا من لحمك ودمك محبوسون في تلك الأقفاص الرهيبة. سألها باني عن الكفالة، وأخبرته أنها ألفا دولار لكل أخ. بدأ يشرح لها مشاكله مع والده وعدم قدرته على فعل شيء، وأكَّدَت له رايتشل تفهُّمَها للوضع؛ فهي لا تتوقع منه أن يُنقِذ جميعَ أعضاءِ الحركة الراديكالية. وبالرغم من ذلك، لم يتمكن باني من استعادة راحة باله بالكامل.
بعد ذلك كان هناك هاري سيجر، الذي انهارت كليةُ إدارة الأعمال الخاصة به. فقد دمَّرَتها المقاطعة، وكان هاري يحاول بيعَ ما تبقى منها. وكان ينوي شراء مزرعة جوز؛ إذ سيكون من الصعب مقاطعة الجوز، فلا يمكنك التمييز بين الجوز «الأحمر» و«الأبيض»!
كان هناك أيضًا دان إيرفينج، الذي كانت كلية العمال الخاصة به في وضعٍ لا تُحسد عليه. فقد أخافت موجةُ الاعتقالاتِ القادةَ العماليين المحافظين تمامًا. وعلى الرغم من استمرار عمل الكلية، كانت غارقةً في الديون، ولم يتقاضَ رئيسُها أي راتبٍ منذ عدة أشهر. أعطى له باني شيكًا بمبلغ مائتَي دولار، ورحل وهو يفكِّر مليًّا في المسألة التي لن يستطيع تسويتها أبدًا وهي: إلى أي مدًى كان له الحق في نهب والده لصالح أعداء والده؟
عرفَ من دان إيرفينج أن بول قد خرج من السجن، وأنه في إنجِل سيتي، مع روث. وأطلَعه كذلك على الصفقةِ القذِرة التي كان عمالُ النفط قد حصلوا عليها؛ حيث استغل أصحابُ الآبار مجلسَ النفطِ للمرة الأخيرة، لخداع العمال ودفعِهم إلى الاستسلام الكامل. فقد وعدوا مجلسَ النفط بأنه لن يكون هناك أيُّ تحيُّز ضد العمال التابعين للاتحاد، لكن لم تكن لديهم أدنى نيةٍ للوفاء بهذا الوعد. واحتفظوا بجميع العُمال البُدلاء، ولم يستعيدوا من المضربين سوى ما يكفي لتعويضِ احتياجاتهم. وكان جميع أعضاء الاتحاد الناشطين يتوسَّلون للحصول على فرصةِ عمل، وأصبح قطاعُ النفط كساحةٍ للعبيد تديرها «الجماعة المناهضة لفكرة الاتحادات».
٢
ذهب باني على الفور لزيارة بول وروث في العنوان الذي أعطاه إياه دان إيرفينج. كانا يعيشان في نُزلٍ حقيرٍ وقذِر، يقع في جزء من المدينة غالبيةُ سكانه من المكسيكيين والصينيين. وجَّهَته عجوزٌ إلى الطابق الثاني، ودلَّتْه على باب غرفتَيهما، طرق باني الباب، لكنه لم يتلقَّ أيَّ رد. عاد لاحقًا، ووجد أن روث كانت قد وصلَت للتو. كانا يتشاركان غرفةً واحدةً صغيرة، بها موقدُ غاز ومغسلةٌ في كوةٍ عديمةِ التهوية، وكوة أخرى أمامها ستارة، وبها سريرٌ صغيرٌ قابلٌ للطي والنقل كان بول ينام عليه. شعَرَت روث بالخجل من زيارة باني لهما في مكانٍ مثل هذا، لكنها أوضحَت أن هذا الوضع لن يطول، وسينتهي بمجرد حصول بول على وظيفة؛ فقد كان بالخارج يبحث عن عمل في هذه اللحظة. وقد حصلَت هي على وظيفةٍ في أحد المتاجر المتعددة الأقسام، وبمجرد أن تتحسن ظروفُهما ستدرُس التمريض. بدت شاحبةً ومنهكة، لكنها ابتسمَت بشجاعة؛ فهي حقًّا لم تكن تهتم بأي شيء، ما دام بول خارج السجن.
أراد باني أن يعرف كل الأخبار، وأمطر روث بالأسئلة. وكان مهتمًّا بمعرفة سبب إلقاء القبض على بول. أخبرَتْه روث أنه، في المرة الأولى، داهم المأمور كابينة آل راسكوم، برفقة الكثير من الرجال القساة البغيضين، الذين مزقوا كل شيء إرْبًا وصادروا كل كتب بول وأوراقه، وما زالوا يحتفظون بها. وفعلوا الشيء نفسَه مع جميع الرفاق الآخرين الذين كانوا يأتون إلى الكابينة؛ كل ذلك من أجل إثبات أنهم «بلاشفة»، ولكن الدليل الذي كانوا يملكونه أو زعموا امتلاكه كان سرًّا احتفظ به المأمور أو المدعي العام أو أيًّا كان منصبه لنفسه. فقد كان بينهم الكثير من الجواسيس، وكان أحد زملائهم معروفًا بأنه جاسوس، واختفى اثنانِ آخران، ولا شك في أنهما سيظهران بصفتهما شاهدَين، ولكن مَن بإمكانه معرفةُ ما الذي سيشهدان به؟ كان الرجال الآخرون جميعًا لا يزالون محتجزين في تلك الزنازين البشعة، المظلمة القذرة، دون فعل شيءٍ طَوال النهار أو الليل. وكان من المقرَّر إجراء المحاكمة في شهر فبراير المقبل، ومن الواضح أنهم كانوا سيبقَون هناك حتى ذلك الحين. أُطلق سراحُ بول بفضل عشرة آلاف الدولار التي أرسلَها باني، وكانت روث عاجزةً عن التعبير عن امتنانها …
قاطعها باني وأخبرها ألَّا تشغَل بالها بذلك الأمر، وسألها عن سبب اعتقال بول في المرة الثانية. أخبرَتْه روث كيف أصدر القاضي ديلانو أمرًا قضائيًّا يمنع أي شخصٍ من التدخُّل في أعمال شركة إكسلسيور بيت، بما في ذلك إنتاج النفط وتسويقه. وكان ذلك يعني أنه لا يجوز لك الدعوة إلى الإضراب أو التشجيع عليه، وهذا بالطبع ما كان بول يفعله؛ ولذلك أرسله القاضي إلى السجن، هذا كل ما في الأمر. كان القضاة يفعلون ذلك طَوال الوقت؛ ولذلك لم يكن بوسع عمال الاتحاد فعل شيء. لقد كانت فترةً عصيبةً في حياة بول، أثَّرَت سلبًا على صحته، وبالطبع كان يشعر بمرارةٍ شديدة. وقد قرَّر أنه لن يعود إلى بارادايس مرةً أخرى؛ فهي لم تعُد كالسابق على الإطلاق. ابتسمَت روث ابتسامةً باهتة، وقالت: «لقد قطعوا كل تلك الأشجار الجميلة التي زرعناها يا باني. فقد كانوا بحاجة إلى مساحة للصهاريج.»
أخرج باني دفتر الشيكات الخاص به، وسعى إلى إراحة ضميره بتقديمِ هديةٍ لصديقَيه. لكن روث رفضَت، وكانت متأكدة من أن بول لن يدَعه يفعل ذلك. فبإمكانهما تدبُّر أمورهما. فقد كان بول نجارًا جيدًا، وعاجلًا أم آجلًا سيجد صاحبَ عملٍ مستعدًّا لتعيينِ شخصٍ قضى مدةً في السجن. أصرَّت روث على رفضها بالرغم من جدال باني، وأخبرَتْه أنها حتى لو قبلَت منه الشيك، فسيعيده بول له.
لم ينتظر باني عودة بول، واختلق بعض الأعذار، ورحل. لم تكن لديه الجرأة للجلوس هناك، بملابسه الأنيقة التي اختارتها له فِي في نيويورك، وسيارته الرياضية الجديدة التي تنتظره بالأسفل، ورؤية بول وهو يدخل، مريضًا، محبطًا من البحث عن عملٍ دون جدوى، ومثقلًا بكل ذكريات الظلم والخيانة السوداء. بالطبع كان بإمكان باني تقديمُ الأعذار. فلم يكن بول يعلم أنه كان يقضي الصيفَ في اللهو مع الممثِّلة المفضَّلة لدى العالم، بل سيعتقد أنه رحَل من أجل أبيه. لكن لا شيء يمكن أن يغيِّر حقيقةَ أن باني كان يعيش في رفاهيةٍ بسبب الأموال التي انتُزعَت من عمال بارادايس، ولا شيء يمكن أن يغيِّر حقيقةَ أن بول قضى ثلاثةَ أشهرٍ في السجن، وأن الرفاق الآخرين سيقضُون ما يقرُب من عام في السجن من أجل زيادة هذه الأموال، ولمضاعفة استغلال العمال. وما دامت هذه هي الحقيقة، لم يكن بوسع باني فعلُ شيءٍ سوى التهرُّب من بول!
