الإضراب
١
مرَّ عامٌ تغيَّرَت فيه معالم مدينة بارادايس بسبب التطورات الكبيرة التي حدثَت فيها. أصبح الطريق ممهدًا، بَدءًا من الوادي، وكانت تصطفُّ على جانبيه لافتاتٌ كبيرة وصغيرة، تُعلن عن أراضٍ غنية بالنفط متاحة للبيع أو الإيجار، وأكشاك وخيام لإتمام عمليات البيع والإيجار. وعلى الفور كان من الممكن رؤية أبراج الحفر؛ واحد بجوار كنيسة إيلاي الجديدة، وآخر عند قدس الأقداس، البنك الوطني الأول. فقد كان بإمكان أي أحدٍ أن يشتريَ قطعة أرض ويبني عليها منزلًا وينتقل إليه، وفي الأسبوع التالي يبيع المنزل، ويُزيل المشتري المنزل، ويبدأ في بناء برج حفر. وكان عددٌ كبيرٌ من المشترين لم يتقدموا قطُّ إلى ما هو أبعد من الخطوة الأولى، المتمثِّلة في إنشاء برج الحفر على أراضيهم؛ حيث اكتشف وكلاء العقارات الذين يقسِّمون الأراضي إلى قطعٍ صغيرةٍ أن أفضل طريقةٍ على وجه الأرض للإعلان عن الأراضي؛ هي وجود برج حفر فيها. كان بالإمكان إحصاء أحد عشر بُرجَ حفر أثناء قيادة السيارة إلى الجانب الغربي من الوادي؛ حيث تدفق النفط من بئر إكسلسيور، ومن أعلى التلال، كان بالإمكان إحصاء خمسين برجَ حفر تنتمي إلى حوالَي عشرين شركةً مختلفة. وبالاتجاه شرقًا، كنتَ تجد عشراتٍ من أبراج الحفر الأخرى قبل أن تصل إلى أرض آل روس، وكان هناك شخصٌ ما ينقِّب عن النفط في الجانب الآخر من هذه الأرض، على طول المنحدر المتجه إلى روزفيل، حيث كان يُبنى فندق مينيرال سبرينجز.
أصبح غدير آل واتكينز الصغير موقعًا لقريةٍ جديدة. وانتشر على طول المنحدرات أربعة عشر برجًا للحفر، وبالأسفل كانت هناك صهاريجُ كبيرة ومخازن للمعدات ومستودعات ومكتب. كان الأب قد بنى البيت الجديد لعائلة واتكينز بالقرب من مدخل المكان، وكانوا قد باعوا مَعْزهم، وأصبح لديهم الآن قطعة أرض يزرعون فيها الفراولة والخضراوات، ويربُّون الدجاج، ويحصُلون على البيض، ويُوردون كل ذلك لمطاعم الشركات. بالإضافة إلى ذلك، كان لديهم كشكٌ صغير على جانب الطريق، وكانت السيدة واتكينز والفتيات يخبزْنَ الفطائر والكعك وغيرها من الحلوى الطيبة، التي كان يزدردها عمال النفط بسرعةٍ مذهلة، بالإضافة إلى «المشروبات الغازية» ذات الألوان الزاهية. لكن لم يكن الكشك يبيع أي «سجائر»؛ لأنها تتعارض مع الوحي الثالث، وكان يمكنك الحصول عليها من الكشك المنافس الكائن على الجانب الآخر من الطريق.
كانت استراحة العمال الجديدة تقع على مسافةٍ قريبة، تحت ظلال بعض أشجار الأوكالبتوس. وكانت تحتوي على ستة حمَّامات للاغتسال، يتردَّد عليها العمال بكثرة، ولكن ما أحزن باني بشدة أنه نادرًا ما كان أحدٌ يدخل غرفة القراءة، على الرغم من أنها كانت مُزينةً بستائرَ جميلة صنعَتها روث، فنادرًا ما كان يقترب عمال النفط من المجلات الثقافية. حاول باني معرفة السبب، وأخبره بول أن السبب هو أن الرجال كانوا يُضطرُّون إلى العمل لساعاتٍ طويلة، كان بول نفسه يعمل نجارًا لمدة ثماني ساعات في اليوم؛ ولذا نجح في تخصيص وقت للقراءة، لكن عمال النفط كانوا يعملون في نوبتَين، مدة كلٍّ منهما اثنتا عشرة ساعة، وكانوا يعملون طوال السنة، حتى في أيام الأحد والعطلات. عندما تقضي هذا الوقت الطويل في التعامل مع المعدَّات الثقيلة، كل ما تحتاجه هو أن تتناوَل العشاء وتستلقيَ وتغُطَّ في نومٍ عميق. كان الأب مشغولًا جدًّا ولم يكن لديه وقتٌ لحل هذه المشكلة في الوقت الحالي.
كان بول رئيس النجارين، وكان مسئولًا عن جميع عمليات البناء، وكانت هذه مسئوليةً كبيرة على شاب في عمره. كانوا قد أتموا بناء أربعين كوخًا لعائلات العمال حتى الآن، وبلغَت تكلفة كلٍّ منها حوالي ستمائة دولار، وكانت تؤجَّر بثلاثين دولارًا شهريًّا، مع توفير الماء والغاز والكهرباء مجانًا. لم يكن أحدٌ يعرف بالضبط تكلفة هذه الخِدمات الأخيرة؛ لذلك لم يستطع باني تحديدَ ما إذا كان السعر معقولًا أم لا، وانطبق الأمر ذاته على عمال النفط، لكن الأب قال إن سعادتهم بالحصول على المنازل كانت دليلًا لأي رجل أعمال على عدالة الصفقة.
ولكن كانت هناك نقطةٌ واحدة تدخَّل فيها باني بكل حماس؛ فهو لم يستطع فَهْم سبب أن كل شيء متعلق بمجال النفط كان قبيحًا للغاية، وشعَر بضرورة فعل شيء حيال هذه الأكواخ. سأل روث عن ذلك الأمر، وذهبا إلى مشتلٍ في سان إليدو، ودون أن يقول شيئًا للأب، اشترى مائة شُجيرة سَنْط، كلٌّ منها موضوعة في علبة من القصدير، بالإضافة إلى مائتَي زهرةٍ متسلقة، كلٌّ منها مربوطة بجذورها في كيس من الخيش. والآن أصبح في كل كوخ شجيرةٌ صغيرة وبجانبها وتد، وعلى طول الطريق كانت هناك إطاراتٌ مصنوعةٌ من أنابيب الغاز، ومزينة بكروم الورد التي بدأَت تتسلقها. وتولَّت روث مسئولية اختيار أحد العمال شهريًّا ليترك عمله، ويسقي الأشجار والكروم، وفي اليوم التالي يهذِّبها ويزيل الحشائش والأعشاب الضارة. ومن أجل هذه الخدمة، اضطُرَّت روث لقبول راتبٍ قَدْره عشرة دولارات شهريًّا، وحملَت اللقب الرفيع «المشرفة على أعمال البستنة». كان باني يتفقَّد النباتات النامية، ويجلس في غرفة القراءة الخاصة به، ويُقنِع نفسه بأنه قد بدأ رحلته في وظيفة المصلح الاجتماعي؛ لحل النزاعات بين أصحاب رأس المال والعمال، التي كان يَدْرسها في مادة «الأخلاقيات الاجتماعية» في المدرسة.
الآن كاد باني يُتِم عامه الثامن عشر، وعلى الرغم من نحافته، كان قوي البنية، مثل العدَّائين. كانت بشرتُه سمراءَ كالعادة، وشعره لا يزال مموجًا، وشفتاه حمراوَين وجميلتَين مثل شفاه الفتيات، لقد كان مرحًا من الظاهر، لكنه كان جادًّا في قرارة نفسه، ويحاول بكل إخلاص الاستعداد لمهمة إدارة ملايين الدولارات من رأس المال، وتوجيه حياة آلاف من العمال. وكان باني يريد تعلم أي اقتراحاتٍ مفيدة لدى الأشخاص الذين ألفوا كتبًا حول هذه الأمور، ودرَّسوها في المدارس؛ لذلك كان يستمع لنصائح الآخرين ويقرأ الكتب التي يقترحونها عليه، ثم يعود إلى المنزل ويسأل الأب عن كل هذه المعلومات، وعندما يزور حقل النفط، كان يسأل بول. وفقًا للمعلمين والكتب المدرسية، لم يكن يُوجَد نزاعٌ حقيقي بين أصحاب رأس المال والعمال؛ فهم شركاء وضروريون للمجال، ويجب أن يتعلموا كيفية التعاون والعمل معًا. بينما قال الأب إن هذا كان صحيحًا، ولكن نظريًّا فقط، مثل أي شيءٍ آخر، ولم يُفلِح دائمًا. وأضاف أن العمال كانوا جهلاء، ويريدون أشياء لا يستطيع مجال النفط توفيرها، ومن هنا ظهرَت الخلافات. لكن الأب لم يكن يعرف ماذا يفعل حيال ذلك، ويبدو أنه لم يكن يُحاوِل أن يعرف؛ فقد كان دائمًا مشغولًا للغاية في تطوير قطعة أرضٍ جديدة، ولم يستطع باني التذمُّر بشأن هذا الأمر بعدما أشرك الأب في الكثير من الأعمال الأخيرة!
كان الأمر، عند استيعابه، يبدو مخزيًا. فقد كانت هذه المزرعة مكانًا يمكن للأب أن يأتي فيه للراحة وصيد السُّمانى، ولكن الآن بعد أن عثَروا على النفط، أصبحَت آخر مكان في العالم يمكن أن يستريح فيه. كان من المقرر وضعُ خططٍ لحفر آبارٍ جديدة، ومد خطوطِ أنابيب، وتسويق النفط، والنظر في أمور التمويل، وبناء منازل ورصف طرق، وإنشاء مصنع غاز، والحصول على المزيد من المياه؛ ففي كل يوم كان يظهر شيءٌ جديد. أظهرَت الدفاتر أن ما يقرب من ثلاثة ملايين دولار كانت قد أُنفقَت في المكان حتى الآن، وكان الأب يؤكد على الضرورة الحتمية لامتلاكه لمعمل تكرير خاص به؛ فقد كان عقله مليئًا بآلاف التفاصيل الفنية المتعلقة بهذا الأمر. كان هناك مجموعة من الرجال — الرأسماليين الكبار حقًّا — الذين أرادوا مشاركته، وتحويل هذا الحقل إلى واحد من حقول النفط الضخمة، وتأسيس شركةٍ رأس مالها ستون مليون دولار، وستكون هناك «مزرعة صهاريج»، والعديد من معامل التقطير وسلسلة من محطات التوزيع. هل ينبغي على الأب الموافقة على هذا العرض، أو الاحتفاظ بهذا المشروع من أجل باني؟ سيتعيَّن على الصبي أن يقرِّر قريبًا، هل يريد أن يتحمل عبئًا ثقيلًا مثل هذا، أو يترك آخرين يتحملونه نيابةً عنه؟ هل يريد أن يدرس موضوعاتٍ مختلفة، مثل بول، أو يريد الانخراط في مجال النفط، وإيلاء اهتمامه لعملية التقطير الهدام، واستخدام مكثِّفات التجزئة الخاصة بأبراج التقطير؟
٢
لم يكن مقدَّرًا أن تظل تكهُّنات باني حول مشكلة أصحاب رأس المال والعمال نظرية. فأثناء عطلة عيد الميلاد التي قضاها في بارادايس، بدت على بول الجدية، وسأله عن موقف الأب تجاه مسألة الاتحادات هنا في حقل النفط. كان هناك مَن يؤسس اتحادًا للنجَّارين، وقد تحدث بول معه، وقرَّر أن من واجبه الانضمام لهذا الاتحاد. كان بعض الرجال قد انضموا سرًّا، لكن بول لم يُرِد إخفاء أي شيء عن السيد روس. أجاب باني أن والده لم يكن يحبِّذ فكرة الاتحادات، لكنه بالتأكيد لن يعترض على انضمام بول، إذا كان بول يرى أن هذا هو التصرُّف الصائب، على أي حالٍ سيتناقشون حول هذا الأمر. وبالفعل ناقشوا الموضوع معًا ذلك المساء بشكلٍ يختلف تمامًا عن المناهج في المدرسة الثانوية.
كان الأب يؤمن بتنظيم الاتحادات، ودائمًا ما كان يقول إن هذا المبدأ يمكن تطبيقه على العمال، على الأقل نظريًّا. لكن على أرض الواقع، كان الأب قد لاحظ أن اتحاد العمال كان يتيح الفرصة للكثير من المسئولين للعيش عالةً على العمال الحقيقيين، لدرجة أن هؤلاء المسئولين أصبحوا طبقة بذاتها، نوعًا من المصلحة الشخصية، وكانوا يعتنون بمصالحهم، وليس بمصالح العمال. وبطبيعة الحال كان عليهم إيجاد مسوِّغ لوجودهم؛ ومن ثَمَّ كانوا يميلون إلى أن يثيروا لدى العمال استياءً لم يكن العمال يشعرون به في الأساس.
قال بول إن هذه إحدى وجهات النظر للموضوع، لكن في الواقع، كان يمكن النظر إلى الموضوع من منظورٍ آخر؛ فقد يكون العمال مستائين، ويحاول المسئولون تهدئتهم. كان المسئولون يتفاوضون مع أصحاب العمل، وبطبيعة الحال كانوا يطلبون من العمال الامتثال لما اتُّفِق عليه. ألا يمكن تفسير الخلافات في مجال النفط بطريقةٍ أكثر عقلانيةً من خلال إدراك الحقيقة الجوهرية المتمثلة في وجود مجموعتَين؛ واحدة توفِّر العمال، بينما تدفع الأخرى المال مقابل مجهود هؤلاء العمال؟ ومن الطبيعي أن مَن يشتري حصانًا لن يقدِّر قيمته مثلما يفعل صاحبه.
