الإخلاص
١
كان باني وحيدًا وسط صخب مدينة نيويورك، التي يعيش فيها ستة أو سبعة ملايين شخص، ولا يعرف باني منهم سوى القليل. وبالطبع كان هناك مراسلون؛ فخبر انتزاع القدَر لأحد أقطاب النفط من أيدي محقِّقي مجلس الشيوخ هو خبرٌ يهمُّ الكثيرين. وبما أن البلاد كانت تشهد قرب انتهاء حملةٍ رئاسيةٍ شرسة، فقد أصبحَت أدقُّ التفاصيل الخاصة بفضيحة النفط ذات أهمية. وتلقَّى باني أيضًا برقياتٍ سلكية ورسائلَ تلغرافية تعبِّر عن التعاطف؛ من فيرن وآنابيل، ومن بول وروث، ومن راتشيل وأبيها وإخوتها، وتلقَّى برقيةً أيضًا من الأميرة ماريسكو، التي وَقَّعَت باسم التحبُّب «فِي-فِي» كما تعوَّدَت أن تُوقِّع عندما كانا مُقرَّبَين في الماضي.
اشترى باني تذكرةً للعودة إلى وطنه، وخلال الرحلة سوف يتوقف في واشنطن، وفي القطار، قرأ أعداد الصحف القديمة، التي كانت تنشر تقاريرَ يومية عمَّا حدث لحُلم طفولته المُتمثِّل في امتلاك حقلِ نفطٍ ضخم؛ فقد التهمَت ألسنةُ اللهب الأخضرَ واليابس، وجعلَت الليل مشرقًا مثل النهار بوهجها الناري، وحَوَّلَت النهار إلى ليل بسحبٍ كثيفة من الدخان، وتدفَّقَت أنهارٌ من النفط المُحترق عَبْر الوديان، بينما حمَلَت الرياح العاتية النيران من تلٍّ إلى آخر. ودُمِّرَت عشراتٌ من صهاريج التخزين الكبيرة، بالإضافة إلى مصفاة التكرير بأكملها، ومعها جميع صهاريجها، وحوالي ثلاثمائة برج حَفْر، التهمَها هذا الجحيم المستعر. لقد كان أسوأ حريقِ نفطٍ في تاريخ كاليفورنيا، ما تسبَّب في خسائر تتراوح قيمتها من ثمانية إلى عشرة ملايين دولار.
وفي واشنطن، وجد باني شخصًا يمكن أن يُحدِّثه عما يُثقِل كاهله، وهو دان إيرفينج! فذهبا في نزهةٍ طويلة، ووضع دان، الأكبر سنًّا، ذراعه حول باني، وطمأنه أنه فعل كل ما في وسعه في ذلك الوقت العصيب. وأكَّد لباني أن عليه ألَّا يعتبر والده شخصًا فاسدًا؛ فقد قضى دان وقتًا كافيًا في التحرِّي في الأمر، واتفق مع باني على حقيقة أن كبار رجال الأعمال الأمريكيين غالبًا ما يشترون النفوذ داخل الحكومة، وقد وجدوا طرقًا لتبرير هذا الفعل. في البداية، صُدِم دان من هذا الأمر، لكنه أدرك أنه جزءٌ من النظام، وبدون هذا النوع من النفوذ، لن تتمكَّن الشركات الأمريكية الكبرى من الاستمرار. ويمكنك أن ترى ذلك بوضوح في الاستجابة الفورية لمجتمع الأعمال بأكمله تجاه فضائح النفط؛ لقد كان مجتمع الأعمال عازمًا على التقليل من أهمية القضايا، والتعامل معها على أنها غيرُ ذات أهمية، وملاحقة أولئك الذين كشَفوا المخالفات بدلًا من مرتكبي المخالفات الفعليين.
وقادهما هذا إلى الخوض في حديثٍ عن السياسة، التي كانت أفضل طريقةٍ لإلهاء باني، وجَعْله يعاود التفكير في العمل. كان دان قد بذل كل ما في وسعه خلال الحملة الرئاسية، لكنه شعَر بالإحباط والعجز. والسبب هو أن آلة الدعاية الرأسمالية بأكملها كانت تؤدي مهمةً جديدة، وهي تمجيد «الكاليفورني الحَذِر» في أعين الشعب الأمريكي؛ فهذا الرجل الصغير الحجم المثير للشفقة، السياسي الريفي المتواضع الذي كان يطمح في الأساس أن يكون أمينَ مخزن، قد قُدِّم في صورة رجل الدولة القوي والصامت، وبطل عامة الشعب! الشيء الوحيد الذي كان يتوقَّعه منه مجتمع الأعمال هو خفض الضرائب على دخلهم، وفي جميع القضايا الأخرى، لن يكون له تأثيرٌ يُذكَر. لم يكن مراسلو الصحف راضين عن مهمتهم، ولكنهم كانوا عاجزين عن فعل أي شيء؛ فصحفهم المحلية لن تقبل إلا بنوعٍ واحدٍ فقط من الأخبار. وهنا كان دان المسكين يكافح مع خدمته الصحفية لشئون العمال؛ إذ كان يُدير عشرين أو أربعين صحيفةً مغمورةً يتداولها مجتمعةً ربما مائة ألف قارئ، وغالبًا ما كان يكافح لدفع إيجار المكتب بسبب القيود المالية.
قال باني: «هذا ما أودُّ أن أناقشه معك. فقبل مغادرتي فرنسا، أعطاني والدي مليون دولار من أسهم شركة روس كونسوليديتد. لستُ متأكدًا من قيمتها الآن بعد الحريق، لكن فيرن أخبرني أن هناك تأمينًا كاملًا. لن أستخدم المبلغ الأصلي حتى يتسنَّى لي التفكير في الأمر مليًّا، لكن يمكنني المساهمة بألف دولار من الأرباح الشهرية لدعم عملك، إذا كان ذلك مفيدًا.»
«مفيدًا؟ يا إلهي، هذا مبلغٌ أكبر بكثير مما تخيلنا يا باني! لقد كنتُ أحاول جمع مائة دولار إضافية شهريًّا؛ لإرسال نُسخ مجانية إلى الأماكن التي يُمكن أن يكون للصحفِ تأثيرٌ فيها.»
قال باني: «سأعطيك المال، ولكنَّ هناك شرطًا واحدًا؛ يجب أن تحصل على راتبٍ شهري قَدْره مائتا دولار. فلا يوجد سبب يجعلك تستدين لتمويل الحركة الراديكالية.»
ضحك دان. وقال: «لا يُوجد سبب سوى أنه بدون مشاركة أشخاصٍ مثلي، لن تكون هناك حركةٌ راديكالية. أنت أول ملاكٍ كريم يظهر في سمائي.»
قال باني: «حسنًا، انتظِر حتى أعرف مقدار المال الذي سأحصل عليه. أظن أن صديقي فيرنون روسكو سيبذل ما في وسعه لمنعي من الحصول على الكثير من المال. فهو يعلم أن كل ما سأحصُل عليه سيتسبَّب في مشاكل له.»
قال دان: «يا إلهي! هل قرأتَ التقارير التي أرسلناها حول اتفاقيات روسكو الخارجية، وكيف تساعده الحكومة على أن يصبح أكثر ثراءً؟ إذا تمكَّنَّا من إقناع مجلس الشيوخ بالنظر في هذا الأمر، فسيكون لدينا خبرٌ أهم من عقد إيجار ساني سايد!»