٣
المال! المال! المال! كان المال يتدفق على الأب وفيرن. لم ترتفع أسعار النفط إلى هذا الحد من قبلُ، ولم تكن وتيرةُ الإنتاج في بارادايس بهذه السرعة من قبلُ. كانت الأرباح بالملايين، وكانوا يخطِّطون لجعلها عشرات الملايين. لقد كانت لعبةً رائعة، لا تُقاوَم، وكان الجميع يشارك فيها، فلماذا لم يكن باني مهتمًّا بها؟ ولماذا كان عليه أن يتسلل إلى غُرف تبديل الملابس وخلف المدرجات؛ ليكتشف حقائقَ قذرةً وسيئةَ السمعة عن لاعبي هذه اللعبة وأساليبهم؟
بدا كما لو أن القدَر كان يتآمر على باني. ففي كل مرة كان يحاول على استحياء أن يكونَ مثلَ والده وأصدقاء والده، كانت تحدُث بعضُ التطورات الجديدة لتطيح بمحاولاته وتُسقِطها أرضًا! فقد التحَق بإحدى الجامعات المحترمة للغاية؛ سعيًا لتحسين عقله وليصير رجلًا محترمًا، وسلَّم عقله الشاب المتحمس إلى السلطات الأكثر تقليديةً وانتظامًا، واثقًا من قدرتِها على جعله صالحًا وصادقًا وسعيدًا، وتعليمه الحكمةَ والكرامةَ والشرف! كانت مثل هذه الأشياء تُدرَّس لجميعِ الطلابِ في هذه المؤسَّسة العظيمة، التي بدأَت مدرسةً دينيةً ميثودية، ولا تزال تُقدِّم مقرراتٍ دراسيةً عن دين يسوع المسيح أكثر من أي مادةٍ أخرى! نعم، لا شك في ذلك!
لقد تطوَّرَت الجامعة بفضلِ أموالِ بيت أورايلي، ملك النفط، وكان ابن بِيت أورايلي قد تخرَّج في الجامعة أيضًا، وكان «بِيت الأب» و«بِيت الابن» يحظيان بمعاملة خاصة في الحرم الجامعي. وأثناء حفل التخرُّج، انحنى أعضاء هيئة التدريس أمامهما، ولم تخلُ جميعُ الأخبار التي أرسلَها مسئولُ الدعاية بالجامعة إلى الصحف من اسمَي بِيت أورايلي، الأب والابن. وكان الابنُ من أنشط الخرِّيجين، ويتمتَّع بمكانةٍ كبيرة بينهم؛ فعند إقامة الولائم، كانوا يشربون نخبه ويمدَحونه ويهتفون باسمه؛ فقد كان راعي جميع الفرق، والصديق السخي لجميع الرياضيين. وبالطبع، إذا كنتَ على دراية بنظام الجامعات الأمريكية، فستُدرِك أن هذا الأمر يلعب دورًا مهمًّا في تشكيل عقول الطلاب؛ فهذا هو الشيء الذي يفعلونه لأنفسهم، وينخرطون فيه بكل روحهم.
في البداية بدا الأمر على ما يُرام. وكان من المعلوم أن جامعة جنوب المحيط الهادي كانت جامعةً مجيدة، وتضم فرقًا رائعةً حقَّقَت انتصاراتٍ تردَّدَت أصداؤها في كل مكان. وحاليًّا كان هناك استادٌ رياضي، وبرامجُ ضخمةٌ للألعاب الرياضية، وأسفر ذلك عن نيل الجامعة الأم استحسانًا لا حصر له ودعايةً مجانية. كان هذا أمرًا يدعو للفخر، وقد اتحد في هذا الشعور جميعُ الطلاب بفضل ذلك الشيء الذي يُسمَّى «روح الانتماء للجامعة». وحَظِي باني، الذي كان عدَّاءً، على نصيبه من الهتاف؛ فقد كانت هذه «لعبة» يستطيع أن يلعبها من كل قلبه!
لكنه كان الآن طالبًا بالسنة النهائية وأصبح في قلب الأحداث، تمامًا كما هو الحال في لعبة النفط، والإضرابات، والحملات السياسية. فماذا اكتشَف؟ ببساطة، هناك مَن يسرقُ كل الانتصارات التي تُحقِّقها جامعةُ جنوب المحيط الهادي في كرة القدم وسباقات العَدْو وغيرهما من الرياضات، وكان «بِيت أورايلي الابن» هو اللص! فقد أنشأ ابن ملك النفط صندوقًا يحتوي على خمسين ألف دولار سنويًّا، لتحويل الألعاب الرياضية بالجامعة إلى عملية احتيال! وكانت تُدير الصندوق لجنةٌ سريةٌ مكوَّنة من الخريجين والطلاب، وكان يُستخدَم لشراء الرياضيين، وتسجيل أسمائهم بموجب ذرائعَ كاذبةٍ ليُحقِّقوا انتصارات لجامعة جنوب المحيط الهادي. وكان هؤلاء الرياضيون شبابًا أقوياءَ من سائقي الشاحنات والحطَّابين وعمال المزارع وعمال الشحن والتفريغ بالميناء، الذين لا يستطيعون التحدُّث باللغة الإنجليزية بشكلٍ صحيح، ولكن يمكنُهم صد «الاختراقات» والاصطدام بالخصم لتسجيل هدف! وكان الميثوديون الأتقياء الذين يشكِّلون هيئةَ التدريسِ متواطئين في هذا الأمر، إلى حد السماح لهؤلاء الشباب الأقوياء البنية باجتياز اختباراتٍ هزلية؛ إذ كانوا يعرفون خير المعرفة أن أيَّ أستاذٍ جامعيٍّ يجرؤ على أن يكون سببًا في رسوب ظهير رُبعي واعد؛ سيبحث قريبًا عن جامعةٍ أخرى ليعمل فيها. وقد أظهر «بِيت الابن» رأيَه في الأساتذة، من خلال إعطاء مدرب كرة قدمٍ ثلاثةَ أمثالِ راتب أفضل أستاذ بالجامعة.
وبالطبع عُيِّن هؤلاء الرياضيون للفوز، دون الاهتمام بقواعد اللعبة؛ ولذا كانوا يدفعون الخصم ويرتكبون الأخطاء، وكانت الفرق المنافسة تدفع لهم المال، وكانت هناك فوضى شائنة، تشوبها اتهاماتٌ واتهاماتٌ مضادة، ورشاوى وتهديدات، وأصبحَت الأجواء تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ تلك الخاصة بالمحاكم الجنائية. وصاحَب هذا الاحترافَ السريَّ مرافقوه من العالم السفلي من مهربين ووكلاء مراهناتٍ وبائعات هوًى. وأصبحَت الدراسة كمزحةٍ للمصارعين المستأجَرين، وسرعان ما أصبحَت مزحةً للطلاب الذين ارتبطوا بهم. وكان الهدف الوحيد هو الفوز بالمباريات، وبلغَت قيمة الأرباح مائتَي ألف دولار من إيصالات البوابة، وعند توزيع هذه الأرباح، كان هناك العديد من أنواع الكسب غير المشروع التي يمكن العثور عليها في حكومة إحدى المقاطعات؛ حيث كان هناك طلابٌ يقدمون فواتير لهذا وذاك، وطلابٌ يبحثون عن وظائفَ سهلة، وطلابٌ وخريجون يبتكرون نظامًا، ويدفعون لأنفسهم وأتباعهم المال في شكل عقود وخدمات. نتَج كل ذلك بسبب تصميم أحد ملوك النفط على إنتاج الثقافة بالجملة، بموجب أمرٍ تنفيذي!
٤
ذهب باني لمقابلة المحامي الشاب الذي عيَّنه اتحاد عمال النفط للدفاع عن «السجناء السياسيين» الثمانية. في ذلك الوقت كان الاتحاد منحلًّا فعليًّا، وكان المحامي الشاب يتساءل من أين سيحصُل على راتبه. وعندما جاء باني ليستفسر منه عن بعض الأشياء، شعَر براحةٍ كبيرة؛ فمن المؤكَّد أن أمير النفط الشاب هذا سيعطيه بعض المال للدفاع عن أصدقائه! أم أنه أُرسِل مبعوثًا من الجانب الآخر ليتفقَّد الوضع؟
تحدَّث السيد الشاب هارينجتون بحُرية عن القضية. وأوضَح أن ما كانت الولاية تفعله بهؤلاء الرجال الثمانية لم يسبق له مثيلٌ في قانوننا، وإذا استَمر الوضع على ما هو عليه، فإن هذا سيعني نهاية العدالة الأمريكية. فمن المفترض أن يعرف كلُّ سجينٍ التُّهمَ الموجهة إليه، والأفعالَ المحدَّدة التي يُزعَم أنه ارتكبها. لكن في كل قضايا «النشاط النقابي الإجرامي»، كانت الدولة ببساطةٍ تكتفي بزعم انتهاكِ القانونِ بمصطلحاتٍ قانونيةٍ عامةٍ غامضة. وحينئذٍ يظهر السؤال التالي: كيف يمكنكَ إعدادُ دفاعٍ في مثل هذه القضية؟ ومَن هم الشهود الذين ستستدعيهم، وأنت لا تعرف الزمان، أو المكان، أو الأشياء المحدَّدة التي يُزعَم أن المتهمين قد فعَلوها، أو قالوها، أو كتَبوها، أو نشَروها؟ لقد نُقِل المتهمون إلى المحكمة معصوبي الأعين ومقيَّدين ومكمَّمين. ومع ذلك، كانت المحاكم مرتعبةً للغاية من حشودِ رجالِ الأعمال؛ ولذلك لم يأمر أي قاضٍ المدَّعيَ العامَّ بتقديم بيانٍ مُفصَّلٍ بالتهم!
رحل باني وهو في حالةٍ من اليأس، وقرَّر أن يلعب خدعةً قذرةً على فيرنون روسكو؛ ولذا ذهَب لزيارة آنابيل إيمز. كانت آنابيل طيبةً ولطيفة، وكان باني مستعدًّا لانتزاع روحها ليرى ما إذا كان بهذه الطريقة سيتمكَّن من إخراج عملاق النفط العجوز من مخبئه! أخبَرها عن هؤلاء الأولاد، وكيف يبدون، وما يؤمنون به، وما يعانونه في السجن. استمعَت آنابيل، وانهمَرَت الدموع من عينيها، وقالت إنه لأمرٌ فظيعٌ أن يكون الرجال بهذه القسوة. وسألَتْه عما يمكنها فعله. أخبَرها باني أن الإضراب قد انتهى، وأن الخروف قد ذُبح وأُكل؛ ولذا يجب على فيرن أن يُوقِف هذا الأمر. ولا فائدةَ من ادعائه أنه لا يستطيع فعل أي شيء، وأن القانون يجب أن يأخذ مجراه؛ فهذا كلُّه هُراء لأن المدعي العام له الحق في طلب إسقاط القضايا، ومن المؤكَّد أنه سيفعل ذلك إذا طلَب منه فيرن ذلك.