كان واضحًا أن الأب لم يُعجَب بوجهة النظر هذه؛ لأنها زادت من صعوبة عمله. وقال إن أكثر ما يزعجه في الاتحادات هو حرمان المرء من حريته الشخصية؛ فهو لم يعُد مواطنًا أمريكيًّا حرًّا، وأصبح مجرد جزءٍ من آلةٍ يديرها سياسيون، وفي كثيرٍ من الأحيان فاسدون. إن ما جعل هذا البلد عظيمًا هو العمل الفردي، ويجب علينا حماية ذلك. وافقه بول في الرأي، لكنه أضاف أن أصحاب العمل أعطوا للعمال نموذجًا سلبيًّا؛ إذ كانوا قد انضموا إلى «اتحاد أرباب العمل في قطاع النفط»، الذي تحكَّم في القطاع بصرامةٍ شديدة. وقد قيل لبول إن السيد روس في بداياته أضاف دولارًا إلى أجور رجاله اليومية المعتادة، وذلك للحصول على أفضل عمالة، ولكن عندما دخل حقل بروسبكت هيل، كان عليه الانضمام إلى الاتحاد، وحينئذٍ لم يُسمح له بدفع أكثر من الأجور المعتادة.
اعترف الأب بصحة هذا الأمر، لكنه سارع إلى توضيح أنه لم يخفِّض أجر أي شخص؛ فقد نمت أعماله بسرعةٍ كبيرة، وعيَّن رجالَه في مناصبَ أعلى، وعندما عيَّن رجالًا جددًا للقيام بالوظائف القديمة، أعطى لهم الأجور المعتادة. لكن عندما ضغط عليه بول، اعترف الأب أنه بالفعل كان ينتمي للاتحاد، وأنه قد ضحَّى بحريته الشخصية من أجل هذا. كان واضحًا بما فيه الكفاية، أنه كان لا بد من وجود بعض النظام بين أرباب العمل، لمنعهم من أن يُلحِق بعضُهم الضرر بمصالح بعض، واعترف الأب بأنه ربما لو كان عاملًا لأدرك الضرورة ذاتها.
شعر الأب بالسعادة عندما قال بول إنه لو كان جميع أرباب العمل عادلين مثل السيد روس، لكان من السهل التعامل معهم، لكن واقع الأمر أن كثيرين منهم كانوا لا يحترمون إلا السلطة، ولن يحظى العمال بأي سلطة إلا إذا كانوا مجموعة. لماذا كان النجَّارون يعملون ثماني ساعات فقط؟ لأن هذا هو نظامهم الخاص المتبع في جميع أنحاء البلاد، ولا يمكنك الحصول على الكثير من النجَّارين الجيدين بأي شروطٍ أخرى. لكن عمال النفط كانوا يعانون من سوء التنظيم، ومن هنا ظهر النظام غير الإنساني المتمثِّل في العمل فترتَين، الذي نتج عنه عدم تمكُّن باني من جعل الرجال يستفيدون من غرفة القراءة الخاصة التي أنشأها. ابتسم بول وهو يقول ذلك، ليخفِّف من حدة كلامه؛ فقد كان يعلم أن هذا الكلام سيؤذي باني، وأن الأب، هو الآخر، سينزعج من سماعه. لن يستطيع الأب أن يجعل عمال النفط لديه يعملون لمدة ثماني ساعات فقط في اليوم، حتى لو أراد ذلك؛ لأن «اتحاد أرباب العمل في قطاع النفط» سَلبَه حريته الشخصية في اتخاذ قرار في هذا الصدد. وأضاف بول أنه سيتعيَّن على الاتحاد مواجهة هذه المشكلة في القريب العاجل؛ لأن عمال النفط كانوا ينظِّمون اتحادًا هنا في حقل بارادايس، كما كان السيد روس بلا شك يعلم.
قال الأب إنه سمع بهذا الأمر، حتى إنه اعترف بأن الاتحاد قد أرسل له نشرات لإبقائه على اطلاع بمجريات الأمور. وأضاف أنه مع ذلك لم يكن قلقًا، فإذا أراد رجاله تكوين اتحاد، فسيجد طريقة للتعامل مع هذا الأمر؛ فقد حاول أن يكون عادلًا طوال حياته، وكان الرجال يعرفون ذلك، أو على الأقل معظمهم. أجاب بول بأن على السيد روس أن يفهم الحقيقة الجوهرية، وهي أن تكلفة كل شيء كانت ترتفع منذ بدء الحرب في أوروبا، وكان سعر النفط يرتفع أيضًا، لكن اتحاد أرباب العمل تمسَّك بجدول الأجور القديم، ولم يكن ذلك منصفًا، وكان يتسبَّب في حدوث المشاكل. لم يكن أرباب العمل الذين حاربوا الاتحادات يتمتَّعون بنظرةٍ مستقبلية؛ لأن ما فعلوه حقًّا جعل الرجال يتوجهون إلى «اتحاد عمال الصناعة في العالم». بدت الدهشة على وجه الأب عند سماع ذلك الأمر؛ لأن أعضاء هذا الاتحاد، الذين كان يُطلق عليهم اسم «الهائجون» كانوا معروفين بأنهم أشخاصٌ خطرون، وكادوا يكونون فوضويين؛ حيث أرادوا الاستيلاء على الآبار وتشغيلها لصالح العمال، وكانت هناك إشاعاتٌ مروِّعة عن دعوتهم لارتكاب أعمال «تخريب»، وهو ما كان يعني أنه في حالة عدم حصول الرجال على ما يعتبرونه صفقةً عادلة، سيعاقبون أصحاب العمل عن طريق إتلاف الممتلكات، وحتى إشعال النار في الآبار. هل انضمَّ «اتحاد عمال الصناعة في العالم» إلى قطاع النفط حقًّا؟ أجاب بول أنه ليس من العدل أن يُبلغَ عن الرجال؛ فهذا سيجعله جاسوسًا، ولكن في واقع الأمر، يتواجد «الهائجون» في كل قطاع وفي كل صناعة؛ فمن المستحيل أن تمنع مشاركتهم، لكن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله هو تقليص نفوذهم باتباع سياسة اللعب النظيف.
كان بول قد أخذ يدرُس مسألة أصحاب رأس المال والعمال هذه، كما اعتاد أن يدرُس كل موضوع يقابله. وكان يقرأ كتبًا لم يسمع باني عنها من قبل؛ إذ لم تكن تُدرَّس في فصول المدارس الثانوية؛ لأنها، على حد قول بول، كانت تتبنى وجهة نظر العمال. كان بول قد انخرط في محادثات مع أحد منظمي الاتحادات الذي جاء من أجل «اتحاد عمال النفط»، وكان هذا الرجل في غاية الذكاء؛ حيث كان يعمل في حقول النفط لعدة سنوات، وعلى درايةٍ كبيرة بظروف العمال. كان باني مهتمًّا جدًّا بذلك الأمر، وقال إنه يودُّ مقابلة الرجل، وتساءل عما إذا كان الأب قد يرغب في ذلك أيضًا. أجاب الأب بالرد الذي كان يستخدمه دائمًا أخيرًا، وهو أنه كان مشغولًا جدًّا في أعمال تركيب خط الأنابيب الجديد، ومشكلة معمل التكرير، ولكن ربما يكون مهتمًّا لاحقًا. كان الأب دائمًا ما يخدع نفسه بتلك الطريقة؛ أن في المستقبل سيتوفَّر لديه بعض الوقت عندما لا يكون مشغولًا!
ومع ذلك، لم يكن لديه أي اعتراض على مقابلة باني لجميع منظمي الاتحادات الذين يرغب في مقابلتهم؛ فلا شك أنه سيتفاوض مع الكثير منهم خلال حياته. قال بول إنه كان من المفترض أن يحضر توم أكستون سرًّا، ولكن في الحقيقة كان جميع أصحاب الأعمال يعرفونه؛ فقد طُرد من ملكية إكسلسيور بيت البارحة فقط. سيكون راغبًا بكل تأكيد في التحدث مع باني، بشرط ألَّا يؤثِّر هذا على حقِّه في ضم الرجال الذين يعملون لدى السيد روس إلى الاتحاد.
كانت نتيجة ذلك أن دُعي أكستون لمقابلة باني ذات صباح في غرفة القراءة؛ مما تسبَّب في حدوث نشاطٍ كبير في أرض آل واتكينز لم تشهده منذ انفجار البئر المكتشفة واندلاع الحريق. لم يذهب رجال النوبة الليلية للنوم، وانتظروا بترقب ليشهدوا هذه المقابلة، وظلوا يمُرون بجانب الأبواب والنوافذ ملقين نظرةً على ما يدور بالداخل! كان من المفترض أن يكون منظم الاتحاد شخصًا غامضًا ومخيفًا، يأتي ليلًا، ليلتقي بك وبأصدقائك في مكانٍ ما في التلال، ولكن ها هو ذا، يستقبله ابن الرجل الكبير علنًا! أُعجِب الرجال بباني روس، وقالوا إنه شابٌّ رائع، متفقين مع الأب في هذه النقطة!
كان توم أكستون رجلًا ضخمًا، يتحدث ببطءٍ، بصوتٍ ناعم، به لهجةٌ جنوبية بسيطة، بدا قويًّا، وكان يلزم أن يكون كذلك، بالنظر إلى المعاملة التي كان يحصل عليها. بالطبع، لم يستطع الجزم بأن أعضاء اتحاد أرباب العمل هم الذين أرسلوا البلطجية لضربه، وحاولوا إصابته بعجز، ولكن عندما تكرَّر هذا الأمر في عدة حقولٍ مختلفة في جنوب كاليفورنيا، كان من الطبيعي أن يتوصل إلى بعض الاستنتاجات؛ حيث كانت هذه الهجمات تستهدفه هو بالذات دون الآخرين. ذَهِل باني عند سماع هذا الأمر؛ فهو لم يسمع من قبلُ عن هذه الواقعة، وشعَر أنه عاجز عن الكلام، لكنه أوضح للسيد أكستون أن والده لم يكن له علاقة بمثل هذه الأعمال القذرة. ابتسم منظم الاتحاد، وكان جليًّا أنه دار حديث بينه وبين بول؛ لأنه قال: «يظن والدك أن من يديرون اتحادات العمال فاسدون وعالة على الغير. حسنًا، أودُّ أن تسأله عن القَدْر الذي يعرفه حقًّا عن اتحاد أرباب العمل، ونوعية الرجال الذين يديرونه، وما الذي يفعلونه لنا. قد تكتشف أن والدك كان يهمل شئون اتحاده، تمامًا مثلما يهمل معظم العمال شئون اتحادهم.» كان على باني الاعتراف بأن هذه كانت وجهة نظر عادلة، وعندما سأل الأب، ووجد أنه لم يحضُر قط أي اجتماع للاتحاد، ولكنه كان فقط يدفع الاشتراكات دون نقاش، بالطبع جعل ذلك باني يحترم توم أكستون أكثر، ويصدِّق ما قاله عن الأحوال هنا في بارادايس، وفي الحقول الأخرى، وعن السرعة التي كان ينتشر بها السخط وسط الرجال.
بالأمس فقط طردَت شركة فيكتور أويل أربعة عشر رجلًا لانضمامهم للاتحاد؛ حيث كان لدى الرؤساء جاسوسٌ بينهم، وانتظروا حتى جاءت الفرصة المناسبة لاتخاذ إجراء ضد العمال! قال منظِّم الاتحاد: «من المؤكد أنه سيحدث إضرابٌ عما قريب. سيحتجُّ العمال على نظام النوبات الثلاث، وعلى أمورٍ أخرى، وعندما يحدث ذلك، سيتعيَّن على والدك التفكير فيما إذا كان سيتعامل بشكلٍ منفصل مع رجاله، أو سينحاز إلى جانب اتحاد أصحاب العمل، ويترك مجموعةً من كبار رجال الأعمال الفظِّين يجرُّونه إلى المشاكل.» يمكنك أن تتخيل مدى تأثُّر باني بهذا الكلام، وعدد المناقشات التي أجراها مع والده، ومع بول، ومع مدرس مادة «الأخلاق الاجتماعية» في مدرسة بيتش سيتي الثانوية!
٣
كان الحلفاء، الذين كانوا يسيطرون على البحر، يعملون على تجويع ألمانيا، وكان الألمان يردُّون على ذلك بالسلاح الوحيد الذي بحوزتهم، الغواصة. أجبَرَت الولاياتُ المتحدة الحكومةَ الألمانية على الموافقة على عدم نسف سفن الركاب بالطوربيد دون سابق إنذار، لكن في أوائل شتاء عام ١٩١٧، أعلن الألمان أنهم لن يتَّبعوا هذه السياسة بعد الآن، وكان الجميع يقولون إن على أمريكا خوضَ الحرب. أُعيد السفير الألماني في واشنطن إلى بلاده، وبعد ذلك لم تعُد روح الحياد تهيمن على حصص «الأحداث الجارية» في المدرسة.
بدا لأصحاب آبار النفط أنه من غير الوطني أن يطالب العمال بالعمل لمدة ثماني ساعات في اليوم وزيادة الأجور في هذه الأزمة. فالبلاد كانت على وشك الدفاع عن نفسها، وكانت بأمسِّ الحاجة إلى النفط أكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ! لكن العمال ردوا بأن أصحاب العمل لم يقدِّموا التنازلات طوعًا، ولكن لأنهم اضطُروا لذلك، وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي يتعرضون فيها لهذا الموقف. لم يكن ثمَّة ما يدعو إلى افتراض أن أرباب العمل كانوا يبيعون النفط دون مقابل؛ فقد كانوا يحصلون على ثمنٍ باهظ مقابله، وكانوا سيحصلون على السعر ذاته، أو أفضل منه، إذا خاضت البلاد الحرب. طالب العمال بالحصول على حصةٍ تتناسب مع أسعار احتياجاتهم. وكانوا يعقدون اجتماعاتٍ في جميع أنحاء حقل النفط، وفي أواخر شهر فبراير أرسل مسئولو الاتحاد خطاباتٍ إلى مختلف الشركات طالبين عقد مؤتمر. وعندما قُوبل هذا الطلب بالتجاهل، أرسلوا إخطارًا إلى أصحاب العمل بأنه سيكون هناك إضراب.