٢
تلقَّى باني المزيد من الرسائل أثناء وجوده في شيكاغو. كان قد أرسل برقيةً إلى سكرتير أبيه للتحقُّق مما إذا كانت هناك وصيةٌ بين وثائق أبيه. فأجاب السكرتير أنه لم يعثُر على أي وصية، ولا تعرف الأرملة ولا الابنة شيئًا عن وثيقةٍ كهذه. كانوا ذاهبين إلى باريس بعد الجنازة، وسيُرسل السكرتير برقيةً لباني إذا وجد أي شيء هناك.
وصل باني إلى إنجِل سيتي، وتلقَّى هناك المزيد من البرقيات؛ أبلغه السكرتير أنهم لم يعثُروا على وصيةٍ بين أوراق السيد روس في باريس، وأرسلَت بيرتي برقية تقول فيها: «أعتقد أن هذه المرأة السيئة السمعة قد مَزَّقَت الوصية أو تَخلَّصَت منها. هل لديك أي ورقةٍ مكتوبةٍ بخط يد أبي أو بخط يدها؟» ومن هنا أدرك باني أن التوبة على فراش الموت لا تدوم طويلًا، على الأقل ليس عندما يكون شخصٌ غيرك هو الذي على فراش الموت! لم يكن لدى باني أيُّ ورقةٍ بخط يد أبيه، باستثناء الأمر الخاص بأسهم روس، وهذا لن يكون كافيًا لبيرتي. فأرسل برقية إلى أليس، في الفندق الذي تقيم فيه في باريس، مُذكرًا إياها بأن والده كان قد ذكر شروطًا لزواجهما؛ وهي أنها ستحصل على مليون دولار من التركة، لا أكثر، وطلب منها تأكيد هذا الاتفاق. وكان الرد الذي تلقاه من فريق من المحامين الأمريكيين في باريس، يُمثل السيدة أليس هنتنجتون فورسايث أوليفييه روس، بأنها لا تعلم أي شيءٍ بخصوص هذا الاتفاق الذي ذكَره في برقيته، وأنها تنوي المطالبة بحقوقها الكاملة في التركة. فابتسم باني بتجهُّم وهو يقرأ البرقية. إنه صراعٌ بين الروحانية والاشتراكية!
وكان هناك أيضًا صراعٌ بين الرأسمالية والاشتراكية! قام باني بزيارة شريك والده في المكتب؛ حيث كان بإمكانهما التحدث بصراحة، وهذا ما حدث بالضبط. نزلَت أولى كلمات فيرن على باني كالصاعقة: كان والد باني مخطئًا في الاعتقاد أنه يمتلك أسهم روس كونسوليديتد من الفئة ب، مما جعل طلَبه من فيرن بشأن الأسهُم عديم القيمة. فقد بيعَت كل الشهادات لحاملها منذ فترةٍ بناءً على طلب الأب، ويبدو أن ذاكرة الأب كانت في تراجُع منذ مرضه، أو ربما لم يكن يراقب شئونه عن كثَبٍ بعد انخراطه في الروحانيات. وكانت أعماله في حالة يُرثى لها. أولًا، كانت شركة روس كونسوليديتد، شركة الأب المُفضَّلة، على وَشْك الإفلاس. وقد أبلغَت شركاتُ التأمين ضد الحرائق فيرن في ذلك اليوم أنها لن تدفع المطالبات؛ لأن لديها أدلةً تُشير إلى أن الحرائق أُشعلت عمدًا، لم تذكُر الشركات ذلك صراحةً، لكنها أشارَت ضمنًا إلى أن فيرن أو شخصًا من طرَفه هو من أشعَل الحرائق؛ إذ إن الشركة لديها فائضٌ من النفط، وكانت تعاني من تراجُع السوق.
قال باني: «يا إلهي! هل هذا نوعٌ من الخداع؟».
أجاب فيرن: «لا، هذه خطة من مارك أيزنبرج، الذي يدير الأعمال المصرفية في هذه المدينة لصالح الشركات الخمس الكبرى، والهدف منها هزيمة إحدى الشركات المستقلَّة. وسوف يورِّطوننا في معاركَ قانونيةٍ لمدة لا يعلمها إلا الله. ولن يكون لدى شركة روس المال لتطوير ذلك الحقل المُحترِق، وإذا اضطُرَّت الشركة إلى مطالبة المساهمين بالأموال، فلن تكفي تركة والدك لتمويل حصتها دون مساعدة. فقد نضبَت آبار نهر لوبوس، وغمرَت المياه حقل بروسبكت هِل. بالطبع لدى والدك أسهُم في مشاريعي الأجنبية، ولكن لن يحقِّق أيٌّ منها أرباحًا لفترةٍ طويلة؛ لذا يبدو أنك ستحتاج إلى بيعها.»
«ومن سيتولَّى كل هذا؟»
«ها هي نُسخة من وصية جيم، يمكنك أخذها إلى المنزل وقراءتها وقتما تشاء. منفِّذو الوصية هم أنا وأنت وفريد أوربان، وكان من المفترض أن تتقاسم أنت وبيرتي التركة. ولكن بالطبع تغيَّر ذلك بعد زواجه، وما لم يكن قد كتب وصيةً أخرى، فستحصُل أرملتُه على نصف التركة، وأنت وبيرتي يحصل كلٌّ منكما على الربع. لقد وعدتُ والدك بأنني سأكون مُنفِّذ الوصية؛ لذا فمن المفترض أن هذه مسئوليتي. دعني أقُل هذا الآن، إن حقل بارادايس يحمل اسمك، فإن كنتَ تريد أخذه وتشغيله، فلن أقف في طريقك. يمكنك بيعُ بعض شركاتك الأخرى، وشراء حصتي بسعر السوق، وإدارة العمل بنفسك. هل تريد أن تعمل في تجارة النفط؟»
أجاب باني على الفور: «لا. لا أريد ذلك.»
«حسنًا، إذن، سيتعيَّن عليَّ شراء أسهُم والدك؛ لأن الشركة مفلسة، ولن أتحمَّل عبئها إلا إذا كنتُ أملك السيطرة عليها. أنا وأنت لا نستطيع العمل معًا يا جيم الابن؛ فمُثُلك العليا عالية جدًّا.» ضحك فيرن، ولكن بدون مرحه المعهود. وتابع: «لو لم أكن قد وعدتُ أباك العجوز بأن أضطلع بهذه المهمة، لكنتُ سَلَّمتُ شركة روس لك وتركتُها تفلس تحت إدارتك، لأرى كيف ستتعامل مع الموقف. أنت لم توافِق والدك الرأي في تدخُّل رجال الأعمال في عمل القضاء. حسنًا، كنْ إذن مواطنًا شابًّا نزيهًا حريصًا على المصلحة العامة، ودع القضاء يُعَيِّن حارسًا قضائيًّا لشركة روس، دون أي رشوة أو تأثيرٍ غير قانوني من أي نوع — لا تلاعُب بالنظام السياسي، ولا تهديدات، ولا وعود تتعارض مع المبادئ المعمول بها — وانظر كم سيتبقَّى لك من الثمانية أو العشرة ملايين دولار، أو أي مبلغ سيُجمَع من شركات التأمين في غضون سنواتٍ قليلة!»