وبالفعل تمكَّن باني من إخراج عملاق النفط العجوز من مخبئه! وسمع أن الأب قد عاد إلى المنزل وهو في حالةٍ يُرثى لها، بعدما هجَم عليه فيرن الذي كان هائجًا مثل الشيطان؛ بسبب تسلُّل باني إلى منزله ومحاولتِه زعزعةَ استقرارِه العائلي! وأراد أن يوضِّح للأب أنه إذا لم يتمكَّن من السيطرة على ابنه، فسيتولى بنفسِه هذا الأمر. أراد باني أن يعرف ما كان ينوي فيرن فِعلَه، هل سيضربه؟ أم أنه سيحبسه مع الآخرين؟
كان باني قد قرَّر الثبات على موقفه؛ فقد كان لديه كامل الحق في التحدُّث إلى آنابيل، فقد كانت امرأةً ناضجة، ولم تكن هناك طريقةٌ يمكن لفيرن أن يمنعه بها. وكان ينوي التحدُّث مع الأب قبل أن يتخذ أي إجراء؛ ولذلك كان آسفًا على ما يشعُر به والده من حزن، ولكن في حقيقة الأمر، إذا عُرضَت هذه القضية على المحكمة، فسوف يشهد باني روس لصالح المتهمين الثمانية، ولن يكون مجرَّد شاهد، بل شخصٌ لديه معرفةٌ مباشرةٌ بالحقائق؛ فقد جلس في كابينة آل راسكوم ليلةً بعد ليلة، وسمعَهم يناقشون مشاكلَ الإضراب، وموقفَهم منه، ويمكنه أن يشهد بأن كل رجلٍ منهم قد وافَق على أن تضامُن العمال هو الطريق إلى النصر، وأن أعمال العنف هي فخٌّ حاول أصحابُ الآبار استدراجَهم إليه. وإذا لم تكن هناك طريقةٌ أخرى للحصول على المال للدفاع عن هؤلاء الصبية، فسيبيع باني السيارة التي أعطاها له الأب، وأضاف قائلًا: «أظن أن فيرن لن يكون له أيُّ حقٍّ في منعي من السير إلى الجامعة!»
لم يستطع الأب المسكين أن يتحمل كلامًا كهذا من ابنه العزيز، وبدأ يستسلم، وكشَف عن أنه ناقش مع فيرن إمكانيةَ التوصُّل إلى حل وسط مع المتمردين. وتساءل عما إذا كانوا سيوافقون على الخروج من الولاية، أو على الأقل الابتعاد عن قطاع النفط. تعجَّب باني من كلامه، وأخبره أن فيرنون روسكو إذا أراد تقديم اقتراح مثل هذا، فبإمكانه فعلُ ذلك بنفسِه! كان باني يعرف ردَّ بول على هذا الاقتراح؛ فقد كان لدى بول الحقُّ في تنظيم عمال النفط، وهو لن يتوقف عن ذلك أبدًا ما دام حيًّا. وكان باني متأكدًا من أن جميع الرجال الثمانية سيرفضون هذا الاقتراح رفضًا قاطعًا، وخيرٌ لهم أن يظلوا في السجن بقيةَ حياتِهم من أن يعقدوا مثل هذه الصفقة!
بعد الإفصاح عن رأيه ببراعةٍ هائلة، واصَل الشاب المثالي، الذي كان يتطوَّر بشكلٍ تدريجيٍّ ومؤلم إلى رجلٍ ذي خبرة، توضيحَ أنه في واقع الأمر لن يكون لدى أيٍّ من الرجال الثمانية فرصةٌ كبيرة لإزعاج فيرن. فنظام القائمةِ السوداءِ الفعَّال الذي استحدثَه سيضمنُ عدمَ حصولهم على عملٍ في حقول النفط، وأيُّ تنظيمٍ لهم لن يمثل أي قوة. من ناحيةٍ أخرى، يجب أن يُدرِك فيرن أنه إذا استمر في محاولة نقل هؤلاء الزملاء إلى السجن، فستكون هناك محاكمةٌ طويلة، والكثيرُ من الدعاية التي قد يجدُها أصحابُ الآبار أمرًا مزعجًا. وبالطبع ستكون الأدلة «ملفقة»، وسيبذل باني كل ما في وُسعِه لفضحِ هذا الأمر والتأكُّد من حصول العامة على الحقائق. ماذا لو استدعى محامي المتهمين السيد فيرنون روسكو أمام المحكمة، وسأله عما يعرفُه عن زرع الجواسيس وسط عمال بارادايس؟
صاح الأب: «لا يا بني، أنت لن تُقدِم على فعل شيءٍ قذرٍ كهذا!»
أجاب باني: «بالطبع لن أفعل ذلك. لقد قلتُ إن المحامي هو من سيستدعيه. ألم تكن لتفعل ذلك لو كنتَ مكانه؟» شعر الأب بضيقٍ شديد، وطلَب من باني تركَ الأمرِ جانبًا الآن، وسيرى ما يمكن فعلُه مع فيرن.
٥
كان من نتائجِ هذه المفاوضاتِ أن ناشَد الأبُ فِي تريسي أن تبذلَ مزيدًا من الجهد، لإبعاد باني عن أيدي أنصار الشيوعية الفظيعين هؤلاء. يبدو أنه لم يكن هناك حلٌّ آخر! أخبرَتْه فِي أنها ستحاول، وبالفعل أضافت هذه المحاولات مزيدًا من التوتُّر على حُبهما وعاطفتهما. وذلك لأن باني كان قد بدأ يعرفُ ما يريده في الوقت الراهن، ولم يُرِد أن يمنَعه أحدٌ من تنفيذه.
كانت فِي تعمل بجدٍّ على فيلم «أميرة الباتشولي» (ذا برينسيس أوف باتشولي). وبالرغم من اعترافها بكل صراحةٍ بسخافة القصة، كانت تركِّز بكل كيانها على جعلها حقيقيةً وحيوية. وإذا سألتَها عن السبب، فسيكون جوابها أن هذه هي مهنتها؛ مما يعني أنها كانت تحصُل على أربعة آلاف دولار أسبوعيًّا، مع إمكانية زيادتها إلى خمسة آلاف دولار أسبوعيًّا إذا «أبلت بلاءً حسنًا». لكن ماذا أرادت أن تفعل بخمسة آلاف الدولار أسبوعيًّا؟ هل أرادت شراءَ مزيدٍ من التصفيق والاهتمام، كوسيلةٍ للحصول على مزيدٍ من آلاف الدولارات لأسابيعَ أخرى؟ لقد كانت حلقةً مفرغة، تمامًا مثل آبار النفط التي يمتلكُها الأب. كان للمنخرطين في «اتحاد عمال الصناعة في العالم» أغنيةٌ عن هذا الأمر يغنُّونها في تجمُّعاتهم: «نحن نذهب إلى العمل للحصول على المال لشراء الطعام، للتمتع بالقوة للذهاب إلى العمل للحصول على المال لشراء الطعام، للتمتع بالقوة للذهاب إلى العمل …» وهكذا، حتى تنقطعَ أنفاسُك.
أرادت فِي أن تتحدَّث عن الفيلم والمشاكل التي تظهر يومًا بعد يوم، والشخصيات المختلفة وغَيرتهم وغرورهم، وحُبهم وكُرههم. وكان باني، الذي كان يُحبها، يتظاهر بالاهتمام؛ لأنه كان سيؤذي مشاعرها لو لم يفعل ذلك. وانطبَق الأمر على حفلات هوليوود؛ فقد كانت سابقًا جديدةً ومذهلة، لكنها الآن تبدو جميعًا متشابهة. كان الجميع يشاركون في فيلمٍ جديد، لكنه كان دائمًا لا يختلف عن أفلامهم القديمة. لم يفعل أحدٌ شيئًا مبتكرًا، بل اتبع الجميعُ التياراتِ السائدة؛ فقد كان ذوق الجمهور يتجه نحو الأفلام الاجتماعية، ولم يكن أحدٌ يُريد مشاهدة فيلمٍ حربي، لكن بعد ذلك توجَّه الجمهور إلى الأفلام الحربية، ثم الأفلام التاريخية، وأفلام مغامرات البحار، ثم عاد مرةً أخرى إلى الأفلام الاجتماعية. وبالرغم من تغيير أصدقاء فِي لمهربي الخمور، كانوا دائمًا يشربون أنواعَ الخمورِ نفسها. كذلك كانوا يُبدِّلون عشيقاتهم؛ فكان الرجل يقيم علاقةً مع امرأةٍ ما، وبعد فترةٍ وجيزةٍ يصبح مع امرأةٍ مختلفة، ولكن كلما زادت وتيرة تغيير الأشياء، بقيَت على حالها.