جاء ثلاثة رجال لمقابلة الأب؛ أحدهم موظفٌ قديم والاثنان الآخران من الموظفين الجدد. كان الثلاثة صغارًا في السن؛ في الواقع لم يكن عُمرُ عمال النفط يزيد عن خمسة وثلاثين عامًا، وكانوا جميعًا من الأمريكيين ذوي البشرة البيضاء. حمل الرجال الثلاثة قبَّعاتهم في أيديهم، وكانوا شاحبين بعض الشيء، وبالرغم من شعورهم بالإحراج كانوا حازمين. لقد أحبوا جميعًا السيد روس، وأقرُّوا بذلك؛ فقد كان «منصفًا» ولا بد أنه يعرف أن مطالبهم كانت معقولة. ألن يكون القدوة لأصحاب العمل الآخرين، بموافقته على الجدول الزمني الجديد، ليستمر عمله دون انقطاع؟ فإذا حدث الإضراب، فلا مفَر من انتشاره، وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكلفة النفط دفعةً واحدة، وسيكسب السيد روس أكثر بكثير مما كان سيدفعه للرجال. لكن الأب أجاب بأنه قد انضم إلى اتحاد أرباب العمل، ووافَق على الالتزام بقراراته، وتساءل عما سيحدُث لسمعته كرجل «منصف» إذا لم يحافظ على وعده لشركائه في وقت الأزمة. ما سيفعله هو أنه سيعمل من خلال الاتحاد من أجل الوصول لاتفاق مع الرجال، وسيترك كل أعماله، ويتجه إلى مدينة إنجِل سيتي ليرى ما يمكن أن يحقِّقه. كان يرى أن العمل لمدة ثماني ساعات في اليوم أمرٌ عادل، ودعم فكرة تعديل الأجور بما يتوافق مع تكلفة المعيشة؛ بحيث لا يتأثر دخل الرجال بالتقلبات. سُرَّت اللجنة المكوَّنة من الرجال الثلاثة بهذه الوعود، وتصافحوا.
لو كان الأمر بيده، لما اتخذ جيه أرنولد روس هذا الدور العظيم قطُّ. فقد كان يفكر في ماله، أو في الأشياء التي يرغب فيها ويمكِنه تحقيقها باستخدام ماله، وعلى الأرجح كان سينحاز إلى جماعته، كما اعتاد أن يفعل. لكن كان هناك باني، «المثالي الصغير»؛ لقد أحب باني العمال، وكان العمال يحبونه، وكان الأب فخورًا بهذا الإعجاب المتبادَل، وتعاطَف مع باني، مع أنه لم يتصور يومًا أنه سيشعر بمثل هذه المشاعر. علاوةً على ذلك، كان هناك بول، الذي كان على درايةٍ تامة بأحوال العمال، وأصر باني على إشراك بول في حياتهما، وإمطاره بالأسئلة، وجعله يتحدث بصراحة عن المواضيع التي كان يتردَّد في مناقشتها. لذلك أصبح بول مؤثِّرًا قويًّا في وعي الأب؛ ولذا وعد الأب بأن يحاول مساعدة العمال.
حضر لأول مرة اجتماعًا لاتحاد أرباب العمل. عُقد الاجتماع في الليل، واستمر حتى الساعة الواحدة صباحًا، وفي اليوم التالي الذي وافق يوم السبت، جاء باني إلى البلدة والتقى بوالده في الفندق، وسمع قصة ما حدث. بدا أن معظم أرباب العمل في مجال النفط كانوا بالضبط مثل جيه أرنولد روس؛ حيث تركوا إدارة اتحادهم للآخرين، لم يكن هناك أكثر من أربعين رجلًا في هذا الاجتماع الحاسم، وتألفَت المجموعة المهيمنة من ممثلي «الخمسة الكبار». كان رئيس الاجتماع، المسئول عن إدارة أمور الاتحاد، محاميًا ممثلًا لإكسلسيور بيت، وكان يمتلك بئرًا صغيرة، على الأرجح لتعزيز مصداقيته ومكانته داخل الاتحاد. وكانت جماعتُه تحذو حَذوَه وتصوِّت لصالح قراراته. وأصبح الأمر، على حد قول الأب، كما لو كانت هناك قوةٌ مهيمنة تتحكم في التصويت على قرارات الاجتماع.
أراد باني معرفة جميع التفاصيل، وأغرقَ والدَه بالأسئلة. دافع الأب عن وجهة نظر العمال، بأقصى قَدْر من الدبلوماسية، وعلى استحياء كان هناك اثنان من الحضور على استعداد لموافقته. بدا للجماعة المسيطرة، وكأنه خائن، ولمَّحوا بذلك. أوضح الأب قائلًا: «أنت تعرف طبيعة الوضع هنا، يا بني؛ فالبلدة هنا لا تدعم فكرة الاتحادات، وهذا رأي أعضاء الاتحاد أيضًا، ومحاولة مناقشتهم بشأن ذلك الأمر غير مجدية بالمرة؛ فهذا أشبه بمناطحة جدارٍ حجري. كانت لديهم حُججٌ قوية لاتخاذهم هذا الموقف؛ فقد واجهوا مشاكلَ مريرةً مع العمالة التابعة للاتحادات. فعلى حد قولهم …»، وذكر الأب بالتفصيل الحُجَج التي أخبروه بها؛ فالاتحادات كانت تعني لهم الابتزاز، و«تعطيل الأعمال»، والفوضى، والإضراب، والاشتراكية.
«ماذا سيفعلون يا أبي؟»
«كل ما في الأمر أنهم لن يسمحوا للعمال بتكوين اتحاد. قلتُ لهم: «يبدو أن اتحاد أرباب العمل قد تحوَّل إلى منظمة لفض الإضرابات». وبنبرةٍ حادة رد عليَّ فريد نومان — رئيس الاتحاد — قائلًا: «هذا صحيح!» سيشكِّلون منظمةً مخصصة لفض الإضرابات، وقتما يحدث إضراب في حقول النفط الخاصة بهم؛ هذا ما قاله ريموند، نائب رئيس شركة فيكتور. ثم أضاف بن سكوت …»
«بن سكوت؟»
«نعم، كان هناك؛ يبدو أنه كان يتجسَّس على العمال من أجل الاتحاد، أو لاستخدام لفظ أكثر تهذيبًا، كان يُجري بعض «التحقيقات». فقد كان يعرف بالضبط ما قلتُه للعمال في اليوم السابق، وتساءل عما إذا كنتُ قد أدركتُ التأثير السلبي لموقفي الذي وصل إلى دعم المضربين معنويًّا. أخبرتُ بن أنني عادةً ما أعبِّر بحرية عما أفكر فيه، تمامًا مثلما أفعل في هذا الاجتماع، ومثلما سأفعل إذا طلبَت الصحف معرفة رأيي. ابتسم نومان ساخرًا، وقال: «حقًّا لا أظنُّ أن الصحف ستطلب ذلك يا سيد روس».»
وفعلًا لم تطلب الصحف معرفة أي شيء، سواء وقتئذٍ أو لاحقًا! كان من المفترض أن يكون الاجتماع سريًّا، مما يعني أنه لم يُسمح باقتباس كلام الأعضاء، لكنَّ الرئيس أو شخصًا ما أدلى للصحافة بتقريرٍ رسمي، يروي فيه كيف صوَّت الاجتماع للوقوف بحزم ضد تهديدات الاتحاد. وأعلن البيان الذي نُشِر في الصحيفتَين الصباحيتَين أن الوقت قد حان لأن يدعم جميع محبي أمريكا مصلحة البلاد، في مواجهة الأعداء من الداخل والخارج.
سأل باني: «ما الذي تنوي فعله؟»
«ما الذي يمكنني أن أفعل يا بني؟» كان وجه الأب شاحبًا ومرهقًا بشدة؛ كان باني يعرف أنه لم يكن معتادًا على السهر لوقتٍ متأخر، وعلى الأرجح أنه رقد مستيقظًا حتى الصباح، قلقًا بشأن هذا الوضع.
ومع ذلك، لم يستطع باني منع نفسه من زيادة صعوبة الأمر عليه. «هل سنسمح لهؤلاء الرجال بإدارة أعمالنا يا أبي؟»
«يبدو أننا مضطَرُّون لذلك، يا بني. فأنا لست في وضعٍ مالي يسمح لي بالمعارضة.»
«ولكن ماذا عن كل النفط الذي تمتلكه؟»
«لديَّ قدْرٌ كبير من النفط، لكن معظمه تحت الأرض، وأحتاج لإخراجه إلى بضعة ملايين من الدولارات في البنك.»
ومضى يشرح الممارسات الحديثة في إدارة الأعمال. لا يُوجد ما يكفي من المال، مهما كان ما لديك، فهناك دائمًا حاجةٌ إلى مزيد من المال لإنجاز الأعمال المستقبلية، إذا جاز التعبير. فقد كان يُودع ماله في البنك، وكان ذلك يعطيه الحق في اقتراض المزيد من المال من البنك مقابل «ورقة» تُلزِمه بالسداد. حاليًّا، كان الأب يحفِر الكثير من الآبار الجديدة، وكان يشتري معدَّاتٍ ومواد، ويدفع للعمال أجورهم مقدمًا، معتمدًا في كل ذلك على إيمانه الراسخ في النفط الذي سيحصُل عليه الشهر المقبل والشهر الذي يليه، كان يعلم أنه سيحصُل عليه، ووثقَت به البنوك، استنادًا إلى سُمعته، والقيمة المعروفة لأراضيه. ولكن إذا قرَّر الأب تحدِّي اتحاد أرباب العمل، فلن يتعامل معه أي بنك في ولاية كاليفورنيا، وسيتعيَّن عليه أن يدفع نقدًا مقابل كل شيء، وسيتعيَّن عليه إيقاف جميع أعمال التطوير التي يُجريها، وعندئذٍ، قد لا يكون قادرًا على الوفاء بالتزاماته المادية عندما يحين موعد استحقاقها.
صُدم باني مما سمعه؛ لأنه كان يظن أن والده من أغنى الرجال في الولاية وأكثرهم استقلالية. «يا إلهي، هل هذا يعني أننا لا نملك عملنا، يا أبي! لا نملك حتى أرواحنا!»
جعل هذا الكلام الأب يَشرَع يتحدَّث عن أحد موضوعاته المعتادة. فإدارة الأعمال ليست أمرًا سهلًا مثل إعداد حفلة شاي. وكان من الصعب الحصول على أراضٍ، وكما قال لابنه عدة مرات، هناك دائمًا أشخاصٌ يحاولون الاستيلاء على أراضيك. ولتأمين الثروة، لا بد من الانضباط، ويجب على الرجال الأثرياء التكاتُف معًا. قد يبدو الأمر قاسيًا إذا لم تفهمه، لكن هذه هي الحياة. انظر إلى تلك الحرب الدائرة في أوروبا؛ إنها شيءٌ فظيع، يجعلك تشعر بالغثيان من مجرد التفكير فيه، لكنها واقع لا مفر منه، وإذا كنتَ طرفًا فيها، وأنتَ بالفعل طرف فيها، فعليك المشاركة فيها والقتال. ينطبق الأمر ذاته على عالم الأعمال؛ فلن تحقِّق الأمان إلا إذا انضمَمتَ إلى المجموعة التي تمتلك القوة. وإذا ابتعدتَ عن القطيع، فسوف تمزِّقك الذئاب إرْبًا في لمح البصر.
لكن باني لم يكن مكتفيًا بهذه المبادئ العامة، وأراد معرفة تفاصيل هذا الوضع. «من فضلك أخبرني يا أبي، من هؤلاء الرجال الذين يتعين علينا العمل معهم؟»
أجاب الأب بأنهم مجموعة من الصعب تحديدها، يمكنك أن تطلق عليهم اسم «الجماعة المناهضة لفكرة الاتحادات»؛ كانوا رجال الأعمال الكبار الذين يديرون أمور إنجِل سيتي، والمناطق التي كانت تعتمد على المدينة، أو تدعم المدينة، حسب الطريقة التي ينظر بها المرء للأمور. كان لديهم العديد من الاتحادات، ليس فقط اتحاد أرباب العمل في قطاع النفط، ولكن رابطة التجار وأصحاب المصانع، وغرفة التجارة، ونادي المصرفيين. وكانت بينهم علاقاتٌ متشابكة ومتداخلة، وكانت مجموعةٌ صغيرة منهم تتولى زمام الأمور؛ حيث كان بإمكان فريد نومان الاتصال هاتفيًّا بعشرات الرجال وجعلك منبوذًا من مجتمع الأعمال، حينئذٍ لن يقرضك أي بنك دولارًا واحدًا، ولن يقبل أيٌّ من التجار البارزين منحك أي بضائع دون الدفع نقدًا، وقد يرفض البعض التعامل معك حتى مقابل الدفع نقدًا.
حتى آخر لحظة في عمره، لم يستوعب السيد روس قطُّ طبيعة ابنه الغريبة. وكان دائمًا يتفاجأ من الحدة التي كان يتعامل بها باني مع الأمور التي كان الأب يراها جزءًا من طبائع الأمور. كان الأب يقسم ذهنه إلى قسمَين؛ واحد للأمور التي كانت في نصابها الصحيح، والآخر للأمور القائمة، والتي عليك أن تسمح لها بأن تكون قائمة، وأن تدافع عنها، بطريقةٍ غريبة، غير حماسية، ومع ذلك عنيدة. ولكن عقل الصبي كان يمثل له ظاهرةً جديدة؛ فقد كان يتكون من قسمٍ واحد، حيث يجب أن تكون الأمور في نصابها الصحيح، وإذا لم تكن كذلك، يجب عليك تصحيحها، وإلا فما فائدة أن يكون لديك أيُّ حقوق؛ فأنت هكذا تخادع نفسك في هذا الشأن.
