عقد الإيجار
١
كان عنوان المنزل ٥٧٤٦ جادة لوس روبلس، وكان عليك أن تكون على دراية بهذه المنطقة الواعدة لتعرف أن المنزل يقع وسط حقل للكرنب. ولوس روبلس تعني «أشجار البلوط» بالإسبانية، وعلى بعد ميلَين أو ثلاثة أميال، عند بداية هذا الشارع في قلب مدينة بيتش سيتي، كانت تُوجد أربعُ أشجارِ بلوط نضرة. لكن كان هناك منحدَر تل مُجدِب، وكان منحدِرًا، لكنه لم يكن شديد الانحدار بحيث لا يمكن حرثُه وزرعُه بالكرنب، بالإضافة إلى بنجر السكر بالأسفل على السطح المستوي. كان الحالمون، بمساعدة أدوات المسَّاحين، قد انتهَوا إلى أنه يومًا ما سيمُر شارعٌ واسع في هذا المسار؛ ولهذا شيَّدوا طريقًا ترابيًّا، ووضَعوا في كل زاويةٍ أعمدةً بيضاء تشير إلى الشمال وإلى الشرق مكتوبًا عليها جادة لوس روبلس-شارع بالوميتاس؛ جادة لوس روبلس-شارع إل سنترو؛ وهكذا.
قبل عامَين، جاء «مقسِّمو الأراضي» إلى هنا، ومعهم أعلامهم الحمراء والصفراء الصغيرة، وكانت هناك إعلاناتٌ تغطي صفحاتٍ كاملة في الصحف، وتوصيلاتٌ مجانية من مدينة بيتش سيتي، ووجبةُ غداءٍ مجانية، تتألف من شطائر «النقانق» وشريحة من فطيرة التفاح وكوب من القهوة. في ذلك الوقت، أُخليَت الحقول من الكرنب، ومُهِّدَت، وامتلأَت قطع الأراضي بلافتاتٍ صغيرة مكتوب عليها: «مُباع». كان من المفترض أن تشير اللافتة إلى قطعة الأرض، ولكن مع الوقت أصبحَت تشير إلى المشتري. فقد اضطلعَت الشركة ببناء حواجزَ للطريق وأرصفة وبتوفير الماء والوقود وأنظمة الصرف الصحي، لكنَّ شخصًا ما هرب بالمال، وأفلسَت الشركة، وعلى الفور بدأَت تظهر لافتاتٌ جديدة مكتوب عليها: «للبيع، من قِبل المالك»، أو «صفقة: يُرجى الرجوع لسميث وهيدمتون، للعقارات». وأصيب أصحاب الأراضي بخيبة أمل عندما لم تلقَ هذه اللافتات أي اهتمام، وتمنَّوا أن يستفيد أطفالهم يومًا ما من هذا الاستثمار عندما يكبرون. وحتى ذلك الحين، سيقبلون عرض صغار المزارعين اليابانيين لزراعة الأرض مقابل الحصول على ثلث المحصول.
لكن حدَث شيءٌ غير متوقع قبل ثلاثة أو أربعة أشهر. إذ كان رجلٌ يمتلك هكتارًا أو اثنَين من الأراضي على قمة التل، قد سمح لشاحنتَين محملتَين بقطعٍ كبيرةٍ مربَّعة من خشب صنوبر أوريجون، أن تشُقا طريقهما لأعلى المنحدر، وبدأ النجارون العمل بهذه الأخشاب، وكان سكان الحي يحدِّقون متسائلين عن نوع المنزل الغريب الذي يمكن بناؤه بهذه الأخشاب. وفجأةً انتشر الخبر، في جوٍّ من الإثارة: إنه برج لحفر بئر نفط!
زار بعض أهالي الحي المالكَ ليتحققوا من الأمر. وأكد لهم أنه مجرد «بئر للتنقيب عن النفط»؛ فقد كان لديه مائة ألف دولار فائضة عن احتياجاته، وهذه كانت فكرته عن كيفية استثمار هذا المبلغ. ومع ذلك، أُزيلت لافتاتُ الصفقات من حقول الكرنب واستُبدلَت بلافتة «حقل نفط للبيع». وبدأ المضاربون في البحث عن أسماء المالكين وعناوينهم، وقُدمَت العروض، وكانت هناك شائعاتٌ بأن بعض المالكين قد حصَلوا على ما يصل إلى ألف دولار؛ أي ما يقرب من ضعف السعر الأصلي لقطع الأرض. فأقبلَت السيارات وهي تسير بصعوبة على الطرق الترابية، جيئةً وذهابًا، وفي فترة ما بعد الظهر يومَي السبت والأحد، كان هناك حشدٌ من الناس يحدِّقون في برج الحفر.
بدأ الحفر، واستمر بهدوء ورتابة. ونشرَت الصحف المحلية النتائج: وصلَت بئر دي إتش كولفر المرتقبة رقم ١ لعمق ١٤٧٨ قدمًا، حيث عُثِر على تكوينات من الأحجار الرملية الصلبة، دون أي مؤشرات على وجود نفط. وتكرَّر الأمر ذاته على عمق ٢٠٠٠ و٣٠٠٠ قدم، وبعد ذلك، انكسر مثقاب الحفر وحاولوا لأسابيع «اصطياد» الجزء المكسور باستخدام جهاز الحفر، وفقد الجميع الاهتمام؛ فالبئر لم تكن سوى «حفرةٍ جافة»، وبدأ الأشخاص الذين رفضوا بيع أراضيهم مقابل ضعف ثمنها ينعَتون أنفسهم بالحمقى. فحُجة «بئر التنقيب عن النفط» لم تكن سوى مقامرة على أي حال، تختلف تمامًا عن الاستثمارات المحافظة في قطع الأراضي بالبلدات. ثم أوردَت الصحف أن بئر دي إتش كولفر المرتقبة رقم ١ عاودت الحفر، ووصلَت لعمق ٣٠٥٩ قدمًا، لكن المالكين لم يفقدوا الأمل بعدُ في العثور على شيءٍ ما.
ثم حدث شيءٌ غريب. جاءت شاحناتٌ محملة بأشياء ومغطاةٌ بعناية بالقماش. تلقى كل شخص له علاقة بالمشروع تحذيرًا أو رشوة لعدم البوح بشيء، لكن بينما كانت الشاحنات تشُق طريقها أعلى التل بمحركاتها الصاخبة، اختلس الأولاد الصغار النظر تحت القماش، وقالوا إنهم رأَوا ألواحًا معدنيةً كبيرةً مقوَّسة، بها ثقوب على طول الحواف لتثبيتها بالمسامير. لم يكن هذا يعني سوى شيءٍ واحد؛ صهاريج. وفي الوقت ذاته ظهرَت شائعاتٌ بأن دي إتش كولفر قد اشترى قطعة أرض أخرى على التل. كان معنى كل هذا واضحًا: لقد عُثر على رمال نفطية في البئر المرتقبة رقم ١!
بدأ التل بأكمله يزدهر بالإعلانات، وتوافَد وكلاء العقارات على «حقل النفط». أصبحَت هذه الكلمة سحرية الآن؛ فهو لم يعد يُسمَّى حقل الكرنب أو حقل بنجر السكر، بل «حقل النفط!» أقام المضاربون في الخيام، أو أداروا أعمالهم من السيارات التي كانت تقف على جانب الطريق، وعلَّقوا عليها لافتاتٍ من القماش. أخذ الناس يأتون ويذهبون طوال اليوم، وتجمَّعَت حشود من الناس للتحديق في برج الحفر، والاستماع إلى أصوات الخبط الرتيبة الناجمة عن المثقاب الكبير الذي ظل يلُف طوال اليوم، بالإضافة إلى صوت لهاث المحرك. ووُضعَت لافتةٌ واضحةٌ جلية مكتوب عليها: «ممنوع الدخول قطعيًّا!» حيث فقد السيد دي إتش كولفر وموظفوه بطريقةٍ ما كل ما لديهم من أخلاقٍ حميدة.
لكن فجأةً أصبح من المستحيل إخفاء الأمر أكثر من ذلك، وعلمَت الدنيا كلها حرفيًّا بالأمر؛ إذ نقلَت كَبْلات التلغراف الأخبار إلى أقاصي المعمورة. واعتُبِر «حقل بروسبكت هيل (أي تل الآمال)» أعظم اكتشاف في مجال النفط في تاريخ جنوب كاليفورنيا! فقد بدا أن باطن الأرض قد انبثق من خلال تلك الحفرة؛ إذ اندفع عمودٌ أسود محدثًا جلبةً وصخبًا، مثل شلالات نياجرا، وارتفع في الهواء مائتَي قدم، أو مائتَين وخمسين — لم يكن بوسع أحد أن يجزم برقمٍ محدد — ونزل على الأرض محدثًا صوتًا مدوِّيًا على هيئة كتلة من سائلٍ سميك، أسود، لزج، زلق. وقذف الأدوات والأشياء الثقيلة الأخرى في كل اتجاه؛ لذا كان على الرجال أن يركضوا للنجاة بحياتهم. وملأ السائل حفرة التجميع، وفاض منها، مثل قِدرٍ يغلي بسرعةٍ كبيرة للغاية، وتدفق نزولًا على جانب التل. غطت سحابة من الضباب الأسود، حملَتها الرياح، منزل آل كولفر وحوَّلَته إلى اللون الأسود، مما جعل النساء اللاتي كن بالمنزل يهربن إلى حقول الكرنب. بعد ذلك، أخذ الناس يتندَّرون على هؤلاء النساء اللائي كن يندبن على تلف ملابسهن وستائر نوافذهن؛ بسبب فيضان «الذهب الأسود» هذا الذي تبلغ قيمته مليون دولار.
انتقل الخبر عَبْر الهاتف إلى مدينة بيتش سيتي؛ وأعلنَت عنه الصحف، وتحدثَت عنه الحشود في الشوارع، وسرعان ما امتلأت الطرق المؤدية إلى حقل «بروسبكت هيل» بالسيارات. ووصل الخبر إلى مدينة إنجِل سيتي، وطبعَت الصحف هناك «نسخًا إضافية» لنشر الخبر، وقبل حلول الظلام، اكتظ كلا اتجاهَي جادة بيتش سيتي بالسيارات التي كانت تسير جميعُها في الاتجاه ذاته. وقف خمسون ألف شخصٍ مشكِّلين حلقةً عند ما اعتبروه مسافةً آمنةً من البئر المتدفقة، بينما حاول رجال شرطة الطوارئ دفعهم بعيدًا إلى الخلف، صائحين: «أطفئوا أي شيءٍ قابل للاشتعال! أطفئوا أي شيءٍ قابل للاشتعال!» تردَّد صدى هذه الكلمات طوال الليل، حتى أدرك الجميع الخطر؛ فقد ينسى أحمق ويشعل سيجارة، حينئذٍ سيشتعل على الفور جانب التل بأكمله، وقد يتسبب في ذلك أيضًا اصطدام مسمار في حذائك بحجر، أو حتى شاحنة مزوَّدة بعَجلاتٍ ذات إطاراتٍ فولاذية. ففي كثير من الأحيان، تشتعل النيران في هذه الآبار بمجرد أن يتدفق النفط خارجها.
