الحَفْر
١
مرة أخرى، تردد صدى أبواق السيارات في أخاديد منحدر جوادالوبي ووديانه. وهذه المرة لم يكن صوت سيارة واحدة، بل أسطول كامل من السيارات، ودزينة من الشاحنات الكبيرة القوية التي تزن سبعة أطنان، ومزودة بعجلات مزدوجة عريضة ومتينة، ومقطورات في الخلف تحمل المزيد من الأطنان. كانت الحمولة الأولى محركًا ثابتًا كبيرًا، يقف شامخًا فوق المقطورة ومُثبتًا في مكانه بأخشاب ضخمة مثبتة بإحكام على الجانبين، وبالطبع كانت هذه الشاحنة تسير بحذرٍ شديدٍ عند المنعطفات. جاءت خلفها «مضخة الوحل» و«معدات الرفع»؛ يليها «رتل» من أدوات الحفر المكونة من أنابيب مجوفة من أجود أنواع الفولاذ، متصلة بعضها ببعض من الطرفين، حيث تُنزَّل في الأرض لمسافة ميل أو أكثر إذا لزم الأمر. امتدت هذه الأنابيب متجاوزة نهاية المقطورات، حيث وُضِعَت رايات حمراء للتحذير بشأنها، في المنعطفات القصيرة كانت الأنابيب تصل إلى الجانب الآخر من الطريق، وفي حالة وجود سيارة قادمة في الاتجاه المقابل، كان يتعين على قائد المقطورة التوقف حتى تمر السيارة بحذر، وإذا لم تكن هناك مساحة كافية، فيتعين على السيارة الأخرى الرجوع إلى مكان يكون فيه الطريق أكثر استقامة. استلزم كل هذا حدوث ضجة مستمرة من أصوات أبواق الشاحنات، التي كان من شأنها أن تجعلك تحسب أن سربًا كبيرًا من طيور ما قبل التاريخ — هل كانت الديناصورات المجنحة تصدر أصواتًا أم لا؟ — هبطت على منحدر جوادالوبي وكانت تركض على الطريق مصدرةً صيحاتٍ تشبه صوت أبواق الشاحنات.
لكن المعنى الحقيقي لهذه الأصوات هو: «الأب في انتظارنا! لقد وقَّع الأب على عقد الإيجار، وجارٍ بناء برج الحفر؛ لذا يجب أن يصل «الحفار» في الوقت المحدد. أفسحوا الطريق!» ما كان الأب ليثق في السكك الحديدية لإنجاز مهمة عاجلة مثل هذه؛ فقد ينقلون أغراضك إلى خطوط فرعية، وتقضي أسبوعًا في إجراء المقابلات والمحادثات الهاتفية مع مسئولين أغبياء. لكن عندما تستأجر الشاحنات، تصبح تحت سيطرتك طوال مدة الإيجار؛ ولذا تصلك أغراضك مباشرةً. كان هناك تأمين لتغطية جميع الحوادث المحتملة، بما في ذلك تعويض أي رجل يقود سيارة فورد قد تتسبب في سقوطه من على الجبل.
وهكذا جاءت دزينة من الشاحنات القوية التي كانت تطلق أبواقها، وتشق طريقها ببطء صعودًا على المنحدر، بسرعة أقل بكثير من السرعة المحددة التي تبلغ خمسة عشر ميلًا في الساعة. أصدرت مبردات المحركات حفيفًا وتصاعد البخار منها، وكان عليها التوقف عند كل ميل أو نحو ذلك لتبريد المحركات. لكنها وصلت إلى القمة بسلام، وحينئذٍ بدأت الزحف ببطء إلى أسفل، وكان هناك رجل يسير بالمقدمة حاملًا رايةً حمراءَ لتحذير السيارات الأخرى، وتوجيهها إلى تجاويف آمنة في الطريق للانتظار حتى مرور الأسطول بأكمله. وبمجرد الخروج من المنحدر والسير على الطريق المستقيم، حيث تستطيع الشاحنات السير بسرعة كبيرة مثل باقي السيارات، علا صوت المحركات الشديدة البأس وكان المشهد رائعًا. وانبعث صوت الأبواق وكأنها تقول: «أفسحوا الطريق! الأب ينتظر!»
كان يجلس فوق أدوات الحفر شبابٌ صغارٌ يرتدون سراويل من الجينز الأزرق وقمصان كاكي، وهذا دليل قاطع على أن بئرهم الأخيرة لم تكن جافة، بل أنتجت القدر المطلوب منها من النفط، ذلك الكنز الذي لطخ ملابسهم. ومع ذلك كانت وجوههم نظيفة، وكانوا يستمتعون بالمنظر الطبيعي المشمس وعلى شفاههم ابتسامات مشرقة. صدحوا بالأغاني وشاركوا احتفالاتهم المرحة مع السيارات التي كانوا يمرون بجوارها، وأرسلوا القبلات للفتيات في منازل المزارع ومحطات الوقود، ومنصات بيع عصير البرتقال، وأكشاك «المأكولات الطيبة». استغرقت الرحلة يومين، لم يشعروا فيهما بأي قلق؛ فقد كانوا في عهدة الرجل الكبير، السيد روس، وكان هو من عليه أن يقلق. فبادئ ذي بدء، كان عليه أن يعطيهم أجورهم، ليلة كل سبت، وكانت هذه الأجور أعلى من أجور العمال الآخرين في المناطق المجاورة بمقدار دولار واحد في اليوم، علاوة على ذلك، كانوا يحصلون على هذه الأجور ليس فقط أثناء أعمال الحفر، ولكن أثناء جلوسهم فوق الشاحنات المحملة بالأدوات التي تشق طريقها عبر جنة من بساتين البرتقال بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة، وهم ينشدون أغاني عن الفتاة التي تنتظرهم في البلدة المتجهين إليها.
٢
كان الأب قد وقَّع العقد مع رجلٍ في منحدر الشمال، السيد بانكسايد، وهو سيد محترم يعرف بالضبط ماذا يريد؛ لذا لم يضيع وقت الأب. لم تكن الأرض قريبة من البئر المكتشفة حديثًا؛ ولذلك كان على الأب دفع سدس الأرباح فقط، بالإضافة إلى خمسة آلاف دولار مقابل الهكتارين ونصف الهكتار.
ذهب الأب وباني إلى مكاتب شركة صنسيت للأخشاب، وحظيا بمقابلة خاصة للغاية مع رئيس هذه الشركة. كان السيد أسكوت رجلًا محترمًا بدينًا، له وجنتان متوردتان، وكان ودودًا للغاية؛ عبثَ بشعر باني، وقدم للأب سيجارًا ملفوفًا في رقاقة ذهبية، وتحدث عن الطقس والإمكانات المرتقبة للحقل الجديد، لدرجة أنك كنت ستعتقد أنه والأب كانا صديقين منذ فترة طويلة. حتى بدأ الأب أخيرًا في الحديث عن الأعمال، وقال إنه كان قطعًا بحاجة إلى أن تُسلَّم الأخشاب لبناء برج الحفر في غضون ثلاثة أيام، حينئذٍ رفع السيد أسكوت يديه في يأس وأوضح أن هذا طلب يستحيل تحقيقه. فقد أصبحت جميع ساحات بيع الأخشاب فارغة؛ نظرًا للإقبال الشديد على طلب الأخشاب لبناء أبراج الحفر، وتراكمت الطلبات حتى وصلت إلى عشرين طلبًا في اليوم. لكن الأب قاطعه، إذ كان على دراية بكل ذلك، لكن هذه كانت حالة خاصة؛ فقد وقع للتو على عقد يتضمن غرامةً كبيرةً مودعة في البنك، وهو لا يفضل استخدام أبراج الحفر الفولاذية؛ لذا سيتعين على أصحاب ساحات الأخشاب مساعدته بالتأكيد، إلا إذا أرادوا أن يخسروا إلى الأبد إمكانية العمل معه. وأراد طلب نصف دزينة أخرى من أبراج الحفر، تُسلَّم خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وعلاوةً على ذلك، كان يتعين على السيد أسكوت أن يفهم أن هذه البئر التي كان الأب ينوي حفرها ستؤدي إلى مزيد من الاكتشافات؛ ومن ثم حدوث تطورات جديدة، وزيادة كبيرة في تجارة الأخشاب، ولذلك كانت هذه في الواقع خدمةً عامةً يضطلع بها الأب، وعليهم جميعًا التكاتف ومساعدته. إلى جانب ذلك، أراد الأب تشكيل نقابة صغيرة لإدارة جزء من هذه البئر الأولى، مقدمًا مجرد عرض بسيط لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يغتنمون الفرص، ويقدِّرون الانخراط في الأعمال منذ اللحظة الأولى، وإن السيد أسكوت يعلم أن الأب رجل يفي بوعده ولا يخشى مواجهة التحديات.
قال السيد أسكوت إن هذا هو رأيه في الأب، وقال الأب إنه قد جاء إلى ذلك الحقل لتكريس معظم وقته له، وإنه سيحقق إنجازًا كبيرًا هنا، وأراد تشكيل هذه النقابة الصغيرة حتى يدعم أحدهما الآخر، فهكذا تسير الأمور في مجال النفط. أقر السيد أسكوت أن التعاون، بالطبع، عنصر أساسي في الأعمال التجارية الحديثة، وظهرَت التجاعيد على جبهته، وهو يدقق في بعض الأوراق على مكتبه، ويُجري بعض الحسابات في دفتر، وسأل الأب عن الساعة التي يريد فيها تلك الأخشاب. أوضح الأب أن الرجلَ التابع له المسئول عن الأسمنت قد انتهى من نصف القبو والأساسات، وأن كبير النجَّارين كان يجمع طاقمًا من النجَّارين؛ حيث إنه لن يثق في أي مقاول لتولي هذه المسألة. وسيفي بالمراد إذا وصَّل السيد أسكوت العتبات الخشبية للموقع يوم الخميس ليلًا.
قال السيد أسكوت إنهم كانوا يواجهون الكثير من المشاكل بسبب الوضع السيئ للطرق حول حقل «بروسبكت هيل»، وقال الأب إنه على دراية بهذا الأمر، وإنه لا بد من فعل شيءٍ ما حيال ذلك بسرعة؛ لذلك سيذهب لمقابلة المشرف على الطرق بالمقاطعة. حينئذٍ وافق السيد أسكوت على تنفيذ المطلوب منه، ودعاه الأب لأن يأتي ويلقي نظرة على الحقل، وأن يسمح للأب بأن يُطلِعه على بعض الفرص الجيدة التي يتمتع بها الحقل، ثم تصافحا، وعبث السيد أسكوت بشعر باني مرةً أخرى، وكان على باني التظاهر بتقبُّله هذا الأمر أثناء عقد صفقات الأعمال.
هكذا جرت الأمور. وعندما ركبا سيارتهما وانطلقا، كرَّر الأب مقولته بأن الشحم أرخص من الفولاذ. كان الأب يقصد بذلك أنه يجب أن تدع الناس يحصلون على حصة من أرباحك، حتى يصبحوا جزءًا من «منظومتك»، وينفذون بسرعة كل ما تقوله. في غضون ذلك، وصلا إلى مكتب المشرف على الطرق، حيث أجريا مقابلة خاصة أخرى. لم تدل ملابس هذا الموظف المسئول، السيد بنزنجر — وهو رجلٌ قصير، حاد الذكاء، يرتدي نظارة على أنفه — أنه رجل ثري، وأدرك باني ذلك من الاختلاف الذي طرأ على نبرة صوت الأب. لم يعرض على الأب سيجارًا ملفوفًا في رقاقةٍ ذهبية ولم يتحدث عن أحوال الطقس؛ لذا انخرط الأب على الفور في مناقشة الأمر الذي جاء من أجله. كان قد جاء إلى مدينة بيتش سيتي لتنفيذ مشروع من شأنه توظيف مئات الرجال، وهذا يعني ملايين الدولارات للمجتمع المحلي؛ وهنا يظهر السؤال التالي: هل ستتعاون السلطات المسئولة عن الطرق لجعل هذا ممكنًا؟
أجاب السيد بنزنجر أن السلطات بالطبع تريد فعل كل شيء من أجل تحقيق تلك الغاية؛ فهذا هو الغرض من وجود أفرادها في وظيفتهم، لكن المشكلة كانت أن اكتشاف النفط في حقل «بروسبكت هيل» تسبب في عدم وجود أي أموال مخصصة للأعمال التي تتطلب سرعة في التنفيذ. قال الأب إن هذا قد يكون صحيحًا، لكن لا بد أن تكون هناك طريقةٌ ما للتعامل مع مثل هذا الموقف، فعلى الجميع أن يتعاونوا معًا.