توسَّل الصبي قائلًا: «اسمع يا أبي، ألا تُوجد طريقةٌ ما يمكننا من خلالها التغلب على قوة الاتحاد الغاشمة؟ ألا تستطيع وقف مشاريعك الجديدة، وتحويل كل التعاملات إلى تعاملاتٍ نقدية، والتقدم ببطء؟ كما تعلم، قد يكون ذلك أفضل لك، بطريقةٍ ما؛ فأنت تبذل الكثير من الجهد، وبحاجةٍ ماسة إلى الراحة.»
لم يستطع الأب منع نفسه من الابتسام، على الرغم من الألم الذي علا وجه باني. وأجاب: «يا بني، إذا شرعتُ في معارضة الاتحاد، فلن أحظى بساعةٍ أخرى من الراحة، حتى تدفنَني هناك على التل بجانب جو جوندا.»
«لكنك تملك النفط، وإذا توصلتَ إلى تسوية الأمور مع الرجال، فسوف يستمر تدفق النفط. وستصبح الوحيد الذي يملك نفطًا في هذه المنطقة بأكملها!»
«هذا صحيح يا بني، لكن النفط ليس مالًا؛ يجب بيعه.»
«هل تقصد أنهم لن يشتروه منك؟»
«لا أستطيع الجزم بذلك، يا بني؛ فأنا لم أتعرض لموقفٍ كهذا من قبل، ولا أعرف ما الذي سيفعلونه. كل ما يمكنني قوله هو أنهم لن يسمحوا لي أن أكون سببًا في فشل خطتهم! ومن المسلَّم به، مثلما تشرق الشمس من الشرق، أنهم سيجدون طريقةً ما للنيل مني!»
٤
عاد الأب إلى حقل النفط وجمع ممثلي رجاله. بالطبع لم يخبرهم بالقصة كاملة، لكنه قال إنه بذل قصارى جهده لإقناع أصحاب العمل بآرائه، ولكنه فشل. وقال إنه ملتزم باتفاقياتٍ لا يمكنه خرقها، لكن سيسُره بشدة أن يلبي شروط العمال إذا وافق الاتحاد على أن يفعل ذلك. وإذا حدث إضراب، فسيتوقف العمل في أراضيه في الوقت الحاضر. ومع أن ذلك من شأنه أن يتسبَّب له في خسائرَ فادحة، وإغلاق أفضل آباره، لكنه سيحاول تحمُّل الموقف، وبإمكان رجاله اعتبار هذا اليوم إجازة، والعودة إلى العمل عند انتهاء الإضراب. في غضون ذلك، يمكنهم البقاء في الاستراحة، بشرط أن يُحافظوا عليها، ولا يتسببوا في حدوث أي تلفيات. كان هذا، بالطبع، تنازلًا غير عادي، وأعرب عن أمله في أن يقدِّره الرجال. أجابت اللجنة أن الرجال سيفعلون ذلك بلا شك، وكانوا ممتنين للغاية لموقف السيد روس. شعر أعضاء اللجنة بالإحراج وعبَّروا عن احترامهم الشديد للسيد روس؛ فكما ترى، من الصعب على العمال المتواضعين مواجهة صاحب عملهم، ذلك الرجل «المرموق» المتسلح بقوة المال السحرية.
دُعي إلى الإضراب من ظهر يوم الأربعاء، وخرج الرجال جميعًا في مسيرةٍ غنائية. لم ينضم أكثر من عشرة بالمائة من العمال إلى الاتحاد، لكنهم توقفوا جميعًا عن العمل، وعلى أي حال، لم تكن القلة التي ربما رغبَت في البقاء كافيةً لتشغيل الآبار. ولذلك أوقفوا تدفُّق النفط وتركوا كل شيء في مكانه، وتوجَّهوا نحو بارادايس؛ حيث عقدوا اجتماعًا جماهيريًّا. كان هناك ما يقرب من ثلاثة آلاف عامل في هذا الحقل، وقد جاءوا جميعًا، بالإضافة إلى معظم سكان البلدة، وعدد من أصحاب المزارع، وبدا أن تعاطف المجتمع المحلي كان بالكامل مع العمال.
ألقى توم أكستون خطابًا عرَض فيه مظالم الرجال، وأخبرهم، من واقع خبراته السابقة، كيف يجب القيام بالإضراب. كان أهم شيء هو الحفاظ على تعاطُف الآخرين معهم، من خلال الالتزام بالقانون وتجنُّب كل أعمال الفوضى؛ لم يكن من السهل تحقيقُ ذلك لأن أعضاء اتحاد أرباب العمل كانوا على دراية بهذا الأمر، وكذلك قادة الإضراب، وكانوا سيفعلون كل ما في وسعهم لاستفزاز الرجال لارتكاب أعمال عنف، وكان هذا هو الغرض الذي جاء من أجله «الحراس»، وكانت الصعوبة التي سيواجهها المضربون هي الابتعاد عن طريقهم. وفقًا لأكستون، كان هذا هو الحال بشكل عام في الإضرابات؛ وأضاف أن الحراس كانوا رجالًا من نوعيةٍ وضيعة، أتت بهم وكالات التحري الكبرى من أكثر المناطق إجرامًا في المدينة، وكانوا يحملون أسلحةً في جيوبهم الخلفية. لكن توم أكستون لم يكن متأكدًا مما إذا كان الرجال قد أحضروا لأنفسهم زجاجة الويسكي التي في الجيب الآخر أم أن أصحاب العمل هم من أعطَوهم إياها. على أي حال، أُحضر عددٌ كبير منهم إلى هنا على متن شاحنات، وفي الطريق توقفوا عند مكتب الشريف في سان إليدو، الذي ظل مفتوحًا ليلَ نهارَ لهذا الغرض، وأدَّوا جميعًا القسم بوصفهم «نوابًا للشريف»، ومُنحوا دروعًا فضية لارتدائها فوق طية صدر معاطفهم، وبعد ذلك أصبح كل ما يفعلونه قانونيًّا. كان يستمع إلى خطاب أكستون عددٌ قليل من هؤلاء النواب، وغني عن الذكر أنهم لم يُعجَبوا به.
أيضًا ألقى رئيس الاتحاد، الذي جاء إلى حقل النفط لقيادة الإضراب، كلمة، وكذلك أمين الاتحاد، ومنظم اتحاد النجارين، لم يكن هناك حدٌّ لعدد الخطب؛ لأن الرجال كانوا مُفعَمين بالحماس وكانت عقولهم منفتحة على الأفكار، كان الإضراب درسًا في معنى التضامن. انضم للاتحاد مئاتٌ من العمال، ودفعوا الاشتراكات من مدخراتهم البسيطة. شُكِّلَت اللجان، وبدأَت العمل في حظيرةٍ قديمة استُؤجرَت لتصبح مقر الاتحاد؛ حيث كانت المكان الوحيد الشاغر بأي مساحة، الذي تمكنوا من العثور عليه وسط هذه المنطقة المليئة بحقول النفط. كان المكان يعجُّ بالرجال، الرائحين والغادين، وكانت هناك جلبةٌ كبيرة، وكان المسئولون والمساعدون المتطوعون يعملون وكأن أشياء مثل الراحة والنوم غيرُ مهمة للكائن البشري. وكانت هناك مساكنُ مؤقتة متاحة؛ حيث لم يتكرم الكثير من أصحاب آبار النفط بتوفير مأوًى للمضربين! وكان الاتحاد قد طلب الكثير من الخيام، واحتاج إلى المزيد، عندما انتهت عقود إيجار الأكواخ التي كانت مستأجرةً في أرض الشركة. لحسن الحظ، لم يكن لدى الكثير من الرجال عائلاتٌ في هذا الحقل؛ فعامل النفط يشبه الطائر المهاجر؛ حيث ينتقل إلى حقلٍ جديد، وعليه أن يعمل لفترةٍ طويلة قبل أن يحصُل على ما يكفي من المال لإحضار زوجته وأطفاله من الحقل السابق.
وصل باني صباح يوم السبت، وبحلول ذلك الوقت كانت موجة الحماس الأولى قد انتهت. كان يومًا ممطرًا، ولم يكن للرجال مكانٌ ليجتمعوا فيه؛ ولذلك احتشدَت مجموعاتٌ منهم في المداخل، أو تحت المظلات، حيثما كان هناك مأوًى مجاني، بدوا محزونين إلى حدٍّ ما، كما لو أنهم وجدوا أن الإضراب أقلُّ روعةً مما كانوا يتوقعون. كان الرجال يتجوَّلون أمام الأراضي التي تحتوي على نفط، لا سيما تلك الخاصة بالشركات الكبرى، يرتدون قبعاتٍ ومعاطفَ مطاطية، وتعلو وجوههم نظراتُ ريبة، وكان بعضهم يحملون بنادق على أكتافهم، مثل الحراس العسكريين. وصل باني إلى أرض والده، وهناك رأى المنظر ذاته، وشعر بحنقٍ شديد؛ حيث تجسَّدَت أمامه تلك الكراهية التي كانت تؤلمه بشدة في العالم الصناعي، والتي كان يحلُم بشغف أن يستبعدها من حقل «روس الابن». لكن الحقيقة كانت أن وجهات نظر الابن عن العمل كانت تتلاشى مؤقتًا، بينما سيطرَت آراء الأب على مجريات الأمور وأثَّرَت فيها.
في المكتب الموجود بحقل النفط، ضغط باني على والده ليتحدث عن مسألة الحراس؛ هل كانوا حقًّا بحاجة إلى الحراس لحمايتهم من رجالهم؟
احتج الأب قائلًا: «لا بد أنك تمزح، يا بني! هل تريد أن تترك أرضًا تصل قيمتها إلى ثلاثة ملايين دولار دون حماية؟»
«متى وظَّفنا هؤلاء الحراس يا أبي؟»
«نحن لم نوظفهم يا بني؛ الاتحاد هو من يتولى هذا الأمر.»
«لكن ألا يمكننا توظيف حراسٍ تابعين لنا؟»
«لا أعرف أي حراسٍ أو حتى من أين تحضرهم. كنتُ سأفعل الشيء ذاته وأستعين بوكالةٍ ما.»
«ولِمَ لم نستخدم رجالنا الذين نعرفهم؟»
«هل تقصد استخدام المضربين كحراس؟ يا إلهي يا بني، يجب أن تعرف أننا لن نستطيع فعل ذلك!»
«ولِمَ لا؟»
«حسنًا، لسببٍ واحد، شركات التأمين؛ تخيل مدى السرعة التي سيُلغون بها تأميني ضد الحرائق! وبعد ذلك، إذا حدث حريق، فسأتحمل أنا كامل التكاليف. ألا تعي كل هذا؟»
بدأ باني يعي الصورة كاملة؛ حيث بدا كما لو أن العالم كله نظامٌ واحدٌ متقن، يناهض العدالة واللطف، ويعزِّز القسوة والألم. وكان هو ووالده جزءًا من هذا النظام، ويجب أن يساعدا في المحافظة عليه رغم أنفهما!
«هل ندفع أجور هؤلاء الحراس يا أبي؟»
«بالطبع، علينا دفع جزءٍ منها.»
«إذن خلاصة القول: علينا أن ندفع المال لفريد نومان لفض الإضراب؛ على الرغم من أننا قد لا نريد فض الإضراب!» علق الأب على هذا الكلام معبرًا عن استيائه الشديد الناجم عن الإغلاق المفاجئ لكل تلك الآبار المنتجة. والتفَت إلى بعض الأوراق على مكتبه، وجلس باني في صمتٍ لفترة من الوقت، يفكِّر فيما يدور بداخل والده. كانت أفكارًا أساسية، لا تتطلب أي فطنةٍ لفهمها. فقد كانت هناك إحدى عشرة بئرًا منتجةً في الحقل، وصل إجمالي إنتاجها حتى صباح الخميس الماضي إلى سبعة وثلاثين ألف برميل نفط في اليوم. وفي ظل الطفرة الحالية في الأسعار، كان هذا يعني دخلًا إجماليًّا يقارب المليونَي دولار شهريًّا. كان عقل الأب مشغولًا بكل الأشياء التي كان سيفعلها بتلك الأموال، والآن كان يفكِّر في المشاكل المتعلقة بكيفية تدبُّر أموره من دونها. كان وجهه لا يزال شاحبًا ومهمومًا، وزاد من قلقه ما يشعُر به باني. فقد تمنَّى باني أن يفوز الرجال، ولكن هل أراد أن يحدُث ذلك على حساب تحمُّل والده أعباءً إضافية؟
٥
علم باني أن بول قد انضم للمضربين. وكان السيد روس قد عرَض عليه البقاء، لتولي بعض مهام البناء؛ حيث لم يشترك النجارون في الإضراب. لكن بول فكَّر في الأمر وقرَّر أن مِن واجبه الانضمام لعمال النفط؛ حيث لم يكن بينهم الكثير من الرجال المتعلمين، كان ذلك أحد الأعباء التي فرضَها عليهم العمل لمدة اثنتَي عشرةَ ساعةً في اليوم؛ لذلك كان على السيد روس قبول استقالة بول، التي قد تكون دائمة أو مؤقتة، حسبما يراه مناسبًا. قال الأب إنه لن يُكِنَّ نحو بول أيَّ ضغائن، وبإمكانه العودة للعمل عندما ينتهي الإضراب.