٣
ووسط هذه الأزمات القاسية، وجد باني عزاءه في جريدته المتواضعة. كان قد وصل يوم الأحد، واستقبلَته راتشيل، مع عشرات من شباب الاتحاد الاشتراكي، الذين كانت وجوهُهم تشعُّ بالفرح، في محطة القطار. انطلقَت الهتافات عند رؤيته، كما لو كان نجمًا سينمائيًّا! صافح باني الجميع، وصافح راتشيل عدة مصافحاتٍ إضافية؛ إذ كانا سعيدَين بالتئام شملهما. كان الشباب على علمٍ بحزن باني بسبب وفاة والده، وربما أيضًا بسبب احتراق حقل النفط الخاص به؛ لذلك تجمَّعوا حوله لإطلاعه على جميع الأخبار دفعةً واحدة، حتى إن راتشيل كان لديها مسوَّدات العدد الجديد من «الطالب الشاب»، بالإضافة إلى نسخة من طبعة الأسبوع الماضي، والعديد من النسخ الأخرى التي ربما لم يكن قد تلقَّاها.
كان المكتب الصغير للجريدة بمثابة مسكن لباني، وهو المسكن الوحيد؛ لأن القصر الذي استأجره والده كان قد تم تأجيره لشخصٍ آخر، ووُضِعَت متعلقاتهم في مخزنٍ قبل مغادرة العمة إيما إلى أوروبا. كان المكتب عبارة عن غرفةٍ واحدة فقط، لكنه بدا رائعًا مع تراكم جميع الملفات والسجلات، لقد أصبح لديهم الآن أكثر من ستة آلاف مشترك، وكانوا يطبعون ثمانية آلاف نسخة هذا الأسبوع. لكن راتشيل كانت لا يزال لديها مساعدٌ واحد فقط؛ كان شبابُ الاتحاد الاشتراكي يتولَّون التغليف والعنونة في المساء وفي أيام السبت والأحد. ولم يعودوا يواجهون أي مشكلاتٍ كالتعرُّض للمضايقات أو الاعتقال؛ فقد دعم الاشتراكيون ترشُّح لافوليت للرئاسة، وأعطاهم هذا الحق في أن يُتركوا وشأنَهم لفترة من الوقت.
وكانت هناك مسألة روث. زارها باني في المنزل الريفي الصغير نفسه. لم يكن بول قد عاد بعد؛ فقد توقَّف في شيكاجو لحضور مؤتمرٍ حزبي، وكان يسافر هذه الأيام عَبْر الشمال الغربي، يُلقي الخطب كل ليلة. كان يعقد اجتماعاتٍ ناجحةً بفضل الأهمية التي حظيَ بها بعد اعتقاله. فقد تناقلَت الصحف في جميع أنحاء البلاد أخبار طرده من فرنسا، وشاركَت روث رسائل مع باني يحكي فيها بول مغامراته مع الشرطة والجواسيس. كانت روث قد جعلَت بول يَعِدها بأن يرسل لها بطاقةً بريدية كل يوم؛ لذلك عندما لم تكن تتلقَّى واحدة، كانت تشعر بالقلق على الفور من أنه قد يكون في زنزانة الشرطة ويخضع لاستجوابٍ قاسٍ.
راقبها باني عن كثَب أثناء حديثها. كانت تتحدث بتفاؤل، لقد تخرجَت وأصبحَت الآن ممرضة، ولها دخلٌ جيد، تقتطع منه مبلغًا إذا ما احتاج بول لمساعدةٍ مالية. ولكنها بدت شاحبةً ومُجهَدة. كانت هناك صحفٌ ومجلاتٌ شيوعية على الطاولة، واستطاع باني من نظرةٍ واحدة أن يدرك ما كان يحدث. كانت هذه الصحف تأتي لبول، وكانت روث، التي تقضي أمسياتٍ عديدةً بمفردها هنا، تقرؤها بحثًا عن أي معلوماتٍ عن أخيها؛ ومن ثَمَّ علمَت بكل القصص المؤلمة عن التعذيب والإصابات وإطلاق النار على السجناء السياسيين، وبدا الأمر وكأن بول في خِضَم معركة.
لم تكن روث شخصًا يناقش النظريات؛ فلا تسمعها أبدًا تتحدث في مواضيعَ مثل تكتيكات الأحزاب ولا التطورات السياسية. كانت تتمتع بغريزةٍ قوية، ممزوجة بوعيٍ قوي وحماسي بالفروق الطبقية. لقد شهدَت إضرابَين، وما رأته بأم عينها خلال هذَين الإضرابَين علَّمها كل ما تحتاج إلى معرفته عن علم الاقتصاد. أدركَت روث أن العمال في الصناعات الكبيرة كانوا عبيدًا بالأجرة، يكافحون من أجل البقاء. وكانت هذه الحرب مختلفةً عن الحروب التي قادها الرأسماليون؛ كانت حربًا لا بدَّ منها، لأن السادة هم من بدَءوها. وعلى الرغم من إيمانها بما يقوم به بول، فلم يكن بوسع روث إلا أن تشعر بالقلق الشديد.
وكان هناك أمرٌ آخرُ غريب ومُرْبِك: كانت روث منزعجةً من راتشيل ومن صحيفة «الطالب الشاب»! فقد اتضح أن الاشتراكيين كانوا ينظِّمون اجتماعاتٍ في جميع أنحاء البلاد لمن يُسمى بالاشتراكي الثوري الروسي، وهو محاضر استخدم سجن أنصاره في روسيا ذريعةً لانتقاد الحكومة السوفييتية. كان الاشتراكيون الثوريون هم من حاولوا اغتيال لينين، وقَبِلوا الأموال من الحكومات الرأسمالية للتحريض على حربٍ أهلية داخل روسيا. فكيف يمكن لصحيفة باني أن تدعم هؤلاء؟
عاد باني إلى راتشيل وشباب الاتحاد الاشتراكي، الذين أخبروه أن هذا الرجل اشتراكيٌّ ويعارض أعمال العنف، وقد جاء الشيوعيون إلى الاجتماع وحاولوا تعطيله، وكاد يحدث شجار. وهكذا كان باني يشعُر بالانزعاج لمواجهة صراعاتٍ داخلية داخل الحركة، مثل تلك التي أزعجَته بشدة في باريس وبرلين وفيينا! لقد تأثَّر بشدة ببول وما قاله عن روسيا، لكنه اكتشف أن راتشيل لم تغيِّر وجهات نظرها ولو قليلًا. فقد كانت تُدافِع عن حق الروس في تقرير مصيرهم، وعن حقهم في التعبير عن آرائهم في أمريكا، حتى لو لم يدافعوا عن حقها. لكنها لن تكون لها أي علاقةٍ بالأممية الثالثة، ولن تؤيد الديكتاتوريات، إلا إذا كانت هي الديكتاتور؛ فهذا سيضمن ألَّا تمنح جريدة «الطالب الشاب» سلطات البريد أو مكتب وكيل النيابة أي ذريعةٍ لمداهمة الجريدة! وسينادون بحل القضايا الاجتماعية من خلال نهجٍ ديمقراطي، وكالعادة ستترأس باني امرأة!