تردد السيد بنزنجر وسأل السيد روس عما يريده بالضبط. ومن ثَمَّ حدد له الأب قطع الأرض التي كان يوشك على الحفر فيها، ورسم خريطة صغيرة توضح الشوارع التي تحتاج إلى تمهيد، والحفر التي تحتاج إلى أن تُملأ بالحجارة المسحوقة، حتى تتمكن عتباته الخشبية من الوصول مساء يوم الخميس. قال السيد بنزنجر إنه ربما يمكن ترتيب ذلك، وطلب من سكرتيره، الشخص الآخر الوحيد في الغرفة، أن يخرج ويطلب من السيد جونز الحضور، أدرك الأب معنى ذلك التصرف، وبمجرد أن ذهب السكرتير، أخرج من جيبه رزمةً صغيرة من النقود، مشيرًا إلى أن السيد بنزنجر سيُضطَر إلى العمل لوقتٍ إضافي في هذا الشأن، وسيواجه مشكلات ونفقاتٍ إضافية؛ لذا كان من العدل أن يعوضه الأب، وكان يأمل أن يفهم السيد بنزنجر أنه سيكون بينهما الكثير من التعاملات في المستقبل؛ فقد كان الأب يؤمن بالاعتناء بأصدقائه. وضع السيد بنزنجر النقود بهدوء في جيبه، وقال إنه يفهم الوضع تمامًا، وإن سلطات المقاطعة ترغب في تقديم كل مساعدةٍ ممكنة للرجال الذين يأتون لتنمية المجتمع المحلي وصناعاته، ويستطيع الأب أن يعوِّل على أن العمل في تلك الشوارع سيبدأ في الصباح.
عندئذٍ تصافحا، وخرج الأب وباني، وأخبر الأب باني أنه يجب ألَّا يذكُر تحت أي ظرف من الظروف ما رآه في ذلك المكتب؛ لأن كل موظفٍ حكومي لديه أعداء يحاولون الاستيلاء على وظيفته، وسيحاولون جعل النقود التي دفعَها الأب له أن تبدو كأنها رشوة. لكنها بالطبع لم تكن كذلك على الإطلاق؛ فوظيفة الرجل تتمثل في تصليح الطرق، وما قدَّمه له الأب كان مجرد إكراميةٍ بسيطة، على سبيل الشكر، إن جاز التعبير، فلم يكن من اللائق ألَّا يعطيه شيئًا؛ لأنه كان سيجني الكثير من المال، بينما كان يتعين على هؤلاء المساكين أن يعيشوا بمرتباتٍ ضئيلة للغاية. لا شك أن السيد بنزنجر كان لديه زوجة وأطفال في المنزل، وأنهم كانوا غارقين في الديون، وربما كانت زوجته مريضة، وليس لديهم وسيلة لدفع أجرة الطبيب. وكان على الرجل البقاء لوقتٍ متأخر في مكتبه، والخروج الليلة ودفع بعض الرجال لإنجاز هذه المهمة، وربما يوبِّخه رؤساؤه لتصرُّفه دون صلاحيات؛ فلا شك في أن الرؤساء كانوا يعملون لحساب بعض الشركات الكبرى، التي لم تكن تريد بناء طرق إلا لعقود الإيجار الخاصة بها. قال الأب إنه كان هناك العديد من المخططات السرية التي يجري تنفيذها؛ لذا عليك أن تكون يقظًا طوال الوقت. لا تتخيل أبدًا أنه سيُسمح لك بالدخول إلى مكانٍ جديد، واستخراج ثروةٍ تُقدَّر بعدة ملايين من الدولارات من الأرض، دون أن يحاول الجميع أخذها منك!
بدا كل هذا منطقيًّا، واستمع باني للأب وهو يؤكد على حكمته المفضلة: اعتنِ بأموالك! فقد يتعرض الأب لحادثٍ يومًا ما، حينئذٍ سيتولى باني على عاتقه مسئولية كل شيء؛ ولذلك عليه أن يدرك أن الأشخاص الذين يقابلهم قد يحاولون، بطرق ماكرة، الاستيلاء على أمواله. استحثَّ هذا الكلام باني على أن يُعلِّق، ليس معارضة لنقاشات والده، ولكن لمجرد وضع الأمور في نصابها الصحيح في عقله: «لكن هل تتذكر يا أبي ذلك الصبي الذي يدعى بول؟ بالتأكيد لم يكن يحاول الحصول على أموالنا؛ لأنني عرضتُ عليه بعضًا منها، ولم يقبلها، ورحل ولم أقابله مرةً أخرى.»
قال الأب: «نعم، أعلم، لكنه أخبرك أن عائلته بأكملها مجنونة، وأنه أيضًا مجنونٌ مثلهم ولكن بطريقةٍ مختلفة قليلًا، هذا كل ما في الأمر.»
٣
كانت هذه معضلةً أخلاقية أخذ باني يفكر فيها في نفسه: هل كان بول واتكينز مجنونًا، بسبب الطريقة التي كان يتصرَّف بها؟ وإن كان كذلك، فلا بد أن هناك نزعةً جنونية لدى باني أيضًا؛ لأنه كان معجبًا بشدة ببول، ولم يستطع التوقف عن التفكير فيه. وتكريمًا لحس بول الأخلاقي، قرَّر باني أنه لن يسمح لنفسه بالكذب، حتى في الأمور التافهة. كذلك، تسبَّب لقاء بول في إدراك باني المفاجئ للحياة الرغدة التي كان يعيشها. في صباح اليوم التالي مباشرةً، عندما فتح عينَيه، وهو يرقد على مرتبةٍ سميكةٍ وثيرة في سرير الفندق، بأغطيته الكتانية الثقيلة الشديدة النعومة والبياض، وبطانياته الدافئة، الناعمة مثل الصوف، والمخطَّطة بلون الفراولة الناضجة، خطر بباله على الفور ما يلي: كيف نام بول ليلته هذه، بلا مأوًى وبلا غطاء؟ هل استلقى على الأرض؟ لكن الجدة، إذا رأتك حتى جالسًا على الأرض في المساء، فستصرخ قائلةً: «ستُصاب بالبرد!» وبالأسفل، في غرفة الطعام الفسيحة بالفندق، أفسدَت فكرة عدم حصول بول على وجبة الإفطار طعم فاكهة الجريب فروت في الثلج المجروش، ورقائق الذرة والقشدة السميكة، واللحم المقدَّد والبيض، وكعك القمح مع شراب القيقب. قد يتضوَّر بول جوعًا؛ لأن كبرياءه يمنعه من تناول طعام لم يحصل عليه من ماله الخاص، وبالرغم من الحياة المريحة التي كان يعيشها باني، فقد شعر بانجذابٍ غريب نحو هذا الناسك الزاهد في الملذات المادية!
في صباح اليوم التالي للاجتماع بمنزل السيدة جرورتي، كان باني يجلس تحت شجرة نخيل أمام الفندق، على أمل أن يأتي بول. لكن بدلًا من ذلك، أتت السيدة جرورتي وزوجها، وأحضرا معهما السيد دمبري، يتبعه السيد بروملي وزوجته، مع صديقَيهما المؤقتَين الخياطَين اليهوديَّين. كان وفدًا من «أصحاب قطع الأراضي المتوسطة»، جاء ليوضِّح أنهم واصلوا اجتماعهم حتى الساعة الواحدة صباحًا، وقرَّروا إلغاء عقدهم الجماعي، والحصول على عقودٍ فردية، والآن كان «أصحاب قطع الأراضي المتوسطة» يريدون من الأب أن يؤجر أراضيهم. أخبرهم باني أن الأب كان في حقل النفط مع الجيولوجي، وبإمكانهم انتظاره، لكن باني كان يعلم مدى إصرار الأب بشأن الآبار الفرعية المقابِلة؛ لذلك لم تكن هناك فرصة لقبوله عقود إيجارٍ فردية.
بعد ذلك، جلس باني على مقعد بجوار السيدة جرورتي، بغرض معرفة ما إذا كان بول قد أظهر نفسه لها. واعترف باني لها بأنه ارتكب خطأً فادحًا أمس؛ إذ لم يتمكن من أن يوصد باب المطبخ بعد النظر من الشرفة. واتباعًا لقراره بقول الحقيقة كاملة، أوضح أن شخصًا ما قد دخل مطبخها وأخذ بعض الطعام، لقد وعدَه باني بعدم الكشف عن هُويته، لكنه كان شخصًا جائعًا جدًّا، وشعر باني بالأسف حيال ذلك. وهنا جذب حقيبته الصغيرة ليدفع ثمن هذا الطعام إذا سمحَت له السيدة جرورتي بذلك.
تألق وجه السيدة جرورتي سرورًا لرقة مشاعر الطبقة الأرستقراطية؛ كانت قد أُعجِبَت بهذا الصبي الغريب، الذي كان في غاية الوسامة، بشفاه حمراء صغيرة مثل شفاه الفتيات، وفي الوقت ذاته كان يتمتع بأخلاق ماركيز مسن، أو ما شابه ذلك، حيث كانت السيدة جرورتي قد عرفت هؤلاء الأشخاص من الأفلام. رفضت ماله، وفكرت في الوقت ذاته في أنه شيء مؤسف للغاية أنها لم تصبح ثرية في وقت أبكر من حياتها، حتى يتمكن أطفالها من ارتداء مثل هذه الملابس الجميلة، وتعلم التعبير عن أنفسهم بكياسة عتيقة الطراز!
بعد يومين أو ثلاثة أيام، بينما كان باني يستكشف «حقل النفط»، ويشاهد المناظر المثيرة للاهتمام، تصادف مروره بمنزل آل جرورتي، ورأى ملكة النفط المستقبلية تطعم أرانبها. نادته قائلة: «أيها الصبي!» وعندما اقترب باني، قالت: «تلقيتُ رسالة من بول.»
صاح باني بحماسة: «أين هو؟»
«أُرسلت الرسالة من سان باولو. لكنه يطلب ألا نبحث عنه، لأنه يتنقل بسيارات الغرباء وسيرحل.»
«وكيف حاله؟»
«يقول إنه بخير، ولا داعي للقلق. أرسل لي الصبي المسكين طوابع بريد بقيمة ربع دولار، ليدفع ثمن الطعام الذي أخذه! ويقول إنه اكتسب هذا المال، فليباركه الرب!» سالت الدموع على خدَّي السيدة الكبيرين، وتعلم باني درسًا صعبًا مفاده أن الطبيعة البشرية شيء معقد؛ فالسيدة السمينة نفسها يمكن أن تكون امرأة جشعة في لحظة، وفي اللحظة التالية أمًّا مكلومة.
جلس هذان الاثنان على قفص الأرانب، ودار بينهما حديث طيب. أخبر باني السيدة جرورتي بكل ما حدث، وشعر براحة بعدما تخلص من تأنيب ضميره. أخبرته السيدة جرورتي بدورها عن عائلة واتكينز، وكيف انتقلوا من أركنساس، حيث سافروا بالطريقة القديمة، بالعربة، عندما كانت السيدة جرورتي فتاة صغيرة، وقبل ذلك، عندما كانت رضيعة تُحمَل، انتقلت من جبال تينيسي. كان مسكنهم في بارادايس، في ريف سان إليدو، عبارة عن مزرعة مَعْز، بها ينبوع في وادٍ صخري صغير، لم يكن هناك سوى بضعة هكتارات صالحة للزراعة، وكان جزء منها يحتاج إلى ضخ مياه الري يدويًّا. كان ريفًا صحراويًّا، ولم تكن تدري كيف يمكنهم العيش دون عمل بول؛ لذا كانت ترسل لهم القليل من المال الذي حصلَت عليه من النفط، لكنها لم تكن تعرف ما إذا كان شقيقها آيبل — والد بول — سيقبل منها أي شيء؛ فقد كان مهووسًا بدينه.