كان باني وفِي متحابَّين، ولم يتغير شغفُ أحدهما تجاه الآخر. أو على الأقل، هكذا كانا يُحدِّثان نفسَيهما، ولكن طَوالَ الوقت لم تتوقَّف كيمياءُ التغيير الخفية عن العمل. فالرجال والنساء ليسا أجسادًا فقط، ولا يمكن أن يكتَفُوا بملذاتِ الجسدِ فقط. فلدَيهم عقول، ولا بد أن يكون هناك انسجامٌ في أفكارهم. وهنا يظهر السؤال التالي: هل يمكن أن يستمرَّ الحبُّ إذا شعَر الرجلُ والمرأة أحدهما بالملل من أفكار الآخر؟ فللرجال والنساء شخصياتٌ مختلفة، وهذه الشخصيات تدفعُهم إلى أفعالٍ معيَّنة، فماذا لو دفعَتْهم إلى أفعالٍ مختلفة؟ ماذا لو أراد الرجل قراءة كتاب بينما أرادت المرأة الذهاب لحفل راقص؟
لقد كانت فِي مراعيةً للغاية فيما يتعلق بعلاقتها مع «أبل صوص»، وكانت حريصةً جدًّا على ألَّا يشعُر باني بالغيرة، والآن اكتشف باني اكتشافًا مزعجًا مفادُه أن دوره قد حان لتوخي الحذر! فقد كان لدى فِي عدوتان، وكان باني يُصِر على أن تظلا مقربتَين منه. كانت الأولى تلك الفتاة الاشتراكية في الجامعة، وبالطبع كان عليه أن يراها هناك، ولكن هل كان عليه أن يذهب معها إلى الاجتماعات الاشتراكية؟ كانت فِي على استعدادٍ للاعتقاد بأنه لم يكن يُحب فتاةً يهوديةً وضيعة من الطبقة العاملة، ولكن ماذا لو أرادت فِي أن يصطحبها باني إلى «عرضٍ أول» في ليلة تُعقد فيها إحدى المحاضرات الاشتراكية؟
وكانت الفتاة الأخرى هي روث واتكينز! بالطبع لن يقع باني في حب فتاةٍ ريفيةٍ جاهلة، لم تحصُل على أي تعليم، ولكن مع ذلك، كانت تنصبُ له فخاخًا، وقد تعرَّفَت فِي على ما يكفي من الرجال لتعرف أن المرأة يمكنها دائمًا الحصولُ على ما تريد، إذا واصلَت السعي وراءه. فقد ظل باني يذهب إلى تلك الغرفة في النُّزل، ليضع الخطَط ويكيد المكايد مع بول لإثارةِ قلقِ والده، وإثارة المشاكل مع فيرن وآنابيل، وقريبًا لن يُرحِّبا بباني مرةً أخرى في الدير، الذي كان يمثِّل لفِي ناديًا ريفيًّا من الناحية العملية؛ حيث كانت تلتقي بالأشخاص المهمين للغاية. فمهنة الممثلة لم تكن تعتمد على الحياة الاجتماعية فقط، بل على العلاقات. ويُقاس النجاح في عالم السينما بمدى القبول الذي تتمتَّع به لدى الآخرين؛ ولذلك ببساطة لم تكن فِي تستطيع أن تتخلى عن علاقتها الوطيدة بفيرن وآنابيل. لقد حاولَت نقل ذلك بلباقةٍ إلى باني، ولكن عندما فشل في الالتفات إلى ما تقوله، كان عليها مواصلَة الإصرار، حتى أصبح الأمر مزعجًا. وتذكَّر باني ملاحظتَها المرحة لأبل صوص، «الأمر سيئٌ كما لو كنا متزوجَين!»
٦
أجرى الأب وفيرن الكثير من المفاوضات مع بِيت أورايلي، فيما يتعلق بعقود الإيجار الجديدة التي كانوا يُبرمونها، ودُعي الأب لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في المنزل الريفي لهذا الرجل الشهير. كان باني مدعوًّا أيضًا، وأصَر الأب على ضرورة حضوره؛ حيث كان يأمُل دائمًا في أن يُعجَب ابنُه الذي يصعب إرضاؤه بأحد الأشياء التي أثارت إعجاب الأب الشديد في هذا العالم «العظيم». وأضاف مبتسمًا أن عائلة أورايلي لديها ابنةٌ صالحة للزواج.
كان باني قد التقى بالفعل ﺑ «بِيت الابن» في الجامعة ضمن الفعاليات الرياضية. وقد حظي باني باهتمامٍ خاص؛ لأنه كان أيضًا نجلَ أحدِ أقطابِ النفط، ويومًا ما، سيتولى هو و«بِيت الابن» إدارةَ حكومةِ الولايات المتحدة، كما كان والداهما يُديرانها الآن. كان «بِيت الابن» رجلَ أعمال مشهورًا محليًّا لكنه لم يكن لافتًا للنظر على الإطلاق، على عكس والده الذي أصبح استثنائيًّا بعدما كان رجلًا أيرلنديًّا عجوزًا يتجول في الصحاري على ظهر حمارٍ يحمل معولًا، وبطانية، وكيسًا به لحمُ خنزيرٍ مقدَّد وفاصوليا، وقربةً مملوءةً بالماء. وقد استمر هذا الوضع حتى كهولتِه، وكان يستمتع بسرد قصته وكيف أنه عندما جاء إلى إنجِل سيتي لطباعة منشور يعلن عن البئر التي اكتشَفها، لم تقبل المطبعة بإقراضه ثلاثةَ عشرَ دولارًا! أما الآن، فلا يُمكِن لأحدٍ أن يخمِّن الملايين التي يملكها، لكنه ظل رجلًا عجوزًا محبوبًا متواضعًا أراد أن يخلع معطفَه في الطقس الحار، لكن لم يُسمَح له بذلك.
كانت زعيمةُ الأسرة هي السيدة بِيت، التي كانت قد وصلَت إلى هذه المكانة الرفيعة في مجتمع جنوب كاليفورنيا بعدما كانت ابنةَ رئيس عمال. كانت واثقةً من نفسها وتتمتع بشخصيةٍ حاسمة، وعندما كانت تدخُل متجرًا متعدِّد الأقسام، لم تكن تُضيع وقتَها مع الموظفين، بل كانت تتوجَّه على الفور لمدير القسم وتُخبره بالآتي: «أنا السيدة بيتر أورايلي، وأرغب في أن أتلقى خدمةً فورية.» كان المدير المسئول ينحني لها حتى يكاد رأسُه يلمسُ الأرض، ويخصِّص للسيدةِ العظيمةِ ثلاثةَ موظَّفين لتلبية طلباتها.
كانت السيدة بيتر هي التي استدعت المهندسين المعماريين وأمرَت ببناء قصرٍ ملكي وحوله حديقة، يُحيط بها من كلِّ مكانٍ سياجٌ برونزيٌّ عالٍ، وبواباتٌ برونزية، وكانت هي التي طلبَت نقشَ اسمِ صاحبِ العقار على البوابات. وكانت هي التي تفاوضَت من أجل الحصول على يخت ملكٍ أوروبيٍّ مخلوع، وجدَّدَته بالكامل ليتناسب مع مُنقِّب عن النفط أمريكي من أصلٍ أيرلندي، حيث طعَّمَته بخشب الجوز الشركسي والساتان الأزرق، ووضعَت اسم المالك على مرأًى من الجميع. كما كانت هناك سيارةٌ خاصةٌ مزينة بخشب الجوز الشركسي والساتان الأزرق، ومكتوبٌ عليها اسم المالك على لوحةٍ نحاسية. وكانت ذات تصميمٍ داخليٍّ رائع كما لو كانت متجرًا فاخرًا.
استقبلَت السيدةُ بيتر الأبَ وباني وبدأَت تمارس عاداتها «المجتمعية» عليهما؛ حيث كانت تمُد يدها عاليًا عند المصافحة، وتُعلِّق على الطقس البارد الذي جاء قبل موعده، والجبال المغطاة بالثلوج. ثم عرَّفَتهما على باتريشيا، وراقبَتها وهي تؤدي الحركاتِ التي علَّمَها إياها المخرجُ الخاصُّ بها، والتي أعطت باني دافعًا لقول «كاميرا!» كانت الآنسة باتريشيا أورايلي طويلةَ القامة مثل والدتها، وكان جسدُها يميل إلى اكتساب الوزن في سنٍّ مبكرة؛ ولذا كانت تتناول أدويةً لإنقاص الوزن، مما كان يؤذي قلبَها ويجعلها تبدو شاحبةً وأرستقراطية. كانت قد تعلَّمَت كل حركة وكل أسلوب بعنايةٍ شديدة، لدرجة أنها كانت تُثير الاهتمام مثل دميةٍ فرنسيةٍ كبيرة، كانت والدتها تنظر بابتهاجٍ لهذا الثنائي الشاب؛ فقد كان يمثل اتحادًا محتملًا بين عائلتَين عظيمتَين، وتخيَّلَت إقامة حفل زفافٍ في كنيسةِ الاسم المقدس، بينما ينتظر بالخارج خمسون ألفَ شخص، وتُنشر الصور في الصفحات الأولى لجميع الصحف. أما باني فقد ذهبَت أفكارُه إلى أبعد من ذلك؛ إذ تخيَّل «الصحف الصفراء» تُجري مقابلة مع فِي تريسي، وبالرغم من أنها كانت تبدو باردةً ومتغطرسة، فقد كانت تبكي سرًّا، ثم تُلقي نظرةً خاطفةً على وجهها في المرآة، وتقول لنفسها «تمالَكِي نفسك»!
كان هناك ضيوفٌ آخرون، منهم الدكتور ألونزو تي كوبر، الحاصل على دكتوراه في علم اللاهوت والفلسفة والقانون، الذي كان من المستحيل تخيُّل شخصٍ ينضَح بمودةٍ أكثر منه. لقد كان سعيدًا لاجتياز باني امتحاناتِه بنجاح، وكان مسرورًا لأنه تمكَّن من خدمة والده، وزادت فرحتُه عندما وجد الأب فخورًا بنجاح ابنه. عندما كانا بمفردهما، غامر بإلقاء بعض التعليقات المرحة حول الحصبة الحمراء التي أصيب بها باني، وانزعج للغاية عندما علم أن المريض لم يتعافَ بعد، وانتهز الفرصة ليسأل الشاب عما إذا كان صحيحًا حقًّا أن أنصار الشيوعية كانوا يُحرِزون تقدمًا مثيرًا للقلق في إنجِل سيتي. أراد الدكتور كوبر أن يتحدث عن هذه المعتقدات الصادمة، كما لو كان طفلًا صغيرًا يريد أن يقرأ كتابًا محظورًا!