ما أغربَ طبيعةَ النساء! في البداية، قد تبدو المرأة رقيقة ومَرِنة ولكنها مرونة المطاط أو الماء، التي سرعان ما تعود إلى طبيعتها! فمنذ البداية، ها هي يونيس هويت، المصمِّمة على أن تسير الأمور على طريقتها! حتى روزي تينتور الصغيرة، لو كان تزوَّجها، لاكتشف أن لديها قناعاتٍ دينيةً راسخةً حول التصميم الصحيح لستائر النوافذ وعدد مرات غسلها! وها هي فِي تريسي التي تخلَّت عن سعادتها؛ إذ كان باني يعلم أنها لن تكون سعيدة مع أميرٍ روماني. وآراء روث والجدة عن الحرب! وبيرتي، المصمِّمة على الاندماج في المجتمع الراقي، على الرغم من أنها وُلِدَت ابنةً لسائق بغال. والآن، ها هي راتشيل مينزيس، يفهم باني الوضع تمامًا، سوف يفطر فؤادها أن تترك الجريدة الصغيرة؛ فقد احتضنَت راتشيل الجريدة كما تحتضن الأم صغيرها، لكنها ستغادرها على الفور إذا وقع باني في شَرَك استراتيجية التسلُّل الشيوعية.
٤
وصلت بيرتي إلى إنجِل سيتي بعد أسبوعٍ من وصول شقيقها، فعزَّزَت طبيعتُها الفكرة التي يحملها باني فيما يتعلق بطبيعة المرأة التي لا تتغيَّر. لقد جاءت لتأخذ نصيبها من التركة، وسعت وراء تحقيق ذلك بإصرار يشبه إصرار الكلب الذي يطارد الأرانب. كان لدى بيرتي محامٍ، من النوع الذي يناسبها من المحامين؛ فهو كلبٌ آخر يطارد الأرانب، وقد التقت به يوم وصولها، وبعد ذلك، كان على باني أن يزور مكتب المحامي هذا، وبمساعدة بيرتي وكاتب اختزال، يقوم بالكشف عن كافة التفاصيل ليتم تسجيلها؛ ما قاله الأب بالضبط فيما يتعلق بترتيباته مع السيدة أليس هنتنجتون فورسايث أوليفييه. فلسوء الحظ، لم يشارك الأب هذه المعلومات مع بيرتي أو أي شخصٍ آخر، لكن بيرتي كانَت مقتنعةً تمام الاقتناع بأنه كتب وصية، وأن هذه المرأة السيئة السمعة تَخلَّصَت منها.
وبعد ذلك، كان على باني أن يَذْكُر أيضًا كل ما يستطيع تذكُّره فيما يتعلق بشئون الأب الأخرى؛ أين احتفظ بأمواله ووثائقه، وما هي الأماكن السرية التي ربما وضع فيها الأب الأسهم والسندات، وما هي الأموال التي أنفقها وفقًا لتقديرات باني، الذي كان محل ثقته. وشمل ذلك أيضًا التقارير المُقَدَّمة من فيرنون روسكو، وجميع ملفات المراسلات التي تمت بين الأب وفيرن، والمديرين التنفيذيين الشبان محل الثقة، بولينج وهيمان وسيمونز والآخرين، والمصرفيين وكاتبيهم، وسكرتير الأب الذي جاء مع بيرتي من باريس؛ كمٌّ هائل من التفاصيل، وكان على باني أن يحضُر جميع الجلسات، وأن يصبح كلبًا يطارد الأرانب مثل الآخرين. لقد أقنع نفسه أن هذا واجبه تجاه الحركة التي تحتاج بشدة إلى الدعم من ملاكٍ كريم مثله!
منذ البداية، كان على بيرتي تحمُّل واقعٍ مرير. فقد أخبرها محاميها أن من غير الممكن حرمان السيدة أليس روس من أخذ نصف التركة. فمن الناحية القانونية، لم تكن لشهادة باني أي قيمة؛ لذا ما لم يعثُروا على وصيةٍ أخرى، كان عليهم تقبُّل الواقع الذي لا مفرَّ منه، والتعاون مع الأرملة للحصول على أكبر مبلغٍ ممكن من فيرنون روسكو. كان محامو السيدة روس في باريس قد عيَّنوا بعض المحامين ذوي الأجور المرتفعة في إنجِل سيتي ممثلين لهم، وكان على بيرتي أن تكظم غضبها، وتسمح لهؤلاء المحامين بحضور جلساتهم.
كان هناك الكثير من المشاكل التي تطلَّبَت محامين ذوي أجورٍ مرتفعة. وقام المحاسبون بفحص السجلات المالية لجيه أرنولد روس والتقارير المُقدَّمة من شريكه، وفي غضون أيامٍ قليلة، تمخَّض هذا الوضع المُعَقَّد عن حقيقةٍ هائلة؛ بالإضافة إلى كل الأموال التي استثمرها الأب في أعمالٍ جديدة مع فيرن وآخرين، وبالإضافة إلى كل الأموال التي تعامَل بها من خلال البنك، فقد اختفت أسهم وسندات تُقَدَّر قيمتها بأكثر من عشرة ملايين دولار، دون أثَر. ادعى فيرن أن الأب أخذ هذه الأوراق المالية لأغراضٍ غير معروفة، وعارضَت بيرتي ذلك الادعاء بشدة، متهمةً فيرنون روسكو بأنه أكبر لصٍّ في التاريخ. الأمر ببساطة هو أن فيرنون روسكو سرق محتويات خزانة الأب؛ إذ كان يحق له فتحها. فالتفتَت بيرتي إلى شقيقها غاضبة وألقت باللوم عليه؛ فقد كان فيرن يعلم أن باني سيستخدم أمواله لمحاولة قلب المجتمع رأسًا على عقب؛ لذلك كان من المنطقي منعُه من ذلك.
ولم يستطع باني أن ينكر أن هذا بدا معقولًا. فقد كان من السهل تَخيُّل فيرن يقول لنفسِه إن باني يمثِّل تهديدًا على المجتمع، وإن بيرتي شخصيةٌ لا تشارك بأي شيءٍ إيجابيٍّ في المجتمع، وإن الأرملةَ شخصيةٌ محدودةُ الفكر، بينما هو، فيرن، رجل أعمالٍ كفؤ يمكنه أن يضع تلك الأوراق المالية في مكانها الصحيح، وهو استخراج المزيد من النفط من باطن الأرض. فعندما علم بوفاة الأب، قام فيرن بهدوء بنقل الأوراق المالية من خزانة الأب إلى خزانته الخاصة، قبل وصول مفوَّض ضرائب الميراث بالولاية للتسجيل! لم يعتبر فيرن أن هذه سرقة، بل اعتبَرها حِكمة، على غرارِ أخذِ الاحتياطيات البحرية من حكومةٍ لا تملكُ الذكاءَ اللازم لتطويرها.
أرادت بيرتي مقاضاةَ شريك والدها وجعْلَه يمثُل أمام القضاء ليُفصح عن كل ما يتعلق بشئونه، وكان على باني، بمساعدة المحامين، التحدُّث معها والتعامُل مع غضبها. كان فيرن حريصًا على عدم كتابة أي شيء حتى الآن، وعندما يُدلي بشهادته، ستكون لديه قصةٌ جاهزة تجعلهم عاجزين. فبإمكانه أن يقول إن الأب أعطاه الأوراق المالية، وكيف لهم أن يتمكَّنوا من إثبات خلاف ذلك؟ ويمكنه أيضًا أن يقول إن الأب قد أخذ الأوراق المالية دون علمه، وخسر المال في سوق الأوراق المالية، فكيف يمكن إثبات خلاف ذلك؟ وحتى لو تتبَّعوا مبيعات الأوراق المالية الخاصة بالأب من خلال وسطاء فيرن، فلن يجنوا شيئًا من ذلك؛ لأن فيرن يمكن أن يقول إنه أعطى المال للأب أو إنه كان مخوَّلًا باستثماره وخسره؛ كان هناك العديد من القصص المختلفة التي يمكن أن يختلقَها فيرن! فصاحت بيرتي: «إذن، ليس لدينا خيارٌ سوى قبول ما يسمح لنا به هذا الوغد!» واتفق المحامون على أن ذلك هو الوضع. ونظرًا لأنهم سيتقاضَون عمولتهم على أساس نسبةٍ مئوية مما يمكنهم استرداده، فقد كانت نصيحتهم صادقة!