ومع ذلك تجمَّعَت الحشود، وفتح الرجال أسقف سيارتهم القابلة للطي، ووقفوا على المقاعد، وأجرَوا المزادات تحت ضوء النجوم. وعُرضَت قطع الأراضي للبيع بأسعارٍ رائعة، وبيع بعضٌ منها، وعُرضَت عقود الإيجار، وتأسَّسَت الشركات، وبيعت الأسهم، وشَق التجار طريقهم بعيدًا عن الحشود، ووقفوا على مسافةٍ آمنة من البئر على الجانب الواقع في مهب الريح؛ حيث يمكنهم إشعال سيجارة، ورؤية بعضهم وجوه بعض، وتدوين ملاحظات بما اتفقوا عليه. واستمرت هذه التعاملات التجارية معظم الليل، وفي الصباح، نُصبَت خيامٌ كبيرة كانت مخصَّصة فيما مضى لاجتماعات الكنيسة لإحياء الروح الدينية، وتزيَّنَت حقول الكرنب باللافتات الحمراء والسوداء المكتوب عليها: «الجمعية التعاونية رقم ١ في مدينة بيتش سيتي»، «نقابة سكايت، رقم ١، عشرة آلاف وحدة، ١٠ دولارات».
في غضون ذلك، كدَح العمال جاهدين لإيقاف تدفق النفط من البئر، ولم يتمكنوا من الحفاظ على توازنهم أو حتى الرؤية بوضوح بسبب الرذاذ الأسود؛ إذ لم يكن هناك مكانٌ يمكنهم استعادة توازنهم فيه، أو شيءٌ يمكنهم التشبُّث به؛ لأن كل شيء كان زلقًا بسبب تدفُّق النفط. ولتحديد مكان البئر، كانوا يتحسَّسون طريقهم في الظلام، مسترشدين بصوت هديره الصاخب، والأشياء التي كان يقذفها عليهم، والرذاذ الذي كان يبصُقه في وجوههم. ساد التوتر الشديد بيئة العمل، حيث عُرضَت مكافآت بقيمة خمسين دولارًا لكل رجل يتمكن من إيقاف التدفُّق قبل منتصف الليل، ومائة دولار في حالة إيقافه قبل الساعة العاشرة. لم يستطع أحد تقدير قيمة الثروة المهدَرة، لكنها لا بد أن تُقدَّر بآلاف الدولارات كل دقيقة. حتى إن السيد كولفر انضَم بنفسه للمساعدة، وبسبب جهوده المتهورة ثُقِبَت طبلتا أذنَيه. وقال أحد العمال دون أي تعاطف: «لقد حاول أن يوقف التدفق برأسه.» وبالإضافة إلى ذلك، اكتشف المالك، على مدار الأسابيع التالية، أن هناك ٤٢ دعوى قضائية مرفوعة ضده للتعويض عن الأضرار التي لحقَت بالمنازل، والملابس، والدجاج، والمَعْز، والأبقار، وحقول الكرنب، وبنجر السكر، والسيارات التي انزلقَت في مصارف المياه بسبب تدفق النفط على الطريق.
٢
كان المنزل رقم ٥٧٤٦ بجادة لوس روبلس ملكًا لجو جرورتي، الحارس الليلي لشركة أولتمن لمبر بمدينة بيتش سيتي. وكانت السيدة جرورتي قد «اعتادت» أن تغسل ملابس الغير للمساعدة في إعالة أطفالها السبعة، أما الآن بعد أن كبروا وتركوا المنزل، فانشغلَت بتربية الأرانب والدجاج. عادةً ما كان جو يغادر إلى عمله في تمام الساعة السادسة مساءً، لكن في اليوم الثالث من «الاكتشاف المفاجئ للنفط»، قرَّر ترك وظيفته، وكان الآن يجلس في شرفته الأمامية، وكان رجلًا مسنًّا رقيقَ الحاشية يكسو الشيب شعره، يرتدي بدلةً سوداء بياقة من السيلولويد وربطة عنق سوداء، وكان هذا هو زيه المخصَّص لأيام الأحد والعطلات وحفلات الزفاف والجنائز. لم يكن لدى السيدة جرورتي ملابسُ مناسبة لهذه المناسبة الحالية؛ لذلك أخذها زوجها إلى وسط المدينة في سيارته الفورد، وأنفقَت بعضًا من المال الذي توقَّعَت الحصول عليه؛ بسبب هذا الاكتشاف على شراء فستان سهرة من الساتان الأصفر. كانت الآن تشعُر بالإحراج لأن الفستان كان يكشف عن جسدها، من الأعلى؛ حيث كان كلٌّ من ذراعَيها ونهدَيها بارزًا للغاية، أو من الأسفل حيث كانت ساقاها السمينتان ملفوفتَين في جورب من الحرير المطرز، لا يمكن رؤيته من شدة رقته. وأكَّدَت لها البائعة أن هذا هو ما ترتديه «الأخريات»، وكانت السيدة جرورتي عاقدة العزم على أن تصبح واحدةً من أولئك «الأخريات».
كان المنزل على طراز «البنجِلو» التقليدي، وكانت قد بنَتْه عائلة أكثر ثراءً في أيام الازدهار العقاري. كان المنزل قد عُرِض بسعرٍ أقلَّ بكثير من قيمته الفعلية، وتمسَّكَت السيدة جرورتي بشرائه لأن به غرفةَ معيشةٍ رائعة. دفعا مدخراتهما نقدًا، وقسَّطا بقية المبلغ بحيث يدفعان ثلاثين دولارًا شهريًّا. وحصَلا على سند بملكية المنزل، وكانا يدفعان الأقساط في وقتها؛ لذا كانت ملكيتهما في أمان.
عندما تتجاوز عتبة المنزل، كان أول شيء يلفت انتباهك هو اللمعان؛ أروع بريقٍ يُمكِن رؤيتُه في مشغولاتٍ خشبية، ولزيادة التأثير أضاف الرسام بعض التموجات للخشب، ليشبه تجزع خشب البلوط؛ لا بد أنه كانت هناك عشرات الآلاف من الخطوط التي استخدم الرسام لكل واحدٍ منها ضربةَ فرشاةٍ مختلفة. كانت المدفأة مصنوعة من أحجارٍ متعددة الألوان، مصقولة بعناية وتلمع مثل الجواهر. وكان أكثر ما يلفِت الانتباه هو وجود دَرَجٍ خشبيٍّ في آخر الغرفة بدرابزين لامع ومتعرج أيضًا؛ حيث كان هذا الدرَج يتجه لأعلى ثم ينعطف، وكانت هناك بسطة عليها نخلةٌ مزروعة في أصيص. وقد تعتبر أن من المُسَلَّم به أن يكون هذا الدرَج شأنه شأن سائر الأدراج، وأن الهدف منه توصيلك للدور الثاني. وقد تذهب إلى منزل آل جرورتي مائة مرة، وتراه ليلًا ونهارًا، قبل أن يخطر ببالك أن ثمَّة خطبًا ما، لكنك ستدرك فجأة — وأنت واقف خارج المنزل في أحد أيام العطلة — أن هناك سقفًا مسطحًا يغطي منزل آل جرورتي بأكمله، ولا يُوجد طابق ثانٍ في أيٍّ من أجزائه. حينئذٍ ستدخل المنزل، يدفعك فضولٌ خبيثٌ جديد، وتُمعِن النظر في الدرَج والبَسطة وتدرك أنهما لا يؤديان إلى أي مكان؛ فالغرض الوحيد من وجودهما هو شكلهما الجميل.
وقفَت السيدة جرورتي بجوار الطاولة المركزية بحجرة المعيشة، في انتظار وصول الرفقة المتوقع حضورها. كانت هناك زهرية ورد على هذه الطاولة، وأمامها مباشرة، تحت المصباح الكهربائي، كتابٌ ذو تصميمٍ رائع ملفوف بقماشٍ أزرق ومكتوب عليه بحروفٍ ذهبية: «دليل السيدات: الكتيب العملي للأرستقراطية». كان هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد في منزل آل جرورتي، وكانت السيدة جرورتي قد أحضرَتْه منذ يومين فقط؛ حيث كانت موظفة ذكية في المتجر قد أخبرت «ملكة النفط»، بعد شراء الفستان الساتان بأن هناك عرضًا لا يُفَوَّت في قسم الأعمال الأدبية. وكانت السيدة جرورتي تقرأ الكتاب في أوقات فراغها، والآن كانت تتباهى بعرضه كرمز للثقافة.
كان أول الواصلين الأرملة ميرتشي، التي كانت قد جاءت من آخر المربع السكني؛ حيث كانت تعيش في منزل صغير من طابق واحد مع طفليها، وكانت هزيلة وخجولة، وترتدي سوارًا أسود في كلا معصميها. أشادت بزي السيدة جرورتي، وهنأتها على حسن حظها في العيش بالمنحدر الجنوبي من التل، حيث يمكنها ارتداء الفساتين الأنيقة. فعلى الجانب الشمالي، حيث كانت الرياح السائدة محملة بالنفط، سيتلف حذاؤك في كل مرة تخرج فيها من المنزل. وحتى الآن كان بعضُ الناس لا يجرُءون على استخدامِ مواقدِ مطابخِهم خوفًا من حدوثِ انفجار.
ثم جاء السيد والتر بلاك وزوجتُه وابنهما البالغ، أصحاب قطعة أرض بالزاوية الجنوبية الغربية، وكانوا يعملون في مجال العقارات في المدينة. كان السيد بلاك، الواثق من نفسه، يرتدي بدلة بنقوشٍ مربعة، ويتدلى على صدره العريض سلسلةُ ساعة جيب، عليها حيوانٌ مفترسٌ مصنوع من الذهب. وكان للسيدة بلاك جسدٌ ضخم أيضًا، وكانت لديها بالمنزل ملابس بقَدْر روعة ملابس السيدة جرورتي، لكن سلوكها كان يدُل على أنها لن ترتدي هذه الملابس إلا في الأماكن التي تليق بها. تبعهم السيد دَمبري، الذي يعمل نجارًا، ويمتلك كوخًا صغيرًا خلف منزل آل جرورتي، يُطِل على طريق إلدورادو، الواقع على الجانب الآخر من المربع السكني، وكان السيد دَمبري رجلًا هادئًا، صغير الحجم، له كتفان منحنيتان ويدان تظهر عليهما آثار كدحه طوال عمره. لم يكن بارعًا جدًّا في التعامل مع الأرقام، وكانت تَشُقُّ عليه هذه الأوضاع الغامضة المفاجئة التي كانت تجتاح حياته.
جاء بعد ذلك الزوجان رايثل، اللذان كانا يمتلكان قطعة أرضٍ صغيرة ومتجرًا للحلوى في المدينة، وهما زوجان شابَّان مهذَّبان للغاية، حريصان على إسعاد الجميع، وقد شعرا بإحباطٍ شديد عندما اكتشفا أن هذا أمرٌ مستحيل. تبعهما السيد هانك، وهو رجلٌ نحيل ذو وجهٍ طويل ونحيف وله صوتٌ مزعج، وكان يملك «قطعة الأرض الصغيرة» المجاورة، وبسبب عمله في مناجم الذهب، اعتبر نفسه مسئولًا عن عقود إيجار النفط. جاء بعده عدُوه اللدود، السيد ديبل، المحامي، الذي كان يمثل مالك الزاوية الشمالية الغربية الغائب، وكان قد تسبَّب في حدوث مشاكل بالإصرار على العديد من الأمور الفنية التي يصعُب على غير المحامين فهمها؛ إذ حاول جاهدًا فصل النصف الشمالي من المربَّع السكني، واعتبره ساكنو النصف الجنوبي خائنًا. ثم جاء السيد جولايتي، الذي كان يملك «قطعة أرضٍ متوسطة». لم تكن مهنتُه معروفة، لكنه أبهر الجميع بملابسه وأسلوبه المتحضر، وكان يُصلِح بين الأطراف المتشاحنة، ويتميز بصوتٍ عميق، لطيف، وكان يميل إلى الانخراط في محادثاتٍ مطولة، لكن المشكلة الوحيدة كانت أنه عندما ينتهي من كلامه، قد لا يمكنك التيقن من مغزى كل ما قاله.