توجَّه باني إلى منزل آل راسكوم لرؤية روث والاطمئنان على المنزل. قامت «المشرفة على أعمال البستنة» بالانضمام إلى رئيسِ النجَّارين في الإضراب، لكنهما كانا لا يزالان يمكُثان في المنزل، وكانت روث تتولى شئون الأب، كلما جاء إلى الكابينة. قالت روث إن بول لم يعُد بإمكانه القدومُ إلى هنا بعد الآن؛ فقد كان ينام على بعضٍ من أكياس القش في مقَر الاتحاد؛ حيث كان يعمل حوالي عشرينَ ساعةً في اليوم. لذا، كانت ميلي تقيم مع أختها، وكانتا تقضيان كل أوقاتِ فراغِهما في الخَبز، وكان السيد واتكينز العجوز يأتي، بالحصان العجوز نفسه الذي كان يجُر العربة القديمة ذاتها، وكان ينقل تلك المخبوزات إلى بارادايس؛ حيث يبيعها للمضربين. وكانوا قد أغلقوا الكشك المقام على أرضهم؛ لأنه لم يكن هناك أحدٌ سوى الحراس، وهم لن يُطعِموا الحراس، حتى ولو كانوا يتضوَّرون جوعًا. هذا ما قالَته ميلي، التي كانت ثرثارةً بعض الشيء، ونظرَت روث إلى باني وهي تشعُر بالخجل، ظنًّا منها أنه لم يكن من اللائق قولُ هذا الكلامِ أمامه. لكن باني قال إنه هو نفسه لم يكن مؤيدًا لفكرة وجود الحراس، وكان يشعُر بالاستياء عند رؤيتهم في المكان الذي كان من المفترض أن يكون ملكَه. قالت ميلي إن الرجل الذي كان يتولى حراسةَ أرضهم لم يكن شخصًا سيئًا؛ فقد كان خبيرًا بالغابات وإطفاء الحرائق، لكن بعض الحراس الآخرين كانوا فظيعين، وكان الوالد يخافُ أن تخرج الفتيات ليلًا؛ فقد كانوا يُكثِرون من استخدام الألفاظ النابية، ويشربون الخمور طَوالَ الوقت.
انبعثَت من المطبخ رائحةٌ شهية لكعك الزنجبيل الساخن، ولم يكن باني قد تناول غداءه بعد؛ لذا أعدَّت الفتاتان المائدةَ الصغيرة، وجلس الثلاثة، وتناوَلوا وجبةً من البيض المخفوق والبطاطس، والخبز والزبدة، وحليب الماعز وكعك الزنجبيل والفراولة؛ فقد كانت روث تُولي نباتات بول عنايةً فائقة؛ فلم يكن بإمكانها ترك أي كائنٍ حي يعاني، حتى النباتات. كانت روث الآن سيدةً شابةً تبلغ من العمر ثمانيةَ عشرَ عامًا تقريبًا؛ أي في عمر باني نفسه، لكنها كانت تشعُر بأنها أكبر سنًّا بكثير، كما هو حال الفتيات. كانت ترفَع شعرها الجميل فوق رأسها، ولم تعُد ملابسها تكشف عن ساقَيها. كانت دائمًا تبدو جميلةً وهي تعمل في المطبخ؛ لأن خديها كانا يتوردان، وكانت تتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الكفاءة في عملها؛ ولذا كانت ترفضُ محاولاتِ الآخرين مساعدتَها وتطلب منهم الجلوسَ وعدمَ العبث بالأشياء. ومثل جميع أفراد عائلة واتكينز، كانت عيناها زرقاوَين لامعتَين، لكنَّ عينيها كانتا تتميزان بنظرةٍ صريحةٍ وهادئة، تتغلغل في أعماقك، فلا تترك مجالًا للخِداع والفَظاظة.
كان باني في ذلك الوقت قد بدأ للتو في خوض تجربةٍ عميقةٍ في الديار؛ أول علاقة حب جدية له، والتي سنعلم عنها بعد قليل. كانت يونيس هويت فتاةً غنيةً وذات شخصيةٍ معقدة؛ ولذلك كانت معرفتُها أمرًا ممتعًا تارةً ومؤلمًا تارةً أخرى. أما روث فكانت فتاةً فقيرةً وبسيطة، وكان وجودُها يبعث على الهدوء والسكينة والراحة، أجواء تشبه أجواء صباح يوم السبت. كانت حياة روث تتمحور حول اقتناعها بأن أخاها بول كان رجلًا عظيمًا وصالحًا. حاليًّا كان بول قد ترك وظيفته التي كان يتقاضى عنها عشرة دولارات يوميًّا لمساعدة المضربين، وكانت روث تخبز للمضربين، وتبيع لهم الطعام إذا توفَّر لديهم المال، وعندما كان ينفَد منهم المال، كانت تُعطيهم الطعام مجانًا.
كانت ميلي أيضًا تسعَد بإعداد الطعام للرجال، لكن هذا لم يكن الأمرَ الوحيدَ الذي كانت تهتم به. فقد تسبَّب ظهور النفط في أرض آل واتكينز في حدوث تغييراتٍ كبيرةٍ في حياة ميلي؛ فلم تعُد راعيةَ أغنامٍ كما كانت سابقًا، بل ازدهرَت شخصيتُها وأصبحَت مثقفةً ولبقة، وبدأَت تهتَم بأناقتها حيث كانت تزين شعرَها بشريطةٍ ملونةٍ لامعة، وتضع حولَ رقبتِها قلادةً من الخرز الأصفر. شعَرَت ميلي بإثارةٍ بالغة عندما ذهبَت إلى البلدة في الليلة السابقة! فقد أصبح إيلاي الآن واعظًا متمكنًا، وكانت له كنيسةٌ خاصةٌ به، يقيم فيها الصلوات كل مساءٍ لتمجيد الرب، وقد حضَر إليها عددٌ كبيرٌ من المضربين، وعمَّت البركة أرجاء المكان، ووسط تجليات الروح القدس للحركة الخمسينية، سمعَت ميلي أخبارًا عن الإضراب؛ حيث كان هناك عراكٌ في شارع ماين؛ لأن أحد الحراس المخمورين تصرَّف بوقاحةٍ مع مامي بارسونز، وكان بول أحد أعضاء اللجنة التي ستقابل الشريف وتطالبه بسحب الخمور أو الأسلحة من نوابه، وغدًا ستذهب ميلي إلى الكنيسة مرةً أخرى؛ حيث ستُقام ثلاثُ صلواتٍ طوال اليوم، وقيل إن أصحاب الآبار سيُحضِرون يوم الإثنين عمالًا بدلًا من العمال المشاركين في الإضراب، ليبدأ النفط في التدفُّق من جديد من آبار إكسلسيور بيت، وكان الرجال يستعدُّون لوقف ذلك الأمر إن استطاعوا، وبالطبع ستكون العواقب وخيمة!
توجَّه باني إلى البلدة وتجوَّل في طريقه لرؤية معالمها، لكن هذا لم يبعث السعادة في نفسه. لم يستطع مقابلة بول؛ لأن بول كان يعمل بجدٍّ في مقر الإضراب، ولم يكن من الصواب أن يذهبَ باني إلى هناك؛ فقد يحسب شخصٌ ما أنه يتجسَّس عليهم. لم يعُد باني أمير النفط الشاب، الذي كان يمدحُه الجميع ويعجبون به، لقد صار عدوًّا، وكان يرى العداوةَ في أعينِ الرجال، حتى لو لم تكن موجودة. كان مثل جنديٍّ في جيش، يشعُر بأن قضيتَه غيرُ عادلة، وليس لديه استعدادٌ للقتال؛ ومع ذلك من الصعب على المرء أن يتمنَّى الهزيمة لنفسه!
في صباح يوم الأحد، كانت الشمسُ مشرقة، ولم يرَ باني من قبلُ مثل هذه الحشود في بارادايس. كان إيلاي يقيم قداسًا في البستان بجانب «مَقْدِسه» الجديد، وكان يُخبِر المضربين أنه لا داعي للقلق بشأن أجورهم إذا كانوا يؤمنون بالروح القدس، وذكَّرهم بمعجزة تكثير الخبز والسمك؛ فأبوهم السماوي قادرٌ على إطعامهم إذا وثقوا فيه. صدَّق البعضُ حديثَه وصرخوا «آمين»، وسَخِر البعضُ الآخرُ منه، وتوجَّهوا إلى الملعب بمبنى المدرسة؛ حيث كان الاتحاد يعقد اجتماعًا لأولئك الذين كانوا يؤمنون بأن الحصول على أجرٍ منتظمٍ أمرٌ ضروريٌّ لتأمين سبل العيش. ذهب باني إلى هناك، واستمع إلى خطابِ بول الافتتاحي. كان حدَثًا عظيمًا ليس فقط لباني، ولكن للبلدة بأكملها، في واقع الأمر، وممن أضاف إلى روعة الموقف ابنا آل واتكينز، عبقريَّا الحي المتنافسان، اللذان كانا يُلقِيان الخُطب في الوقتِ ذاتِه، ويدعوان إلى مبادئَ متعارضةٍ إلى حدٍّ ما!
لا بد من قول إن إيلاي لم يعارض الإضراب عن عمد، ومن المحتمل أنه لم يفهم بوضوحٍ كيف من المرجَّح أن تساعد تعاليمُه اتحاد أرباب العمل. فقد كانت شقيقتاه تعدان الخبز من أجل المضربين، وتكدَّان في العجن بأيديهما، بينما كان إيلاي يعلن طَوالَ الوقت أنه يستطيع من خلال قوة الصلوات إجراءَ معجزةِ الحصولِ على سلالٍ كاملةٍ من الخبز. سَخِر منه المتشكِّكون وسألوه عن سبب عدم تنفيذه لتلك المعجزة، فأجاب إيلاي أنه بسببِ ضعفِ إيمانهم. لكنهم قالوا إن الأمر بيده؛ فإذا أنتج رغيفًا واحدًا من الخبز بطريقة الكتاب المقدس، فسيزيد إيمانهم أضعافًا مضاعفة، وستنضَم الحركة العمالية المنظمة بأكملها إلى كنيسة الوحي الثالث!
كان بول يمتلك صوتًا رخيمًا وناضجًا، وكان يتحدث ببطءٍ وبطريقةٍ مثيرة للإعجاب. لقد كان خطيبًا جيدًا؛ لأنه لم يكن يستخدم أية حيل، وكان يعني كل كلمة يقولها. كان هناك صراعٌ وشيك حول مسألة عودة العمل في الآبار، وكان بول يستشير المحامين، ويخبر المضربين بالضبط بما يحقُّ لهم فعلُه، وما يجبُ الامتناعُ عنه. وبهذا سيحتفظون بحقوقهم القانونية، ولن يُضعِفوا قضيتهم بانتهاك القانون، ومَنحِ أعدائهم فرصةَ إيقاعهم في الخطأ. كان مستقبلهم كله على المحك، ومستقبل زوجاتهم وأولادهم إذا تمكَّنوا من الفوز بمسألة النوبات الثلاث في اليوم، فسيصبح لديهم وقتٌ للدراسة والتفكير، ورفع مستواهم الاجتماعي، وإبقاء أولادهم لفترةٍ أطول في المدرسة. كانت تلك هي القضية الحقيقية في هذا الإضراب؛ فإذا كانت الديمقراطية لا تعني ذلك، فلا معنى لها، وسيصبح الحديث عن الوطنية هُراء. هتَف الحشد الغفير لبول، وبمشقة تمكَّن باني من منع نفسه من الهتاف معهم، وابتعَد وهو يشعر بأنه بلا قيمة، وأنه لا يعرف شيئًا عن الحياة. كان لديه الوقتُ الكافي للتفكير في الأمر أثناء رحلة العودة الطويلة إلى بيتش سيتي بمفرده، وصل في منتصف الليل، وطَوالَ الطريق كان يسمع صوتَ بول الذي غطَّى على صوت هدير المحرك، متحديًا كل ما كان باني يحسب أنه يؤمن به!
٦
بعد عودته إلى المدرسة، اضطُر باني لأن يحصل من الصحف على أخبار الإضراب، لكن هذه الأخبار لم توفِّر له الكثير من الراحة. فقد اعتَبرَت الصحف الإضراب جريمةً بحق الوطن في ظل هذه الأزمة، وعاقبت المضربين، ليس فقط بالتنديد بهم في مقالاتٍ افتتاحيةٍ طويلة، ولكن بنشر قصصٍ شنيعةٍ عن سلوك المضربين السيئ. في صباح يوم الثلاثاء، كتبَت الصحف عن مجيء العديد من الشاحنات المحملة بعمال النفط — لم توضح الصحف أنهم جاءوا ليُفسِدوا الإضراب — إلى أرض شركة إكسلسيور بتروليوم، وأنهم قُوبلوا، عند المداخل، بغوغاء أمطروهم بالسباب والألفاظ النابية، وألقَوا عليهم الحجارة. ونُشر البيان الكامل الذي أصدره اتحاد أرباب العمل، الذي أدان فيه مدى تحكُّم أعمال الشغب في المجتمع المحلي المسالم.
في اليوم التالي، جاء دور شركة فيكتور أويل، ولقلقِ القائمين عليها من تكرار الأمر ذاته أحضروا مئاتِ الرجالِ إلى روزفيل على متن القطار، ومن هناك توجَّهوا إلى بارادايس بالسيارات، برفقة حراسٍ مسلَّحين للدفاع عنهم. حدثَت مشادَّاتٌ أخرى مع الغوغاء، وكذلك معاركُ بين نواب الشريف والمضربين في أماكنَ أخرى مختلفة. وبعد وقتٍ قصير، أصيب العديد من المضربين بجروح وتعرَّض عددٌ من نواب الشريف للضرب المبرح. ووجَّه الاتحاد نداءً إلى الحاكم لإرسال مليشيات لحماية حقوقهم؛ حيث كانت تُهدِّد أمنَهم مجموعةٌ من المجرمين الخارجين عن القانون، الذين كانوا يتحدَّون ولاية كاليفورنيا، ويعرقلون عملية سير الأمور في البلاد التي كانت على مشارفِ حرب.