ثم وقعَت حادثةٌ ضاعفَت المرارة بين بيرتي وشقيقها. فقد ذهب باني إلى مستودع التخزين؛ حيث تم حفظ أغراضه، وفي الأطلس الذي كان والده يستخدمه أحيانًا وجد خمسة سندات حرية (هي سندات حرب، أصدرتها الحكومة الأمريكية في ١٩١٧-١٩١٨ كوسيلة لتمويل مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى والجهود الحربية للحلفاء في أوروبا) تبلغ قيمة كلٍّ منها عشرة آلاف دولار. كانت أموالًا احتفظ بها والده لحالات الطوارئ، ربما لرشوة المسئولين إذا أُلقِي القبضُ عليه، وعلى أي حال، ها هي الأموال، وكان يمكن لباني اعتبارها جزءًا من المليون دولار التي كان والده ينوي منحه إياها في باريس. لكنه قرَّر بتعفُّف ألَّا يشارك في نهب التركة، وقرَّر تسليم السندات حتى يمكن إدراجها كجزء من أصول التركة.
لكنه ارتكب خطأ وأخبر بيرتي بالأمر، ويا لها من ضجة تلك التي أحدثَتها! شعر باني بالحماقة لأنه أعطى أليس ومحاميها هديةً بقيمة خمسة وعشرين ألف دولار! بدلًا من أن يُقَسِّم الأموال بينه وبين أخته بهدوءٍ ويلتزم الصمت! أصبحَت تلك الخمسة والعشرون ألفًا أكثر أهميةً لبيرتي من كل الملايين التي أفلَت بها فيرن؛ إذ كانت هذه السندات شيئًا يمكن رؤيته، أو يكاد يمكن رؤيته، حتى أخذها باني بعيدًا عنها، وأعطاها هديةً لهؤلاء الأشخاص الجشعين! في الوقت الذي احتاج كلاهما إلى المال، واضطُرا للذهاب إلى أحد المصرفيين التابعين لوالدهما للاقتراض بناءً على حقهما في التركة.
كانت بيرتي غاضبةً جدًّا ومنزعجة، فأراد باني إنهاءَ الجدال، وسَلَّم السندات إلى البنك، وبعد ذلك، لم تسامحه بيرتي قطُّ، وكانت تتحدث عن خطئه في كل مرة يكونان فيها بمفردهما. وقد جعلَتها هذه الكراهية والغضب المستمر مريضة؛ إذ كانت تسهَر لوقتٍ متأخر من الليل، تُدقِّق في الأرقام، ثم لا تستطيع النوم من شدة انزعاجها. ومثل جميع الشابَّات في المجتمع، كانت تهتم كثيرًا بالحصول على بشرةٍ ناعمةٍ وخاليةٍ من التجاعيد، لكن غضبها المستمر كان يؤثِّر سلبًا على جمالها، ويجعلها شاحبةً ومنهكة. وبعد سنوات، ستذهب إلى خبراء التجميل، لرفع زوايا فمها، ومعالجة بشرتها بالمواد الكيميائية وتقشيرها؛ لأنها الآن لم تعُد قادرةً على السيطرة على غضبها بسبب خيبة الأمل؛ إذ لم يكن أمامها سوى الحصول على مبلغٍ زهيد وهو مليون أو مليونان فقط، بدلًا من مبلغ العشرة أو الخمسة عشر مليونًا الضخم الذي كانت يومًا ما واثقةً من أنها ستمتلكه.
٥
«المليونير الأحمر الذي سوف ينقذ المجتمع»
والآن بدا أن لدى الكثير من الناس أفكارهم الخاصة حول كيفية إنقاذ المجتمع، واجتمعوا جميعًا في بهو الفندق على أمل مقابلة باني. فقد ادَّعى أحدهم أن لديه علاجًا أكيدًا للسرطان، بينما ادَّعى آخرُ أنه يمتلك آلةَ حركة أبدية وهي تعمل بالفعل، وأراد أحدهم تربية الضفادع من أجل الاستفادة من أرجلها، وأراد آخر تربية الظربان من أجل جلودها. كما أراد العشراتُ الحيلولة دون وقوع حرب، وأراد آخرون بناء مستعمرات، كما كان لدى البعض خططٌ مختلفة لتحقيق الاشتراكية، وكان هناك العديد من الشعراء والفلاسفة العظماء الذين لديهم أعمالٌ مكتوبة، وادَّعى أحد الأشخاص أن الرب قد تجلى له؛ كان حامل الرسالة ضخم الجثة ويبلغ طوله ست أقدام وأربع بوصات وقد وقف بجانب باني ليكشف عن فرق الطول الكبير بينهما، وتحدث إليه بنبرةٍ خافتة مليئة بالرهبة، قائلًا إن الكلمات التي نطق بها الرب قد كُتبَت وحُفظَت في خزانة، ولم ولن يراها أي إنسان أبدًا. كتب المزيد من الأشخاص ليقولوا إنهم لا يستطيعون الحضور لأنهم محتجزون ظلمًا في مصحاتٍ عقلية، ولكن إذا تمكَّن باني من المساعدة في إخراجهم، فسوف يقومون بإيصال رسائلهم إلى العالم من خلاله.
كان هناك شخصٌ مجنونٌ آخر، اسمه جيه أرنولد روس، لم يعُد «جيه أرنولد روس الابن». وكانت لديه خطة شغلَت باله طويلًا، والآن جمع أصدقاءه ليعرف رد فعلهم تجاه هذه الخطة. كان الأصدقاء هم العجوز خاييم مينزيس، الذي كان جزءًا من الحركة لفترةٍ طويلة، وشَهِد معظم أخطائها؛ كان خاييم يعمل في محل لبيع الملابس كعادته، ويخصِّص وقت فراغه لتنظيم الاجتماعات. وجيكوب مينزيس، الطالب الشاحب؛ حصل جيكوب على وظيفة تدريس في إحدى المدارس لمدة عام، ولكن اكتُشِف أمره بعد ذلك، وأصبح الآن يبيع شهادات التأمين. وهاري سيجر الذي كان يزرع الجوز، وتمكَّن من تجنُّب التأثير السلبي للمقاطعة. وبيتر نيجل، الذي كان يساعد والده في إدارة شركةِ سباكةٍ نقابية في مدينة لم يكن العمال مطالبين فيها بالانضمام إلى النقابة، ويستخدم أرباحه لنشر مجلةٍ شهرية مكوَّنة من أربع صفحات تسخر من الرب. وجريجور نيكولاييف، الذي أدى واجبه كاشتراكي من خلال العمل لمدة عام في معسكر لقطع الأخشاب، وهو الآن مساعد مُشغِّل الأشعة السينية في أحد المستشفيات. ودان إيرفينج، الذي جاء من واشنطن على نفقة باني؛ جلس هؤلاء الأشخاص الستة مع راتشيل وباني في حفل عَشاءٍ في غرفة طعام خاصة، لمناقشة كيفية إنقاذ المجتمع بمليون دولار.