سألها باني عما إذا كان دائمًا «يتدحرج على الأرض»، أجابته بالنفي؛ فقد كان فكرًا تبنَّاه قبل بضع سنوات فقط. أما السيدة جرورتي، فعندما تزوَّجَت من زوجها الحالي، قبل ثلاث سنوات، اطمأن قلبها للإيمان الحقيقي الذي لا يتغير عَبْر العصور؛ كان إيمانًا يبعث على الراحة، ويدعك وشأنك، دون أن يفرض عليك مفاهيمَ جديدةً مجنونةً أو يدعو إلى الانقسام إلى طوائف. كانت لديهم كنيسةٌ جميلةٌ في بيتش سيتي، وكان الأب باتريك ذا قلبٍ طيب وصوتٍ قويٍّ ورائع؛ حينئذٍ سألت باني عما إذا حضر يومًا قداسًا كاثوليكيًّا. ردَّ باني بالنفي؛ حينئذٍ كان من الممكن أن تعتبر السيدة جرورتي نفسها قد وجدَت شخصًا وسيمًا وثريًّا مستعدًّا لتغيير دينه، لولا أنها كانت في ذلك الوقت تتعرض لإغراءٍ شديد من قِبل قوى هذا العالم.
نعم، لقد أحضرها الشيطان إلى هناك، وجعلها تجلس فوق قفص الأرانب، وكان يريها جميع ملذات الحياة! وعلى الجانب الآخر من الشارع، عند رقم ٥٧٤٣ بجادة لوس روبلس، كانت نقابة كاوتش قد نصبت خيمةً كبيرة، وعلَّقَت عليها لافتاتٍ حمراء، وكانت السيارات تمُر طوال اليوم، وكان الناس يشترون «وحدات» بسعر عشرة دولارات للوحدة. وأوضحَت السيدة جرورتي أن جماعة مالكي «قِطَع الأراضي المتوسطة» لم تؤجِّر أراضيها بعد؛ عُرضَت عليهم عروضٌ عديدة، أفضلُها من سليبر وويلكينز، وهنا سألَت باني عما إذا كان قد سمع أي شيء عن هذَين الشخصين. وإذا كان الأب قد قرَّر حقًّا أن أفضل الاحتمالات للعثور على النفط يكمن في الجانب الشمالي. كانت السيدة جرورتي وزوجها يفكران في وضع نصيبهما في الأرباح، عندما يحصلان عليه، في بعض وحدات شركة يوريكا للبترول، التي كانت تَعِد بإجراء عمليات حفر سريعة في المنحدر الشمالي. وفجأةً وجد باني نفسه يتذكَّر تحذير الأب: «احذر من الأشخاص الذين يُحاوِلون استغلالك!»
٤
أرسل السيد بنزنجر شاحنتَين محملتَين بالمكسيكيين وأصلح الطرق، وأوفى السيد أسكوت بوعده وسلَّم الخشب اللازم لبناء برج الحفر، وجمع كبير النجارين لدى الأب أفراد طاقمه، وحفروا تجاويف مستطيلة في العتبات لتعشيقها ببعضها، وثقبوها، وثبتوها بالمسامير، وشيئًا فشيئًا وصل ارتفاع برج الحفر الشاهق إلى ١٢٢ قدمًا، حيث كان ينتصب مستقيمًا ومتينًا وصلبًا. كان هناك سلم، وبسطة في منتصفه، ومكان آخر للوقوف بالأعلى، كان كل شيء جميلًا ونظيفًا وجديدًا، وكان الأب يسمح لباني بالتسلق؛ للاستمتاع برؤية المنظر الرائع من فوق المنازل والأشجار، حتى مياه المحيط الهادي الزرقاء؛ يا إلهي، كان هذا رائعًا! ثم عند غروب الشمس، جاء أسطول الشاحنات، محدِثًا صوتًا مدويًا، ومغَبرًا وملطَّخًا من أثَر السفر، ولكنه كان مفعمًا ﺑ «الحيوية»، بالنظر إلى الجلَبة التي صنَعها، حيث أطلق أبواق الشاحنات تحيةً لجيه أرنولد روس وابنه. امتلأَت الحفرة على جانب الطريق بالصخور المسحوقة، مما جعل الطريق ممهدًا للقيادة نحو حقل النفط، وتوقفَت هناك اثنتا عشرة شاحنة في صفٍّ واحد.
كانت هناك مصابيحُ كهربائيةٌ ساطعة على برج الحفر، ورجال ينتظرون، وأكمام قمصانهم الكاكية مطوية. لقد ذهبوا إلى هناك بعزم وتصميم؛ لأنهم كانوا يعملون تحت إشراف «الرجل الكبير»، المسيطر على أجورهم ومصائرهم. لقد احترموا هذا «الرجل الكبير» لأنه كان يعرف عمله، ولا يمكن لأحد أن يخدعه. كما أنهم أحبوه؛ لأنه كان يتمتع بقدْرٍ معقول من اللطف بجانب صرامته؛ فقد كان بسيطًا ومتواضعًا، فعندما كانت الأعمال تتراكم عليه، كان بالإمكان رؤيته يأكل الفاصوليا ويحتسي القهوة على كرسي بجوارك، في أحد المطاعم التي تقدِّم الوجبات الرخيصة. لقد كان «رجلًا حقيقيًّا»، وكان يتمتع بالإضافة إلى ذلك بسحر رجلٍ غني. نعم، كان يملك «المال»، الكثير منه، ولكن لا يمكن مقارنة الساحر الذي يسحب الأرانب والشريط الطويل من كُمَّيه، بمن يمكنه توفير عشراتٍ من أبراج الحفر، وأنابيبِ دعمٍ فولاذية بطول عدة أميال، وخزانات، وأساطيل من الشاحنات وطرق لتسير عليها.
كما أحبوا «الصبي»؛ لأنه كان متواضعًا مثل والده، وكان مرحًا ومهتمًّا بما تفعله، ويطرح أسئلةً منطقية ويتذكَّر إجاباتك. نعم، بإمكان طفلٍ كهذا تعلُّم المهنة ومواصلة مسيرة والده، وكان الرجل الكبير يُحسِن تعليمه كل شيء. كان يعرف جميع أفراد طاقم العمل بأسمائهم الأولى، وكان يضحك على مزاحهم، وكانت لديه بدلةٌ قديمةٌ ملطخة بالشحم يرتديها؛ لتأدية أي وظيفة يمكنه الاضطلاع بها.
لكن لم يكن هناك وقتٌ للمزاح الآن، كان وقت تحطيم الأرقام القياسية. كانت هناك كتلةٌ أسمنتيةٌ كبيرة مخصصة للمحرك، فوقها كتلةٌ خشبية لامتصاص الاهتزازات، وتراجعَت الشاحنة التي تحمل المحرك حتى توقفَت في المكان الصحيح، ووُضِعَت حواجز خلف الإطارات لضمان عدم تحركها، وفي لمح البصر، انزلق المحرك، على الألواح الخشبية المثبتة بإحكام، إلى مكانه وأصبح جاهزًا للعمل. في الوقت ذاته، جهَّز طاقمٌ آخر غلاية البخار الكبيرة. وكان هناك خزان من زيت الوقود، وبمجرد توصيل أنبوب التغذية، أصبحَت الغلاية جاهزة للعمل. في غضون ذلك، تراجعَت الشاحنة التالية وتوقفَت في المكان المخصَّص لها، وانزلقَت «معدات الرفع» على الألواح الخشبية، وعندما عاد باني في صباح اليوم التالي، وجد «أسطوانة كَبْل الرفع» الكبيرة مثبَّتة في مكانها، وكذلك كانت البكرة المتحركة مثبَّتةً أعلى برج الحفر، وكانوا يُفرغون الشاحنة التي تحمل «عمود الحفر». كانوا سيضعون سلسلة من الفولاذ حول ثلاثة من الأنابيب الثقيلة في وقتٍ واحد، ثم يوصلون السلسلة بخطافٍ فولاذي يتدلى من بكرة، ثم يبدأ المحرك في العمل محدثًا صوتًا عاليًا، حتى تصبح السلسلة والكَبْل الفولاذي مشدودَين بقوة، وينزلق الأنبوب من الشاحنة. كان طول كل أنبوب من هذه الأنابيب عشرين قدمًا، ووزنه تسعة عشر رطلًا لكل قدم؛ أي عندما يكون لديك بئر عمقها ميلٌ واحد، سيكون هناك خمسون طنًّا من الفولاذ، وكان على برج الحفر أن يحمل هذا الوزن، وعلى الكَبْلات الفولاذية رَفْعه، وعلى أسطوانة الكَبْل والمحرك تحمُّل الضغط. كان الناس يعبِّرون عن عدم رضاهم عن سعر البنزين، لكنهم لم يفكروا قطُّ في سعر عمود الحفر وأنابيب الدعم!
كان باني قد سمع كل هذه الأشياء مائة مرة من قبل، لكن الأب لم يتعب قَط من قولها. ولم يكن يشعُر بالرضا التام ما لم يكن الصبي بجانبه، ليتعلم كل ما يخص هذا المجال. ويجب ألا تخدع نفسك بفكرة أنه يمكنك تعيين خبراءَ للاهتمام بالأشياء، فكيف يمكنك معرفة أن الرجل خبير في أمرٍ ما، ما لم تكن تتمتع بنفس القَدْر من الخبرة؟ فيومًا ما قد يموت رئيس عمالك، أو يأخذه منك رجلٌ آخر بمبلغ أكبر مما تعطيه له، حينئذٍ ماذا ستفعل؟ ولذا عليك أن تكون خبيرًا في عملك، كما يقول الأب!
كانت الآلة التي تضطلع بالدوران تُسمَّى «الطاولة الدوارة»، وكانت متصلة بالمحرك بسلسلة فولاذية، مثل ترس الدراجة المسنن بالضبط، إلا أن وصلات تلك السلسلة كانت بحجم قبضة يدك. كان بالطاولة الدوَّارة ثقب في المركز، يمُر من خلاله عمود الحفر، وكان هناك ثقبٌ مماثل في أرضية برج الحفر، وقريبًا سيكون هناك ثقب في الأرض! كان الثقب في الطاولة الدوَّارة مربعًا، وكان عمود الحفر العلوي، المعروف باسم «عمود كيلي»، مربعًا، ويتناسب مع هذا الثقب؛ حيث يمكنك إنزاله فيه، ولكن عليك أولًا إحكام ربط «الوصلة القارنة» و«المثقاب»، وهو الأداة التي كانت فعليًّا تحفر الأرض. بدءوا ﺑ «مثقابٍ قرصي» يتكون من قرصَين من الصلب يشبهان أطباق العشاء، موضوعَين متقابلَين، وأثناء دورانهما، كان وزن الأنبوب يتسبب في اختراقهما للأرض. إذا بدأتَ الحفر ﺑ «مثقاب» يبلغ قطره ثماني عشرة بوصة، فمع دورانه ستحصل على حفرة قطرها قدمان.
جاء وقت تركيب الأداة الأخيرة، وإحكام ربط المسمار الأخير، وأصبحَت أدوات الحفر جاهزة لرحلتها الطويلة في أحشاء الأرض. كانت لحظةً عظيمة، أقرب ما تكون إلى تدشين سفينة، أو تنصيب أول رئيس لجمهورية. اجتمع الأصدقاء والعمال من مناطق العمل المجاورة، وحشدٌ من المتفرجين. كان الطاقم يكافح لمدة ثلاثة أسابيع، وكان هذا هو هدفهم، والآن وقف عمال نوبة النهار ونوبة الليل، فخورين بما أنجزوه، ومتشوِّقين لما سيحدث مستقبلًا. كانت يد العامل المسئول عن تشغيل المحرِّك على الذراع وعينه على الأب، أومأ له الأب، فدفع الذراع، وبدأ المحرك في العمل، وأحدثَت التروس جلبةً مدوية، وارتطم المثقاب بالأرض مُصدرًا صوتًا يشبه كلمة spud (التي تعني «حفر» بالإنجليزية) أو على الأقل هذا ما تخيَّل الرجال سماعه؛ ولذلك كانوا يطلقون على العملية اسم «الحفر الأوَّلي». وغنى رئيس العمال أغنية «ليصعد الجميع للتوجه إلى الصين!» (أول أبورد فور تشاينا!)، وصافح كل مَن كانوا نظيفي الأيدي الأب، بما في ذلك السيد بانكسايد، الذي كانوا يحفرون أرضه، والسيدة بانكسايد وجميع أفراد عائلة بانكسايد. رافقوا الأب وباني إلى منزلهما، الذي كان في عقد الإيجار، وفتحوا زجاجة شمبانيا، وشربوا رشفةً صغيرة في صحة بئر روس-بانكسايد رقم ١، الذي وصل بالفعل إلى عمق ستِّ أقدام.