وصل آل بروملي، وهما زوجان عجوزان ثريان، يقودان سيارةً كبيرة. أحضرا معهما آل لوكر، وهما خيَّاطان يهوديان قليلا الشأن، وعادةً لم يكن تجمعُهم أي أحاديث خارج متجر الخياطة، لكن بالتحالف معًا أصبح لديهم أربع «قطعٍ متوسطة من الأراضي» كانت كافيةً لتشييد موقع للحفر يمتد عَبْر المربَّع السكني، مما مكَّنهم من تهديد باقي ملَّاك الأراضي بالحصول على عقد إيجارٍ منفصل. جاء بعدهم آل سايفون سيرًا على الأقدام من منزلهم الكائن بالزاوية الشمالية الشرقية، وبالرغم من امتلاكهم لسيارةٍ مستعمَلةٍ مصنَّعة منذ ثلاث سنوات، كانوا أناسًا مُتغطرسِين، يزدرون بقية أهل الحي دون أي سبب. وكانوا هم مَن حصلوا على عقد الإيجار هذا، وكان الجميع على يقين من أنهم سيحصلون على حصةٍ كبيرةٍ غير رسمية من الأرباح، لكن لم تكن هناك طريقة لإثبات ذلك، ولا يمكن فعل أي شيءٍ حياله؛ لأن جميع من قدَّموا عروضًا للإيجار كانوا قد وُعِدوا سرًّا أيضًا بالحصول على حصةٍ غير رسمية من الأرباح.
جاء معهم السيد سام، عامل الجص، الذي كان يعيش مؤقتًا في «مرأبٍ» مبني على «قطعة أرضٍ صغيرة» مجاورة لأرض آل سايفون. وبالرغم من أن منزله كان لا يساوي شيئًا، كان هو مَن طالب بفجاجة بأن يتكبد المستأجر نفقة نقل المنازل، حتى إنه حاول وضع شرط للتعويض عن صفوف الفاصوليا والطماطم المزروعة في أرضه. وقد حاول الآخرون الاعتراض على كلامه، لكن ما أثبط عزيمتهم هو أن السيد دمبري، النجار الصامت، أعلن أن هذا يبدو له طلبًا منطقيًّا، وأوضح أن لديه سبعة صفوف من الذرة والفاصوليا المزدهرة، وكان من رأيه أن العَقْد لا بد وأن يتضمن على الأقل شرط أن تُحفر البئر الأولى في قطعة أرضٍ غير مزروعة، لإعطاء البستانيين الوقت اللازم لجني ثمار كدحهم.
٣
كانت الساعة السابعة والنصف موعد بدء الاجتماع، ونظر الجميع حولهم في انتظار أن يبدأ أحدهم الحديث. في النهاية، نهض شخصٌ غريب، ضخم الجسد يبلغ طوله ست أقدام ويتحدث ببطء مؤكدًا على حروف العلة، وقدَّم نفسه على أنه السيد إف تي ميريويذر، محامي السيد بلاك وزوجته، مالكَي الزاوية الجنوبية الغربية؛ واستنادًا إلى نصيحته، يودُّ هذان الطرفان طلب إجراء تغييراتٍ طفيفة في صياغة عقد الإيجار.
قال السيد هانك صاحب الوجه الطويل النحيف وهو يهبُّ من مكانه: «تغييرات في عقد الإيجار؟ ألم نتفق على عدم إجراء المزيد من التغييرات؟»
«هذا أمرٌ بسيط للغاية، يا سيد …»
«لكن السيد روس سيصل إلى هنا في غضون خمسَ عشرةَ دقيقة، وعلى أتم الاستعداد للتوقيع!»
«إنها تفصيلةٌ يمكن تغييرها في خمس دقائق.»
كان هناك صمتٌ منذِر بشؤم.
«حسنًا، ما التغيير الذي تريد إجراءه؟»
قال السيد ميريويذر: «مجرد أن يُذكر صراحةً أنه عند حساب المساحة لتحديد كيفية توزيع حصص الأرباح، يجب مراعاة أحكام القانون التي تنُص على أن حقوق النفط تمتد إلى وسط الشارع، وإلى وسط الزقاق في الجزء الخلفي.»
«ماذا؟» فغَر الحضور أعينهم وأفواههم، وانتشرت بينهم همهمات الدهشة والاعتراض. وصاح السيد هانك: «من أين أتيتَ بهذه المعلومة؟»
«حصَلتُ عليها من قوانين ولاية كاليفورنيا.»
«حسنًا، لكن هذا ليس مذكورًا في عقد الإيجار هذا، وأنا شخصيًّا لا أتفق معه!» تعالت الأصوات المؤيدة للسيد هانك قائلة: «لا أعتقد ذلك! لم أسمع عن شيءٍ كهذا من قبلُ. هذا أمرٌ سخيف!»
صاحت السيدة جرورتي: «بالتأكيد، بالتأكيد!»
أجاب السيد ديبل، المحامي: «أظن يا سيدة جرورتي أن هناك سوءَ تفاهم؛ بسبب عدم إلمامكِ بقوانين النفط بالولاية. إن أحكام القانون واضحة.»
انفجرَت السيدة جرورتي قائلةً بحدة: «نعم، بالتأكيد! لسنا بحاجة إلى معرفة رأيك؛ نظرًا لأنك تمثِّل قطعة أرض بالزاوية، وستحصُل قطع الأرض بالزاوية على ضعف المال!»
«إن الوضع ليس بهذا السوء، يا سيدة جرورتي. لا تنسَي أن أرضكِ ستمتد إلى وسط جادة لوس روبلس، التي يبلغ عرضها ثمانين قدمًا.»
«نعم، لكن أرضك ستمتد إلى وسط الشارع الجانبي أيضًا …»
«نعم، سيدة جرورتي، لكن شارع إل سنترو لا يزيد عرضُه عن ستين قدمًا.»
«هذا يعني أنك ستجعل مساحة أراضيك خمسًا وتسعين قدمًا، بدلًا من خمسٍ وستين قدمًا، كما ظننا جميعًا عندما نتخلى عن أراضينا، ووافقنا على السماح للأراضي ذات المساحات الكبيرة بالحصول على حصةٍ أكبر.»
صاح السيد هانك: «وكنتَ ستدَعُنا نوقع على ذلك! وكنتَ تعمل في هدوء لخداعنا!»
دوَّى صوت السيد جولايتي، الذي يُحب الصلح بين الأطراف المتشاحنة، قائلًا: «يا سادة! يا سادة!»
قاطعه آيب لوكر، الخياط، قائلًا: «دعوني أستوضح هذا الأمر. إن طريق إلدورادو ليس واسعًا مثل جادة لوس روبلس؛ هذا يعني أننا، القاطنين في النصف الشرقي، لن نحصل على الكثير من المال مثل الآخرين.»
قال السيد ميريويذر: «عمليًّا، الفارق ضئيل. يمكنك حساب …»
«بالتأكيد يمكنني حساب الفارق! ومع ذلك، إذا كان الفارق ضئيلًا فما الذي جعلَك تأتي إلى هنا لفسخ عقد الإيجار الخاص بنا؟»
صاح السيد هانك: «دعني أؤكِّد لك هذا الآن! أنا لن أوقِّع على أيِّ اتفاقٍ من هذا القبيل.»
قالت الآنسة سنايب، الممرِّضة المتمرسة، وهي سيدةٌ شابةٌ حازمة تضع نظارة: «ولا أنا. أظن أننا، أصحاب الأراضي ذات المساحات الصغيرة، قد تحمَّلنا نصيبنا من الغُبن.»
أضاف السيد هانك: «أرى أن نلتزم بالاتفاق الأصلي، الاتفاق الوحيد المعقول؛ حيث تحصل جميع الأراضي على حصصٍ متساوية، تمامًا مثلما يحدُث في عملية التصويت.»
قال السيد ديبل بقَدرٍ كبير من الهدوء والجدية: «دعني أوضح شيئًا، يا سيد هانك. هل صحيح أنك تمتلك واحدةً من الأراضي الصغيرة المجاورة للزقاق؟»
«نعم، هذا صحيح.»
«حسنًا، إذن، هل قدَّرتَ أن القانون يمنحك الحق في خمس عشرة قدمًا إضافيةً بطول ذلك الزقاق؟ هذا يجعل حصتك أكبر إلى حدٍّ ما من حصص أصحاب الأراضي المتوسطة.»
فغَر السيد هانك فاه. وقال: «يا إلهي!»
وانفجَرَت السيدة جرورتي في الضحك. «يا إلهي! يا إلهي! بالطبع، هذا سيغيِّر مسار الأمور! فقد أصبحنا نحن، أصحاب الأراضي المتوسطة الذين يشكِّلون نصف عقد الإيجار، المخدوعين الآن!»
صاحت السيدة كيث، التي كانت زوجة لاعب بيسبول: «وماذا عنا نحن أصحاب الأراضي الصغيرة التي لا تقع في الزقاق! ماذا عني وعن زوجي؟»
قال السيد سام، عامل الجص: «يبدو لي أننا في ورطةٍ كبيرة. فنحن لم نعُد نعرف المجموعة التي ننتمي إليها.» ومثل معظم الرجال في الغرفة، كان قد أخرج قلم رصاص وورقة، وكان يحاول فهم هذا التعديل الجديد، وكلما زاد استيعابه للأمر، اكتشف المزيد من التعقيدات.
٤
كانت عائلة والتر براون هي صاحبة فكرة «الاتفاق الجماعي» لهذا المربَّع السكني. فقد كانت قطعتان أو ثلاث قطع من الأرض كافيةً لحفر بئر، ولكن لن يهتم بعقد إيجارٍ مثل هذا إلا الشركات الصغيرة، ومن المرجَّح أن تقع في يد سمسار يقايضك، وربما تستغلك «نقابة» وتقسِّم الأرض وتبيعها في شكل «وحدات»، أو تقع في شَرَك عقدٍ مليء بالثغرات؛ حيث تقف مكتوف الأيدي تراقب الآخرين وهم يستنزفون النفط من تحت أرضك. ولذلك كان الحل الأمثل أن يجتمع قاطنو المربع السكني معًا في عقد إيجارٍ واحد، وعندئذٍ سيتوفر لديك ما يكفي من الأراضي لحفر نصف دزينة من الآبار، ويمكنك التعامل مع إحدى الشركات الكبرى، وستُجرى عمليات الحفر بسرعة، والأهم من ذلك، ستكون متأكدًا من الحصول على حصتك من الأرباح بعد استخراج النفط وبيعه.
لذلك، بعد الكثير من المثابرة، والشد والجذب، والتهديد والتملق، والمساومة والتآمر، اجتمع أصحاب الأراضي البالغ عددها أربعًا وعشرين في بيت آل جرورتي، ووقَّع كلٌّ من الأزواج والزوجات أسماءهم على «الاتفاق الجماعي»، الذي كان مفاده ألَّا يؤجِّر أيٌّ منهم أرضه بمعزل عن الآخرين. سُجِّل هذا المستند على النحو الواجب في محفوظات المقاطعة، وهم الآن يدركون يومًا بعد يوم ما ارتكبوه بحق أنفسهم. لقد اتفقوا على الاتفاق، ومنذ ذلك الحين، أصبحوا غير قادرين على الاتفاق على أي شيء!