من كل عشرة أشخاص قرءوا هذه الأخبار في الصحف صدَّقَها تسعة. وفعليًّا كان كل من يعرف باني يصدقونها، وكانوا يعتقدون أنه كان غريب الأطوار إلى حدٍّ ما؛ لأنه كان مترددًا وشكاكًا. كانت العمة إيما، على سبيل المثال، قد عرفَت للتو أن المضربين بطبيعتهم مجرمون، وعملاء للألمان، أو على الأقل متحالفون مع عملاء ألمان، وليس هناك فارقٌ بين الأمرَين! كانت السيدات في الأندية يحصلْنَ على معلوماتٍ مباشرة من داخل المقر الرئيسي؛ وذلك لأن عديداتٍ منهن كن متزوجاتٍ برجالٍ ذوي نفوذ، كانوا على دراية بما يجري، ويبلغونه لزوجاتهم؛ ومن ثَم كانت الزوجات يخبرْنَ العمة إيما، التي كانت تشعر بسعادةٍ غامرة لمعرفتها بهذه المعلومات؛ حيث كان الوضع المالي لصهرها يُخوِّلها ذلك.
كانت بيرتي، التي زادت شخصيتها سوءًا، لا تزال تمثل النموذج الأعظم للتكبر! وكانت محاطةً بالمجموعة الأصغر سنًّا، التي كانت على دراية أيضًا بكل شيء، لكن دون الحاجة إلى انتظار أي شخصٍ لإخبارهم. كانت بيرتي تتكرَّم بزيارة إحدى آبار النفط الخاصة بوالدها بين الحين والآخر، وهناك كانت تلاحظ وجود سلالة من كائناتٍ دنيا تضطلع بمهامها المحدَّدة، كائنات ملطخة بالسواد، تلمس قبعاتها تحيةً لها، أو تنسى فعل ذلك، ولكن في كلتا الحالتَين كانت تُحدِّق فيها في رهبةٍ بلهاء، وفي عيونها الذليلة ظهرت علاماتُ ذكاء شبه بشرية، جعلَت بيرتي تشعر بعدم الراحة. لقد زارت بارادايس مرة، وقضت ليلة في الكابينة، وتعاملَت بتعالٍ مع بول وروث اللذَين توليا خدمتها، وشعَر كلاهما بذلك، ولم يستطيعا قول شيء، وتفضَّلَت بيرتي بإقرار أنهما كانا عاملَين محترمَين جدًّا، لكنها لم تستطع فهم سبب إصرار شقيقها على إقامة علاقةٍ وثيقة معهما. هاج باني وصاح غاضبًا: «يا إلهي، ما الذي يميِّزنا عنهما؟» وبالطبع، كان من المثير للاشمئزاز تذكير أخته بأن والدهما كان يومًا ما يقود البغال في معسكر بناء من فترةٍ ليست بعيدة، وأنه لا يُوجد فرق بين قيادة البغال وبناء المنازل. قالت بيرتي بتعالٍ إن مكانة والدها ارتقت بسبب تفُّوقه الفطري؛ فقد كانت تعلم أنه من «سُلالةٍ طيبة»، رغم أنها لم تستطع إثبات ذلك. أجاب باني أنه ربما كان بول وروث من «سلالةٍ طيبة» أيضًا، وكانا بالتأكيد في طريقهما للارتقاء بنفسَيهما.
كان موضوعًا لن يتوقف الاثنان عن الخلاف بشأنه أبدًا. وأصرَّت بيرتي على أن بول كان متكبرًا، واستغل طبيعة باني الطيبة، وكان يتعامل معه بتعالٍ لا يُطاق. فقد اعتاد بول أن يدعوه «بُني»، كما كان الأب يفعل، وكان هذا تصرفًا وقحًا! وكانت بيرتي تشير إلى صديق شقيقها باسم «صديقك القديم بول»، وقالت بيرتي: «لقد رحل صديقك القديم بول وخان أبي، وهذا بالضبط ما كنتُ أخبرك به طوال الوقت، لا يمكنك الوثوق بهؤلاء الناس.» وعندما وجدَت بيرتي أن باني كان يتعاطف مع بول، وينجذب نحو «الغوغاء»، وصفَته بأنه صعلوكٌ صغير بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، وعاق، وما شابه ذلك. فقد كان والدهما يخاطر بحياته، ويبقى هناك وسط هؤلاء الغوغاء الخارجين عن القانون، وهو أمرٌ لم يفعله أيٌّ من أصحاب الآبار الآخرين؛ فقد ظلوا في مكاتبهم في مدينة إنجِل سيتي، وتركوا وكلاءهم يفُضُّون الإضراب نيابةً عنهم. لكن الأب تأثر بالطبع بمفاهيم باني العاطفية السخيفة، وإذا حدث أي شيء له هناك، فإن باني سيتحمل المسئولية طوال حياته.
عاد الأب إلى الديار بعد بضعة أيام، وشعَرَت بيرتي بمزيد من السخط عندما أخبر أفراد الأسرة أنه سيتعيَّن عليهم تقليل نفقاتهم حتى ينتهي الإضراب؛ فقد كان يواجه مشاكل في التمويل. اقترحتَ بيرتي بسخرية أن باني قد يرغب في بيع سيارته لمساعدة والده على الخروج من الأزمة. أخبرهم الأب عن حدوث اضطراب بسيط في أرضه، حيث تشاجر أحد المضربين مع حارس في الليل، لم يكن من الواضح على من يقع اللوم، لكن قائد الحراس هدَّد بسحب جميع الحراس إذا لم يطرد الأب المضربين من استراحة العمال ومن أرضه.
توصلوا أخيرًا إلى حلٍّ وسط يضع فيه الأب سياجًا؛ ليفصل بين أرضه واستراحة العمال ومنازلهم التي كانت تقع في الجزء القريب من الطريق. كان السياج مصنوعًا من الأسلاك الشائكة، ووصل ارتفاعه إلى ثماني أقدام، وعلَّقَت بيرتي ساخرة أنه سيكون مكانًا آخر يمكن أن يزرع فيه باني وصديقتُه روث الزهور. كان تعليقها مؤلمًا؛ لأنه لخص لباني الدور الذي كان يلعبه في هذا النضال، زراعة الزهور على سياج الأسلاك الشائكة الذي يفصل أصحاب رأس المال عن العمال.
وبَّخ الأب بيرتي قائلًا إن الرجال ليسوا مجرمين، بل كان معظمهم رجالًا محترمين ومواطنين أمريكيين صالحين؛ لم يكن للألمان أي علاقةٍ بالموضوع على الإطلاق. كانت المشكلة أنهم تعرَّضوا للتضليل على يد المحرِّضين. لكن هذا لم يغيِّر رأي بيرتي؛ لأن «بول صديق باني القديم» كان من أسوأ هؤلاء المحرِّضين. ولم تكن بيرتي تحبِّذ فكرة نوم والدها هناك في تلك الكابينة المنعزلة، وترك آل واتكينز يُعِدون الطعام له. فقد سمعَت قصة في منتهى الوحشية عن عمال أحد المطاعم الذين كانوا مضربين عن العمل، ووضعوا السم في الحَسَاء، وعندما انفجر الأب وباني من الضحك على هذه القصة، قالت إنها لا تعني بالضبط أن بول أو روث سيفعل مثل هذا، لكنهما بالتأكيد لا يمكنهما الاستمتاع بالطهو لكلٍّ من المضربين والأب في الوقت ذاته، ولا بد أن يشعر الأب بالاستياء لأنهما تركاه في وقت الأزمة. انتهز باني الفرصة ليعلن أن روث كانت فتاةً مخلصة، وهنا قاطعَته شقيقتُه، فبالطبع، كانت على علمٍ بإعجاب باني بالآنسة روث الرائعة، وربما كان الشيء التالي الذي سيسمعانه هو أنه كان يُحبها، أم أنه كان يحب ميلي، أو أيًّا كان اسم الفتاة الأخرى؟
نهض باني وخرج من الغرفة. كان باني يحب فتاةً أخرى، وكان تعصُّب أخته الطبقي أمرًا بغيضًا. ومع ذلك، كان عليه أن يذكِّر نفسه بأن بيرتي، داخل دائرتها الخاصة، كانت كريمة، وأحيانًا رقيقة القلب. فقد كانت مخلصةً لأصدقائها، وتساعدهم إذا واجهوا المشاكل، وتضع الخطط للترفيه عنهم. فكما ترى، كانت بيرتي تعرف هؤلاء الناس، كانوا جميعًا أغنياء؛ ولذا اعتبرتهم أندادًا لها، وكانت على استعدادٍ للدخول في حياتهم. لكنها لم تكن تعرف عمال النفط، وكانت تعتبرهم كائناتٍ أقلَّ مكانة، خُلقوا من أجل إرضائها، ويدينون لها بالخضوع، وهذا ما كانوا يُحاولون التهرُّب منه.
وهنا يظهر السؤال التالي: ما الذي كانت تمثله بيرتي حتى يتعين على عمال النفط أن يدعموها؟ كانت شابةً أنيقةً وذكية، ماهرة في إنفاق قدْرٍ كبير من المال لتستمع بحياةٍ رغدة، بصحبة شبابٍ آخرين يتمتعون بالقدرات ذاتها، وكانت تقضي الوقت بصحبتهم، ويتمحور حديثها حول محادثاتهم وأنشطتهم وممتلكاتهم. كانت بيرتي تعيش حياةً مفعمة بالحيوية، ونادرًا ما كانت تعود إلى المنزل قبل الساعات الأولى من الصباح، وإذا كانت مستيقظةً قبل الغداء؛ فذلك لأن لديها موعدًا عليها الإسراع للحاق به. فما فائدة امتلاك الكثير من المال إذا لم تستمتع به؟ كان هذا هو المذهب الذي كانت تحاول بيرتي إقناع أخيها الأصغر به، وكانت العمة إيما تُكرِّر الكلام ذاته، والآن جاء دور يونيس هويت، التي كانت قد اختارَت مرافقة باني، وكانت تتمتَّع بالتأثير الأقوى عليه. فكنَّ جميعًا يصحْنَ به ليتمتع بحياة الشباب! ويسألْنَه: لماذا تحمل كل أعباء العالم على عاتقك؟ خاصةً وأنه ليس هناك ما يمكنك فعله؛ لأن العالم كان محدَّدًا ومقدرًا، ولن يسمح لك بالمساس بأقل التباينات المكتسبة والممنوحة!
٧
أغرقَت الغواصات الألمانية العديد من السفن الأمريكية، وكانت أمريكا في طريقها إلى الحرب، وجرى استدعاء الكونجرس، وكانت البلاد بأكملها في حالة تأهُّبٍ للدخول في الحرب. كانت الصحف تنشُر صفحاتٍ من إرسالياتٍ مرسلة من واشنطن ونيويورك، ومن عواصم أوروبا؛ لذلك لم يكن مفاجئًا أن تتلاشى أخبار إضراب النفط ببارادايس. ومن وقتٍ لآخر كان يُنشر خبر في الصفحة الخلفية لا تتعدى مساحته بوصةً واحدة أو اثنتَين يعلن عن القبض على ثلاثةٍ من المضربين، بتهمة ضرب عاملٍ بديل في ليلة مظلمة، وأعلن أصحاب الآبار أن المضربين حاولوا إشعال النيران في المنطقة، وأنه كان هناك عملاءُ ألمان بين مثيري الشغب؛ أشياء صغيرة من هذا القبيل، لتذكيرك بأن ثلاثة آلاف رجل، وزوجات وأطفال الكثير منهم، كانوا يخوضون صراعًا يائسًا مع الجوع.
كان الأب بالطبع يتلقَّى تقاريرَ يوميةً عما كان يحدث، وهكذا كان باني يحصل على الأخبار. وشيئًا فشيئًا، جمع أصحاب الآبار عددًا من الرجال، ودفعوا لهم أجورًا إضافية، وأحضروهم إلى حقل النفط. نادرًا ما كان هؤلاء الرجال يتمتعون بالمهارة، وتسبَّب ذلك في حدوث العديد من الحوادث، ومع ذلك، عاد النفط يتدفق من عددٍ من الآبار، وأُجريَت بعض أعمال الحفر في بئرَين أو ثلاث. لكن في أرض السيد روس، كان كل شيء معطلًا، واستطاع باني ملاحظة انزعاج والده من هذا الموقف. فقد كان يخسر الكثير من المال كل يوم، وفي الوقت ذاته كان يفقد علاقته برفاقه من أصحاب الآبار، الذين ظنُّوا أنه كان إما مخبولًا وإما خائنًا، لكنهم لم يتمكنوا من أن يحدِّدوا أيهما هو. بالطبع، كان الخمسة الكبار سعداء لرؤية خسارة أحد المستقلين، لكنهم تظاهروا بالسخط، ونشروا الشائعات والأكاذيب عن منافسهم، وبالغوا في حجم المتاعب التي كان يسبِّبها في مجال النفط.
كان باني يرى كل ما يحدث، وتأثَّر بشدةٍ من القيل والقال الذي نقلَته لهم العمة إيما من النوادي، ونقلته بيرتي من حفلاتها المنزلية وحفلات العشاء الراقصة. ثم كان يفكر في الرجال، الذين كانوا يتشبثون بيأس في حُلم الحصول على حياةٍ أفضل، وكان قلبه ينفطر بسبب كل هذه المشاعر المتناقضة. لكن كان هناك شيءٌ واحد فقط يمكن أن يسوِّغ موقف الأب؛ هو أن يفوز الرجال، لا بد أن يفوزوا، لا بد من ذلك! كان الأمر أشبه بما كان يشعر به باني عند مشاهدة مباراة كرة قدم، والهتاف بأعلى صوتٍ للفريق المضيف. فقد كان لديه دافعٌ للنزول إلى الملعب ومساعدة الفريق، لكن للأسف، حظرَت قواعد اللعبة مثل هذا الفعل!