٥
كان الجو لطيفًا على الشاطئ في الصيف، أما عند نهر لوبوس فكان الجو شديد الحرارة؛ لذلك قرَّرَت العائلة أن تنتقل. لم يضيِّع الأب الكثير من الوقت في مثل هذه المسألة، وذهب إلى مكتب وكيل عقارات، وطلب أفضل منزلٍ مفروش في البلدة، وتوجَّه إلى منزلٍ يشبه القصر مُطلٍّ على المحيط، وألقى نظرةً عليه، وعاد إلى المكتب ووقع عقد إيجار لمدة ستة أشهر مقابل ألفين وخمسمائة دولار.
كان هذا المنزل مطليًّا من الخارج بجص موضوع على سلك ذي فتحاتٍ صغيرة، أو ما شابه ذلك؛ ومن الداخل، كان المنزل براقًا مثل بيت السيدة جرورتي، إلا أن التموجات كانت تشبه خشب الماهوجني وليس خشب البلوط. كان هناك بهوٌ كبير، وقاعة استقبال على أحد الجانبَين، وعلى الجانب الآخر غرفة طعام، مزوَّدة بتجهيزاتٍ عصريةٍ مدمَجة متقنة الصنع. وأضاف المالك إليها أثاثًا دون أي اعتبار للتكلفة أو الحقبة الزمنية، تضمَّن: أثاثًا فرنسيًّا مذهبًا بأرجلٍ طويلة ونحيفة، مكسوًّا بحرير عليه زهور، وأثاثًا من خشب الجوز الأسود الأمريكي من منتصف القرن، مزينًا بحلي على شكل زهور، وأثاثًا من خشب الساج الصيني الأسود، محفورًا عليه أشكال تنانين. وكانت هناك تماثيل لسيداتٍ عاريات، من الرخام المصقول بعناية، وكذلك تمثالٌ رخامي لكاهن يرتدي رداء رجال الدين وربطة عنقٍ رفيعة على شكل فراشة. كان الطابق العلوي يحتوي على ست غرف نوم، كل غرفةٍ منها مطلية بلونٍ مختلف اختارته سيدة من أفضل متجر في البلدة. ربما رأى بعض الناس أن المكان يفتقر إلى الطابع الأسري، لكن باني لم يفكِّر قط في شيء كهذا؛ فقد تعلم أن يكون سعيدًا في غرفة بفندق، مستعينًا بالبهو. فطوال حياته، بقَدْر ما يمكن أن يتذكَّر، كان البيت مكانًا يمكن استئجاره أو شراؤه باعتباره استثمارًا مستقبليًّا. ومثلما يقتل الهنود في ريف خليج هدسون أيلًا في فصل الشتاء، ويتنقَّلون حيث تتواجد الأيائل، كان الأب يبدأ في حفر بئر النفط، ثم ينتقل حيث تُوجد البئر.
جاء أولًا السيد إيتون، المدرس الخصوصي؛ فقد كان معتادًا على تلقي مكالمةٍ هاتفية لإعلامه بمكان جثة الأيل. كان يحزم حقيبتَي سفره وصندوق ثيابه ويستقل القطار أو الحافلة للذهاب إلى تلميذه. كان شابًّا لطيفًا إلى حدٍّ ما، وخجولًا للغاية، وله عينان زرقاوان شاحبتان، وجيوبٌ متدلية لأنه كان يضع الكتب فيها. وقد وُظِّف بشرط أن يراعي القيد الصريح الذي يتمثل في أن النفط أهم من التعلُّم؛ بعبارةٍ أخرى أنه كان عليه أن يدِّرس لتلميذه في الأوقات التي لم يكن الأب يفعل فيها ذلك. لم تكن لدى الأب رؤيةٌ واضحة بشأن موضوع المعرفة المستقاة من الكتب؛ ففي بعض الأحيان كان يقول إن الأمر كله «هُراء»، ولكن في أحيانٍ أخرى كان يشيد بها بداعي الحرج. بالطبع؛ فقد كان «عامل نفط»، وكان على باني أن يكتسب من المعرفة أكثر منه، لكنه في الوقت ذاته كان يشعر بالغَيرة من تلك المعرفة، ويخشى من أنها قد تكون شيئًا لا يلقى استحسانه. كان محقًّا في هذا الشأن؛ لأن السيد إيتون أخبر باني بكل صراحة أن هناك أشياء في العالم أهم من النفط.
جاءت بعد ذلك سيارة العائلة الليموزين، تستقلها الجدة والعمة إيما، ويقودها رودولف، الذي كان يعمل سائقًا وبستانيًّا في آنٍ واحد، ويمكنه أن يرتدي معطفًا طويلًا ليصبح كبير الخدم في الحفلات. بجانبه على المقعد الأمامي ركب سينج، الطباخ الصيني، الذي كان يحظى بمكانةٍ كبيرة للغاية عند العائلة؛ ولذلك لم يتركوه يستقل حافلة أو قطارًا. أما نيلي، الخادمة، فكان من السهل استبدالها؛ لذا جاءت بمفردها. وجاءت الصناديق والأغراض المتنوعة على متن شاحنة، ومنها: دراجة باني وصندوق قبَّعات العمة إيما، وأعمال الجدة الفنية الثمينة.
كانت السيدة روس العجوز تبلغ من العمر خمسة وسبعين عامًا، وكانت في الأيام الخوالي، قبل اختراع السيارات والهواتف والآلات، تعيش حياة امرأةٍ مُزارِعة. كانت قد عانت معاناةً شديدةً من الفقر، وكوَّنَت أسرة، وشهدَت وفاة ابنتها أثناء المخاض، ووفاة ابنٍ لها من التيفوئيد أثناء الحرب الإسبانية، ووفاة ابنٍ آخر بسبب إدمان الخمر؛ والآن كان «جيم» هو كل ما تبقى لها، وقد أصبح ثريًّا في وقتٍ متأخر من حياته، وجعلها تشعر بالرفاهية في نهاية حياتها. وربما تُمضي وقتًا طويلًا في تخمين كيفية استفادتها من هذا الأمر. فجأةً، أعلنَت أنها ستصبح رسامة! كانت، على ما يبدو، تحتفظ بهذا الحُلم طيلة ستين عامًا، بينما كانت تغسل الأطباق، وتوبِّخ الأطفال، وتجفِّف المشمش والعنب.
لذا الآن، أينما سكنوا، تتخذ الجدة من أي غرفةٍ شاغرة «مرسمًا» لها. وقد تعلمَت على يد فنانٍ متجول كيفية التعامل مع الألوان الخام والألوان الزاهية. كان هذا الفنان قد رسم غروب الشمس في الصحراء وجبال كاليفورنيا وسواحلها الصخرية، لكن السيدة روس العجوز لم ترسم قَط أي شيءٍ كانت قد رأته من قبلُ. فقد كانت تهتم بالأشياء التي تنتمي للطبقة الأرستقراطية، مثل الحدائق والمروج والطرق الظليلة التي فيها سيدات يرتدين تنانيرَ مطوقة، ورجال نبلاء يرتدون سراويل ذات أرجلٍ واسعة. كان مقاس تحفتها الفنية ست أقدام في أربع أقدام، وكانت تُعلَّق دائمًا في غرفة طعام المنزل المستأجر، كانت خلفية اللوحة منزلًا أنيقًا للغاية من طابقَين، وفي كل طابق شرفةٌ لها أعمدةٌ مزيَّنة بنقوش يمكنك رؤيتها بوضوح. في المقدمة، كان هناك ممَر عرباتٍ دائري، في منتصفه نافورة، يتناثر منها الماء بوضوحٍ تام. كانت تسير في هذا الممَر عربةٌ فيكتورية مكشوفة — أو ربما كانت عربة لاندو أو بروشة — يستقلها رجل وامرأة ويقودها حوذيٌّ زنجي. خلف المركبة كان يركض كلبٌ صغير، وصبي يلعب على المرج برفقة فتاة ترتدي تنورةً واسعة وتمسك طوقًا في يدها. وكان هناك أيضًا غزالٌ حديدي على المرج، وكان من المستحيل أن تسأم من النظر إلى هذه اللوحة؛ لأنك ستعثر دائمًا على شيءٍ جديد فيها، كان الأب يعرضها على الزوار ويقول: «أمي رسمت هذه اللوحة، أليست معجزةً أن تفعل ذلك امرأةٌ في الخامسة والسبعين من عمرها؟» وكان الوكلاء الذين يأتون بعروض إيجار، أو المحامون الذين لديهم أوراق تحتاج إلى مراجعة، أو رؤساء العمال الذين يمُرون لتلقي الأوامر، يفحصونها بعناية، ويتفقون دومًا مع رأي الأب.
كانت العمة إيما أرملةَ الابن الذي مات بسبب إدمان الخمر، وقد تمكَّنَت هي أيضًا من العيش برفاهية في وقتٍ متأخر من حياتها. لم يفرض الأب أي قيودٍ مادية على السيدتَين؛ لذا كانتا تحصِّلان كل ما تريدان، حتى إنهما كانتا تحرِّران شيكات من حسابه البنكي. وهكذا كانت العمة إيما تذهب إلى أرقى المحلات لشراء الثياب، وتخرج بها للتأكيد على مكانة عائلة روس في البلدة أو المدينة التي يسكنون فيها. كانت هناك نوادٍ للسيدات، وكانت العمة إيما تحضر فعالياتها، وتستمع إلى الشخصيات المؤثِّرة التي تنهض وتقول: «سيدتي الرئيسة»، وتقرأ أبحاثًا عن «العنصر الأنثوي في مسرحيات شكسبير»، و«القيمة العلاجية للتفاؤل»، و«ما يجب علينا فعله من أجل شبابنا». كانت السيدتان تقيمان حفلة شاي مرةً كل شهر، ودائمًا ما كان الأب ينشغل في عصر ذلك اليوم في «حفر» بئرٍ جديدة، أو «سد البئر بالأسمنت»، وهي مهمةٌ صعبة كان يتعيَّن عليه توليها بنفسه.
كانت العمة إيما تتردَّد بشكلٍ خاص على أنضاد متاجر بيع الأدوية؛ حيث يبيعون مستحضرات التجميل، وكانت تعرف بالاسم الشابات اللاتي كن يعملن هناك، كما أنها كانت تعرف أسماء أحدث المنتجات التي كانت تُعرض هناك، وكانت تنطق أسماء المنتجات الفرنسية بطريقةٍ أمريكيةٍ بسيطة دون الشعور بأي خجل، حيث كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها البائعات الشابات معرفة ما تعنيه. كانت تسريحتها مغطاة بصفوف من الصناديق الصغيرة الرقيقة والجِرار والزجاجات، التي تحتوي على صبغات ومساحيق وعطور ومعاجين تجميل ومواد مُلمِّعة، وأشياءَ أخرى لم يعرف بشأنها سواها. كانت إحدى ذكريات باني الأولى عن العمة إيما، وهي تجلس على كرسي، وتبدو مثل ببغاء ضخم، مُسرَّج. فقد كانت لم تفرغ بعدُ من ارتداء ملابسها بالكامل، ولم تلتفِت إلى وجوده؛ لأنه كان صغيرًا جدًّا؛ لذلك لاحَظَ كيف كانت الحبال والأربطة تلتف حول جسدها مثل الدرع؛ حيث كانت ترتدي مشداتٍ ضيقة، ووسادتَين واقيتَين تمنعان ظهور العرق على الملابس، ورباطَين جانبيَّين لتثبيت الجوربَين، وحذاءً طويلًا مربوطًا بإحكام. كانت تجلس منتصبةً وفي منتهى الجدية، حيث كانت تضع المساحيق على خدَّيها وحاجبَيها، وتربِّت على بشرتها بقطعٍ قطنيةٍ صغيرةٍ مخضَّبة بمسحوقٍ ورديٍّ وأبيض، وفي الوقت ذاته تُخبر باني عن زوجها، المتوفَّى منذ سنواتٍ عديدة. فقد كان يتمتع بالكثير من الفضائل، بغَض النظر عن عيبه الفاجع الوحيد، وكان طيب القلب، وفي غاية اللطف والكرم، واستطردَت العمة إيما كلامها قائلة: «نعم، نعم، لقد كان رجلًا طيبًا، أتساءل أين هو الآن.» بعد ذلك، ربَّتَت على وجهها، لتمسح الدموع عن خدَّيها ولتجعلهما ورديَّين مرةً أخرى!