كانوا يجتمعون في الساعة السابعة والنصف مساء كل يوم، ويتشاحنون حتى منتصف الليل أو بعد ذلك، ثم يعودون إلى منازلهم مرهقين، ولا يتمكَّنون من النوم، وأهملوا أعمالهم وشئونهم المنزلية وريَّ مروجهم، فما فائدة العمل مثل العبد وأنت ستصبح غنيًّا؟ وعقدوا اجتماعات للأقليات، وشكلوا مجموعاتٍ فئوية، وقدَّموا وعودًا حنثوا بها، سرًّا تقريبًا، قبل غروب الشمس. وخضَعَت طبيعتهم البشرية الضعيفة إلى إجهادٍ يفوق قدرتها على التحمل؛ فقد اشتعلَت نيران الجشع في قلوبهم، واهتاجت حتى وصلَت إلى أوج اشتعالها، وأذابت كل مبدأ وكل قانون.
تعقَّبهم «صائدو عقود الإيجار»، وحاصَروا بيوتهم، واتصلوا بهم عَبْر الهاتف، ولاحقوهم بالسيارات. لكن بدلًا من الشعور بالرضا مع كل عرضٍ جديد، شعَروا بالقلق والشك والكراهية. وأيًّا كان من قدم العرض، لا بد أنه يحاول خداع الباقين، وأيًّا كان مَن يدافع عنه، لا بد أنه يتحالف معه. تعرَّضوا جميعًا للخيانة والحيل، حتى أكثرهم لطفًا، السيد دمبري، النجار المسالم المسكين، الذي كان يجُر قدمَيه من الترام متجهًا نحو البيت، بأصابعَ متقرحة وظهرٍ متألم من تثبيت عدة آلاف من مسامير الألواح الخشبية على أحد الأسطح، قابلَه رجل يقود سيارة ليموزين فخمة. قال الرجل: «اركب، يا سيد دمبري. إنها سيارةٌ جيدة، ألا تظن ذلك؟ ما رأيك أن أخرج منها وأتركها لك؟ سأكون سعيدًا جدًّا بأن أفعل ذلك إن أقنعتَ مجموعتك بالتوقيع لنقابة كاوتش.» قال السيد دمبري: «أوه، لا، لا أستطيع فعل ذلك، لقد وعدتُ الآنسة سنايب بأنني سألتزم بخطة أوينز.» قال الرجل: «حسنًا، يمكنك نسيان ذلك. لقد تحدَّثتُ للتو مع الآنسة سنايب، وهي على استعداد لركوب السيارة.»
وبعدما كانوا قد دخلوا في حالة من الهستيريا الدائمة، انبعث فيهم الأمل فجأة، مثلما ينبعث ضوء الشمس من بين سحب العواصف؛ حيث جلب السيد سايفون وزوجته عرضًا من رجل يُدعى سكوت، كان يمثِّل جيه أرنولد روس، وقدَّم لهم أفضل عرضٍ كانوا قد حصلوا عليه حتى الآن: مبلغ نقدي إضافي قدره ألف دولار على كل قطعة أرض، وربع الأرباح، واتفاق على «بدء حفر» البئر الأولى في غضون ثلاثين يومًا، وفي حال عدم الالتزام تُدفع غرامة قدرها ألف دولارٍ أخرى لكل قطعة أرض، وتُودَع هذه الغرامة في البنك.
كانوا جميعًا يعرفون بشأن جيه أرنولد روس؛ إذ نشرَت الصحف المحلية مقالات عن دخول «واحد من كبار العاملين في مجال النفط» إلى حقل النفط الجديد. ونشرَت الصحف صورته ونبذةً مختصرة عن حياته؛ فقد كان نموذجًا للمواطن الأمريكي، عصاميًّا بنى نفسه بنفسه، مما أعاد المجد لأرض الأحلام العظيمة هذه. وأثناء قراءة هذه القصص توهَّج قلب كلٍّ من السيد سام، عامل الجص، والسيد دمبري، النجار، والسيد هانك، عامل المنجم، والسيد جرورتي، الحارس الليلي، والسيد رايثيل، صاحب متجر الحلوى، والسيدَين لوكر، مصمِّمَي أزياء النساء والرجال. فقد كان العرض لهم بمثابة فرصةٍ لا تُعوَّض!
كان هناك تشاحنٌ عنيفٌ آخر، أسفر عنه قرار أصحاب الأراضي الكبيرة والمتوسطة بنبذ خلافاتهم جانبًا، والتصويت ضد أصحاب الأراضي الصغيرة، وأعدُّوا عقد إيجار ينص على حصول كل قطعة أرض على حصة من الأرباح تتناسب مع مساحتها. وأبلغوا السيد سكوت بأنهم مستعدون للتوقيع، ورتَّب السيد سكوت لمقابلة السيد روس العظيم في الساعة الثامنة إلا الربع مساء اليوم التالي والتوقيع على المستندات. والآن، ها هم قد حضروا في الموعد المحدد بالضبط، ولكن كانت تنتابهم حالةٌ أخرى من الفوضى! فقد حصلَت أربع من «الأراضي الصغيرة» بشكلٍ غيرِ متوقَّع على قيمةٍ أكبر من «الأراضي المتوسطة»، ونتيجة لذلك، كان هناك أربعة من «أصحاب الأراضي الكبيرة» وأربعة من «أصحاب الأراضي الصغيرة بعض الشيء» يؤيدون عقد الإيجار، وأربعة من «أصحاب الأراضي الصغيرة جدًّا» واثنا عشر من «أصحاب الأراضي المتوسطة» ضده!
وهنا، بوجهٍ حانقٍ أحمر بلون القرميد، كانت الآنسة سنايب تهزُّ إصبعَها في وجه السيد هانك. وتقول له: «دعني أؤكِّد لك، لن تُجبرني أبدًا على التوقيع على تلك الورقة، لن يحدث هذا أبدًا!» وهنا ردَّ عليها السيد هانك صائحًا: «دعيني أؤكد لكِ، القانون سيُجبركِ على التوقيع عليها، إذا صوَّتَت الأغلبية لصالحها!» وهنا كانت السيدة جرورتي تحملق غضبًا في السيد هانك، متناسية كل شيء عن «الكُتيب العملي للأرستقراطية»، وتقبض على يدَيها كما لو كانت تُحْكِم قبضتها على حلقه، وقالت: «لقد كنتَ أنتَ من يصرخ من أجل حقوق أصحاب الأراضي الصغيرة! وكنتَ من ينادي بالحصول على حصصٍ متساوية؛ يا لكَ من لئيم!» كانت هذه هي الحالة التي وصلوا إليها، لكن فجأةً هدأَت الأصوات، وارتخت الأيدي المشدودة، وتلاشت النظرات الغاضبة. فقد سمعوا طرقًا على الباب، طرقًا حادًّا قويًّا، وخطر إلى ذهن كل شخص في الغرفة الفكرة ذاتها: إنه جيه أرنولد روس!
٥
لم يكن الكثيرون من هؤلاء الرجال ليقرءوا كتابًا عن آداب السلوك؛ إذ كانوا يكتسبون خبراتهم الحياتية من التجارب الفعلية، وها هم بصدد المناسبة الأكثر إفادة لهم على الإطلاق. فقد تعلموا أنه عندما يدخل رجلٌ عظيمٌ غرفة، فإنه يدخل أولًا، متقدمًا مرءوسيه. وتعلَّموا أنه يرتدي معطفًا فخمًا كبيرًا ويقف في صمتٍ حتى يُقدِّمه أحد مرءوسيه. قال سكوت، وكيل الإيجار: «أيتها السيدات والسادة، أقدِّم لكم السيد جيه أرنولد روس.» عندها ابتسم السيد روس بسرور، مُرحِّبًا بكل الحاضرين وقال: «أيتها السيداتُ والسادة، طاب مساؤكم.» نهض ستةُ رجال، وعرضوا عليه الجلوس على مقاعدهم؛ وبكل بساطة ودون إضاعة الوقت في المناقشات، جلس على كرسيٍّ كبير، مدركًا، دون شك، كيف سيكون الموقف محرجًا للمضيفة إذا لفَت الانتباه إلى نقص عدد الكراسي.
كان يقف خلفه رجلٌ آخر، ضخم أيضًا. قدَّمه سكوت قائلًا: «السيد ألستون دي برنتيس»، وتضاعَف انبهارُهم، كونه محاميًا مشهورًا من مدينة إنجِل سيتي. كذلك دخل الغرفة ولدٌ صغير، على ما يبدو أنه كان نجل السيد روس. كان لدى العديد من النساء في الغرفة أولادٌ صغار، كل واحدٍ منهم مُقدَّر له أن يكبر ليصبح تاجر نفطٍ عظيمًا؛ لذلك كانوا يراقبون ابن السيد روس، وتعلموا أن صبيًّا كهذا يبقى بالقرب من والده، ولا يقول شيئًا، لكنه يولي كل شيء اهتمامًا كبيرًا بعينَين متجولتَين تواقتَين. وعلى الفور، جلس على حافة النافذة، يستمع بكل انتباه، كما لو كان رجلًا ناضجًا.
حصلَت السيدة جرورتي على جميع الكراسي التي كان بإمكان جيرانها توفيرها، وذهبَت إلى «الحانوتي» واستأجرت دزينة من الكراسي القابلة للطي، ولكن كان لا يزال هناك نقص في العدد، ولم يذكُر كتاب آداب السلوك كيفية التصرُّف في مثل هذه المواقف. لكنَّ هؤلاء الرجال الغربيين الأَفْظاظ والمتأهبين حلوا المشكلة، بعدما بحثوا مطولًا في سقيفة تخزين الأخشاب، التي كانت خلف المرأب، وجلبوا بعض «الصناديق» الفارغة، مثل تلك التي تُشحَن فيها فاكهة الخوخ والمشمش والبرقوق عند شرائها. وبعد تنظيمها في وضعٍ عمودي، تحوَّلَت هذه الصناديق إلى مقاعدَ تفي بالغرض، وسرعان ما استقر الحضور.
قال السيد سكوت بلطف: «حسنًا، يا رفاق. هل كل شيء جاهز؟»
قال السيد هانك بصوته الحاد: «لا. نحن لسنا مستعدين. لا يمكننا الاتفاق.»
صاح «صائد عقود الإيجار»: «ماذا؟ لماذا؟ لقد أخبرتني أنكم اجتمعتم معًا!»
«هذا صحيح. لكننا انقسمنا مرةً أخرى.»
«ما الأمر؟»
بدأ بعض الأشخاص يقصون عليه المسألة، وطغى صوت السيد سام على باقي الأصوات. وقال: «هناك بعض الأشخاص الذين أتوا إلى هنا ومعهم محامون بارعون للغاية، وقد استندوا في حجتهم إلى مجموعة من القوانين المزعومة التي لا يوافق بقيتنا عليها.»
قال السيد سكوت بأدب: «حسنًا، السيد برنتيس محامٍ ممتاز، وربما يمكنه المساعدة في توضيح الأمر.»
وهكذا، عرضوا جميعًا المشكلة في الوقت ذاته، فيما يشبه الجوقة تقريبًا، وأعلنوا عن اعتراضاتهم. ثم أخبرهم محامي السيد روس، متحدثًا بمقتضى منصبه، أن بيان القانون كان صحيحًا تمامًا، وأن عقد الإيجار بصيغته الحالية يشير إلى المنطقة الواقعة في منتصف الشوارع والأزقة، ولكن بالطبع لم يكن هناك ما يمنعهم من إجراء أي تعديل يرونه مناسبًا، وتوضيحه بالتفصيل في عقد الإيجار.