لم يُستدعَ باني لحضور الاجتماع الذي عُقد بين بِيت الأب ووالده، ولكن في طريق عودتهما للديار أخبره الأب بما دار في الاجتماع. لقد كانوا يمرُّون بوقتٍ عصيب، ولم يكن شراء الحكومة أمرًا بسيطًا كما ظنوا سابقًا. كان يتعيَّن أن يحصُل الجميع على «عمولة»، حتى ساعي المكتب الذي أحضَر لك رسالةً حول هذا الموضوع كان يتوقع الحصولَ على عشرة دولارات! اغتنَم باني الفرصة ليُناشِد الأب بالخروج من هذا الأمر؛ فبالتأكيد كان لديهما ما يكفي من المال! لكن الأب قال إنهما كانا متورطَين في هذا الشأن للغاية؛ فقد كلفه الأمر شخصيًّا ما يقرب من ستمائة ألف دولار، وكان هذا مبلغًا كبيرًا، وتسبَّب في حدوثِ خسائرَ فادحةٍ له. لذا كان يتعيَّن عليهم المواصلة، وعندما يحصلون على عقود الإيجار، ستُصبِح الأمور على ما يُرام.
ظهرَت مشكلتان. الأولى أن أراضي الاحتياطي البحري من النفط كانت تحت سيطرة وزارة البحرية، وكان من الضروري نقلُها إلى سيطرة الوزير كريسبي. وأُثير تساؤلٌ حول ما إذا كان يمكن تنفيذ ذلك بموجب مرسوم تنفيذي، أم أنه يتطلب قانونًا صادرًا من الكونجرس. تعمَّد المسئولون تأخير الإجراءات، ولكن بالطبع كان ذلك مجردَ عرقلةٍ لسير الأمور للحصول على مزيدٍ من المال. وأرسل بِيت الأب ابنَه إلى واشنطن ليتولى أمورَ دفع الرشاوى. كانت المشكلة الثانية هي حصول شركةِ نفطٍ صغيرةٍ على أرض صني سايد، تلك التي كان من المقرَّر أن يحصل عليها فيرن والأب، وبدأَت في الحفر بموجب عقدِ إيجارٍ قديم. كان لا بد من طرد هذه الشركة، وكان من الضروري فعل ذلك في هدوء، وتسوية الأمور مع الصحف بطريقةٍ أو بأخرى. اقترح فيرن أن يذهب الأب إلى هناك ويلقي نظرةً على الأرض، وربما يصطحب باني معه في هذه الرحلة. فقد كان من المقرَّر أن يصبح حقل صني سايد واحدًا من عجائب الدنيا في مجال النفط؛ حيث سيتفوَّق بامتيازٍ على حقل بارادايس، وبمجرد أن يضعا أيديَهما عليه، يمكن للأب أن يحصُل على راحةٍ طويلة.
٧
تلقَّى باني مكالمةً هاتفيةً تطلب منه أن يجري «مكالمةً بعيدةَ المدى» لمدينة تقع على بعد مائة ميل. وعندما فعل ذلك، ردَّت عليه ممرضةٌ في أحد المستشفيات وأبلغَته رسالة من بيرتي مفادُها أنها أرادت منه أن يأتي إليها. وأضافَت أنها لم تكن في خطر، ولا داعي لإثارة قلق الأسرة؛ ولذلك طلبَت منه ألَّا يُخبرَهم بشيءٍ عن الأمر. قفز باني بالطبع في سيارته وانطلَق بسرعة. كانت أختُه في زيارة لآل نورمان، الذين يقع منزلهم على مسافةٍ بعيدةٍ من هذا المستشفى.
عندما وصل إلى هناك، أخبرَتْه الممرضات أن بيرتي خضعَت لعمليةٍ جراحية لاستئصال الزائدة الدودية، وأنها في حالةٍ جيدة. واصطحَبْنه إلى غرفتها، وهناك وجدها مستلقية، شاحبة، يبدو شكلها غريبًا حيث لم يسبق له مطلقًا أن رآها دون مساحيق التجميل. كانت تبدو بريئةً للغاية مثل الراهبات، بثوب النوم الدانتيل الأبيض الذي كانت ترتديه، والوسائد البيضاء الناعمة التي كانت تغوص فيها، وكانت سعادتها لرؤيته مثيرة للعاطفة. «يا للهول، بيرتي! كيف حدث هذا؟»
«لقد حدث الأمر فجأة. كان الوضع سيئًا جدًّا، لكنني بخير الآن. وكان الجميع لطيفًا جدًّا معي.» كانت هناك ممرضةٌ في الغرفة، وانتظرَت بيرتي حتى خرجَت وأغلقَت الباب. ثم نظرَت إلى أخيها بعينَيها المتعبتَين وقالت: «لقد اخترتُ التهاب الزائدة الدودية لأنه أمرٌ مألوف، وهو ما يجبُ أن تُخبِر به الأب والعمة إيما. لكن في حقيقة الأمر، كنتُ سأُرزَق بطفل.»
قال باني: «يا إلهي!» ونظر إليها في ذعر.
«لا داعي للمبالغة في رد الفعل؛ فأنت لست طفلًا صغيرًا يا باني.»
«مَن الأب؟»
«توقَّف عن هذا الأداء المسرحي. أنت تعلم أن هذا قد يحدُث لأي شخص.»
«نعَم، ولكن من ورَّطكِ في هذا يا بيرتي؟»
«في البداية أريدكَ أن تفهم الموضوع بوضوح، لم يكن ذلك خطأَه. لقد فعلتُ ذلك عن عمد.»
لم يعرف باني ما يجبُ القيام به عند سماع ذلك الاعتراف. ولذلك قال: «مِن الأفضل أن تُخبريني بالأمر يا بيرتي.»
«حسنًا، أريدك أن تتحكَّم في رد فعلك. فأنا مديرةُ نفسي، وأعرفُ ما أفعل. ولن أتزوَّجه الآن ولو مقابل مليون دولار، وحتى لو عرض عليَّ كل ملايينه؛ لأنه شخصٌ جبانٌ، وأنا أحتقره».
«هل تقصدين تشارلي نورمان؟!»
أومأَت برأسها موافقة، وعندما رأت باني يشُد على يدَيه، قالت: «ليس عليك القيام بأي أعمالٍ بطولية. لا يمكن إقامة حفل زفافٍ قسري لعروس ترفض الحضور».
«أخبريني ماذا حدث يا بيرتي.»
«حسنًا، كانت تربطنا علاقةٌ من الحب العارم لفترة من الوقت، وظننتُ أنه سيتزوَّجني. ولكن بعد ذلك أدركتُ أنه لن يستغني عن النساء الأخريات، وفكَّرتُ في الأمر مليًّا، وقرَّرتُ أنه إذا حملتُ بطفل، فسيتعيَّن عليه أن يتزوَّجني، وبالفعل نفَّذتُ الفكرة.»
«بيرتي، يا للهول!»
«ليس عليكَ أن تبالغ في رد فعلك. فالآلاف من النساء يفعلْنَ ذلك، إنها إحدى حِيَلنا. لكن تشارلي جبان. عندما أخبرتُه بالأمر، تصرَّف بطريقةٍ مثيرةٍ للاشمئزاز؛ ولذلك قطَعتُ علاقتي به. وعثرتُ على طبيبٍ بإمكانه تولي هذه الأمور، وسيتعيَّن على الأب دفعُ ألف دولار، إجمالي التكلفة.»
همس قائلًا: «بيرتي، لماذا تلجئين إلى أشياء كهذه؟»
«لا تقلق، لن أكرِّر هذا الأمر. كان عليَّ أن أتعلم، مثل أي شخصٍ آخر.»
«ولكن لماذا كان عليكِ خوض تلك التجربة ولو مرةً واحدة؟ لمَ حاولتِ الإيقاع برجلٍ ثري للزواج؟! ألَا يعطيكِ الأب ما يكفي من المال؟»
«من السهل جدًّا عليك أن تقول ذلك يا باني؛ فأنت تشعُر بالسعادة لمجرد الجلوس في أحد الأركان وقراءة كتابٍ قديم. لكني لستُ كذلك، أريدُ أن أستمتعَ بحياتي. الأب يعطيني مصروفًا، ولكن هذا ليس ما أريد. أريد مهنة، شيئًا خاصًّا بي. ولا تبدأ بوعظي؛ لأنني ضعيفةٌ مثل قطةٍ صغيرةٍ ولا أستطيع تحمُّل أي شيءٍ الآن. أردتُ ما تريده كل امرأة؛ منزلًا خاصًّا بي، ولم أرغب في منزل من طابقٍ واحد، بل مكان يمكِنُني دعوة الناس إليه والاستفادة من مواهبي كمضيفة. حسنًا، لقد أخفقتُ، والآن أريدك أن تكون لطيفًا معي لبضعِ دقائق، إذا كان بإمكانك فعل ذلك.»
بدا الأمر كما لو كانت الدموعُ تتدفق إلى عينَيها؛ لذلك سارع باني إلى قول: «حسنًا، أيتها الفتاة العجوز، سأتوقف عن مضايقتك. لكن من الطبيعي أن أتفاجأ».
«لا، لستَ بحاجة إلى ذلك. يقول الطبيب إن هذه العملية تُجرى مليون مرة سنويًّا في الولايات المتحدة. ومن باب التسلية حسبتُ هذه الأرقام، واتضح أنها تُجرى كل ثلاثين ثانيةً تقريبًا. فما الحياة إلا فوضى. دعنا نتحدث عن شيءٍ آخر!»