ظهر المزيد من المشاكل مع الحراس في أرض السيد روس، واتجه الأب إلى حقل النفط، ورافقه باني لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. كان فصل الربيع قد حل، وكانت التلال خضراء وأشجار الفاكهة مثمرة وفي غاية الجمال! ومع ذلك كان ملايين من البشر بائسين، ولم يتمكَّنوا من الشعور بالسعادة في مثل هذا العالم. فبالرغم من ظهور معالم فصل الربيع في جميع أنحاء البلاد، كان الجميع يستعدون للدخول في الحرب، وتشكيل جيوشٍ ضخمة، وقتل أناسٍ آخرين يبحثون أيضًا عن السعادة! قال الجميع إن الأمر حتمي؛ ومع ذلك لم يتوقَّف شيءٌ ما بداخل باني عن الحُلم بعالمٍ لا يشوِّه فيه الناس بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا، ولا يدمِّرون فيه سعادة الآخرين فحسب، بل سعادتهم أيضًا.
وصلا إلى بارادايس، وهناك كان الوضع غريبًا؛ حيث كان يتجول في الشوارع رجالٌ عاطلون، بينما يقف الحراس على مداخل جميع الأراضي التي تحتوي على آبار نفط. وكان شخصٌ ما يُلقي خطابًا في قطعةِ أرضٍ شاغرة، وحشدٌ يستمع إليه. كانت الأجواء مناسبة لجميع المهووسين بتعليم الأشياء، كالمبشِّرين المتجولين، وبائعي الأدوية المسجَّلة، والداعين للاشتراكية؛ حيث استمع الناس إليهم جميعًا دون تحيُّز. وجد باني أن غرفة القراءة التي أنشأها أصبحَت ذات فائدةٍ الآن؛ حيث قرأ بعض الرجال جميع المجلات، بما في ذلك الإعلانات!
اجتمع الأب بلجنةٍ من رجاله. وأبلغوه أن الوضع أصبح مستحيلًا؛ فقد كان الحراس يثيرون المشاكل عمدًا، وكانوا ثَمِلين أغلب الوقت، وغير مدركين لأفعالهم وعواقبها. ولذلك نصب الاتحاد المزيد من الخيام، وكان الرجال المقيمون في الاستراحة على وشك المغادرة. أما أولئك الذين كانوا برفقة عائلاتهم، وكانوا يشغلون المنازل، فسيحاولون البقاء فيها، إذا سمح لهم السيد روس بذلك؛ فلم يكن هناك مكانٌ تذهب إليه العائلات، ولم يجرُءوا على تَرْك النساء والأطفال وحدهم في الحي الذي كان يكتظُّ بالحراس. أجرى الأب مقابلةً مع قائد الحراس، وحصل على معلوماتٍ تفيد بأن الرجال بالفعل كانوا يشربون الخمور ليتحمَّلوا العيش في هذا المكان المعزول. اضطُر الأب إلى الإقرار بصحة هذا الأمر؛ فتلك هي طبيعة الرجال، وعندما تحتاج إلى حماية ممتلكاتك في حالات الطوارئ، يتعيَّن عليك أن تقبل بتعيين أي حراسٍ مهما كانت تصرفاتهم. لم يكن باني مقتنعًا بهذه الحجة، لكن باني كان شخصًا «مثاليًّا»، ونادرًا ما يشعر هؤلاء الأشخاص بالرضا في هذا العالم القاسي.
ذهب باني لزيارة روث وميلي، أفضل مصدرَين للحصول على الأخبار! لم يمنعهما انشغالهما بالخبز عن إطلاعه على آخر الأخبار، وأخبرَتْه ميلي بسيل من القيل والقال. كان ديك نيلسون في المستشفى بعدما فقد جزءًا من فكه جرَّاء طلقٍ ناري، وتذكَّر باني ذلك الشاب اللطيف، الذي كان يعمل في البئر رقم إحدى عشرة؛ كان قد طرح حارسًا أرضًا لأنه وجَّه كلامًا بذيئًا لأخته، فأطلق حارسان آخران النار عليه. وكان بوب مورفي في السجن؛ إذ كان قد قُبِض عليه عندما كانوا يحضرون العمال البدلاء إلى أرض شركة فيكتور. وهكذا ظلت تقول اسمًا تلو الآخر، وكان باني يعرفهم جميعًا. اتسعَت عينا ميلي من الرعب؛ فقد كان ما يحدث يحمل قدرًا كبيرًا من الإثارة لم تشهده من قبلُ في سِنِي عمرها القليلة. فقد تستمتع ميلي بظهور الشيطان، بحوافره وقرنَيه ومِذْراته ورائحة الحريق التي تنبعث منه، في اجتماع بمَقْدِس الوحي الثالث، وعلى نفس المنوال، كانت ميلي تستمتع بوجود هذا الطاقم من الحراس الوحشيين الذين كانوا يشربون الويسكي ويُردِّدون السباب، هؤلاء الهمج الذين لفظهم فجأةً عالم المدينة السفلي إلى قريتها المسالمة التقية، المزدانة بأشجار الربيع.
سأل باني عن بول، وعلم أنه قد وقع الاختيار عليه للانضمام إلى لجنة الإضراب، وكان يحرِّر صحيفةً صغيرة ينشُرها الاتحاد؛ كانت صحيفةً رائعة، وسألَت الفتاتان باني عما إذا كان قد اطَّلع عليها. أعطته الفتاتان نسخةً من الصحيفة التي كانت تتكون من صفحةٍ مزدوجة، منسوخ عليها الكلام على كلا الجانبَين لتقليل التكاليف، وبأعلى الورقة الأولى برج حفرٍ صغير، إلى جانب العنوان، «نصير حقوق العمال». وكانت مليئةً بأخبار عن الإضراب، وتحذيرات، ومناشدة لحاكم الولاية للتصدي لعنف نواب الشريف ورفض الشريف مَنْعهم من شرب الخمور، كما كانت هناك قصيدة بعنوان «صحوة العمال، للسيدة ويني مارتن، زوجة أحد عمال إعداد المعدَّات». كان بول قد عاد لتوِّه من رحلةٍ إلى بعض حقول النفط الأخرى؛ حيث ذهب لإقناع الرجال بالانضمام إلى الإضراب، وقد حاول القائمون على «مركز النفط» إلقاء القبض عليه، لكنه كان قد تلقَّى تحذيرًا وتمكَّن من الهرب من طريقٍ خلفي.
كانت أمريكا في طريقها لدخول الحرب، وكان الجميع متحمسين بشأن هذا الأمر، وفي المدرسة كانوا ينشدون الأغاني الوطنية وينظِّمون فيالق التدريب. ونتيجةً لذلك قلَّ الاهتمام الذي كان يحظى به إضراب النفط ولم يعُد أحد يلتفت إليه، إلا أنه كان يستحوذ على تفكير باني، وبدا وكأنه حربُه الأهم. فهو لم يستطع تجاهل كل هذه الغطرسة السلطوية، وهذا التحدي للقانون والأخلاق، وهذه الأكاذيب البائسة بشأن العمال! حينئذٍ استوعب باني الحقيقة، من خلال تعاملاته المباشرة مع الرجال والنساء الذين كان يعرفهم، ثم تذكَّر الحكايات التي قرأها في الصحف، وشعَر بالكراهية تجاه نفسه لأنه كان يعيش على المال الذي تحصَّل عليه بهذه الطريقة! فقد كان والده يدفع «اشتراكات» الاتحاد؛ ومن ثَمَّ كان يدفع رواتب هؤلاء الحراس الأوغاد، ويدفع ثمن بنادقهم وذخائرهم، وزجاجات الويسكي الذي بدونه لن يبقَوا!
ما الذي كان يعنيه هذا؟ ما الذي كان يكمن وراءه؟ شيءٌ واحد فقط، هو جشع مجموعةٍ صغيرة من أصحاب الآبار المسيطرين، الذين لا يدفعون لرجالهم أجورًا كافية، بل يجعلونهم يعملون لمدة اثنتَي عشرةَ ساعةً في اليوم. وكانوا يتعاملون مع الرجال بالمسدسات والبنادق، ويبعدونهم عن الآبار، مصدر رزقهم الوحيد، ويجعلونهم يتضوَّرون جوعًا للرجوع للعمل بالشروط القديمة الظالمة. كان هذا هو صلب الموضوع بمنتهى البساطة، وهنا، في مطبخ روث الصغير، كان بالإمكان رؤية التفاصيل من الداخل. فقد اضطُرَّت الفتاتان إلى تخفيض سعر الخبز الذي كانتا تبيعانه؛ لأن بعض الناس لم يستطيعوا تحمُّل سعره! فعمال النفط لا يدَّخرون الكثير؛ لأنهم مضطرون للتنقُّل وإحضار عائلاتهم، أو إرسال المال إليها. والآن بعدما نفدَت مدخراتهم، لم تكن المساهمات التي كانت تأتي من الحقول الأخرى كافية، وكان بول، الذي كان قد ظل يدَّخر المال من أجل أن يدرُس ويصبح عالِمًا، يستخدم هذا المال لدعم العائلات الجائعة، وكانت روث وميلي تكرِّسان كل وقتهما للمساعدة، وحتى السيدة واتكينز العجوز كانت تساعد عندما تستطيع!
نقل باني معاناته إلى والده. وسأله عما سيفعله الناس عندما لا يعود لديهم طعامٌ للبقاء على قيد الحياة. ردَّ عليه الأب بأنه لن يكون أمامهم سوى العودة إلى العمل! «ألن يعني هذا فشل الإضراب يا أبي؟» رد الأب بلى، إذا لم يتمكَّنوا من الفوز، فهذا يعني الفشل؛ تلك هي طبيعة الإضرابات، التي كانت تنطبق على كل شيءٍ آخر في الحياة. فالحياة قاسية، وعليك، عاجلًا أم آجلًا، أن تتعلم الدرس منها. لا بد من استسلامهم، وانتظار الوقت المناسب الذي يُصبح فيه اتحادهم أقوى. «لكن يا أبي، كيف يمكنهم جَعْل اتحادهم أقوى مع مقاطعة أصحاب الآبار لهم؟ أنت تعلم أنهم طردوا الرجال الذين انضموا للاتحاد؛ ولذلك إذا استسلموا، في الوقت الحالي، فإن معظم الشركات لن تعيد العمال الذين شاركوا في الإضراب.» وقال الأب إنه يعرف ذلك، لكن على الرجال الاستمرار في المحاولة، فليس هناك سبيلٌ آخر. بالتأكيد لم يكن بوسعه دعم الإضراب بإبقاء آباره معطلة! فعلى الرجال أن يفهموا أنه لم يكن بإمكانه تحمُّل الخسارة أكثر من ذلك، ولم يكن لديهم الحق في توقع ذلك منه، ويجب عليهم إما إغلاق الآبار الأخرى، وإما رؤية آبار السيد روس مفتوحة. شعر باني بخيبةِ أملٍ كبيرة، وأخفى بداخله، لشعوره بالخزي الشديد، الفكرة التالية: «سنعيِّن في أرضنا العمال الذين لم ينضموا للاتحاد!»
٨
كان المنزل هو المكان الوحيد الذي كان باني يشعر فيه بالسعادة. وكان يُمضي عصر يوم السبت هناك لمساعدة روث وميلي؛ فقد كانت هذه هي المساعدة الوحيدة التي سُمح له بتقديمها للإضراب! كانوا يقضون جانبًا من الوقت في الحديث عن المعاناة التي كانوا يعيشونها، وجانبًا آخر يمرحون ويمزحون مثل غيرهم من الشباب، لكنهم كانوا يكدُّون في العمل طوال الوقت؛ حيث كانوا يصنعون من الطحين الخاص بالاتحاد أنواعًا مختلفة من المأكولات. في وقت العَشاء، جاء السيد واتكينز على متن العربة، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يأتي فيها، وأعطَوه المأكولات، وتوجَّهَت ميلي معه إلى مقر الاتحاد، بينما مكث باني مع روث، وساعدها على تنظيف المكان، وحاول شرح المأزق الذي فيه والده، ولماذا لم يستطع باني مساعدة الإضراب مساعدةً حقيقية.
ذهب إلى الاجتماعات يوم الأحد، واستمع إلى خطابٍ آخر لبول. بالإضافة إلى الكآبة التي كانت تعلو وجه بول طوال الوقت، كان يبدو هزيلًا بسبب تحمُّل أسابيع من قلة الطعام والنوم، وكان صوتُه يحمل في طياته مشاعرَ جياشة؛ تحدَّث عن رحلته إلى حقول النفط الأخرى، وأنه لم يكن هناك عدالةٌ في أي مكان؛ فقد كانت سلطات البلدة والمقاطعة والولاية مجرد بيادقَ في يد أصحاب الآبار، تفعل كل ما في وسعها لقمع الرجال وتفكيك اتحادهم. وفي خِضَم هذه المعاناة القاسية، بدأَت روح بول تكتسب الصلابة، وشاركَه في ذلك الشعور حشدُ العمال، وتعهَّدوا من جديدٍ بالتضامن مع بعضهم، وشعر باني بحماس هذا الحشد، وتاق إلى أن يكون جزءًا من هذه التجربة الجماعية العظيمة، لكنه أحجم عن قراره، مثل الشاب في القصة المذكورة بالكتاب المقدَّس الذي كان لديه الكثير من الممتلكات.
كان بول قد رآه وسط الجموع، وبحث عنه بعد انتهاء الاجتماع. وقال له: «أريد أن أتحدث معك»، وبمجرد أن ابتعدا عن الآخرين، دخل بول في صلب الموضوع مباشرةً دون إهدار وقت:
«اسمع، أريدك أن تدَع أختي وشأنها.»
صاح الآخر: «أدعها وشأنها!»، وتوقَّف عن السير، وحدَّق في بول. «لماذا؟ ماذا تعني؟»
«أخبرَتْني ميلي أنك تتردَّد على المنزل كثيرًا، وأنكَ كنتَ هناك الليلة الماضية معها.»