أوضح باني بتواضُع أنه لم يكن يطرح خطته باعتبارها أفضل خطة على الإطلاق، ولكن فقط باعتبارها الأفضل من وجهة نظره. لم يكن ينوي تجنُّب معالجة الأمر عن طريق التبرُّع بأمواله وتفويض المهام للآخرين؛ فقد تعلم هذا من والده، أن المال وحده لا يكفي؛ إذ إن تحقيق شيءٍ ما يتطلب المال والإدارة الفعَّالة. بالإضافة إلى ذلك، أراد باني نفسُه أن يشارك في نشاطٍ ما؛ فقد سئم من الاكتفاء بالنظر والتحدُّث. لقد فكَّر لفترةٍ طويلة في إنشاء جريدةٍ كبيرة، ولكن لم يكن لديه أيُّ معرفة بالصحافة، ومن المحتمل أن يرتكب أخطاء. الشيء الوحيد الذي كان يعرفه هو الشباب؛ لقد ذهب إلى الكلية، وكان يعرف ما ينبغي أن تكون عليه الكلية، ولم تكن كما ينبغي أن تكون عليه.
«ما نفعله — رايتشل وجيكوب وبقية اتحاد الشباب الاشتراكيين — هو محاولة التأثير على العقول الشابة، لكن التحدي هو أننا نلتقي بهم لبضع ساعاتٍ فقط كل أسبوع، والأشياء التي لها التأثير الأكبر على حياتهم تتعارض مع أفكارنا — أعني المدارس والوظائف والأفلام — كل شيء. لذا، أريد أن أجمع بعض الطلاب معًا لحياةٍ كاملة، أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، ونرى ما إذا كان بإمكاننا بناءُ نظامٍ اشتراكي، حياةٍ شخصية، تكون خدمة قضيتنا هي الهدف الرئيس لها. سوف تتفق معي راتشيل في هذا — ولا أعلم إذا كان أيُّ شخصٍ آخر سيتفق معي — أظن أن أحد أسباب معاناة الحركة هو أننا لم نضَع المعايير الأخلاقية الجديدة التي نحتاجها. فالعديد من الأعضاء ضعفاء؛ إذ تشعُر النساء بالحاجة إلى الجوارب الحريرية والتشبُّه بالبرجوازيات، ويعتقدْنَ أن الحرية تعني تبنِّي عادات الرجال السيئة. فإذا كان الاشتراكيون مخلصين حقًّا للحركة، فلن ينفقوا الأموال على التبغ والكحول والملابس الفاخرة المُقلَّدة.»
قال خاييم مينزيس العجوز، الذي كان قد أشعل سيجاره الرخيص بالفعل: «هذا ليس مناسبًا لي!».
كانت الفكرة الرئيسية لباني هي إنشاء مدرسةٍ للعمال على قطعة أرض في الريف، ولكن بدلًا من إنفاق المليون دولار التي حصل عليها على بناء مبانٍ باهظة الثمن، أراد أن يبدأ بخيام، وسيقوم الطلاب والمعلمون ببناء جميع المباني بأنفسهم. سيقضي كل شخصٍ في هذا المكان أربعَ ساعات في العمل اليدوي وأربعَ ساعات في الدراسة يوميًّا، وسيرتدي الجميع ملابس الكاكي ويتجنَّبون أزياء المجتمع الراقي. كانت لدى باني فكرةُ زيارة الكليات والمدارس الثانوية والتحدث إلى مجموعاتٍ صغيرة من الطلاب؛ كان يهدف إلى إلهام البعض منهم لتحويل تركيزهم من كرة القدم والأخويات إلى هدفٍ جديد. كما خطَّط أيضًا للتواصل مع النقابات العمالية لاختيار الشابات والشباب الواعدين. يجب أن تنمُو هذه المبادرة سريعًا، ولن تتطلب الكثير من المال؛ لأن كل شيء تقريبًا سيتم إنتاجه في الموقع باستثناء مواد البناء، وتضمَّنَت الخطة إنشاء مزرعة، ومدرسة للمهارات المنزلية؛ أي باختصار تعليم جميع المهن الأساسية، والتأكُّد من مشاركة كل طالب يريد أن يلتحق بهم في عملٍ هادف لمدة أربع ساعات.
٦
ما رأيهم في ذلك؟ كان خاييم مينزيس أول من تحدَّث كالعادة. ربما شعَر بالإهانة قليلًا عند ذِكر التبغ، على أي حال فإنه قال إن الأمر يبدو له وكأنه مجتمعٌ آخر، ومجرد تسميته بالكلية لن يغير في الأمر شيئًا، والمجتمع هو أسوأ فخ يمكن أن ينصبه المرء للحركة. «أنت تشجِّع الناسَ على العيش بمعزِلٍ عن بقية العمال، سواء كانوا مرتاحين أم لا — ولن يكونوا كذلك! — بينما هم منشغلون بشيءٍ آخر غير الصراع الطبقي في العالم.»
قال باني: «هذا صحيح جدًّا. لكننا لن نكون بعيدين جدًّا عن العالم، وسيركِّز تدريبنا على الحركة بالخارج وكيفية دعمها، وليس على مجتمع الكلية.»
«يجب على الأشخاص الذين سيدعمون الحركة أن يكونوا جزءًا منها طوال الوقت. إذا قمتَ بإخراجهم لمدة شهر، فلن يكونوا فعَّالين بعد الآن، ربما يجدون حياةً أيسر، ولن يصبحوا عمالًا بعد ذلك.»
«لكن الأمر ليس بهذه البساطة يا رفيق خاييم …»
«استمع إليه! إنه يريد جذب شباب وشابات الجامعات ليعيشوا حياةً لن تبدو سهلة بالنسبة للعمال!»
قال هاري سيجر: «يمكنك أيضًا أن تعترف بذلك يا باني. سيكون لديك مكانٌ لطيف ورسمي؛ حيث يرتدي جميع الشباب والفتيات ملابس على طراز ويليام موريس. وسيعملون بحماسٍ لفترة من الوقت، لكنهم لن يكونوا فعَّالين أبدًا، وإذا تمكَّنتَ بالفعل من بناء أي مبانٍ أو زراعة أي محصول، فستحتاج إلى عمالٍ ذوي خبرة وأقوياء للقيام بذلك. أعرف ذلك؛ لأننا نحصُد الجوز هذه الأيام!»
قال باني: «لا أريد مكانًا رسميًّا. أريد مركز تدريب يستعد فيه الناس للصراع الطبقي، وإذا لم نتمكَّن من ضمان الانضباط بأي طريقةٍ أخرى، فماذا عن ذلك كجزءٍ من البرنامج، يلتزم كل طالب بالذهاب إلى السجن لمدة لا تقل عن ثلاثين يومًا.»
صاح بيتر نيجل: «عظيم! أنت الآن تتحدث لغتي!».
سأل خاييم بسخرية: «ماذا سيفعل، هل سيتجاوز السرعة المقررة؟».
«سيذهب إلى إنجِل سيتي ويتظاهر أثناء الإضراب. أو ينظِّم اجتماعاتٍ اشتراكية في زوايا الشوارع حتى يعتقله شرطي. لا تحتاج أن أخبرك كيف يتم القبض عليك في قضية صراعٍ طبقي، أيها الرفيق خاييم.»