كان هذا وقت مشاركة الأسرار؛ ولذا سألَته عن علاقته بفِي، هل كان ينوي الزواج منها؟ قال إنه لا يعرف ما إذا كانت ستُوافق به. ضحكَت بيرتي، وقالت إنها ستقبل به؛ فهي تعرف بالضبط ماذا تريد. لكن باني أخبرها عن عدد المرات التي غضبَت فيها منه، وسببِ غضبها، مما أعطى بيرتي الفرصة للتحدث. وعادت لطبيعتها القديمة؛ فمن الممكن أن تشعُر بالضعف لبضع دقائق، وتطلب منه أن يكون لطيفًا، لكنها ما زالت تؤمن بالمال، والأشياء التي يشتريها المال. وبالفعل حلَّلَت شخصية فِي من وجهة النظر هذه؛ فعلى المدى الطويل من الآمَن والأعظَم الزواجُ من سيدة مجتمع، وليس ممثلة، لكن مع ذلك، كانت فِي تتمتَّع بقدْرٍ كبيرٍ من المنطق، أما باني فربما يسيء التصرُّف. فقد كان من المقزِّز تدميرُ سعادتهما من أجل مفاهيمه البلشفية الحمقاء!
ثم سألَتْه عن أحوال الأب، وكيفية سير تلك الصفقة في واشنطن؛ هل سيحصلون حقًّا على عقود الإيجار؟ وهل كان صحيحًا أن الأب يتمتع بتأثيرٍ حقيقي على الحكومة في واشنطن؟ كان باني متأكدًا من ذلك الأمر، وكشفَت بيرتي عما كان يدور في ذهنها. «لقد كنتُ أفكِّر مليًّا في بعض الأمور؛ فقد كان لديَّ الكثيرُ من الوقتِ للتفكير وأنا مستلقيةٌ هنا. أعتقد أن ما سأفعلُه هو العودة إلى إلدون بورديك. إنه شخصٌ أخرقُ إلى حدٍّ كبير، لكنك تعرف دائمًا أين تجدُه، وهذا يبدو لي الآن أمرًا طيبًا.»
سأل باني متعجبًا: «هل ستُخبرينَه بهذا الأمر؟»
أجابت: «لا، ولِمَ أفعل ذلك؟ أظنُّ أن لديه أخطاءه التي لم يُعلِن عنها. إنه يعلم أنني كنتُ على علاقة بتشارلي، ولكن أظنُّ أنه لا يزال يُحبني. ما يدور في ذهني هو أن أوفِّر له مهنة؛ سأطلب من الأب أو فيرن أن يُرسِلا بعضَ البرقيات ويمنحاه منصبًا دبلوماسيًّا جيدًا. أعتقد أنني أرغبُ في العيش في باريس؛ فهناك يمكنك مقابلة جميع الأشخاص المهمين، وهذا أمرٌ عصريٌّ للغاية. يقول إلدون إنه سيتعيَّن علينا تولِّي مسئولية أوروبا، وأظن أنه من الرجالِ الذين سيحتاجون إليهم. ما رأيك في هذا؟»
«حسنًا، إذا كان هذا ما تريدينه، فلا شك لديَّ في أنكِ تستطيعين تحقيقَه. لكن سيكون من الصعب على إلدون أن أكون صهره.»
طمأنَتْه بيرتي قائلة: «أنا متأكدةٌ من أنك ستُحسِن التصرُّف. فهذه مجردُ مسألةٍ بسيطةٍ يمكنكَ التغلُّب عليها.»
٨
طردَت وزارةُ البحرية الشركةَ الصغيرةَ التي كانت قد بدأَت تحفِر في حقل صني سايد، الذي كان ضمن أراضي احتياطي القوات البحرية من النفط. وأرسلَت مجموعةً من مشاة البحرية لتنفيذ هذه المهمة، وقد جذبَت هذه الخطوةُ التي لم يسبق لها مثيل الكثيرَ من الاهتمام، مما أثار قلق الأب وفيرن. ووضع فيرن رجلًا هناك لتسوية الأمور مع مراسلي الصحف، وكان «بِيت الابن» في واشنطن يتولَّى رعاية الأمور هناك. بدأَت الصحف تنشر أخبارًا مفادها أن وزارة البحرية كانت تشعر بقلقٍ شديد؛ لأن الشركات التي كانت تشغل الأراضي المجاورة لأراضي احتياطي القوات البحرية من النفط كانت تحفِر الآبار، وتستنزف نفط البحرية، ولتجنُّب حدوث كارثة، رأت السلطات أنه لا بد من تولي وزارة الداخلية أمر الاحتياطيات، وتأجيرها بشروط تعود بالنفع على الحكومة.
لم يكن باني بحاجة إلى سؤال والده عن تلك الدعاية؛ فقد كان يعرف ما يعنيه ذلك؛ ولذا انتظر وهو يتساءل: هل من الممكن الإفلاتُ من تصرُّف بهذه الفظاظة؟ وهل من الممكن لأي شخصٍ ألَّا يدرك أن بإمكان الحكومة الاستيلاءَ على الأراضي المجاورة، بموجب السلطاتِ ذاتِها التي مكنتها من الاستيلاء على الاحتياطيات الحالية؟ أو أن بإمكان البحرية حفرَ آبارٍ فرعيةٍ مقابلةٍ في ممتلكاتها الخاصة، تمامًا كما كان سيفعل أيُّ رجلِ نفط. لكن لا؛ فهذه الحكومة لم تكن تفكِّر في البحرية، بل كانت تفكِّر في الأب وفيرن! فحين اشترى رجال النفط الحزب الجمهوري، حصَلا أيضًا على أجهزة الحزب، بما في ذلك الصحافة، التي قبلَت الآن بخنوع «المعلومات» المرسَلة من واشنطن، وأشادت بالإجراءات السريعة التي اتخذَتْها الحكومة لحماية نفط البحرية الثمين.
ثم حدث شيءٌ غريب. اتصل دان إيرفينج بباني عَبْر الهاتف، وحدَّد معه موعدًا لتناول طعام الغداء. وكان أول ما قاله هو: «إن كلية العمال عديمةُ الفائدة!» واستطرد قائلًا إن محاولة إبقاء هذا المشروع على قيد الحياة مضيعةٌ للوقت؛ فمع بقاء القادة العماليين الحاليين في السلطة وعدَم رغبتِهم في تعلُّم العمال الشباب، من الصعب على الكلية أن تسيطر عليهم. في الأسبوع الماضي، داهَم شخصٌ ما الكلية ليلًا، واستولى على معظم ممتلكاتها، باستثناء الديون، وقرَّر دان أن يدفع هذه الديونَ من مدَّخراته واستقال.
سأله باني: «ما الذي تنوي فعله؟» أوضح دان أنه كان يرسل أخبارًا إلى وكالةٍ صحفيةٍ صغيرةٍ كانت تُديرها مجموعة من الراديكاليين في شيكاغو، وأنه قد حصَل من واشنطن على الكثير من المعلومات التي جذبَت الانتباه. فقد كان لديه بعضُ الأصدقاءِ الذين كانوا يعملون هناك، وكانت النتيجة أن عُرِض على دان خمسة عشر دولارًا أسبوعيًّا للذهاب إلى العاصمةِ كمراسلٍ لهذه الوكالة الصحفية. «يمكنني تدبُّر حالي بهذه الوظيفة؛ فهي أفضل وظيفةٍ يمكنني القيام بها.»
سَعِد باني لسماع ذلك. وقال: «دان، هذا خبرٌ جيد! فهناك الكثير من الأوغاد الذين يجب فضحُهم!»
«أعلم ذلك، وهذا سبب مقابلتي لك. فأحد الأشياء التي أركِّز عليها هو عقود إيجار احتياطيِّ القواتِ البحريةِ من النفط. فهي تبدو لي مريبة للغاية. فأنا أظن، ما لم أكن مخطئًا، أن الشخصَين القائمَين على ذلك الأمر هما فيرنون روسكو وبِيت أورايلي، وعادةً ما تكون هناك أنشطةٌ مشبوهةٌ في كل ما يفعلانه.»
أجاب باني، محاولًا الحفاظ على نبرة صوته: «أفترض ذلك.»
«وهناك إشاعاتٌ في واشنطن عن أن هذه هي الطريقة التي وصل بها كريسبي إلى مجلس الوزراء. فقد عُقدَت الصفقة قبل ترشيح هاردينج. ويقول الجنرال وود إن الترشيح قد عُرض عليه مقابل عقد هذه الصفقة، لكنه رفض.»
قال باني: «يا إلهي!»
«بالطبع أنا لستُ متأكدًا من هذه المعلومات حتى الآن، لكنني سأُجري مزيدًا من التحريات. بعد ذلك تذكَّرتُ أن روسكو هو أحدُ شركاء والدك، وخطَر ببالي أنه سيكون من المحرج التوصُّل إلى أي شيء … حسنًا، أنت تعرفُ ما أعنيه، يا باني؛ فقد كان والدك لطيفًا جدًّا معي وأنتَ تبرعتَ بالمال للكلية …»
قال باني: «أعرفُ ما تقصد. لا داعيَ للقلق بشأن ذلك يا دان. امضِ قدمًا وقُم بعملك، وكأنكَ لم تعرفنا من قبلُ.»
«هذا لطفٌ منك. كنتُ أخشى أن ينشأ سوءُ فهمٍ يومًا ما إن لم أوضِّح ذلك؛ فأنت لم تخبرني بأي شيءٍ عن هذا الموضوع من قبلُ. فذاكرتي قويَّة، وأنا متأكد أنكَ لم تذكُر ذلك أبدًا. أليس كذلك؟»
«هذا صحيحٌ تمامًا يا دان.»