«لكن يا بول! كان على شخصٍ ما البقاء معها!»
«سنعتني بأنفسنا؛ كان من الممكن أن تذهب إلى منزل والدها. وأريدك أن تفهم، لن أسمح بتسكُّع أي شبابٍ أثرياء مع أختي.»
«لكن يا بول!» كانت نبرة صوت باني مفعمةً بالحزن والصدمة. «حقًّا، أنت مخطئ تمامًا يا بول.»
«أريدك أن تعيَ شيئًا واحدًا، إذا تسبَّب أي شخص في أذية أختي، فسوف أقتله، دون أدنى تردُّد.»
«لكن يا بول، أنا لم أفكِّر قط في هذا الشيء! يا إلهي، أنا بالفعل مغرمٌ بفتاةٍ في المدرسة. صدقني يا بول، أنا أحبها بشدة، ولم يراودني هذا الشعور تجاه أي شخصٍ آخر.»
تورَّد خدا باني سريعًا عندما أدلى بهذا الاعتراف، وكان من المستحيل ألَّا تُدرك أنه كان صادقًا. خفَّت حدة صوت بول. وقال: «اسمع يا فتى، أنتَ لم تعُد طفلًا، وكذلك روث. لا أشُك فيما تقوله، بطبيعة الحال، ستختار فتاةً تنتمي إلى طبقتك الاجتماعية. لكن قد لا يكون الأمر كذلك مع روث؛ فقد تهتم بأمرك؛ ولذا عليك الابتعاد عنها.»
لم يعرف باني ماذا يقول ردًّا على هذا؛ فلم تخطر على باله هذه الفكرة من قبلُ. وأوضح قائلًا: «وددتُ أن أطلع على أخبار الإضراب ولم تُتَح لي الفرصة للتحدث معك على الإطلاق. لا يمكنك تخيُّل مدى استيائي، لكنني لا أعرف ماذا أفعل.» وعبَّر في عُجالة، في جملٍ صغيرة، عن كل ما يشعر به من حزن؛ فقد كان محتارًا بين ولائه لوالده وتعاطُفه مع الرجال، وكان يشعر أنه واقع في فخ، وعاجز عن التصرف.
ردَّ عليه بول بنبرةٍ قوية. وقال: «أعلم أن والدكَ يساعد على إبقاء هؤلاء الحراس الأوغاد في الحقل.»
«إنه يدفع اشتراكات الاتحاد، إذا كان هذا ما تعنيه. فقد كان متعاقدًا مع اتحاد أرباب العمل عندما انضم …»
«إن العقد الذي يتطلب خرق القانون لا يُعتبَر نافذًا! ألا تعلم أن هؤلاء الناس ينتهكون مائة قانونٍ في اليوم؟»
«أعلم يا بول، لكن أبي مرتبطٌ بأصحاب الآبار الآخرين؛ فأنت لا تفهم كم المشاكل المالية التي يُواجِهها حقًّا بسبب غلق آباره، وهو يفعل كل هذا من أجل العمال.»
«أعلم ذلك، ونحن نقدِّر ما يفعله. لكنه الآن يقول إن عليه الاستسلام، وجَلْب عمالٍ آخرين غير منضمين للاتحاد مثل أصحاب الآبار الآخرين. إن هذا التصرُّف يفوقُ قدرتنا على التحمُّل؛ إنهم يحاربوننا بقذارة، ووالدك يعرف ذلك، ومع ذلك يسايرهم فيما يفعلون!»
مرَّت برهةٌ من الصمت، وأكمل بول حديثه بصرامة. «أعلم بالطبع أن أمواله على المحك وأنه لن يخاطر بها، وأنك ستفعل ما يخبرك به.»
«لكن يا بول! لا أستطيع معارضة أبي! هل تتوقَّع مني فعل ذلك؟»
«عندما حاول والدي التحكُّم في حياتي، وحاول منعي من التفكير وتعلُّم الحقيقة، عارضتُه، أليس كذلك؟ وقد شجَّعتَني على فعل ذلك، وظننت أنْ لا بأس في هذا.»
«لكن يا بول! إذا عارضتُ أبي في مثل هذا الشيء، فقد ينفطر قلبه.»
«حسنًا، ربما أكون قد تسبَّبتُ في انفطار قلب والدي، لكنني لا أعرف، وكذلك أنت. بيت القصيد هو أن والدك يرتكب خطأً وأنت تعرف ذلك؛ فهو يساعد هؤلاء الهمج ويسمح لهم بقمعنا، ويحرمنا من حقوقنا كمواطنين، وحتى كبشر. لا يمكنك إنكار ذلك، ومن واجبك الدفاع عن الحقيقة.»
ساد الصمت، بينما حاول باني مواجهة فكرة معارضة الأب المروِّعة، كما عارض بول السيد واتكينز العجوز. وبالرغم من أن الأمر بدا صحيحًا جدًّا في حالة بول، كان مستحيلًا للغاية في حالة باني!
في النهاية أكمل بول حديثه. وقال: «أتفهَّم الأمر، يا فتى. لن تفعل ذلك؛ فأنت لا تملك الجرأة اللازمة لذلك، أنت ليِّن العريكة.» وصمَت لبرهة، حتى يستوعب باني تلك الكلمات القاسية. «نعم، هذا هو أفضل وصفٍ لك، ليِّن العريكة. دائمًا ما كان لديك كل ما تريد، مقدَّم لك على صينية من فضة، وهذا ما جعلك ضعيف الشخصية. أنت طيِّب القلب، ويمكنك تمييز الصواب من الخطأ، لكن ليس لديك القدرة على التصرُّف؛ فأنت تخاف من إلحاق الأذى بالآخرين.»
بهذه الكلمات، وصل حديثهما إلى نهايته. لم يعُد لدى بول ما يقوله، ولم يستطع باني الرد. واغرورقَت عيناه بالدموع، وكان هذا أكبر دليل على ضعفه. ولذا أشاح برأسه حتى لا يرى بول الدموع.
قال الأخير: «حسنًا، يجدُر بي الانطلاق؛ فلديَّ العديد من الأعمال التي عليَّ الاضطلاعُ بها. سينتهي هذا الصراع يومًا ما، وسيستمر والدك في جني الأموال، وآمل أن يجلب ذلك لك السعادة، بالرغم من أنني أشك في ذلك حقًّا. وداعًا يا بني.»
قال باني بتخاذُل: «وداعًا»، واستدار بول ورحل مسرعًا.
مشى باني، وشعَر باهتياج في روحه. كان غاضبًا بسبب عدم تفهُّم بول، وفظاظته القاسية، لكن طَوال الوقت كان هناك صوتٌ آخر بداخله ظل يقول بإصرار: «إنه على حق! أنت ليِّن العريكة، أنت ليِّن العريكة، هذا هو أفضل وصفٍ لك!» كما ترى، كان هذا الجانب من شخصية باني هو ما يثير غضب أخته بيرتي للغاية؛ أن باني أخضَع نفسه لبول، وأنه كان على استعدادٍ لقبول سوء معاملة بول، بكل خنوع. فقد كان لا يعي المكانة التي منحَتْها له ملايين أبيه!
٩
عاد باني إلى المدرسة، واستمرَّت معاناة عمال النفط مع قلة الأكل، لكنهم ظلوا صامدين. في غضون ذلك، كانت أمريكا في حالة حرب، وكان الكونجرس يتخذ سلسلةً من الإجراءات، نَصَّ أحدها على توفير «قرض الحرية» الضخم، لدفع تكاليف الحرب، ونَصَّ آخر على انضمام جميع الرجال الذين بلغوا سن التجنيد إلى الجيش، لإعداد جيشٍ ضخم.
وبعد ذلك بدأَت تنتشر شائعاتٌ مثيرة عن حدوث هدنةٍ مع العمال. وارتبطَت هذه الشائعات في المرتبة الأولى برجال السكك الحديدية، الذين كان كثيرون منهم مضربين من أجل الحصول على أجورٍ كافيةٍ للمعيشة وتحسين أوضاع العمل. كانت السكك الحديدية ضروريةً للغاية للانتصار في الحرب؛ ولذا كان على الكونجرس أن يأذن للحكومة بالتدخُّل في النزاعات، والتفاوض مع الاتحادات، والتأكُّد من التوصل إلى صفقةٍ مُنصِفة للجميع. في حال ما اتُّخذَت هذه الإجراءات من أجل رجال السكك الحديدية، فمن المؤكد أنها ستُتَّخذ مع الآخرين، وقد يحصل عمال النفط على تلك الحقوق التي كان اتحاد أرباب العمل يسعى لحرمانهم منها! كانت الصحافة العمالية تعجُّ بأخبارٍ عن الصفقة الجديدة الوشيكة، وكانت البرقيات تأتي من مقر اتحاد العمال في واشنطن، تطلب من الرجال في بارادايس الثباتَ على موقفهم.
كان الوضع يشبه «المشهد الرئيسي» في مسرحيات الميلودراما الرخيصة القديمة، التي اعتدنا أن نشاهدها في شارع باوري في طفولتنا؛ حيث تُربط البطلة إلى جذع شجرة في مصنع لنشر الأخشاب، وتُسحَب بسرعة إلى المكان الذي ستُشَق فيه نصفَين، وعندئذٍ يصل البطل راكضًا بسرعةٍ على صهوة جواده، ويقفز من فوقه، ويحطِّم الباب بفأس، ويُهرَع إلى الذراع ويوقف الماكينة في اللحظة الحاسمة. أو إذا أردتَ تناوُل الموضوع من منظورٍ أرقى وأكثر وقارًا، فقد كان الوضع يشبه التراجيديا الإغريقية القديمة، التي بعدما تتشابك فيها مصائر جميع الشخصيات وتصل إلى تعقيدٍ ميئوس منه، يتنزل الإله من السماء في آلة، ويترجَّل منها، ويسوِّي كل الأمور المعقَّدة، وينتصر الخير وينهزم الشر. ومن الممكن أن تصدِّق هذا؛ لأنه في كلاسيكيات الأدب الإغريقي، لكنك ستجد صعوبةً في تصديق أن «الجماعة المناهضة لفكرة الاتحادات» في كاليفورنيا، بما تتمتع به منظومتها الصناعية من نفوذٍ شامل، وبكل الملايين المودعة في مصارفها، وآلتها السياسية ووكالاتها المخصَّصة لفض الإضرابات، وجواسيسها ومسلحيها، وميليشياتها الحكومية المزوَّدة بالمدافع الرشاشة والسيارات المصفَّحة في الخلفية، ستجد صعوبة في تصديق أن كل هذه القوة الرائعة شعَرَت بقبضةٍ أقوى منها تُمسِك بقبضتها فجأةً وتزيحها عن عنق ضحيتها! ستجد صعوبةً في تصديق أن إلهًا آخر نزل من إحدى الآلات، إلهًا أمريكيًّا مسنًّا نحيفًا، له لحيةٌ صغيرة بيضاء ويرتدي بدلةً مخططةً باللونَين الأحمر والأبيض، مرصعةً بنجومٍ زرقاءَ متلألئة؛ ستجد صعوبة في تصديق أن العم سام شخصيًّا تدخل، وأعلن أن عمال النفط بشر ومواطنون؛ ولذا يتعيَّن حماية حقوقهم!
جاء الإعلان من مقر اتحاد العمال في واشنطن؛ حيث نصَّ على أن عمال النفط سيحصلون على أجورٍ كافية وثماني ساعاتِ عمل في اليوم، وسيُرسَل «وسيط» حكومي للتأكُّد من تنفيذ ذلك، وفي تلك الأثناء، كان يتعيَّن عليهم العودة إلى العمل، حتى يتمكَّن الرجل المسن المعطاء ذو اللحية البيضاء والبدلة ذات اللون الأحمر والأبيض والأزرق؛ من الحصول على كل النفط الذي يحتاجه. كان رئيس الولايات المتحدة يُلقي خطبًا رائعةً ومقنعة، عن الحرب التي كان من شأنها أن تنهي الحرب، وتُحقِّق العدالة للبشرية جمعاء، وترسِّخ نظام حكم الشعب، على يد الشعب، ومن أجل جميع شعوب الأرض. شعر الجميع بسعادةٍ غامرة وتأجَّجَت قلوبهم بالحماسة لقضيتهم! ودبَّت البهجة في ملعب المدرسة في بارادايس، عندما وردَت أنباء عن أن المسلَّحين سينسلُّون عائدين إلى الأحياء الفقيرة التي أتَوا منها، وكان من المقرَّر أن يبدأ هذا على الفور!
تلقَّى الأب الأخبار في الصباح الباكر، مما جعل باني يرقص فرحًا في جميع أنحاء المنزل، ويُحدِث ضجة كما لو كان يشجِّع فريقه في مباراة كرة قدم، وقال الأب إنه يشعر بالسعادة أيضًا؛ فمن الجيد بالتأكيد أن تعود هذه الآبار لإنتاج النفط مرةً أخرى؛ فما كان ليتمكَّن من الصمود أسبوعًا آخر بدونها. وأخبره باني أنه سيتغيَّب عن المدرسة في فترة ما بعد الظهر، ليذهبا معًا لمشاهدة الاحتفالات، وتوطيد علاقاتهما مع الجميع مرةً أخرى، لبدء العمل من جديد. وأول شيءٍ سيفعلانه هو هدمُ سياجِ الأسلاك الشائكة الذي يفصل أصحاب رأس المال عن العمال! ففي العالم الجديد، لن يكون هناك مكانٌ للأسلاك الشائكة ولا للضغائن؛ حيث ستُزهِر الزهور على سياج الشجيرات أمام منازل العمال، وسيكون هناك كتابٌ يجمع خطب الرئيس في غرفة القراءة، وسيتوفَّر لدى جميع عمال النفط وقتٌ لقراءته!