ثم ازداد الموقف سوءًا؛ وبدَءوا في الجدال بشأن وجهات نظرهم الصحيحة والخاطئة، وتأجَّجَت نار العداوة بينهم بشدة لدرجة أنهم نسُوا حتى وجود جيه أرنولد روس ومحاميه البارز. وأعلنَت الآنسة سنايب: «قلتُ لك من قبل، وسأقولها مرةً أخرى — أنا لن أوقع! لن أوقع!»
صاح السيد هانك: «ستُوقِّعين إذا صوَّتَت الأغلبية لصالح ذلك!»
«فلتُحاوِل وسترى بنفسك النتيجة!»
«هل تقصدينَ أن بإمكانكِ خرقَ الاتفاق؟»
«أقصد أن لديَّ محاميًا يقول إن بإمكانه خرقَ الاتفاق وقتَما أخبره بذلك.»
قاطعهم السيد ديبل قائلًا: «حسنًا، في رأيي، بوصفي محاميًا — وأظن أن زميليَّ، السيد برنتيس والسيد ميريويذر سيدعمانني — يصعُب خرقُ هذا الاتفاق.»
صاح السيد سام: «حسنًا، على الأقل يمكننا عرضُ الأمر على المحكمة! ولتبقَ القضية هناك عامًا أو عامَين!»
قال السيد هانك ساخرًا: «هذا لن يفيدَك على الإطلاق!»
قالت الآنسة سنايب: «حسنًا، نحن بين المطرقة والسندان؛ إذا لم يسرقنا هؤلاء اللصوص، فسرعان ما سيأتي غيرهم.»
قاطعها بن سكوت على عَجل قائلًا: «حسنًا، يا رفاق! من المؤكد أننا لن نضُر بمصالحنا الشخصية بسبب شعورنا بالغضب. ألا تظنون أنه من الأفضل أن تدَعوا السيد روس يخبرنا عن خططه؟»
صاح السيد جولايتي: «بالتأكيد، دعونا نسمع السيد روس!» عندئذٍ تعالت الأصوات موافقةً بكل السبل على سماع السيد روس. فهو الوحيد القادر على إنقاذهم!
٦
نهض السيد روس، ببطء ورزانة. وكان قد خلع بالفعل معطفه الكبير، وطواه ووضَعه بعناية على السجادة بجانب كرسيه، لاحظَت ربات البيوت ذلك، وسيستخدمنه في جدالاتهن العائلية المستقبلية. كان رجلًا وقورًا، يرتدي بذلةً مريحة من الصوف، نظر إليهم بملامحه الجادة واللطيفة في الوقت نفسه، وتحدث إليهم بصوتٍ حنون، يكاد يكون أبويًّا. إذا كنتَ منزعجًا من أن طريقة حديثه تختلف عن طريقتك، فضَع في اعتبارك أن الأمر لا يتعلق باللغة الإنجليزية، بل باللهجة الأمريكية الخاصة بالمناطق الجنوبية الغربية التي يستخدمها. وسيتعيَّن عليك الانخراط في صناعة النفط في تلك المنطقة، لكي تدرك أن رجلًا ما قد يتحدث بلهجته الخاصة ويقول: «لقد فعلتُ ذلك من قبل، وسأفعله مرةً أخرى»، مع أنه يرتدي زي موظف بنك يعمل في منطقةٍ حضرية، ويتمتع بثقة جنرالٍ هادئ، ونبل أسقف كنيسة عطوف. قال السيد جيه أرنولد روس:
«أيتها السيدات والسادة، لقد سافرتُ مسافةً طويلةً جدًّا عَبْر ولايتنا للوصول إلى هنا هذا المساء. لم أستطع الرحيل قبل ذلك؛ لأن بئري الجديدة في نهر لوبوس بدأَت في إنتاج النفط، وكان عليَّ متابعة هذا الأمر. تُنتِج هذه البئر الآن أربعة آلاف برميل، وتُدر عليَّ دخلًا قَدْره خمسة آلاف دولار في اليوم. وجارٍ الآن حفر بئرَين أخريَين، ولديَّ ست عشرة بئرًا منتِجةً في أنتيلوب. لذا، أيتها السيدات والسادة، عليكم أن تُصدِّقوني عندما أقول إنني تاجر نفط.»
«لديكم فرصةٌ رائعة هنا، أيتها السيدات والسادة، لكن تذكَّروا، يمكنكم خسارة كل شيء إذا لم تتوخَّوا الحذر. فمن بين جميع الرفاق الذين يتوسَّلون إليكم للحصول على فرصةٍ لحفر أرضكم، قد يكون هناك تاجرُ نفطٍ واحد من كل عشرين، أما البقية فسيكونون سماسرة، رجالًا يحاولون أن يكونوا حلقة الوصل بينكم وبين تجار النفط، للحصول على بعض الأموال التي من حقكم الحصول عليها. وحتى إذا عثَرتُم على شخصٍ لديه مال، ومستعد للحفر، فربما يكون لا يفقه شيئًا عن التنقيب، وسيتعيَّن عليه التعاقد مع شخصٍ آخر لإنجاز المهمة؛ حينئذٍ ستكونون معتمدين على «مقاول» يحاول إتمام وظيفته بسرعة، للحصول على عقدٍ آخر بأسرع ما يمكن.»
«لكني، أيتها السيدات والسادة، أتولى عمليات الحفر الخاصة بي بنفسي، والرفاق الذين يعملون معي هم رجالٌ أعرفهم جيدًا. ودائمًا ما أكون موجودًا للإشراف على أعمالهم. ولا أفقد أدواتي في البئر، ولا أقضي شهورًا في محاولة التقاطها، وأجيد تغطية البئر بالأسمنت، حتى لا يتسرَّب له الماء، ويضيع عقد الإيجار بالكامل. ودعوني أؤكد لكم، أنا أفضل من أي رجل أو شركةٍ أخرى في هذا المجال. ونظرًا لأن بئر نهر لوبوس قد بدأَت في إنتاج النفط، فلديَّ مجموعةٌ كاملة من الأدوات الجاهزة للعمل. يمكنني تحميل حفَّار على شاحنات، وسيصل إلى هنا في غضون أسبوع. لديَّ معارف تربطني بهم علاقات عمل؛ لذا يمكنني الحصول على الخشب لبناء برج الحفر، فمثل هذه الأشياء تتم بالصداقات، إن كنا في عَجلة من أمرنا كما هو الحال الآن. لهذا السبب يمكنكم ضمان أنني سأبدأ في الحفر، وسأنفق نقودي لتدعيم كلامي. وأؤكِّد لكم أن كل ما وعَد الآخرون بفعله، عندما تحين اللحظة الحاسمة، لن تجدوا له أثرًا.»
«أيتها السيدات والسادة، ليس لي الحق في أن أقول كيف ستُقسِّمون حصص الأرباح. لكن دعوني أخبركم شيئًا؛ كل ما تتخلَّون عنه، من أجل التوصل إلى اتفاق، سيكون صغيرًا مقارنةً بما قد تخسرونه جرَّاء التأخير، وجرَّاء الوقوع في أيدي مقامرين ومحتالين. أيتها السيدات والسادة، بوصفي تاجرَ نفط، أؤكد لكم أن حقل «بروسبكت هيل» لن يحتوي على الكثير من الآبار الغزيرة الإنتاج، وسيقل عما قريب الضغط تحت الأرض؛ ومن ثَمَّ لن يحصل على النفط سوى أولئك الذين يحفرون أراضيهم أولًا. فحقول النفط تنضب سريعًا، وفي غضون عامَين أو ثلاثة أعوام، لن تتمكَّنوا من استخراج النفط من هذه الآبار إلا باستخدام المضخَّات؛ أجل، حتى في هذه البئر التي اكتُشِفَت حديثًا وكانت سببًا في جنونكم جميعًا. لذا، ثقوا بكلامي، ولا تفسخوا عقد الإيجار هذا، واقبلوا بأخذ حصةٍ صغيرة من الأرباح إذا لزم الأمر، وأتعهَّد بأن تكون قيمة الأرباح الكلية كبيرة، وبذلك لن تخسروا شيئًا من أموالكم. وبهذا، أيتها السيدات والسادة، ينتهي ما كنتُ أودُّ قوله.»
ظلَّ الرجل العظيم واقفًا، وكأنه ينتظر ليرى إن كان لدى أي شخصٍ رد على ما قاله؛ ثم جلس، ولم ينبس أحدٌ ببنت شفة. كانت كلماته وجيهة، ولم يكن لدى أحد الشجاعة للتغلب على تأثير وقع كلماته عليهم.
أخيرًا، نهض السيد جولايتي. وقال: «أيها الأصدقاء، إن هذا كلامٌ منطقي يتفوَّه به رجلٌ نبيل نثق به جميعًا؛ وأنا شخصيًّا أعترف باقتناعي، وآمل أن نُثبِت أننا مجموعة من رجال الأعمال، القادرين على اتخاذ قرارٍ حكيم، في هذا الأمر الذي يعني الكثير لنا جميعًا.» وهكذا بدأ السيد جولايتي في إلقاء واحد من خطاباته الطويلة، مفاده أنه يجب احترام رأي الأغلبية.
قال السيد سام: «ولكن هذه هي المشكلة، مَن الأغلبية؟»
قال السيد خايم لوكر: «لنُجرِ تصويتًا، ونكتشف مَن الأغلبية.»
كان السيد ميريويذر، المحامي، يتشاور همسًا مع موكلَيه. ثم أعلن قائلًا: «أيتها السيدات والسادة، نيابةً عن السيد والتر بلاك وزوجته أودُّ أن أقول إنهما تأثَّرا بشدةٍ بما قاله السيد روس، وإنهما يودَّان تقديم أي تنازلٍ ضروري للوصول إلى توافُق. وهما على استعداد للتنازل عن النقطة التي أثرتُها في بداية هذه المناقشة، والتوقيع على عقد الإيجار بصيغته الحالية.»
سألت السيدة جرورتي: «لكن ماذا يعني ذلك؟ هل سيحصلان على أرباح قطعة أرض مساحتُها خمس وتسعون قدمًا؟»
«عرضُنا هو التوقيع على الوثيقة كما هي، ويمكن البت في مسألة تفسير النص القانوني لاحقًا.»
صاح السيد جرورتي قائلًا: «حسنًا! هذا تنازلٌ جيد، ويتزامن مع ما سمعناه للتو من السيد برنتيس عن أن القانون يصُب في مصلحتكم!»
قال السيد هانك وهو يبذل قصارى جهده لجعل صوته يبدو لطيفًا: «لقد وافقنا على التوقيع.»
صاحت الآنسة سنايب: «يا إلهي، أنت من يقول ذلك! الرجل النبيل الذي كان يقول، قبل أقل من نصف ساعة، إننا يجب أن نلتزم بالاتفاق الأصلي، «الاتفاق الوحيد المعقول، حيث تحصل جميع الأراضي على حصص متساوية، تمامًا مثلما يحدث في عملية التصويت.» هل اقتبست كلامك بشكلٍ صحيح، يا سيد هانك؟»
أعلن عامل مناجم الذهب السابق بعناد: «لقد وافقتُ على توقيع عقد الإيجار هذا.»
قالت الممرضة المتمرسة: «من ناحيتي، لقد قلتُها من قبل، وسأقولها مرةً أخرى، يستحيل أن أوقِّع هذا العقد!»