٦
بعيدًا في باطن الأرض، أسفل بئر روس-بانكسايد رقم ١، كانت تدور كتلةٌ كبيرة من الفولاذ. السطح السفلي لها مزود بأسنان فولاذية غير حادة، مثل مِبْشرة جوزة الطيب، ويستقر فوقها «عمود الحفر»، وهو أنبوبٌ فولاذي يبلغ طوله بضعة آلافٍ من الأقدام، يضغط عليه عشرون طنًّا؛ ولذلك عندما يدور، يسحق الصخور الصلبة، ليشُق طريقه عبرها. كان يعمل وسط طينٍ رقيقٍ سائل، يُدفَع لأسفل عبر مركز الأنبوب المجوف، ثم يصعد مرةً أخرى بين السطح الخارجي للأنبوب والأرض. كان الهدف من الطين السائل تحقيق ثلاثة أغراض؛ منع سخونة المثقاب وعمود الحفر، ونقل الصخور المسحوقة، وعند ظهوره على الجزء الخارجي من عمود الحفر، يُكدَّس على جدران الحفرة، ويتحول إلى جصٍّ للحفاظ على صلابة الجدران، حتى لا تندفع نحو ساق الحفر. في الأعلى فوق سطح الأرض، كانت هناك «حفرة تجميع» للطين والماء، وماكينة للحفاظ على الخليط، وكانت هناك «مضخَّات للوحل»، تُصدِر ضجة وتنفث، وتدفع الطين داخل العمود تحت ضغط يبلغ ٢٥٠ رطلًا لكل بوصةٍ مربعة. لطالما كان الحفر عملًا قذرًا؛ إذ يسبح المرء في طينٍ رماديٍّ باهت حتى تمام حفر البئر، وبعد ذلك ينزلق في النفط.
وكان أيضًا عملًا باهظ التكلفة. فعليك أن تعلم أن تدوير تلك الأنابيب الفولاذية التي يبلغ وزنها عشرين طنًّا يتطلب قوةً حقيقية، حيث تصبح أثقل كل يوم نتيجةً لزيادة طولها. وعندما كان المحرك البخاري الكبير يبدأ في سحب السلسلة، وتبدأ التروس الفولاذية في إحداث ضجة، كان باني يقف ويستمع بسرور. وكان من شأن عامل الرافعة أن يقول: «يا له من محرِّك! إن قوَّته تبلغ خمسين حصانًا»، ويمكنك تخيل خمسين حصانًا مربوطة بطاولةٍ دوارةٍ قديمة الطراز مزودةٍ بعمود، مثل تلك التي استخدمها أسلافنا لسحب الماء من البئر، أو لتشغيل آلةِ دراسٍ بدائية.
أجل، كان حفر بئر نفط هنا في كاليفورنيا يتكلف مالًا؛ فالأمر لم يكن مثل الحُفر السطحية الصغيرة في الشرق؛ حيث لا تستخدِم في الحفر سوى مجموعةٍ من أدواتك. لكن الوضع مختلف هنا؛ فعليك أن تكون مستعدًّا للحفر بعمق ستة أو سبعة آلاف قدم، مما كان يعني توفير وصلاتِ أنابيبَ يتراوح عددها بين ثلاثمائة وثلاثمائة وخمسين وصلة، وكذلك توفير أنابيب دعم للبئر؛ لأنك لا تستطيع ترك هذه الحفرة طويلًا دون حماية. كانت هناك طبقات من الرمل الناعم يتدفق خلالها الماء، وعند تجاوز هذه الطبقات، سيتعيَّن عليك إنزال أسطوانة من الفولاذ أو الحديد المطاوع، تشبه مدخنةَ موقدٍ طويلة وكبيرة، سيتعين عليك إنزال وصلات الأنابيب واحدة تلو الأخرى، وتثبيتها معًا بإحكام، لمنع تسرُّب الماء، وعند الانتهاء من وضع أنبوب الدعم في الأسمنت، يمكنك بدء الحفر بمثقاب صغير، بقطر أربع عشرة بوصة على سبيل المثال، تاركًا أنبوب الدعم العلوي مستقرًّا بثبات على ما يشبه الرف. ومع استمرار الحفر، سيكون عليك تصغير حجم المثقاب شيئًا فشيئًا، حتى يتقلص حجم الحفرة ليصل إلى خمس أو ست بوصات عند الوصول إلى الرمال النفطية. وإذا كنتَ رجلًا حذرًا، مثل الأب، فستمدُّ كل مجموعة من أنابيب الدعم حتى أرضية برج الحفر، ليصبح لديك أربعُ مجموعاتٍ من أنابيب الحفر في الجزء العلوي من الحفرة، واحدةً داخل الأخرى.
ظل المحرك يعمل ليلًا ونهارًا دون انقطاع، ويسحب السلسلة الكبيرة، وظلت الطاولة الدوَّارة تلُف دون توقف، وشَقَّ المثقاب طريقه في الصخور. ولذلك كان لا بد من وجود نوبتَي عمل، مدة كلٍّ منهما اثنتا عشرةَ ساعة، وبسبب اندفاع العمال المفاجئ للعمل، تشاركوا الأسرَّة بسبب قلة عدد أماكن المعيشة. وكان لا بد من توفُّر طاقم للعمل في الموقع طوال الوقت لمتابعة أعمال الحفر ومراقبتها. فلا بد من إمداد المحرك بالكثير من الماء والوقود والزيت، ولا بد من مراقبة أداء المضخَّة، ودوران الطين السائل، وتناثُر الرذاذ من ماكينة الخلط، والمعدَّل الذي يَحفِر به المثقاب. كان من الممكن وقوع أخطاء في عددٍ لا حصر له من الأشياء، وكانت التكلفة المادية لهذه الأخطاء متفاوتة. وكان من المحتمل أن يستيقظ الأب في أي ساعة من الليل ليعطي أوامر عَبْر الهاتف، أو ربما يرتدي ملابسه على عَجل ويقود سيارته نحو حقل النفط. وفي صباح اليوم التالي، كان من شأنه أن يخبر باني عن الأمر أثناء تناول الإفطار؛ قال له: «إن ذلك المدعو دان روسيجر، رئيس عمال النوبة المسائية، شخصٌ عنيد للغاية؛ إنه يعمل ببطءٍ شديد، وعند التعبير عن انزعاجي، قال: «حسنًا، إذا كنتَ تريد أن ينكسر أنبوبُ الحفر.»» وكان الأب قد ردَّ بقوله: «لا يهمُّني أن ينكسر أنبوب الحفر، أريد منك تسريعَ عملية الحفر.» وبالتأكيد، انكسر أنبوب الحفر على الفور! أقسم الأب أن دان فعل ذلك عن قصد؛ فقد كان هناك أناسٌ يتمتعون بالقَدْر الكافي من اللؤم لفعل ذلك، وبالطبع كل ما كان عليه فعله هو زيادة سرعة المحرك.
على أي حال، انكسر أنبوب الحفر، وهذا يعني إخراج كل بوصة من الأنبوب البالغ طوله ألفي قدم. كان لا بد من سحب الأنبوب وتفكيكه إلى أربع وصلاتٍ في المرة الواحدة، يُطلَق على هذه العملية اسم «التفكيك»، وتوضع كل مجموعة من الوصلات الأربع، التي يُطلق عليها اسم «المنصة»، على برج الحفر في وضعٍ عمودي، ثم يبدأ العمل المرهق. فلا يمكن تحديد مكان الكسر حتى الوصول إليه، حينئذٍ تُفكَّك القطعة المكسورة، ويُلقى بها بعيدًا، وتبدأ المهمة الحقيقية، ألا وهي «اصطياد» ما تبقى من عمود الحفر في الحفرة. ولتنفيذ هذه المهمة، كانت هناك «أداة التقاط قابضة» كبيرة وثقيلة، تشبه مِلْقط الثلج، مزودة بكَبْل لإنزالها في الأنبوب حتى تمسك بإحدى الوصلات عند سحبها لأعلى. لكن ربما تحصل على القطعة المفقودة، وربما لا تنجح في ذلك؛ لذا عليك قضاء الكثير من الوقت في أرجَحَة أداة الالتقاط القابضة لأعلى ولأسفل حتى تعلق بشيء، وتُخرِج ما تبقى من عمود الحفر! ثم تفك القطعة المكسورة، وتضع مكانها قطعة سليمة، وتعيد كل شيء إلى الحفرة، منصة تلو الأخرى، حتى تصبح جاهزًا للبدء مرة أخرى. لكن هذه المرة ستعمل بالمعدل الذي يراه دان روسيجر آمنًا، ولن تتذمر من أدائه حتى لا ينكسر أنبوب الحفر مجددًا.
في تلك الأثناء، كان الأب يقضي يومه في مكتبه الصغير في منطقة الأعمال بالبلدة. كان يعمل لديه كاتب ومحاسب، وكان يحتفظ بجميع سجلات آباره المختلفة. وكان يتردد عليه أشخاص يريدون أن يعرضوا عليه عقود إيجار جديدة، وباعة شباب محتالون ليعرضوا عليه أداة جديدة رائعة تشبه «موسع الآبار»، أو لإقناعه بأن أنابيب الدعم المصنوعة من الحديد المطاوع تدوم لمدة أطول من تلك المصنوعة من فولاذ الزهر، أو ليشرحوا له نموذج المثقاب الجديد الذي كان يسجل أرقامًا قياسية مدهشة في حقل بالومار. كان الأب يقابلهم جميعًا، لاعتقاده أنهم قد يكون لديهم «عرض جيد». ولكن وا أسفاه على الشاب الذي يخطئ في حساب الأرقام؛ فالأب كان يحتفظ بنسخ من «سجلات» جميع آباره، وبإمكانه سحب الدفتر ليوضح للشاب المحرج ما فعله بالتفصيل في نهر لوبوس، باستخدام مثقاب ستابس رقم سبعة الذي يشبه ذيل السمكة.
بعد ذلك يأتي ساعي البريد، جالبًا تقارير من جميع الآبار، وبعدها يملي الأب على كاتبه الرسائل والبرقيات. أو ربما يرن الهاتف وتأتي مكالمةٌ هاتفية للسيد روس من منطقةٍ بعيدة، ويعود الأب إلى المنزل لتناول الغداء وهو يستشيط غضبًا؛ فهناك أنبوبٌ سقط على ذلك الرجل الذي يُدعى إمبي في موقع أنتيلوب، مما أدى إلى حدوث كسر في ساقه؛ ذلك الشاب صاحب الشارب الأسود، هل تتذكَّره؟ تذكَّره باني وقال نعم ذلك الرجل الذي صاح الأب في وجهه. قال الأب: «لقد فصلتُه من العمل، ولكني شعرتُ بعد ذلك بالأسف على زوجته وأولاده؛ ولذلك أعدتُه. لقد وجدتُ ذلك الرجل جاثيًا على ركبتَيه ورأسه عالق بين السلسلة وبكرة السحب، وهو يعلم أنه لا يُوجد لدينا صمام صرف في هذا المحرك! وقال إنه كان يُحاوِل إخراج قطعة من الحبل وعلقَت أصابعه هناك! فما الفائدة من محاولة فعل أي شيءٍ لأشخاص لا يتمتعون بالمنطق السليم الكافي للحفاظ على أصابعهم، فضلًا عن رءوسهم؟ يا إلهي، إنني حتى لا أعلم كيف يعيشون طويلًا حتى تنبُت لهم شواربُ سوداء في وجوههم!» ثم يهتاج الأب على إثر مناقشة موضوعه المُفضَّل، وهو تكاسل الطبقة العاملة التي كان عليه توظيفها. وبالطبع كان لديه هدف من هذه المناقشة؛ فالحفر عملٌ خطر حتى في أحسن الظروف؛ لذا يجب على باني توخي الحذر في أثناء جولاته الاستكشافية أسفل برج الحفر.