«لم تُناقِش معي مطلقًا أعمالَ والدك، باستثناء الإضراب، كما أنكَ لم تناقش أفكار روسكو أو أورايلي أيضًا.»
«هذا صحيحٌ يا دان. لن يشُكَّ أحدٌ في ذلك أبدًا.»
«لا يا باني، قطعًا سينتاب الجميعَ الشك، فإذا فضحتُ أمرهم في واشنطن، فلن يقتنع روسكو وأورايلي على الإطلاق بأنني لم أحصُل على هذه المعلومات منك. وأخشى ألَّا يقتنع والدك أيضًا. ولكنني أريد أن أتأكَّد من أنك تعي ما تفعله، وأنني لم أخدَعْك.»
صافحَه باني، ولم يكن بإمكان أيٍّ من لاعبي البوكر المخضرمين، الذين كانوا يجلسون طوالَ الليل في غرفة المعيشة المليئة بالدخان في «بيت المزرعة» في بارادايس؛ أن يتصرف بلامبالاة على نحوٍ أروعَ من ذلك. حتى إن باني أجبَر نفسَه على إنهاء الغَداء، وكتَب شيكًا لسدادِ جزءٍ من ديون كلية العمال، وودَّع صديقه وداعًا حارًّا وتمنى له التوفيقَ في وظيفتِه الجديدة. ثم انطلَق بسيارته، وحينئذٍ أصبَح بإمكانه أن يُعبِّر عما كان يشعُر به بداخله من حزنٍ شديد!
رأى أن من واجبه إخبارَ والده بهذه المحادثة. فإخباره لن يُحدِثَ أي فارقٍ في عمل دان إيرفينج، لكن من المحتمَل أن يُبعِد الأب عن المتاعب. ولكن عندما عاد روس الأكبر إلى المنزل في ذلك المساء، لم يكن لدى باني وقتٌ للتحدث. قال الأب: «حسنًا يا بُني، لقد حصلنا على عقود الإيجار!»
«هذا رائعٌ يا أبي!»
«تمَّت الموافقةُ عليها، وغادر فيرن إلى واشنطن اليوم. ومن المقرَّر توقيعُها الأسبوع المقبل، وسنذهب أنا وأنتَ في رحلةٍ ونحظى ببعضِ المرح!»
٩
كان جو وأيكي مينزيس قد خرجا من السجن منذ شهرَين، بعد أن جمع رفاقُهما في حزب العمال مبلغ الكفالة بصعوبةٍ شديدة. والآن حان موعدُ محاكمتهما، بالإضافة إلى العديد من أعضاء الحزب الآخرين. وكانت الدولة تأخذ على عاتقها مسئوليةَ إثباتِ أن هذه المنظمة لم تكن سوى حزبٍ شيوعيٍّ متخفٍّ؛ فقد كان هذا هو الجزء «القانوني» من المنظمة، لكن التوجيه الحقيقي كان في يد مجموعةٍ «سرية»، كانت تتلقَّى الأموال والأوامر من موسكو. وكانت تدعو إلى الإطاحة القسرية ﺑ «الدولة الرأسمالية»، وإقامة «ديكتاتورية طبقة العمال»، على غرار النموذج الروسي. ومن ناحيةٍ أخرى، ادَّعى المتهمون أنهم نظموا حزبًا سياسيًّا شرعيًّا للطبقة العاملة، وكان موقفهم تجاه العنف دفاعيًّا بحتًا. لقد اعتقدوا أن الرأسماليين لن يسمحوا أبدًا بأن تُنتزع منهم السلطة سلميًّا، وكان الرأسماليون هم مَن أطاحوا بالدستور، وكان على العمال الدفاعُ عن أنفسهم.
أُجريَت محاكمةُ جميعِ السجناء في وقتٍ واحد، واستغرقَت الإجراءاتُ ثلاثةَ أسابيع وكان ذلك درسًا توضيحيًّا للمشاكل المعاصرة، أو كان من الممكن أن يكون كذلك، لو أن الصحف نشرَت أخبارًا عن كلا الجانبين. وللحصول على معلوماتٍ عن جانب العمال، كان عليك الجلوس في قاعة المحكمة، وكان باني يذهب كلما سمَح له جدولُ دراستِه في الجامعة بذلك. وقد كان حاضرًا عندما قدَّم الادعاءُ شاهدًا «غير متوقع» وهو صديقُ طفولته، بن سكوت، وكان ذلك أمرًا غير متوقَّع لباني أيضًا! بدا أن بن قد أطلق شاربًا وأخذ دورةً تدريبيةً في لهجة أهل موسكو، وانضَم إلى حزب العمال باعتباره عاملَ نفطٍ عاطلًا عن العمل، وبعد فترةٍ قصيرةٍ حصَل على وظيفة في المكتب. والآن كان يروي قصصًا مروِّعة عن الأفعال الإجرامية التي سمِعها، وعن الجهود التي بذلها الحزبُ لتحريضِ عمالِ النفطِ على التمرُّد وتدمير الآبار. من ناحيةٍ أخرى، وَفقًا لما قاله أيكي مينزيس لباني، كان الشيوعيون على استعدادٍ للقسَم بأن بن سكوت نفسه هو من دعا إلى كل اقتراحات التدمير، وفي خِضَم أزمة الإضراب كان يُصِر على أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الوضع هي تأجيرُ مجموعةٍ من المقاتلين الحقيقيين، وحرقُ بعضٍ من حقول النفط.
عاد باني إلى المنزل حيث كان والده. وسأله: «أبي، ما الذي جعلكَ تستغني عن بِن سكوت؟»
«اكتشفتُ أنه كان يأخذ عمولاتٍ من شخصٍ آخر. وكان متورطًا في عملياتِ احتيالٍ أخرى أيضًا.»
«ماذا تعني؟»
ضحك الأب. وقال: «كان لديه مخطَّطٌ عجيب. فكما تعلم، في حقل بروسبكت هيل، كان الناس في عَجلةٍ من أمرهم لحفر الآبار، وكان مالك قطعة الأرض المجاورة يحفر بئره أولًا، لاستنزاف كل النفط. ولذلك كان بن ورجلٌ آخرُ يبحثان عن مجموعةٍ من مالكي قِطَع الأرض الذين كانوا على وشك الحصول على عقدِ إيجارٍ جيد، ويطلب بِن من صديقه الحصولَ على عقدِ تنازلِ ملكيةٍ لواحدة من تلك الأراضي. وكان بِن يُسجِّل هذا العقد، وبالطبع، عندما تأتي شركة التحقُّق من الملكية لتقديم تقرير عن الأرض، ستظهر مشكلة في عقد الملكية. حينئذٍ يُهرع المالك خلف بِن سكوت في حالةٍ من الذعر، متسائلًا عما يحدث. فتبدو الصدمة على بِن، ويُخبره أنه اشترى قطعةَ الأرض من أحدِ الرجال بحسن نية. والسؤال هنا: من كان هذا الرجل؟ حسنًا، لقد اختفى الرجل ولم يتمكَّن أحدٌ من العثور عليه. ولكن بِن أوقف عَقدَ الإيجار، مما أدى إلى تأجيل بدء الحفر. وكان مالكُ قطعةِ الأرضِ يغضَب ويسبُّ؛ إذ كان جميع أصحاب الأراضي في عقد الإيجار مرتبطين بعضهم ببعض، ولن يتمكَّن أحدٌ من التصرُّف في ملكيته حتى تسوية المشكلة في قطعة الأرض هذه. وسيستغرق الذهاب إلى المحكمة وإلغاء عقد الملكية ستة أشهر أو نحو ذلك، وفي هذه الأثناء ستضيع فرصةُ إيجار الأرض؛ لذلك سيتعيَّن على المُلَّاك أن يتعاونوا ليدفعوا لبِن خمسة آلاف دولار، أو أيًّا كان المبلغ الذي ادَّعى دفعه للرجل الآخر.»
علَّق باني قائلًا: «أظن أن هذه الحيلة ستتكرَّر مراتٍ عديدة»، أجابه الأب أنها لن تتكرر كثيرًا بمجرد انتشار الخبر، وحينئذٍ سيضَع مالكُ قطعةِ الأرضِ مسدسًا تحت أنف بِن، ويُسوِّي الأمر بهذه الطريقة. وبالفعل تعرَّض بِن لعمليةِ احتيالٍ معتادةٍ على يد امرأة تركَتْه مفلسًا؛ ولهذا اتجه إلى أعمال التجسُّس لصالح الجمعيات الوطنية.
عَرفَ باني أن والده لا يدينُ بأي شيء لهذا الوغدِ المراوغ؛ ولذلك لن يمانعَ في كشفِ أمره، بشرط ألَّا يُذكر اسمُ باني. وسيكون من السهل تتبُّع الأمر، من خلال البحث عن معاملات بِن العقارية في سجلَّات المقاطعة؛ فقد كان يقدِّم عقود تنازل ملكية لأصحاب الأراضي الذين كان يبتزُّهم، وإذا كان هؤلاء الرجال لا يزالون في الحي، فلا شك أنهم سيشهدون، أو يمكن إجبارهم على ذلك. رأى باني رايتشل في الجامعة في صباح اليوم التالي وأخبرها بالقصة، وأعطاها ورقةً نقديةً بقيمة مائة دولار لتغطية تكاليف البحث عن عقد ملكية. وبدَورها نقلت الأخبار لجو أو أيكي، وبعد يومَين وجد بِن نفسه في مواجهة بعض المواطنين الغاضبين، من الذكور والإناث، الذين أبلَوا بلاءً حسنًا في زعزعة ثقة هيئة المحلَّفين في شهادته فيما يتعلق بالمؤامرات السرية في حزب العمال! اختلفَت هيئة المحلَّفين في الحكم على الجميع باستثناء قائدَي الحزب؛ حيث حُكم على كلٍّ منهما بستِّ سنوات، لكنَّ ابنَي مينزيس حصلا على البراءة، وأقام الحزب احتفالًا وصفَتْه الصحف بأنه عربدةٌ من الهذيان الثوري الشيوعي.