٧
اعتادَت السيدة روس العجوز، جدة باني، الاحتجاجَ بشدة على اصطحاب صبي في رحلات العمل هذه. إذ كانت ترى أن هذا يكفي لتدمير طبيعته اللطيفة؛ فهذا من شأنه أن يجعله متشائمًا قاسي القلب في طفولته؛ بسبب كل هذه الدناءة والكراهية التي لا يخلو السعي وراء جمع المال منها. لكن والد باني أجاب بأن هذه هي الحياة، وليس من الجيد خداع نفسك؛ فباني سيعيش في هذا العالم يومًا ما، وكلما تعرف عليه سريعًا، كان ذلك أفضل. ولذلك كان الصبي يجلس هناك، على حافة النافذة، يراقب ما يحدث، مستحضرًا كلمات جدته.
أجل، لا شك في أنهم كانوا حَفْنة من الحثالة؛ لقد كان الأب محقًّا عندما قال إن عليك الانتباه طوال الوقت لأن شخصًا ما سيحاول استلاب شيء منك. فهؤلاء الأشخاص جُنَّ جُنونُهم بكل بساطة بسبب الأمل المفاجئ في الحصول بسرعةٍ على الكثير من المال. وكان باني، الذي دائمًا ما كان يتوفَّر لديه ما يحتاجه من مال، يشاهد شجارهم التافه بازدراءٍ كبير. وشعر في قرارة نفسه أنه لا يمكن الوثوق في هؤلاء الأشخاص؛ فبإمكانهم فعل أي شيء لإيذائك. فتلك السيدة العجوز السمينة التي ترتدي فستانًا أصفر من الساتان، بذراعَيها الحمراوَين السمينتَين وساقَيها السمينتَين الملفوفتَين بالحرير، لن تتردَّد في غرز أظفارها في وجه أحدهم. وذلك الرجل ذو الوجه الطويل النحيف، الذي له صوتٌ يشبه صوت المنشار الدائري، يستطيع طعنك بسكين في ليلةٍ مظلمة!
أراد الأب أن يعيَ ابنُه كل ما يخص هذه الاتفاقات: بدءًا من بنود عقد الإيجار وأحكام القانون، إلى أحجام قطع الأراضي المختلفة والمبالغ المتضمَّنة. وكان ينوي التحدث لاحقًا مع الصبي عن هذه الأمور، حيث سيختبره لمعرفة مدى فهمه. لذلك كان باني يستمع بانتباه، ويربط المعلومات بعضها ببعض، متذكرًا بنود عقد الإيجار التي سمع والده يناقشها مع بن سكوت والسيد برنتيس في طريقهم إلى الحقل في سيارة الأخير. لكن الصبي لم يستطع منع عقله من التفكير في تلك الشخصيات المختلفة الحاضرة، ووجهات نظرهم، واللمحات التي استطاع استخلاصها عن حياتهم. ذلك الرجل المسن ذو الكتف المحني واليدين اللتين تظهر عليهما علامات الشيخوخة؛ كان عاملًا فقيرًا، وكان بإمكانك ملاحظة استيائه من هذا الجدال، لقد أراد شخصًا يمكنه الوثوق فيه؛ لذلك كان يتلفت يمينًا ويسارًا بحثًا عن هذا الشخص، لكن هذا الحشد لم يكن يضم شخصًا كهذا. وتلك الشابة التي تضع نظارة أنفية كانت صعبة المراس، تُرى ماذا كانت تفعل بخلاف الشجار؟ وهذان الزوجان المسنان اللذان كان يبدو عليهما الثراء، وكانا مهتمَّين بإظهار ذلك قدر استطاعتهما، لكنهما في نفس الوقت جاءا للحصول على حصتهما، تمامًا مثل الآخرين، دون الشعور بأي تعاطفٍ تجاه أصحاب «الأراضي الصغيرة»!
جذب السيد المسن مقعده إلى جانب الأب وبدأ يتحدث معه همسًا. لاحظ باني أن الأب هز رأسه رفضًا، وبعدها انسحب السيد المسن. ثم تحدَّث الأب إلى سكوت، ونهض الأخير وقال: «يودُّ السيد روس أن يوضح أنه ليس مهتمًّا بأي عرضٍ لتأجير جزءٍ من المربع السكني. فهو لن يحفر بئرًا دون أن تتوافر المساحة الكافية لحفر الآبار الفرعية المقابلة. وإذا لم توافقوا على هذا، فسيقبل بعقدِ إيجارٍ آخرَ وفرتُه له.»
أصابهم الرعب مما سمعوا، وأوقفوا الجدال. لاحظ الأب ردة فعلهم، وأومأ برأسه ﻟ «صائد عقود الإيجار»، الذي أكمَل حديثَه قائلًا: «لدى السيد روس عرضٌ بعقد إيجار في الجانب الشمالي، الذي يتميز بإمكاناتٍ واعدة؛ حيث نعتقد أن التكوين الجيولوجي للأرض هناك يشير إلى وجود نفط. وهناك عدة هكتارات مملوكة لطرفٍ واحد؛ لذا سيكون من السهل الحصول على الموافقة.» أفزعهم هذا الكلام حقًّا، ولم تمُر سوى عدة دقائق حتى بدءوا في الشجار مجددًا!
كان بإمكان باني رؤية أضواء «البئر المكتشفة حديثًا»، من مكانه على عتبة الشباك، لكنها كانت مطفأة الآن في انتظار بناء الخزانات، وعَبْر النافذة المفتوحة كان بإمكانه سماع أصوات طرق العمال بالمطرقة على الخزانات، وأصوات بناء النجَّارين لأبراج حفرٍ جديدة على طول المنحدر. كان شارد الذهن عندما فاجأه صوتٌ هامس، يبدو أنه قادم من المكان المظلم إلى جواره مباشرة، وقال: «أيها الصبي!»
أطل باني من النافذة، ورأى شخصًا يلتصق بجانب المنزل. قال الصوت الهامس مرةً أخرى: «أيها الصبي. أصغِ إليَّ، لكن لا تدَع أحدًا يلاحظ ذلك. يجب ألَّا يعلموا أنني هنا.»
«هل هذا جاسوس يحاول معرفة تفاصيل عقد الإيجار؟» هذا ما جال بخاطر باني. لذلك استمع بتأهُّب إلى صوتٍ هامسٍ هادئ ومستمر وقوي ومؤثِّر يقول:
«أيها الصبي! اسمي بول واتكينز، والسيدة التي تسكن هنا هي عمتي. لكنني لا أدَعُها تعرف بوجودي هنا؛ لأنها إذا عرفَت فستجعلني أعود إلى المنزل. فأنا أعيش في مزرعة في سان إليدو، ولقد هربتُ من المنزل لأنني لا أستطيع تحمُّله. تعيَّن عليَّ أن أحصُل على وظيفة، لكني أريد أن آكل أولًا، لأنني أكاد أتضوَّر جوعًا. وعمتي لن تمانع في حصولي على الطعام لأننا أصدقاء، إلا أنها سترغب في عودتي إلى المنزل، وأنا لا أستطيع تحمُّل ذلك. لذا أريدكَ أن تُحضِر لي شيئًا من المطبخ لآكله، على سبيل الاقتراض، وعندما أحصُل على بعض المال، سأرسِله لها مقابل هذا الطعام. كل ما أريده منك هو فتح باب المطبخ. وأعدك أنني لن آخذ شيئًا سوى قطعة من الفطيرة وربما شطيرة أو ما شابه. كل ما عليك فعلُه هو أن تطلب من عمتي أن تدعك تذهب إلى المطبخ للحصول على كوب من ماء، ثم تترك المفتاح في الباب وتعود إلى القاعة. ويمكنك الخروج من الباب الأمامي إذا أردتَ ذلك، والقدوم معي لتتأكد من أنني لن أفعل سوى ما قلتُه لك. أيها الصبي، فلتكن جديرًا بثقتي لأنني في وضعٍ عصيب؛ فمن الصعب حقًّا عدم الحصول على وجبةٍ طوال اليوم، ولقد كنتُ أتطفل على سيارات الغرباء للسفر معهم مجانًا وأسير لفتراتٍ طويلة، وقد أُنهِكتُ تمامًا. سأخبرك بكل شيءٍ عندما تخرج، لكن لا تحاول أن تتحدث معي الآن؛ لأنهم سيلاحظون تحرُّك شفتَيك وسيعلمون أن هناك شخصًا ما بالخارج.»
فكَّر باني سريعًا. لقد كانت مسألةً أخلاقيةً دقيقة؛ إن كان يحق لك فتح الباب الخلفي الخاص بشخصٍ آخر، حتى يتمكن لصٌّ محتمَل من الدخول! لكن بالطبع لا يمكن اعتباره لصًّا حقيقيًّا، إذا كانت صاحبة المنزل عمته، وستُعطيه هذا الطعام على أية حال. لكن كيف يمكنك معرفة أن القصة حقيقية؟ حسنًا، يمكنك الذهاب معه، كما قال، وإذا كان لصًّا يمكنك الإمساك به. ما أثَّر في قرار باني هو صوتُ بول واتكينز الذي أعجبه؛ فحتى قبل أن يرى وجهَه، شعر باني بقوة شخصيته، وانجذَب لعمقه ونشاطه وقوته.
انزلق باني من على عتبة النافذة، وسار نحو السيدة جرورتي، التي كانت تجفِّف جبهتها من العَرق بعد إلقاء خطبةٍ خبيثة. وقال: «عذرًا سيدتي، هلا تكرَّمتِ وسمحتِ لي بالذهاب إلى المطبخ للحصول على كوب ماء؟»
كان يرى أن هذه حُجةٌ جيدة لعدم كشف الأمر، لكنه أخفَق في استيعاب حقيقة أن السيدة جرورتي كانت تهيِّئ نفسها لإتقان الكياسة، ولن تتخلى عن فرصة مراقبة تصرفات الأغنياء حتى لشرب كوب من الماء. لانَ قلبُها لابن جيه أرنولد روس، واختفَت الحدة التي كانت في صوتها. وقالت: «بالطبع، يا عزيزي»، ونهضَت وتقدَّمَته إلى المطبخ.
نظر باني حوله. وصاح قائلًا: «يا إلهي، يا لها من غرفةٍ جميلة!»، وكانت الغرفة جميلةً حقًّا لأنها كانت مطلية بطلاءٍ أبيض.
قالت السيدة صاحبة المنزل، وهي تأخذ كوبًا من أحد الرفوف وتفتح الصنبور: «نعم، إنها كذلك، ويسعدني أنك تظن ذلك.»
قال باني: «مطبخٌ كبيرٌ حقًّا؛ إن المطابخَ الكبيرةَ تُضفِي دائمًا شعورًا بالراحة.» أخذ منها كوب الماء وشكرها وشرب جزءًا منه. جال بخاطر السيدة جرورتي أنه صبيٌّ طبيعيٌّ ومهذَّب. غير متكبر على الإطلاق!
توجَّه باني نحو الباب الخلفي. «أظن أن لديكِ سقيفةً كبيرةً بستائر هنا. إن الجو حارٌّ بعض الشيء بالداخل، ألا تظنين ذلك؟» وفتح الباب، وفتح الستائر، ونظر إلى الخارج. وقال: «يا له من نسيمٍ رائع. وبإمكانكِ رؤية جميع الآبار من هنا. سيكون الأمر ممتعًا عند بدء الحفر في هذا المربع السكني!»