عندئذٍ جاءت برقية من نهر لوبوس تعلن عن تعطُّل الحفر في البئر رقم اثنتَين. فقد فقدوا أولًا مجموعة من الأدوات، وبعد ذلك، أثناء تعليق حبل لاصطياد الأدوات من الحفرة، أسقط أحد العمال عتلةً مصنوعة من الفولاذ في الحفرة! كانوا على عمق أربعة آلاف قدم، وتُعتبَر عملية «اصطياد» الأدوات العالقة مهمةً مكلفة على ذلك العمق! بدا أن تلك البئر منحوسة؛ فقد «علقَت» الأدوات ثلاث مرات؛ ولذا كانوا متخلفين ستة أسابيع عن جدولهم الزمني. شعر الأب بالقلق، وكان يتصل بعمال البئر هاتفيًّا كل بضع ساعات في اليوم، لكن لم يُجدِ أي شيءٍ نفعًا؛ فقد حاولوا تجربة أدواتٍ مختلفة، واتصل بهم الأب ليُجرِّبوا أدواتٍ أخرى، لكن دون جَدْوى. فقد انهارت البئر على الأدوات العالقة، وكان لا بد من تنظيف الحُطام واستكمال مهمة اصطياد الأدوات العالقة، وقد تكرَّرَت هذه العملية أكثر من مرة. وبالفعل تمكَّنوا من التقاط الأدوات وإخراجها باستخدام وصلة خلخلة، لكن العتلة كانت لا تزال بالبئر، دون أن تتزحزح من مكانها.
في الليلة الثالثة، قال الأب إنه يظن أن عليه الذهاب إلى نهر لوبوس؛ فقد حان الوقت لوضع أنبوبِ دعمٍ جديد على أي حال، وكان يودُّ الإشراف على هؤلاء الرجال المسئولين عن الأسمنت. قفز باني من مكانه وصاح قائلًا: «خذني معك يا أبي!» قال الأب: «بالتأكيد!» علَّقَت الجدة تعليقها المعتاد عن أن هذا سيتسبَّب في تدهور تعليم باني، وردَّ الأب عليها ردَّه المعتاد بأن باني أمامه حياته بأكملها ليتعلم الشعر والتاريخ، لكن في الوقت الحاضر سينتهز فرصة وجود أبيه ويتعلم منه كل ما يخص النفط. حاولَت العمة إيما حث السيد إيتون على قول شيء للدفاع عن الشعر والتاريخ، لكن المدرس الخصوصي التزم الصمت الحذِر؛ فقد كان يعلم من يتولى زمام الأمور المالية في هذه العائلة! فهم باني أن السيد إيتون لم يكن لديه مانع؛ فقد كان يُعِد أطروحة لنيل درجة الماجستير، وكان يستمتع بقضاء وقت فراغه في إحصاء المقاطع الأخيرة المخفَّفة، في مسرحياتِ بعض كتَّاب فترة ما قبل الحقبة الإليزابيثية.
٧
انطلقا مرةً أخرى إلى الحقل القديم، وتذكَّر باني جميع مغامرات الرحلة الأخيرة، والمكان الذي تناولا فيه الغداء، وما قالته النادلة، والمكان الذي توقفا فيه للتزود بالوقود، وما قاله الرجل، والمكان الذي صادفا فيه «شرطي السرعة». كان الأمر أشبه بالصيد — صيد الأسماك الحقيقية وليس صيد الأدوات العالقة في آبار النفط — فأنت تتذكر المكان الذي اصطدت فيه السمكة الكبيرة، وتتوقع اصطياد واحدةٍ أخرى في المكان ذاته. لكن كان الأب يقول إن السمكة الكبيرة دائمًا تظهر في مكانٍ جديد، وحدث الأمر ذاته مع «شرطي السرعة». فقد لمحهما شرطي خارج مدينة بيتش سيتي، وهما يمُران بكمين بسرعة سبعة وأربعين ميلًا، ابتسم الأب ابتسامةً عريضة ومازح الشرطي قائلًا إنه سعيد أنه لم يكن يسير بسرعة كبيرة.
وصلا إلى نهر لوبوس مساء ذلك اليوم، وهناك كانت عملية اصطياد الأجسام العالقة قيد التنفيذ داخل برج الحفر؛ حيث تُربط منصات الأنبوب معًا وتُنزَّل داخل حفرة البئر مع وضع نوع من أدوات الالتقاط في نهايتها، ثم تُسحب المنصات، التي وصل عددها إلى خمسين أو ستين منصة، لأعلى وتُفكك منصة تلو الأخرى، حتى تصل أخيرًا إلى المنصة السفلية لتكتشف أنك لم تعثر على «الجسم العالق»!
أبدى الأب رأيه بنبرة أجبرت الجميع على الإنصات إليه. إذا لم يكن بوسع الرجال الاهتمام بسلامتهم الشخصية، فلا شك أنه من غير الممكن أن يأمل في اهتمامهم بممتلكاته. وقفوا هناك، وكأنهم مجموعة من التلاميذ يُوبَّخون على أفعالهم، مع أن «العامل» الذي كان يقع عليه اللوم بالكامل كان بالطبع قد طُرد منذ وقتٍ طويل.
كان هناك مندوب مبيعات من أحد متاجر الإمدادات يروج لجهاز يحمل علامة تجارية، وكان يؤكد على نجاح الجهاز في جلب الجسم العالق من أول محاولة؛ لذلك جربوا الجهاز، ولكنه علق في الحفرة وتركوه هناك! من الواضح أنه كان هناك جيب بالأسفل، وأن العتلة كانت محشورة بالعرض؛ لذلك قال الأب إن عليهم استخدام كمية صغيرة من الديناميت. هل سمعت من قبل صوت انفجار يقع على عمق أربعة آلاف قدم تحت الأرض؟ كانت هذه هي الطريقة التي حرروا بها العتلة، ثم بدَءوا في مهمة التنظيف، وأعقب ذلك مزيدٌ من الحفر، ووضع أنابيب الدعم لتغطية المكان المتضرر في الحفرة.
وهكذا، يومًا بعد يوم، كان باني يتلقى دروسًا في التنقيب عن النفط. وكان يتجول في الحقل مع الأب والجيولوجي وكبير الحفارين، بينما كانوا يحددون مواقع الآبار المستقبلية، وأخذ الأب ظرفًا وقلم رصاص، وشرح لباني السبب وراء حفر الآبار في أربع زوايا تشكل مُعينًا، وليس مربعًا. يمكنك تجربة ذلك بنفسك، برسم دائرة حول كل بئر، للإشارة إلى المنطقة التي يتم تصريف النفط منها، سترى أن شكل المعين يغطي الأرض بأقل تداخل. فعندما تتداخل الآبار، هذا يعني أنك تحفر بئرين للحصول على برميل النفط ذاته، ولن يفعل ذلك سوى شخص أخرق.
عادا إلى بيتش سيتي، ووجدا أن بيرتي قد عادت إلى البيت. كانت بيرتي أخت باني، وكانت تكبره بعامَين، وكانت تزور آل وودبريدج رايلي العصريين بشدة، في الشمال. حاول باني أن يخبرها عن مهمة اصطياد الأجسام العالقة في الآبار، وكيف كانت الأمور تسير في نهر لوبوس، لكنها كانت فظةً وسيئة الطباع؛ ووصفته بأنه «قزم النفط الصغير»، وقالت إن أظافر أصابعه القذرة تعطي مؤشرًا واضحًا على أنه يعمل في مجال النفط. كان يبدو أن بيرتي صارت تخجل من النفط، وكان هذا شيئًا جديدًا؛ لأنها قديمًا كانت صديقةً مقربة، مهتمة بالعمل، وتتجادل مع باني وتعطيه الأوامر مثلما تفعل أي أختٍ كبيرة. لم يستطع باني استيعاب الأمر، لكنه أدرك تدريجيًّا أن هذا كان جزءًا من التعليم العصري الذي كانت بيرتي تحصل عليه في مدرسة ميس كاسل.
كانت العمة إيما هي الملومة على هذا الأمر. إذ كانت قد منحَت جيم الحق في قصر تدريب باني على جني الأموال، لكن بيرتي على الأقل يجب أن تكون شابةً راقية؛ مما يعني أنها يجب أن تتعلم كيفية إنفاق الأموال التي كان سيجنيها الأب وباني. لذا حصلَت العمة إيما على اسم أغلى مدرسةٍ للشابات المبذرات، ومنذ ذلك الوقت لم ترَ العائلة بيرتي كثيرًا؛ فقد كانت تذهب بعد المدرسة لزيارة أصدقائها الأغنياء الجدد. لم تستطع إحضارهم إلى منزلها؛ حيث لم يكن هناك كبير خدم حقيقي، وأوضحَت أن رودولف «عامل مزرعة». كانت قد تعلَّمت بعض الكلمات السوقية الجديدة؛ فإذا لم يعجبها كلامك، فستخبرك أنك «مليء بالهراء»، وكما تعلم لم يعُد أحد يستخدم هذا المصطلح الذي عفا عليه الزمن. كانت تدور حول نفسها وتتباهى بملابسها الداخلية الغالية الثمن، المزودة بشرائط بنفسجية اللون، وكانت تضحك بابتهاج وتقول: «يا لي من شابة مفعمة بالطاقة»، وعبارات أخرى كانت تجعل الجدة تحدق فيها والأب يبتسم ابتسامة عريضة. وكانت تنزعج من طريقة تحدُّث والدها، وتقول له: «أبي، أرجوك لا تتحدث بهذه اللهجة!» حينئذٍ يبتسم الأب مرةً أخرى، ويرد عليها قائلًا: «هذه هي الطريقة التي أتحدث بها منذ تسعة وخمسين عامًا.» ومع ذلك، بدأ يحسِّن لهجته؛ فهكذا تتقدم الحضارات.
تكرَّمَت بيرتي بزيارة الحقل لرؤية أبراج الحفر الجديدة التي كانت تُبنى. وذهبا بعد ذلك في نزهة على الأقدام، وقابلا السيدة جرورتي، وهي تخرج من سيارتها الفورد القديمة أمام بيتها. كان باني سعيدًا ببراءة لرؤيتها، وأصَرَّ على تعريفها على بيرتي، التي عاملتها بفتور، وعندما تابعا سيرهما، وبخت بيرتي باني على ذوقه السوقي البشع؛ فبإمكانه التعرف على كل أنواع الرعاع إذا أراد، لكن بالتأكيد يجب عليه ألا يجعل أخته تصافحهم! لم يستطع باني فهم وجهة نظرها؛ فهو لم يوفق قَط، طوال حياته، في فهم كيف يمكن ألا يهتم الناس بالآخرين.
أخبر بيرتي عن بول، وكم كان فتًى رائعًا، لكن بيرتي قالت بالضبط ما قاله الأب، وهو أن بول «مجنون». والأكثر من ذلك أنها شعرَت بالغضب، وأعربَت عن رأيها وهو أن بول «فتًى بغيض»، وكانت سعيدة أن باني لم يتمكن من العثور عليه مجددًا. كان هذا هو الموقف الذي ستبديه بيرتي نحو بول طوال حياته، وقد عبَّرَت عن هذا الموقف منذ اللحظة الأولى، وكان باني المسكين في حَيرة تامة. لكن في الحقيقة، لم يكن من المعقول توقع إعجاب بيرتي، التي كانت تذهب إلى المدرسة لكي تتعلم حب المال — لتستخدم بعد ذلك حَدْسها في معرفة مقدار المال الذي يملكه الشخص بالضبط، وتقيِّمه على هذا الأساس — برجل أصر على أن المرء لا يستحق المال إلا إذا كان قد جناه بكَدِّه!