١٠
لم ينزعج الأب كثيرًا عندما أخبره باني أن دان إيرفينج كان يتعقَّب فيرنون روسكو في العاصمة. بالطبع كان لا بد من وجود شائعاتٍ حول عقد الإيجار؛ فدائمًا ما يكون هناك «محتجُّون» يحاولون إثارة المشاكل، لكن الجميع كانوا يفهمون أن الأمر يتعلق بالسياسة. فلقد كانت هذه أكبر «فرصةٍ ذهبية» في حياة الأب، وحياة فيرن أيضًا؛ ولذا سيمضيان قُدمًا ويَحفِران الأرض ويستخرجان النفط، ولن يهمَّهما أيُّ شيءٍ آخر. ففي هذه اللعبة، عليك أن تكون مثل سرطان بقشرةٍ صلبة، وكان من المؤسف للغاية أن باني لم يكن قادرًا على اكتساب هذه القشرة اللازمة. ومن المؤسف أيضًا أن شابًّا لطيفًا مثل «الأستاذ الجامعي» لم يجد شيئًا أفضل من التدخل في شئون فيرن ليشغل به وقته.
تأسَّسَت شركةٌ جديدةٌ لتطوير أعظم حقل نفط في أمريكا، وكان الأب شريكًا في ملكية الأسهم، ونائبًا للرئيس، ويحصل على مائة ألف دولار سنويًّا مقابل إدارة أعمال التطوير. لكنه وعَد باني أنه لن يرهق نفسه بالتفاصيل؛ فقد أشرف في الفترة الأخيرة على تدريب بعض الشباب الأَكْفاء، وكلُّ ما كان عليه فعلُه هو توجيهُهم. كانت هذه مهمةً رائعة، وكان منهمكًا في إنجازها، والعمل بجدٍّ أكثر من أي وقتٍ مضى، متحديًا نصائح أطبائه.
جاءت برقيةٌ من فيرن تحمل خبرَ توقيعِ عقودِ الإيجار. وتمكَّن باني من الحصول على أسبوع إجازة من جامعته؛ فهذه الخدمات يمكن أن يحصُل عليها أحدُ طلاب السنة الأخيرة الوقورين، خاصةً عندما يكون هناك أمل في أن يخصِّص والدُه منحةً لأستاذ في أبحاث علم كيمياء البترول. مضَيَا في رحلةٍ طويلةٍ بالسيارة إلى حقل صني سايد، الذي كان يقع في منطقةٍ نائيةٍ من الولاية، بها مراعٍ وطرقٌ غير ممهَّدة وعددٌ قليلٌ جدًّا من المستوطنين. وأقاما في فندقٍ ريفيٍّ بدائي، وتفقَّدا الحقول الجديدة، وهما يمتطيان الخيل أغلب الوقت. كان بانتظارهما الجيولوجيون الذين يعملون لدى الأب، برفقة المهندسين والمسَّاحين؛ لتحديد مواقع الحفر، والطرق، وخطوط الأنابيب، ومستودع الصهاريج، حتى إنهم وضعوا مخططًا لإنشاء بلدة، وحدَّدوا أماكن الشوارع ودار السينما والمتجر العام! اتُّخذَت الإجراءات اللازمة، وكان من المقرَّر أن تبدأ المقاطعةُ العملَ على تمهيدِ طريقٍ الأسبوع المقبل. وكانت الأمور تسير على ما يُرام!
كان ينبغي على باني أن يكون مهتمًّا بكل هذا، وكان ينبغي عليه أن يفتخر بهذه «الفرصة الذهبية» مثل أيِّ ابنٍ مخلص. لكنه، كالعادة، كان «يُقحِم أنفَه في شئون غيره» كما كان يقول سائق البغال السابق بفظاظة. لقد تبعَتْه الأقدار التي شاءت أن يكون باني دائمًا على الجانب الخطأ من عمل والده إلى هذا الفندق الريفي، وجعلَته يتعرف على صاحبِ مزرعةٍ مُسِن، ضعيفٍ ومثيرٍ للشفقة، تتمتع بشرتُه بسُمرةٍ طبيعيةٍ ناجمةٍ عن التعرُّض لأشعَّة الشمس الحارقة والرياح لمدة ستين سنة. كان لديه عينان زرقاوان دامعتان قلقتان، وحقيبةٌ كبيرةٌ من الأوراق يحملها تحت ذراعه؛ حيث لم يكن يتركها في غرفته خوفًا من سرقتها. وطلَب من الأب النظر في مسألة إبرام عقد إيجار معه، وبالطبع لم يكن لدى الأب وقتٌ ليُضيعَه في عقودِ إيجارٍ صغيرة، وأخبَره بذلك، وحسم الأمر. لكن الرجل المسن اكتشف بطريقةٍ ما أن باني يفتقر إلى القشرة الصلبة المعتادة لسرطانات النفط الكبيرة، ونجح في استدراج الشاب إلى غرفته وعرض عليه مستنداته. لقد كان ملفًّا موثقًا من وزارة الداخلية، وعليه أختامٌ حمراءُ ونياشينُ زرقاءُ رائعة، لكن الرجل المسن أوضح أنه مع كل ذلك لم يكن كاملًا؛ فقد سرق شخصٌ ما المستنداتِ الأساسيةَ من الملفَّات الحكومية، التي كانت توضِّح كيف أخرجَته شركة «ميد سنترال بِيت» من منزله. وقال: «إنه رجلٌ يُدعى فيرنون روسكو، وهو أحد المحتالين الكبار في هذا المجال.»
كان الرجل المسن، كاربري، قد عقَد العزم على المطالبة بامتلاكِ بعضِ الأراضي القريبة، بموجب قانون الحيازة الزراعية، وبعد اكتشاف وجود نفط، جاءت شركة «ميد سنترال بِيت» وطردَتْه، ولم تدفع له أيَّ سنتٍ مقابل التحسينات التي أجراها والتي بلغَت ألفَين ومائتَي دولار. كان لدى الرجل المسن نسخةٌ من القانون توضِّح أن من حق الشركة فعل ذلك؛ حيث كان القانون يستثني «الأراضي الغنية بالثروات المعدنية» من حقوق الحيازة الزراعية، وقد وقع في هذا الفخ آلافُ الأشخاص في هذا الجزء من الولاية. لكن كاربري كان بالفعل قد سجَّل أرضه؛ ومن ثَمَّ كانت مطالبته مشروعة، لكنَّ شخصًا ما تمكَّن من التلاعُب بالسجلَّات الحكومية، وعلى مدى سنواتٍ عديدةٍ ظل الرجل المسن يُكافِح من أجل تحقيق العدالة. وبكل ثقةٍ مثيرةٍ للشفقة، أرسل خطابًا إلى عضو الكونجرس للحصول على محامٍ يمثِّله في واشنطن، وقد أوصى عضو الكونجرس بمحامٍ، وأرسل له كاربري الأموال عدة مراتٍ دون نتيجة، وبعد ذلك، عندما ذهب إلى واشنطن، اكتشف أن المحامي المزعوم كان مجرد كاتب في مكتب عضو الكونجرس، ينهب المطالبين بالأراضي، وكان صاحب العمل على الأرجح يُشارِكه في هذا المكسب غير المشروع!
يا لها من قصةٍ مثيرةٍ للشفقة! وأسوأ ما في الأمر هو أنه كان بوسعك أن ترى أنها لم تكن حالةً فردية، لكن أمرًا ممنهجًا. طريقة أخرى ينهب بها الأغنياءُ والأقوياءُ الفقراءَ والضعفاء! كان لدى كاربري وثيقةٌ حكوميةٌ تمكَّن من الحصول عليها في واشنطن، تحتوي على تقريرٍ عن تحقيقٍ أجراه الكونجرس عن قضايا الأراضي في كاليفورنيا. قضى باني إحدى الأمسيات في إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على هذا التقرير الذي كان يتكوَّن من ألف صفحةٍ مكتوبةٍ بخطٍّ صغير، تتحدث عن عمليات السرقة والاحتيال الجماعية. على سبيل المثال: الاستيلاء على حقوق النفط بجوار السكك الحديدية! فقد منحَت الحكومةُ السككَ الحديديةَ كل قطعةِ أرضٍ على طولِ حرمِ طريقِ السكةِ الحديدية، لكنها استثنَت على وجه التحديد جميعَ «الأراضي الغنية بالثروات المعدنية». وعند العثور على معادن، كان لا بد للسكك الحديدية من التنازل عن هذه الأراضي والحصول على أراضٍ أخرى. وبموجب القانون، كانت كلمة «الثروات المعدنية» تشمل النفط، ولكن هل كانت السككُ الحديديةُ تُولي أي اهتمامٍ لهذا القانون؟ كانت جامعةُ جنوب المحيط الهادي وحدَها تضُم أراضيَ نفطيةً في كاليفورنيا تزيد قيمتُها عن مليار دولار، وقد أحبط المحامون الماكرون والسياسيون والقضاة المرتشون كلَّ الجهودِ المبذولةِ لاستعادةِ الدولةِ لهذه الممتلكات. أثناء عودتهما إلى الديار، حاول باني إخبار والده بهذا الأمر، ولكن ما الذي يمكن أن يفعلَه الأب؟ ماذا يُمكِنه أن يفعل بشأن كاربري العجوز، الذي سَرقَت شركة «ميد سنترال بِيت» منزله؟ بالتأكيد لم يكن الأب ينوي «إقحام أنفه في شئون فيرن»!