«نعم، لكنه قد يواجه قاضيًا لا يفهم قواعد الكلية وقد يحبسه لمدة ستة أشهر.»
«حسنًا، هذه مخاطرة يجب علينا قبولها؛ النقطة الأساسية هي أن أي طالب في السنة النهائية لن يُعتبر قد أوفى بواجبه الاجتماعي إلا بعد أن يقضيَ ما لا يقل عن ثلاثين يومًا في السجن؛ بسبب قضية صراعٍ طبقي.»
سأل جريجور نيكولاييف: «وماذا عن المعلمين؟».
«مرة كل ثلاث سنوات، أو كل خمس سنوات للمعلمين.»
سأل بيتر بحماس: «والمؤسِّس! كم مرةً عليه أن يدخل السجن؟» لكن دان إيرفينج قال إن المؤسس سيتعيَّن عليه الانتظار حتى يتخلص من كل أمواله.
وظلت النقاشات مستمرة. هل يمكنهم إثارة انتباه الشباب بفكرة الانضباط الذاتي؟ هل كان الخطر يكمن في وضع معاييرَ شديدةِ السهولة بحيث لا يحقِّقون الكثير، أم في وضع معاييرَ عاليةٍ جدًّا بحيث لا يكون لديهم أي طلاب؟ أراد باني، الشاب المثالي، وضع معاييرَ عالية، لكن هاري سيجر قال إن الناس سيكونون أكثر استعدادًا للموت عن التخلِّي عن التبغ. وتساءل ماذا سيفعلون مع الشيوعيين؟ لم يعُد هاري سياسيًّا، لقد كان ثوريًّا اجتماعيًّا، ينتظر تنفيذ الخطة. وبغَض النظر عما قد يرغب فيه أعضاء الحزب الاشتراكي، فلن يتمكَّنوا من منع الطلاب البلاشفة من الالتحاق بالكلية، وحتى لو فعلوا ذلك، فإن الأفكار ستجد طريقًا إليهم.
أجاب باني بمشاركة مفهومه للعقل المنفتح. لماذا لا يستطيع الطلاب تولي مسئولية تعليمهم واتخاذ قراراتهم بأنفسهم؟ دَعِ المعلمين يقدِّمون المعلومات التي طُلبَت منهم، ثم اسمح للطلاب بمناقشتها، هل يمكن أن يكون كل فصلٍ دراسي كمنتدًى مفتوح، لا يُقدِّر سوى البحث والحرية؟ وقد اتفقوا جميعًا على أن إنشاء مؤسسةٍ طائفية، تعمل على الترويج لمعتقداتٍ بعينها مع استبعاد المعتقدات الأخرى، لن يكون فعَّالًا. علاوةً على ذلك، فإن كل منظورٍ يحتاج إلى مؤيدٍ لتقديمه بشكلٍ عادل. لذا، طرح باني السؤال التالي: «خاييم، هل ستسمح لهاري بشرح أفكاره لفصلك؟ هاري، هل ستعطي خاييم فرصةً للتحدث؟» ورأى باني دوره كوسيط يمنع هذه الفصائل المتصارعة من اصطدام بعضها ببعض!
ثم قال خاييم، المتشكك: «أريد أن أعرف، ماذا ستفعل بشأن الجنس؟»
اعترف باني أن هذا الأمر يقلقه. وقال: «أظن أنه سيتعيَّن علينا اتباع المعايير البرجوازية.»
صاح بيتر نيجل: «يا إلهي! فلتبدأ البرجوازية!».
كان الطالب جيكوب مينزيس قد قرأ أخيرًا كتابًا عن راسكن، وهو مجتمعٌ اشتراكيٌّ قديم في ولاية تينيسي. وادَّعى أن مشكلة الجنس تسبَّبَت في تفكيك ذلك المجتمع؛ وأضاف والده: «سوف يؤدي ذلك إلى تفكيك أي مجتمعٍ موجود في ظل الرأسمالية! هناك طريقةٌ واحدة فقط يمكنك من خلالها جعل رجلٍ واحد يعيش مع امرأةٍ واحدة طوال حياته، وهي حبسهما في منزل معًا وعدم السماح لهما بالخروج أبدًا. ولكن إذا سمحتَ لهما بالتفاعل مع أزواجٍ آخرين، فسيجد الرجل على الفور أنه يريد امرأةً أخرى، ولكنها المرأة المناسبة.»
قال دان إيرفينج: «ولكن بعد ذلك، وفقًا للمعايير البرجوازية، فإنهما سينفصلان.»
قال خاييم: «بالضبط! لكن ليس في مجتمعٍ اشتراكي! إذا فعلا ذلك في مجتمع، فسوف يُنظر إليه على أنه حبٌّ مجاني، وسوف يتصدر الخبر عناوين الأخبار، وسيأتي الفيلق الأمريكي ويقبض عليهما!»
٧
وكانت نتيجة المناقشة أن أيًّا منهم لم يكن متأكدًا من نجاح المشروع، ولكن جميع الشباب كانوا على استعداد للمساعدة إذا كان باني مصممًا على تجربته. وقال باني إنه بالفعل يبحث عن موقعٍ مناسب، أرضٍ جيدة ومياهٍ وفيرة، على بعد حوالي خمسين ميلًا من إنجِل سيتي؛ لقد خطَّط لتسديد دفعةٍ أولية مقابل الأرض بمجرد حصوله على الأموال اللازمة، وعليهم الآن التركيز على التفاصيل. التزَم باني بتخصيص ثلاث سنوات من وقته لإنشاء المؤسسة، فإذا تمكَّنوا من تحقيق الانضباط والروح المعنوية المطلوبَين، فإنه سيسمح للمؤسسة بإدارة نفسها وتقديم الدعم المالي، حسب الحاجة لضمان تشغيلها بفعالية. وسوف يحتاجون إلى معلمين، ومنظمين، ومديري أعمال؛ لذلك كانت هناك فرص عمل للجميع.
وفي هذه الأثناء، كان على باني العودة إلى المناقشات مع المحامين لمحاولة إنقاذ أكبر قَدْر ممكن من التركة. تضمَّن ذلك جدالاتٍ مطولة مع بيرتي؛ لأن شئونهما كانت متشابكة وأصبحَت تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. أصر فيرن على أن شركة روس تحتاج إلى أموالٍ لتغطية نفقاتها المستمرة؛ هل يريدان منه أن يقوم بتقييم الأسهُم وإجبار التركة على توليد الأموال، أم أنهما يريدان منه شراء عقد إيجار منطقة روس الابن، الأصل الوحيد لشركة روس، باستثناء المطالبات ضد شركات التأمين؟ كان لدى فيرن حرية الاختيار، نظرًا لأنه كان هو ومديروه التنفيذيون الشباب الموثوقون هم مديري الشركة. كان ينوي إنشاء مشروعٍ جديد، شركة بارادايس، مع مديرين تنفيذيين شباب آخرين يمكن الاعتماد عليهم كمديرين، ثم يبيع لنفسه عقد الإيجار، الذي مدَّتُه عشرون سنة وقيمتُه تُقَدَّر بملايين الدولارات، بستمائة ألف دولار!