كانت بيرتي تتصرف حسب طبيعتها، وكان باني كذلك. جعله غضب أخته يضع بول في مكانة مرموقة في خياله، لم يحتلها أحدٌ من قبلُ؛ فهو شخصٌ غريب، شبه أسطوري، الوحيد الذي أُتيحت له فرصة الحصول على بعض من أموال الأب، لكنه رفض! وبين الحين والآخر، كان باني يمر على منزل السيدة جرورتي ويجلس على قفص الأرانب، ويسألها عن أخبار ابن أخيها. وذات مرة عرضَت عليه السيدة السمينة رسالةً مكتوبة بخط سيئ من روث واتكينز — أخت بول، التي كان يحبها — مفادها أن العائلة لم تتلقَّ أي أخبارٍ جديدة عن بول، بالإضافة إلى أنهم كانوا يواجهون صعوبة في البقاء على قيد الحياة، وكان عليهم ذبح عنزة بين الحين والآخر، وقالت السيدة جرورتي إن ذلك كان يقضي حرفيًّا على رأس مالهم. فيما بعد كانت هناك رسالةٌ أخرى من روث مفادُها أن بول أرسل إليها رسالة يقول فيها إنه في الشمال، وما زال يتنقل؛ ولذلك لا يمكن لأحد العثور عليه، وأرسل ورقةً نقدية بقيمة خمسة دولارات في رسالة مسجلة بعلم الوصول، وحدد أن تُصرف على الطعام وليس الإرساليات. وقال بول إنه لم يكن من السهل ادخار المال، عندما لا تحصل إلا على أجر صبي، ومرةً أخرى شعر باني بحالة من الذهول لكنه لم يفصح عنها. وبلغ به الأمر أن أقدم على تصرفٍ غريب سرًّا؛ حيث أخذ ورقةً نقدية بقيمة خمسة دولارات، وطواها بعناية في ورقة، ووضعها في مظروفٍ عادي وختمه، وعنونه إلى «الآنسة روث واتكينز، بارادايس، كاليفورنيا» ووضعه في صندوق بريد.
كانت السيدة جرورتي تسعد دائمًا برؤية باني، وللأسف، كان باني يعرف السبب؛ إذ أرادت استغلاله من أجل بئر نفط! كان يعطيها بأدب قَدرًا معينًا من المعلومات. وسأل الأب عن سليبر وويلكينز، فقال إنهما محتالان، ونقل باني هذه المعلومة للسيدة جرورتي، ولكن «أصحاب قطع الأراضي المتوسطة» مضوا قدمًا ووَقَّعوا عقدًا مع هذَين الرجلَين، وسرعان ما تمنوا لو لم يفعلوا ذلك. فقد شرع سليبر وويلكينز في بيع عقد الإيجار لإحدى النقابات؛ ولذا نُصبَت خيمة على قطعة الأرض بجوار منزل جرورتي؛ حيث كان هناك رجلٌ صاخب يوزِّع وجباتِ غداءٍ مجانية للحشود المتجمهرة في شوارع بيتش سيتي. كانت النقابة تُدعى «نقابة بونانزا رقم ١» وعلى الفور بنَوا برج حفر، وبدَءوا الحفر كما ينبغي، وحفَروا حتى عمقِ مائةِ قدمٍ أو نحو ذلك، وكانت السيدة جرورتي في غاية السعادة، وأنفقَت نصيبَها من الأرباح الذي كان يبلغ ألف دولار على شراء مائة وحدة من نقابةٍ أخرى تُدعى «الجمعية التعاونية رقم ٣». سحقَت الحشودُ حديقتَها، لكنها لم تهتم بذلك؛ فقد كانت الشركة ستنقل منزلها عندما تحفر البئر الثانية، وكانت ستذهب إلى حي «أبرز اجتماعيًّا»، كما قالت لباني.
ولكن بعد ذلك، في الزيارة التالية، لاحظ باني في ملامح السيدة السمينة كدرًا. فقد توقف الحفر، ونشرَت الصحف أن طاقم العمل كان يحاول «اصطياد» أجسامٍ عالقة، لكن العمال قالوا إن سبب التوقف هو عدم حصولهم على أجورهم. تباطأت عملية بيع «الوحدات»، وصمت «الرجل الصاخب»، ثم بيعت النقابة لما أُطلِقَ عليه اسم «شركة قابضة». ومع ذلك، لم يُستأنف الحفر، وحاولَت السيدة جرورتي المسكينة بشكلٍ مثيرٍ للشفقة أن تجعل باني يكتشف من والده ما سيحدث لهم. لكن الأب لم يكن يعرف، ولم يعرف أحدٌ ما كان يجري إلا بعد مرور ستة أشهر أو نحو ذلك، أي بعد فترةٍ طويلة من النجاح الكبير الذي حققه الأب في بئر روس بانكسايد رقم ١. حينئذٍ نشرت الصحف عناوين مخيفة مفادها أن هيئة المحلفين الكبرى كانت بصدد اتهام دي باكيت كايبر وزملائه من نقابة بونانزا، بالاحتيال في عمليات بيع حصص مخزون النفط. قال الأب لباني إن هذا الأمر قد يكون «ابتزازًا»؛ فبعض المسئولين، وربما بعض الصحفيين، أرادوا «لفت انتباه» السيد كايبر. ويبدو أنهم نجحوا في «لفت انتباهه»، حيث لم يُوجَّه أيُّ اتهامٍ رسمي. وفي الوقت نفسه، لم يستطع أصحاب عقد الإيجار إقناع أي شخص بمواصلة الحفر؛ لأن البئر التي حُفرت في المربع السكني المجاور لهم لم تنتج سوى مائتَي برميل، وهذا عمليًّا لا شيء يُذكَر، ونشرَت الصحف أن «التوتر» يسود المنحدر الجنوبي بكل تأكيد.
وهكذا، كان من شأن باني، في خضم مجد والده، أن يمر في الشارع ويقابل السيد دمبري المسكين، الذي نزل من عربة الترولي، عائدًا إلى البيت يجُر قدمَيه، بعدما ثبَّت آلافًا من مسامير الألواح الخشبية على أحد الأسطح، أو السيد سام، عامل الجص، يعتني بحديقته الصغيرة، التي تحتوي على صفوف الذرة والفاصوليا التي تُروى بالخرطوم. كان من شأن باني أن يرى السيدة جرورتي، وهي تُطعِم دجاجاتها وتُنظِّف أقفاص أرانبها، لكنه لم ير ثانيةً قطُّ ثوب السهرة الرائع المصنوع من الساتان الأصفر! كان من شأنه أن يدخل منزلها، ويجلس ويتحدث معها، حتى لا يبدو «متغطرسًا»، وكان الدرج الذي لا يؤدي إلى أي مكان لا يزال موجودًا، وكذلك كتاب «دليل السيدات: كتيب عملي للأرستقراطية» على الطاولة المركزية، وأصبح الحرير الأزرق الملتف حوله ملطخًا ببصمات الأصابع، وفقدت حروفه الذهبية بريقها. استوعبت عينا باني هذه الأشياء، وأدرك ما يعنيه الأب عندما قارن قطاع النفط بملكوت السموات، حيث يتمنى الكثيرون دخوله، ولكن لا يفوز به إلا قلةٌ مختارة.
٨
انتشرَت أبراج الحفر في كل مكان فوق التل، وكانت طواقم العمل تتسابق لتكون أول من يصل إلى الكنز الثمين. نهارًا، كنت ترى المحركات البخارية تنفث دخانًا أبيض، وليلًا، كنت ترى المصابيح تلمع على أبراج الحفر، وليلًا ونهارًا كنت تسمع صوت المعدات الثقيلة يدوي رتيبًا في الأرجاء. نشرت الصحف النتائج، وقرأها مئات الآلاف من المضاربين والمضاربين المحتملين الذين انطلقوا بسياراتهم نحو حقل النفط؛ حيث نصبت النقابات خيامها، أو احتشدت في غرف الاجتماعات بالبلدة؛ حيث كانت الأسعار مكتوبة بالطباشير على ألواح كبيرة، وكانت «الوحدات» تُباع لأشخاص لا يعرفون الفرق بين برج الحفر ولعبة الأفعوانية.
برأيك من احتل الصدارة في تقارير الصحف؟ ليس عليك سوى أن تخمِّن تخمينًا واحدًا فقط؛ إنه روس-بانكسايد رقم ١. فقد كان الأب موجودًا، ليلًا ونهارًا، يعرف الرجال الذين يعملون لحسابه، ويُراقبهم، ويشجِّعهم، ويوبِّخهم إذا لزم الأمر؛ ولهذا لم يقع حادثٌ واحد في موقع الحفر، ولم يضيِّع الأب يومًا أو ليلة. ووصل عمق البئر إلى ثلاثة آلاف ومائتَي قدم، وكان في الطبقة الأولى من الرمال النفطية.
كانوا يستخدمون مثقابًا قطره ثماني بوصات، وكانوا قد اعتادوا، لبعض الوقت، أن يأخذوا عينة أسطوانية من التربة لتحليلها. كان الأب متحمسًا بشأن هذا الأمر؛ فقد أصر على ضرورة معرفة كل شبر من البئر، وكان يروي قصصًا عن رجال كانوا يحفرون في رمال غنية بالنفط ولم يعرفوا ذلك قَط. لذا استخرج المثقاب عينة أسطوانية من الصخور، تمامًا مثل اللب الذي تستخرجه من التفاحة، وتعلَّم باني التمييز بين الصخر الطيني والحجر الرملي، وتكتلات كلٍّ منهما. وتعلَّم قياس ميل الطبقات، وما كان الجيولوجي يستخلصه من ذلك عن شكل الأرض بالأسفل، والاتجاه المحتمل لطبقات الأرض. وحينما ظهرت آثار النفط، كان لا بد من إجراء تحليلات كيميائية، وتعلَّم تفسير هذه التقارير. كل خزان نفط في العالم يختلف عن الآخر؛ فكل واحد كان يشكل لغزًا، ويحمل جوائز كبيرة لمن ينجحون في حل هذا اللغز!
توقع الأب أنه وصل إلى الخزان؛ ولذا أمر بإحضار «الصهاريج». اندفع الجميع من أجل تنفيذ هذا الأمر، كما كان الحال لكل شيء آخر؛ فقد كان الأب يملك المال، والأهم من ذلك أنه كان مشهورًا بامتلاكه المال! كانت «الصهاريج» مذكورة في عقد الإيجار، وحتى إذا لم يحالفه الحظ في العثور على النفط، فسيعثر عليه شخص آخر، وسيسعده أن يأخذ «الصهاريج» منه. وهكذا جاء موكب من الشاحنات الثقيلة، وتكدس الحقل بصفائح فولاذية مسطحة، وصفائح مقوسة، تتناسب بالضبط بعضها مع بعض. وبالطبع لم يَغِب عن مشتري «الوحدات» ملاحظة ذلك! فقد كانوا يتجولون حول برج الحفر ليلًا ونهارًا، محاولين التقاط أي تلميحات، ويتبعون العمال إلى منازلهم ويحاولون رشوتهم أو الدخول في محادثات مع زوجاتهم. أما باني، فكان الفتى الأكثر شعبية في بيتش سيتي، وكان رائعًا وجود العديد من السادة الطيبين، وحتى السيدات اللطيفات، المتشوِّقات لشراءِ الآيس كريم له، أو إعطائه علبًا من الحلوى! منعه الأب من التفوه بكلمة للغرباء، أو أن تكون له أي علاقة بهم، كما أنه حظر في الوقت الراهن إجراء المناقشات على مائدة العائلة؛ لأن العمة إيما كانت تدردش في نوادي السيدات، وكانت السيدات يخبرن أزواجهن، إلى جانب المضاربة «بمفردهن!»
أظهرت العينة الأسطوانية المزيد من العلامات، وأعطى الأب أوامره لبناء أساسات الصهاريج، ثم أمر بتركيبها، ودوى صوت ماكينات التثبيت بالمسامير، وبطريقةٍ سحريةٍ شُيدَت ثلاثة صهاريج، سعة كلٍّ منها عشرة آلاف برميل، مطلية حديثًا برصاصٍ أحمرَ متوهج. وبعد ذلك … ساد الصمت! كانوا قد وصلوا إلى الرمال النفطية الحقيقية، عين الأب طاقمًا من المكسيكيين ليَحفِروا له خندقًا من خط الأنابيب، واكتشف صائدو عقود الإيجار وتجَّار الوحدات ذلك الأمر، وفقدَت البلدة صوابها. في منتصف الليل، قفز الأب من فراشه، ونادى باني، وارتديا ملابسَهما القديمة وخرجا مسرعين إلى البئر؛ فقد ظهرت أولى علامات الضغط، وكان الطين قد بدأ يبقبق في البئر ويخرج منها! كان الحفر قد توقف، وكان الرجال على عجل يستخدمون المسامير لإحكام غلق «رأس أنبوب الدعم» الكبير، الذي كان الأب قد أحضره. لم يكن الأب راضيًا عما يفعلونه؛ لذا أمرهم بتثبيت عروات ثقيلة على الرأس، ودفع اثنين من عمال الأسمنت لبناء كتل كبيرة من الأسمنت فوق العروات؛ لتثبيتها جيدًا لتتحمل أي ضغط تتعرض له. وهكذا كان يمكن التأكد من عدم حدوث انفجار في بئر روس-بانكسايد رقم ١، وأيًّا كان النفط الذي سيخرج من تلك البئر، فسينتهي به المطاف في الصهاريج، ومنها إلى حساب الأب المصرفي!