كانت الفكرة التي كوَّنَتها السيدة جرورتي عنه أنه صبيٌّ لطيفٌ ودود، ووافقَته الرأي وتمنَّت حدوث ما يقوله قريبًا. أخبرها باني أنها ربما تُصاب بنزلة برد بسبب فستان السهرة الجميل الذي كانت ترتديه؛ لذلك أغلق الباب مرةً أخرى، وكانت مضيفتُه مفتونةً بأخلاق الطبقة الأرستقراطيةِ اللطيفةِ لدرجة أنها لم تلاحظ أنه لم يُوصِد الباب. وضَع الكوب الفارغ على لوح حوض التصريف بجوار المغسلة، وشكَر السيدة جرورتي وأخبَرها أنه لا يرغب في المزيد، وتبعَها مرةً أخرى إلى غرفة المعيشة المكتظة.
علا صوت السيد سام، عامل الجص، قائلًا: «ما أودُّ قولَه هو الآتي. إذا أردتم حقًّا التوقيع على عقد الإيجار بصيغته القديمة، فوقِّعوا عليه كما فهمناه جميعًا، دعونا نحسب الأرض التي نمتلكها وليس الشارع الذي لا نمتلكه.»
قالت السيدة والتر بلاك ساخرةً: «بعبارةٍ أخرى، دعونا نغيِّر عقد الإيجار.»
قالت الآنسة سنايب بطريقةٍ أكثرَ سخرية: «بعبارةٍ أخرى، دعونا لا نقع في الفخ الذي نصَبه لنا أصحابُ الأراضي الكبيرة.»
٨
كان من المتوقع أن يسأم صبي في الثالثة عشرة من عمره من مثل هذا التشاحن؛ لذا لم يولِ أحدٌ أي اهتمام عندما شق جيه أرنولد روس الابن طريقه إلى الباب الأمامي وخرج. وصل إلى الباب الخلفي في الوقت الذي كان بول واتكينز يغلقه برفقٍ خلفه. وقال الأخير هامسًا: «شكرًا أيها الصبي»، وتسلَّل خفيةً إلى سقيفة تخزين الأخشاب، وباني يتبعه كظله. كان أول ما نطق به بول هو: «لقد أخذتُ قطعةً من لحم الخنزير، وشريحتَي خبز، وقطعةَ فطيرة.» كان بالفعل قد بدأ يأكل وامتلأ فمُه بالطعام.
قال باني بتروٍّ: «لا بأس في ذلك، على ما أظن.» وانتظر، ولبرهة لم يكن هناك أي صوت باستثناء صوتِ مضغِ كائنٍ جائع. كان الفتى الغريب مجرد ظل له صوت، لكن بالخارج، في ضوء النجوم، لاحظ باني أن الظل أنحفُ منه وأطولُ منه بقليل.
في النهاية قال الصوت: «يا إلهي، إن التضوُّر جوعًا أمرٌ عسير! هل تريد بعضًا من هذا؟»
قال باني: «لا، لقد تناولتُ عشائي. وليس من المفترض أن آكل ليلًا.»
تابع الفتى الآخر المضغ، الأمر الذي وجده باني غامضًا ومثيرًا؛ فقد يعود هذا الصوتُ لذئبٍ جائعٍ يختبئ في الظلام. جلسَا على الصناديق، وعندما توقَّف صوت المضغ، قال باني: «ما الذي جعلك تهرُب من المنزل؟»
ردَّ عليه الفتى بسؤالٍ آخر، لكنه كان مربكًا: «إلى أي كنيسة تنتمي؟» ردَّ عليه باني: «ماذا تعني؟»
«ألا تعلم ماذا يعني أن تكون منتميًا لكنيسة؟»
«حسنًا، في بعض الأحيان تأخذني جدتي لكنيسةٍ معمدانية، وتأخذني أمي لكنيسةٍ أسقفية عندما أزورها. لكنني لا أعرف لأي واحدةٍ أنتمي.»
قال بول: «يا إلهي!» كان من الواضح اندهاشه الشديد من هذا التصريح. «هل تعني أن والدك لا يجعلك تنتمي لأي كنيسة؟»
«لا أظن أن والدي يؤمن بشدة بهذه الأشياء.»
«يا إلهي! ألستَ خائفًا؟»
«ممَّ أخاف؟»
«من عذاب الجحيم. من خسارة روحك.»
«لا، لم أفكِّر في الأمر من قبلُ.»
«أيها الصبي، إن هذا أمرٌ في غاية الغرابة بالنسبة لي. فقد استسلمتُ لفكرة أني سأذهب إلى الجحيم، ولا أُلقي بالًا لهذا. هل تسُب؟»
«ليس كثيرًا.»
«لقد سببتُ الرب.»
«كيف تفعل ذلك؟»
«قلتُ: «تبًّا للرب!» بضع مرات، وكنتُ متأكدًا من أن السماء سترسل البرق ليصعقني. وقلتُ: «لستُ مؤمنًا، ولن أكون مؤمنًا، ولا أكترث بهذا الأمر».»
«لكن لماذا تخاف إن لم تكن مؤمنًا؟» كان عقل باني منطقي التفكير هكذا طوال الوقت.
«حسنًا، أظن أنني لم أكن أعرف إن كنتُ مؤمنًا أم لا. ولا يمكنني الجزم بذلك الآن. يبدو أن عقلي الضعيف المسكين غير قادر على تكوين رأيٍ محدَّد بشأن خالق هذا الكون. لم أرَ بحياتي شخصًا بهذا السوء. يقول بابا إنني أخبثُ صبي على وجه الأرض.»
«بابا هو والدك؟»
«أجل.»
«وبمَ يؤمن؟»
«بالدين القديم. عقيدة كنيسة فورسكوير (إحدى الطوائف المسيحية الإنجيلية الدولية). إنها تنتمي للكنيسة الرسولية؛ حيث يقفزون.»
«يقفزون!»
«نعم، يحل عليك الروح القدس، ويجعلُك تقفز. وفي بعض الأحيان يجعلُك تتدحرج، وفي أحيانٍ أخرى تتكلم بألسِنة.»
«ماذا تقصد؟»
«عجبًا، أقصد صدور أصواتٍ سريعة منك، وكأنك تتحدث بلغةٍ أجنبية، وربما تكون كذلك؛ فأبي يقول إنها لغة رؤساء الملائكة، لكنني لا أدري. لا يمكنني أن أفهمَها، ولا أحبها.»
«وهل يفعل والدك ذلك؟»
«في أي وقت، نهارًا أو ليلًا، هو معرَّض لذلك. فهذه هي طريقته لتجنُّب الإغراءات. فإذا قلتُ شيئًا في أوقات تناول الطعام، مثل: إنه لا يُوجد ما يكفي من الطعام في المنزل، أو ذكرتُ أن فائدة الرهن العقاري مستحقة الدفع، وأن عليه ألَّا يصرف جميع أمواله على الإرساليات، فحينئذٍ سينظر أبي لأعلى ويبدأ في تلاوة الصلوات بصوتٍ عالٍ ويُطلق العِنان لنفسه، على حد قوله، ليسكن فيه الروح القدس ويبدأ في القفز والاهتزاز في كل مكان، وينزلق من مقعده ويتدحرج على الأرض ويبدأ في التكلم بألسِنة، كما يقول الكتاب المقدس. حينئذٍ تبدأ أمي في البكاء بسبب خوفها؛ فهي تعلم أن عليها واجباتٍ تجاه أطفالها، لكنها لا تُقاوِم الروح، ويصيح أبي بصوتٍ جَهْوري، وكأنه الصوت الذي سمعه بنو إسرائيل قرب جبل سيناء، قائلًا: «أطلقي العنان، أطلقي العنان»، حينئذٍ تبدأ كتف أمي في الارتعاش وتفغر فمَها وتبدأ في التدحرج على المقعد، وتصرخ طلبًا للمعمودية الخمسينية. ويُشعل هذا حماس الأولاد، مما يجعلهم جميعًا يقفزون ويَهْذون؛ يا إلهي، إنه منظرٌ مخيف، فكأن هناك شيئًا يتحكم فيك ويجعلك تهتز سواء أردتَ ذلك أم لا. هُرعتُ خارج المنزل، ولوَّحتُ بقبضتي نحو السماء وقلت صائحًا: «تبًّا للرب! تبًّا للرب!» حينئذٍ انتظرتُ أن تسقط السماء، لكن هذا لم يحدث، وقلت إنني غير مؤمن، ولن أجبر نفسي على الإيمان، حتى لو ذهبتُ إلى الجحيم بسبب ذلك.»
«هل هذا سبب هروبك؟»
«أحد الأسباب. فلا يمكنك تحقيقُ أي شيءٍ عندما تعيش مثلنا. فنحن نمتلك مزرعةً كبيرة، لكن معظمها مغطًّى بالصخور؛ ولذلك كنا نواجه أوقاتًا عصيبةً بالرغم من الجهود التي كنا نبذلها، فعند زراعة أي محصول، لا ينبُت شيء سوى الحشائش عند سقوط الأمطار. عجبًا، لو كان هناك إله، وكان هذا الإله يهتم بشئون خلقه من البشر المساكين، فلماذا خلق العديد من الحشائش الضارة؟ كانت تلك هي المرة الأولى التي بدأتُ فيها اللعن؛ حيث كنتُ أجرف الحشائش طوال اليوم، ووجدتُ نفسي أقول مرارًا وتكرارًا دون توقف: «تبًّا للحشائش! تبًّا للحشائش! تبًّا للحشائش!» يقول أبي إنها ليست من صنع الرب بل الشيطان، لكن الرب هو مَن خلَق الشيطان ويعلم ما سيفعله؛ لذا أليس مَن ينبغي أن يُلام هنا هو الرب؟»
قال باني: «يبدو لي ذلك.»
«لكنك محظوظ، أيها الصبي! ما كنتَ تعلمُ من قبلُ أن لديك روحًا! وبالتأكيد تجنَّبتَ العديد من المشاكل!» مرَّت برهة من الصمت، ثم أضاف بول: «لقد واجهتُ صعوبة في الهرب، وأعتقد أنني سأعودُ في النهاية؛ فمن الصعب التفكير في أن يتضوَّر إخوتي وأخواتي جوعًا حتى الموت، ولا يمكنني أن أتوقع خلافَ ذلك.»
«كم عددهم؟»
«هناك أربعةٌ غيري، وجميعهم أصغر مني سنًّا.»
«كم عمرك؟»
«ستة عشر عامًا. والأخ الثاني هو إيلاي، الذي يبلغ خمسة عشر عامًا، وقد باركَه الروح القدس؛ حيث يستمر في الارتعاش طَوال اليوم في بعض الأحيان. وهو يرى الملائكة وهي تتنزَّل من سُحب المجد، وقد شفى السيدة باجنر العجوز، التي كانت تعاني من بعض المشاكل الصحية، بأن وضع يدَيه على رأسها. يقول أبي إن الرب سيُجري بركاتٍ عظيمةً من خلاله. ثم هناك روث، التي تبلغ ثلاثة عشر عامًا، وهي أيضًا تنتابها رؤًى، لكنها بدأَت تفكِّر مثلي، وتدور بيننا محادثاتٌ منطقية، أنت تعلم ما أقصد؛ فأحيانًا يمكنك التحدث مع أشخاصٍ بمثل عمرك في أمور لا يمكنك التحدث عنها مع الكبار.»
قال باني: «نعم، أعلم. فهم يحسبون أنك لا تفهم شيئًا. ويتحدثون أمامك ويتساءلون عما إذا كان هناك خطبٌ ما في عقلك. إن هذا يصيبني بالسأم.»