قال فيرن: «حسنًا، دعونا نجعل أداء التركة أفضل.» قبلَت بيرتي التحدي، وتواصلَت بشكلٍ مكثَّف مع زوجها في باريس واختلطَت مع أصدقائها الأثرياء، حتى وصلَت إلى اكتشافٍ مُحرج وهو أن الأشخاص الذين لديهم ستمائة ألف دولار نقدًا يقومون بالكثير من التحري قبل إنفاقها، وغالبًا ما يريدون الاحتفاظ بالمبلغ برمته لأنفسهم. قضت بيرتي الكثير من الوقت في التوتر والعمل الجاد، وكان أكثر ما يغضبها هو أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك لنفسها فقط، ولكن كان عليها أن تُدافِع عن التركة بأكملها، مما يعني أن باني غير الكفء وأليس السيئة السمعة سيستفيدان من ثمرة جهودها. تلقَّت عرضًا، ولكن بعد ذلك جاء المحامون الذين يمثلون أليس السيئة السمعة بعرضٍ آخر، فوصفَتهم بيرتي بأنهم لصوصٌ مُتمَكِّنون أكثر من فيرن.
وبعد ذلك، احتاجت شركة روس كونسوليديتد إلى المال، وكان فيرن يعتزم تقييم الأسهم، ما يعني وضع التركة في وضعٍ مالي صعب ونهبها تمامًا. وفي النهاية، قدَّم اقتراحًا؛ كان هناك مشروع النفط الروماني، الذي استثمر فيه الأب مليونًا وربع مليون نقدًا. عرض فيرن إعادة شرائه بنفس المبلغ، وتم إعداد المستندات اللازمة؛ كان على الورثة جميعًا الموافقة على البيع، وقد وافقوا عليه، وبعد ذلك كان على المحكمة الموافقة على الاقتراح. فتسبَّب هذا في بعض التأخير، وخلال هذا الوقت، كانت التركة متأخرةً في تقييم أسهم روس كونسوليديتد، وكان من المقرَّر بيع هذه الأسهم. وكان الهدف من أموال الصفقة الرومانية هو إنقاذ هذه الأسهم، لكن مما أثار استياء المحامين رفضُ المحكمة الموافقة على هذه الصفقة. كانت هناك إجراءاتٌ قانونية؛ فقد شكَّكَت المحكمة في سلطة محامي السيدة أليس روس وطلبَت توقيعَها الشخصي، الذي تم التحقُّق منه في فرنسا. خلاصة القول، لم تتمكن التركة من الوصول إلى الأموال في الوقت المناسب للبيع، وكان فيرنون روسكو هو من اشترى أسهم روس كونسوليديتد بسعرٍ مُخَفَّض.
كانت بيرتي غاضبة وظلت تطلق السباب، هي حقًّا ابنةُ سائقِ بغال! لقد خدعَهم فيرن الحقير! فهو لم يكتفِ بسرقة مستندات الأب، بل خدعَهم بهذه الطريقة، واستعان بقاضٍ فاسد لتأخير الموافقة، فقط حتى يتمكَّن من انتزاع ميزةٍ أخرى! هدَّدَت بيرتي بأخذ مسدس إلى مكتب فيرن وإطلاق النار عليه مثل الكلب، لكن ما فعلَته حقًّا هو توجيه الإهانات إلى شقيقها، الذي تصرَّف بحماقة من خلال جعل الرجل الأكثر نفوذًا الذي عرفوه عدوًّا لدودًا.
لقد علَّمهم ذلك درسًا. سيُخرِجون أنفسَهم من براثن فيرن، ويتخلصون من كل ما كان يُسيطِر عليه. لقد استثمر الأب ما يقرُب من مليون دولار في مشروع أطلق عليه أنجلو-كاليفورنيا، الذي كان من المُقرَّر أن يقوم بتطوير امتياز الموصل الكبير، وتلقى محامو أليس عرضًا لشراء هذه الأسهم، لكنه تضمَّن دفع أقساط، ولم توافق بيرتي على هذا، ولم يوافق المحامون على عرض فيرن النقدي، وكانت بيرتي تشعُر بقلقٍ شديد من أن ينخرط فيرن في أعمال أكثر خداعًا، ربما إنشاء شركة أنجلو-كاليفورنيا، وتأجير منطقة الموصل لها، وسرقة جميع الأرباح!
وسط هذا الجدل جاءت رسالةٌ من أليس إلى باني، كانت متأكدةً من أنه لن يسمح للمشاكل المالية الفظيعة أن تؤثِّر على علاقتهما، وأن ينفك رباطهما المقدس؛ ذكريات العزيز جيم. قامت أليس بزيارة وسيطتها المفضَّلة بمجرد وصولها إلى باريس، وخلال جلسة تحضير الأرواح الثالثة، تجلى جيم. ومنذ ذلك الحين، قامت أليس بتوثيق كلماته من خلال كاتب اختزال، وأصبح لديها الآن سجلٌّ ضخم مثل نسخة المحاكمة القانونية، ملفوفًا في شرائطَ زرقاءَ أنثويةٍ أنيقة. كانت أليس تأمل أن يكون باني قد استشار وسيطًا هو الآخر، وأن يرسل لها كل ما يقوله جيم العزيز في منزله القديم.
قرأ باني السجل، وأثار في داخله شعورًا غريبًا. كانت الصفحات مليئة بالهُراء العاطفي حول الحياة الآخرة السعيدة، وأجنحة الملائكة، والموسيقى السماوية، وأخبِروا أحبتي أنني معهم، ولكني أكثرُ حكمةً الآن، ويجب أن يعلم عزيزي باني أنني أفهم وأسامح، كل الأشياء التي قد تكون خرجَت من العقل الواعي أو اللاواعي لسيدةٍ مسنةٍ عاطفية أو وسيطةٍ مخادعة. ولكن بعد ذلك، فاجأ الشابَّ شيءٌ ما: «أريد أن يعرف عزيزي باني أن والده هو حقًّا من يتحدث إليه، وسوف يتذكَّر الرجل الذي حصل على كل الأرض لنا، وأنه كان لديه سنَّتان ذهبيتان في مقدمة فمه، وقال باني إن شخصًا ما سوف يسرق قبره.» كيف يمكن لوسيطة في باريس أن تستخدم كافة أنواع السحر لتعرف مزحةً شاركَها باني مع والده فيما يتعلق بالسيد هارداكر، الوكيل الذي اشترى لهما عقود الخيارات الخاصة بالمزارع في بارادايس، كاليفورنيا؟
يا إلهي، كان هذا شيئًا يستحق التأمل! هل من الممكن حقًّا أن الأب لم يختفِ إلى الأبد، بل ذهب ببساطة إلى مكانٍ آخر، إلى مكانٍ يمكن الوصول إليه؟ قرَّر باني أن يتمشَّى ويفكِّر في هذا الأمر، وأثناء تجواله في شوارع إنجِل سيتي، كان كثيرًا ما يسمع صوتَ إيلاي واتكينز يدوِّي من الراديو. كانت خيمة إيلاي مكتظةً دائمًا؛ إذ تدفَّق عشراتُ الآلاف لرؤية النبي الذي جعلَته الملائكة يطفو فوق البحر وعاد بريشةٍ كدليل على هذا، تردَّد صدى صوتِ إيلاي في جميع أنحاء كاليفورنيا، معلنًا وعدًا قديمًا: «هو ذا سرٌّ أقوله لكم؛ لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغيَّر، في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير؛ فإنه سيُبوَّق، فيُقام الأمواتُ عديمي فساد، ونحن نتغيَّر.»