حان وقت «سد البئر بالأسمنت»، لجعلها مقاومة للماء، وحماية الرمال النفطية الثمينة. تحت الأرض كان هناك خزان من النفط، عالق تحت طبقة مُحكَمة من الحجارة، تمامًا مثل حوض غسيل مقلوب. كان النفط مليئًا بالغاز، مما تسبب في الضغط. والآن إذا حفرت حفرة في الخزان، فسيخرج النفط والغاز، ولكن بشرط عدم السماح بنزول أي ماءٍ سطحي حتى لا يقضي على الضغط. فطوال عملية الحفر، كان ماء البرك والمجاري الجوفية يتسرب، والآن عليك وضع كتلةٍ كبيرة، صلبة ومحكمة، من الأسمنت، أسفل الحفرة لسد كل شق، داخل أنبوب الدعم وخارجه. وبعد إحكام سد هذه الكتلة، سيكون عليك أن تحفر حفرة خلالها، وصولًا إلى الرمال النفطية بالأسفل، وهكذا يصبح لديك قناة يمكن للنفط أن يتدفق من خلالها إلى أعلى، دون أن يتسرب الماء إلى أسفل. كان هذا هو الجزء الحاسم من العملية، وأثناء تنفيذه، كان الطاقم بأكمله في غاية التوتر والحماس، وغنيٌّ عن القول أنَّ المالك وابنه كانا في الحالة ذاتها.
عليك أولًا إنزال أنبوب الدعم، المعروف باسم «أنبوب الماء». وإذا كنتَ رجلًا حريصًا، مثل الأب، فستجعل هذا «الأنبوب» يصل إلى أرضية برج الحفر. بعد ذلك تبدأ في ضخ الماء العذب الذي يُضخ لساعاتٍ عديدة، حتى تغسل البئر من الأوساخ والنفط، وبعد ذلك يأتي دور عمال الأسمنت. أتى العمال بشاحنة عليها جميع المعدات اللازمة للمهمة، مستعدين للتوجه إلى أي بئر. وجلبَت شاحنةٌ أخرى بضع مئات من أكياس الأسمنت؛ إذ كانت المهمة تتطلب أسمنتًا نقيًّا، دون رمل. وجهَّزوا كل شيء قبل أن يبدءوا، ثم بدءوا العمل بسرعة وحماس؛ فقد كان لا بد من إتمام هذه المهمة بالكامل في أقلَّ من ساعة، قبل أن يبدأ الأسمنت في التماسك.
كانوا يعملون وفقًا لخطةٍ بارعة، وكان من الرائع مشاهدتهم. وضعوا «سدادة» من الحديد الزهر داخل أنبوب الدعم، وكانت هذه السدادة مزودةً بأقراصٍ مطاطية بالأعلى والأسفل؛ بحيث تطفو على الماء في أنبوب الدعم، وصبوا الأسمنت فوقها. فُتحت الأكياس بقوة، وأُلقيت في آلة خلط الأسمنت، التي بدأت تدور، وبعدها تدفَّق السائل الرمادي داخل البئر. تدفَّق الأسمنت بسرعة، وبدأَت المضخات الثقيلة في العمل، وقادته إلى الأسفل. في غضون نصف ساعة كانوا قد ملَئوا عدة مئات من الأقدام من أنبوب الدعم بالأسمنت، وبعدها وضعوا «سدادة» مطاطية لسد أنبوب الدعم بإحكام، ومرة أخرى، بدأَت المضخات الثقيلة في العمل، ودفعَت كتلة الأسمنت، بين «السدادتَين»، إلى أسفل البئر. عندما وصلتا إلى القاع، سقطَت السدادة السفلية، وتدفق الأسمنت، وساعد ضغط السدادة العلوية على دخوله في كل شق في البئر، ودفعه لأعلى في الجزء بين السطح الخارجي لأنبوب الدعم والأرض، حتى وصل إلى ارتفاع مائة أو مائتَي قدم، وعند تماسُكه، سيصبح لديك «حاجز للماء».
ما الذي يمكن أن يكون أكثر إمتاعًا من مشاهدة أمر كهذا؟ فهنا يمكنكَ معرفة ما يجري تحت الأرض، ومشاهدة البراعة التي يتغلب بها الإنسان على عقبات الطبيعة، ورؤية طاقم من العمال، يندفع أفراده في كل مكان، ويعملون كخلية نحل أو نمل، ولكنهم في الوقت ذاته هادئون وواثقون من أنفسهم، وعلى دراية بعملهم، وكيفية سير الأمور!
أُنجِزَت المهمة، وكان يتعين الانتظار عشرة أيام حتى يتماسك الأسمنت تمامًا. جاء المفتش الحكومي وأجرى اختباراتِه للتأكد من وجود «حاجزٍ» منيع؛ ففي حالة وجود مشكلة بالحاجز، يتعين عليك تكرار العملية مرة أخرى، وقد كرر بعض المساكين هذه العملية عشرين أو ثلاثين مرة! لكن الأب لم يتعرض لشيء من هذا القبيل؛ فهو خبير في عملية «سد البئر بالأسمنت»، وأضاف بابتسامة أنه كان خبيرًا أيضًا فيما يخص المفتشين. على أي حال، حصل على تصريحه، والآن، كانت بئر روس-بانكسايد رقم ١ تحفر في الرمال النفطية الحقيقية، في حفرة قطرها ست بوصات. وكل بضع ساعات كانوا يختبرون الضغط، للتأكد من أن لديهم ما يكفي، ولكن ليس أكثر من اللازم. كان الأب على وشك تحقيق الانتصار الآن، وكان قلبه يخفق سريعًا ويشعر بحماسٍ شديد. كان الأمر أشبه بانتظار صبيحة عيد الميلاد المجيد لفتح جورب هداياك، ورؤية ما أحضره لك سانتا كلوز! كانت هناك حشودٌ تحدق في البئر طوال اليوم؛ ولذلك كان يتعين وضع لافتاتٍ وقحة لمنعهم من التدخل فيما لا يعنيهم.
قال الأب إنهم وصلوا إلى العمق المناسب الآن، وشرعوا في تثبيت أنبوب الدعم الأخير الذي كان يُعرف باسم «البطانة»، وكان مزودًا بثقوب مثل الغربال، ليتدفق من خلالها الكنز. كانوا يعملون حتى وقتٍ متأخر من الليل، وكان كلٌّ من الأب وباني يرتديان ملابسَ قديمة، وكان يغطيهما النفط والطين. أخيرًا، كانت «البطانة» جاهزة، وأخرجوا الأدوات، وبدءوا في «غسل» البئر عن طريق ضخ الماء العذب لتنظيفها من الطين والرمل. استمر ذلك لمدة خمس أو ست ساعات، وفي هذه الأثناء حصل الأب وباني على قسط من النوم.
عندما عادا، كان وقت «نزح الماء» قد حان. أنت تدرك أن أنبوب الماء كان يحتجز ضغط الغاز والنفط، على عمق ثلثَي ميل. والآن كان لديهم ما أطلقوا عليه اسم «نازح الماء المزدوج»، والذي كان ببساطة دلوًا طوله خمسون قدمًا. كانوا ينزلونه، ويرفعون خمسين قدمًا من عمود الماء، ويُلقون به في حفرة التجميع. ثم ينزلون الدلو لخمسين قدمًا أخرى، وبعد قليل يجدون أنه ليس عليهم النزول لهذا العمق؛ فالضغط كان يدفع عمود الماء لأعلى البئر. حينئذٍ عرفتَ أنك تقترب من النهاية، وليس عليك سوى إنزال الدلو مرةً أخرى أو مرتَين حتى ينطلق الماء من الحفرة، ويندفع الطين والماء والنفط فوق قمة برج الحفر؛ ليصبح ملطخًا بقطراتٍ سوداءَ جميلة. يجب عليك طرد الحشود من موقع الحفر الآن، وأن تصيح في الحمقى الذين يدخِّنون السجائر قائلًا: «أطفئوا أي شيء قابل للاشتعال!».
ها قد اندفع النفط خارج البئر! وهتف جميع الحاضرين، وركض المتفرجون بعيدًا لتجنُّب رذاذ النفط الذي كانت الرياح تقذفه. تركوا النفط يندفع من البئر لفترة من الوقت، حتى لُفِظ الماء، واندفع النفط أعلى وأعلى فوق قمة برج الحفر، وأحدث ضوضاء جميلة وحفيفًا، وتناثر في كل مكان!
حان وقت غروب الشمس، وكانت السماء قرمزية. ظل الأب يصيح قائلًا: «أطفئوا أي شيء قابل للاشتعال!» إذ كان يجب أن يمتنع الجميع حتى عن تشغيل سيارة أثناء انبثاق النفط. بعد قليل، أوقَفوا تدفق النفط، لتجربة صمام رأس أنبوب الدعم، وظلُّوا يعملون حتى وقتٍ متأخر من الليل، تاركين النفط يتدفق، ثم أوقفوه مجددًا، كان الأمر مثيرًا بشكلٍ غامض في عتمة الليل. في النهاية كانوا مستعدين ﻟ «الحصول على النفط»، مما يعني أنهم سيُحكِمون غلق «خط التدفق» بين رأس أنبوب الدعم والخزان، ويتركون النفط ينساب في الخزَّان. هكذا بكل بساطة، دون استعراض، ودون ضجة، فقط تترك النفط يتدفق، أظهَر المقياسُ تدفُّق النفط بمعدَّل ثلاثين ألف جالون في الساعة، مما يعني أن الخزَّان الأول كان سيصبح ممتلئًا بحلول ظهر اليوم التالي.
كان هذا كل شيء، لكن الأخبار انتشرَت في بيتش سيتي وكأن ملاكًا ظهر في سحابةٍ براقة، وبعثر قطعًا ذهبية من فئة العشرين دولارًا في الشوارع. كان روس-بانكسايد رقم ١ «دليلًا على وجود نفط» في المنحدر الشمالي بأكمله؛ ولعشرات الآلاف من المستثمرين، الكبار منهم والصغار، كان ذلك يعني أن الأمل تحول إلى يقينٍ عظيم. لم يكن من الممكن إخفاء مثل هذه الأخبار، فهذا يتعارض مع الطبيعة البشرية، نشرَت الصحف بيانًا بالتفاصيل التالية: روس-بانكسايد ينتج ستة عشر ألف برميل في اليوم، وكثافته ٣٢، وبمجرد الانتهاء من خط الأنابيب — بحلول نهاية الأسبوع — سيكون بحوزة مالكه دخلٌ يزيد عن عشرين ألف دولار كل أربع وعشرين ساعة. هل ثمة حاجة للقول إن الحشود كانت تحدِّق في الأب وباني، أينما تجولا في شوارع المدينة؟ ها هو جيه أرنولد روس العظيم، صاحب البئر الجديدة! وهذا الفتى الصغير هو ابنه! إنه يكسب نحو ثلاثة عشر دولارًا في الدقيقة، سواء كان مستيقظًا أو نائمًا. أقسم أن المرء يستطيع أن يطلب غَداءه دون القلق بشأن سعره، إذا كان لديه دخل كهذا!
لم يستطع باني منع نفسه من الشعور بالأهمية، ومن أن يظن أنه أصبح مميزًا ورائعًا. تجاوزَت حماستُه الحد، وشعر كما لو أنه يستطيع أن يقفز إلى السماء ويطير. حينئذٍ قال الأب: «هون عليك يا بني! أمسِك عليك لسانك، ولا ترفع رأسك متفاخرًا. تذكَّر أنك لم تجنِ هذا المال، ويمكنك أن تخسره في لمح البصر، إن لم تكن ذكيًّا.» كما ترى، كان الأب رجلًا عاقلًا، كما ترى؛ فقد مر بكل هذا من قبلُ، أولًا في أنتيلوب، ثم في نهر لوبوس. وسبق أن شعَر بإغراء العظمة، وعرف ما كان يشعُر به الصبي. من الجيد أن يكون لديك الكثير من المال، لكن عليك أن تتذكر أن هذا كله أمرٌ مؤقت، ووسط احتفالك بالنجاح، يجب أن تتذكَّر أن الموت هو مصيرك المحتوم!