واصل الآخر حديثه قائلًا: «روث هي من تُصعِّب عليَّ أمر البقاء بعيدًا. فقد طلبَت مني الذهاب، لكن ماذا هم فاعلون؟ لا يمكنهم الاضطلاع بأعمالٍ شاقة مثلي. ولا تحسبن أنني لن أهرب من العمل الشاق إذا توفَّرَت لي الفرصة، كل ما في الأمر أنني أريد تحقيق شيء في الحياة، وإلا فما الفائدة من العمل الشاق؟ ليست هناك أي فرصةٍ لنا. أعد أبي العربة وانطلق بنا جميعًا إلى بارادايس؛ حيث توجد الإرسالية الخمسينية، وهناك يتدحرجون جميعًا ويُتمتِمون طوال يوم الأحد، في الأغلب، ويأمرهم الروح بالتبرُّع بكل أموالهم لهداية الوثنيين، فكما تعلم لدينا إرسالياتٌ في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وهذه أممٌ ملحدة، وسيَعِد أبي بأن يدفع أكثر مما لديه، وحينئذٍ سيتعين عليه الدفع؛ لأن هذا المال لم يعُد ملكًا له بعد الآن، إنه ملك الروح القدس. ولهذا السبب تركتُ المنزل.»
ساد الصمت لبرهة، ثم سأل بول: «ما سبب تجمُّع هذا الحشد الكبير؟»
«هذا بسبب عقد إيجار النفط، ألستَ على درايةٍ بما يحدث؟»
«بلى، سمعنا بشأنِ اكتشافِ النفط. من المفترض أن يكون هناك نفطٌ في مزرعتنا؛ فعمي إيبي كان يقول إنه صادفَ علاماتٍ تدُل على ذلك، لكنه مات ولم أرَ تلك العلاماتِ من قبلُ، ولم أتوقع قطُّ أن تكون عائلتي محظوظةً بهذا القَدْر. لكن يُقال إن العمة ألي هذه ستصبح غنية.»
ومضت فجأةً أمام عينَي باني صورةٌ للسيدة جرورتي في ثوبها اللامع من الساتان الأصفر، وذراعَيها ونهدَيها الكبيرَين المكشوفَين. وقال: «قل لي، هل تتدحرج عمتك على الأرض؟»
قال الفتى الآخر: «مطلقًا! فقد تزوَّجَت كاثوليكيًّا، ويُطلِق عليها أبي لقب «عاهرة بابل»، ومن المفترض ألَّا نتحدث معها. لكنها طيبة القلب، وكنتُ أعلم أنها ستعطيني بعض الطعام؛ لذا عندما وجدتُ أنني لم أستطِع الحصولَ على وظيفة، جئتُ إلى هنا.»
«لماذا لم تستطِع الحصولَ على وظيفة؟»
«لأن الجميع يوبِّخونني ويقولون لي أن أعود إلى المنزل.»
«لكن لماذا تخبرهم أنك تركتَ المنزل؟»
«اضطُرِرتُ لذلك. فقد كانوا يسألون عن المكان الذي أعيشُ فيه، وعن سبب عدم وجودي بالمنزل، ولن أكذبَ عليهم.»
«ولهذا أنت تتضوَّر جوعًا الآن!»
«أن أتضوَّر جوعًا خيرٌ من أن أصبح مخادعًا. فقد دار شجارٌ بيني وبين أبي وقال إذا ابتعدتَ عن الكلام المقدس، فسيُسيطر عليك الشيطان ويجعلك تكذب وتغش وتسرق وتزني، حينئذٍ قلتُ له: «حسنًا يا سيدي، لنَرَ. أظن أن بإمكان المرء أن يكون خلوقًا دون الحاجة إلى الشيطان.» وعزمتُ أمري على أن أثبت له وجهة نظري. وسأدفع ثمن هذا الطعام للعمة ألي؛ فأنا أقترضُه فحسب.»
مد باني يدَه في الظلام. وقال: «خذ هذه.»
«ما هذه؟»
«بعض النقود.»
«لا يا سيدي، لا أريد أي نقود، حتى أكسبها بعرقِ جبيني.»
«لكن اسمَع يا بول، والدي لديه الكثير من المال، وهو يعطيني ما أطلبه منه. ولقد جاء إلى هنا لتأجير هذا المربَّع السكني من عمتك؛ ولذا لن يلاحظ عدم وجود هذا المبلغ البسيط.»
«لا يا سيدي، أنا لستُ شحاذًا؛ أنا لم أهرُب من المنزل من أجل هذا. هل تظن أنه لأنني أخذتُ بعض الطعام من حجرة المؤن لدى عمتي …»
«لا، أنا لا أظن ذلك على الإطلاق! ويمكنك اعتباره قرضًا، إن أردتَ ذلك.»
قال الفتى الآخر بنبرةٍ فظة: «فلتحتفِظ بمالك. أنا لن أقبل أيَّ قروض، وقد قدَّمتَ لي ما يكفي؛ لذا انسَ الأمر.»
«حسنًا، لكن يا بول …»
«افعل ما أقوله لك، الآن!»
«حسنًا، لكن هلا أتيتَ إلى الفندق غدًا لتناول الغَداء معي؟»
«لا، لا يمكنني القدوم إلى الفندق؛ فمظهري لا يبدو لائقًا.»
«لكن هذا لا يهم يا بول.»
«بالتأكيد يهم! والدك رجلٌ غني، ولن يرغب في وجود صبيٍّ قادمٍ من مزرعة في فندقه.»
«والدي لن يأبه لذلك، صدِّقني! فهو يقول إنني ليس لديَّ الكثير من الأصدقاء، وإنني أجلسُ بمفردي وأقرأ كثيرًا.»
«حسنًا، لكنه لن يرغبَ في وجود فتًى مثلي.»
«صدِّقني يا بول أنت لا تعرف أبي؛ فهو يقول لي إن عليَّ أن أعمل. سيُسعِده حضورك، وسيودُّ أن نكون صديقَين.»
ساد الصمتُ لبرهة، بينما كان بول يفكر مليًّا في هذا الاقتراح، وانتظر باني بقلق وكأنه ينتظر حكم محكمة. لقد أُعجِب بهذا الصبي! وهو لم يقابل من قبلُ أي صبي أُعجِب به بهذا القَدْر! لكن هل كان الصبي معجبًا به؟
ولكن لسوء الحظ، لم يصدُر حكم المحكمة. فقد وقف بول فجأة وقال صائحًا: «ما هذا؟» وقفز باني كذلك من مكانه. فقد جاء صوت جلبة من ناحية منزل السيدة جرورتي، وكانت الأصواتُ أعلى من أصواتِ دق المطارق وأصواتِ العمل في الحي. أخذَت أصواتُ الصياح تتعالى، وتتعالى، واندفع الصبيَّان نحو نافذة المنزل المفتوحة.
كان كلُّ مَن في الغرفة واقفًا، وبدا أن الجميع يصرخون في آنٍ واحد. كان من المستحيل رؤية الكثير في هذا الحشد، لكن لفَت انتباههما رجلان كانا يقفان بالقرب من النافذة وكانا منخرطَين في صراعٍ منفصل. كان هذان الرجلان هما السيد سام، عامل الجص، المالك لواحدة من «الأراضي الصغيرة جدًّا»، والسيد هانك، عامل مناجم الذهب السابق، والمالك لواحدة من «الأراضي الصغيرة بعض الشيء»؛ كان أحدهما يلوِّح بقبضته في وجه الآخر، وكان السيد سام، الطرف الأول، يصيح في وجه السيد هانك، الطرف الثاني، قائلًا: «أيها الحقيرُ الجبانُ الكذابُ القذِر!» أجاب الطرفُ الثاني: «خذ هذه، أيها المغرورُ الجبان!» ولكَم الطرفَ الأول في أنفه! ردَّ الطرفُ الأولُ بلكمه في فكِّه لكمةً صاعدةً قوية. وهكذا استمرَّت بينهما مباراةُ الملاكمة هذه! لكمة في الأنف تقابلها لكمة في الفك، والصبيَّان يحدِّقان من النافذة المفتوحة في هلعٍ وجذل. مرحى! هناك شجار!
٩
بدا من المظهر العام وكأن كل مَن في الغرفة كانوا يتشاجرون، ولكن الوضع لم يكن هكذا؛ فقد كان هناك العديد من الرجال الذين يحاولون الفصل بين السيد سام والسيد هانك، ودفعهما إلى زاويتَين متقابلتَين. وقبل إتمام هذه العملية، سمع باني صوتًا ينادي عليه من أمام المنزل. أجاب: «حسنًا، يا أبي!»، وركض لمقابلة والده.
كان روس والرجلان اللذان جاءا برفقته ينزلون من على الدرَج الأمامي، ويتقدَّمون نحو الممشى أمام المنزل. قال الأب: «هيا، نحن عائدون إلى الفندق.»
«يا إلهي يا أبي! ماذا حدث؟»
«إنهم حفنةٌ من المغفَّلين، لا يمكن التفاهم معهم. لن أقبل بتأجير أرضهم حتى ولو عرضوها عليَّ هدية. لنرحل من هنا.»
كانا يسيران نحو سيارتهما التي كانت متوقفة على مسافةٍ قصيرة على الطريق. توقف باني فجأة. وصاح: «فلتنتظر دقيقة يا أبي! أرجوك يا أبي، هناك صبي قابلتُه وأريد أن أخبره شيئًا. انتظرني، أرجوك!»
قال الأب: «حسنًا، لكن أسرع. فهناك عقد إيجارٍ آخر عليَّ أن أنظر بشأنه الليلة.»
عاد باني بأقصى سرعة يمكن أن تركض بها قدماه. كان الذعر قد سيطر عليه. وصاح: «بول! بول! أين أنت؟»
لم يكن هناك أي صوتٍ أو أثر يدل على وجود الصبي الآخر. هرول باني نحو سقيفة تخزين الأخشاب، وركض حول المنزل صائحًا: «بول! بول!» اندفع نحو السقيفة ذات الستائر، وفتح الباب الخلفي واسترق النظر في المطبخ الخاوي المطلي بطلاء أبيض، ثم عاد يجري إلى سقيفة تخزين الأخشاب، ثم إلى المرأب أمامها، ووقف محملقًا في حقول الكرنب المظلمة وصاح ينادي بأعلى صوته: «بول! بول! أين أنت؟ أرجوك لا ترحل!» لكن لم يأتِه رد.
حينئذٍ سمع باني مجددًا صوت والده، الذي كان ينادي بنبرة لا يمكن تجاهلها؛ لذلك رحل، بقلبٍ حزين، وجلس على مقعده في السيارة. طَوال طريق العودة إلى الفندق، بينما كان الرجال يناقشون عقد الإيجار الجديد الذي خطَّطوا له، جلس باني في صمتٍ والدموع تنسل على خدَّيه. لقد رحل بول! قد لا يراه مجددًا! يا له من فتًى رائع! يتمتَّع بالحكمة، كان يعرفُ الكثير من الأشياء! ولديه رؤيةٌ واضحة، ومن الممتع جدًّا التحدُّث معه! فتًى صادق، لا يكذب ولا يسرق! شعر باني بالخجل عندما تذكَّر أنه كذب عدة مرات في حياته، ليس في أمورٍ خطيرة، ولكن في أشياء صغيرة بدت في غاية التفاهة والحقارة بالمقارنة بنزاهة بول.
وما كان بول ليقبل بأخذ أي مبلغ من أموال الأب. وبالرغم من اعتقاد الأب أن كل من في العالم سيسُرهم الحصول على ماله، فقد رفضه هذا الصبي. لا بد أنه كان غاضبًا من باني بسبب ضغطه عليه لقبول المال، وإلا فما هرب هكذا! أو أنه لم يُعجَب بباني لأي سببٍ آخر؛ ولذلك لن يراه باني مجددًا!