وثبت كثيرون في الإيمان وداوموا عليه، وواظبوا واستشهدوا وتحملوا العذاب، ولكن كثيرين
أيضًا وهنوا وضعفت قلوبهم فارتدوا وتحولوا إلى الوثنية، وتاب بعض هؤلاء ورغبوا في
العودة إلى حضن الكنيسة، فاختلف الرؤساء في قبولهم، فارتأى بعضهم الشدة ومال آخرون إلى
الرأفة والرحمة، فتعددت الانشقاقات وتنوعت وطال أمد الاضطراب والقلق.
اضطراب في كنيسة أفريقية
وقال بريفاتوس Privatus أسقف لامبيزة Lambaesa قولًا غريبًا لا نزال نجهله، فحكم عليه
مجمع قرطاجي بالهرطقة، واشتد الشغب في كنيسة لامبيزة وطال أمده، فدام اثني عشرة سنة
(٢٣٦–٢٤٨) أو أكثر.
وفي السنة ٢٤٩ رقي كبريانوس كرسي الأسقفية في قرطاجة، فرضي البعض عنه وعارض آخرون،
وفي طليعة هؤلاء خمسة من الكهنة أشهرهم نوفاتوس
Novatus، وحل اضطهاد داقيوس ففرَّ كبريانوس واختبأ، فاستغل
نوفاتوس هذا الفرار، وطعن في إيمان كبريانوس، وغالى في تكريم «المعترفين»، الذين
تحملوا شتى ألوان العذاب باسم يسوع، واعتبرهم أصحاب الحل والربط في أمر مَن رغب في
العودة إلى الإيمان، وكتب إلى كنيسة رومة في فرار كبريانوس من وجه السلطات في أثناء
الاضطهاد، وكان ذلك بين وفاة فابيانوس وقبيل ارتقاء كورنيليوس، فاتخذ مجلسُ شيوخِ
كنيسةِ رومة قرارًا أظهر فيه عدم الرضى عن فرار كبريانوس،
١ ودافع كبريانوس عن نفسه، فحرَّرَ ثلاث عشرة رسالة إلى كنيسة رومة أبان
فيها الأسباب التي دفعته إلى الفرار، واعتدل في موقفه من المرتدين والمعترفين، ولكن
نوفاتوس وأتباعه ظلوا معاندين، واستمروا في تقبيح عمل الأسقف، فدعا كبريانوس في
أواخر السنة ٢٥٠ مجمعًا محليًّا قطع بواسطته نوفاتوس ومن قال قوله.
انشقاق في كنيسة رومة
وبرح نوفاتوس أفريقية وأمَّ رومة، فوجد المؤمنين فيها منقسمين على أنفسهم
متجادلين في أمر الخلافة بعد فابيانوس، فمنهم مَن أيَّد كورنيليوس، ومنهم مَن فضَّل
نوفاتيانوس
Novatianus الكاهن العالم صاحب
الرسالة في الثالوث
De Trinitate،
٢ فشد نوفاتوس أزر نوفاتيانوس، فلما نجح كورنيليوس عقد مجمعًا محليًّا
(٢٥١) أيد به موقف كبريانوس في أفريقية! فطعن نوفاتوس ونوفاتيانوس في انتخاب
كورنيليوس، مدَّعيين أن كورنيليوس حصل على شهادة في أثناء الاضطهاد تثبت ارتداده أمام
السلطات، وأنه واظب على الاتصال بالمرتدين، ثم استعانا ببعض الأساقفة فساموا
نوفاتيانوس أسقفًا على رومة، وأصبح لهذه الكنيسة أسقفان في آنٍ واحد،
٣ وعُرِف أتباع نوفاتوس ونوفاتيانوس باﻟ
Cathari الطهريين لتمسُّكهم بالطهارة وتطرفهم في
أمر المرتدين وعدم قبولهم في عداد المؤمنين.
٤
أنطاكية ورومة
وكتب كل من نوفاتيانوس وكورنيليوس إلى كبار الأساقفة في الشرق، فوافق ديونيسيوس
أسقف الإسكندرية كورنيليوس في موقفه من الجاحدين العائدين إلى التوبة، أما فابيوس
أسقف أنطاكية (٢٥٠–٢٥٢)، فإنه آثر الشدة، وقال قول نوفاتيانوس،
٥ وكتب إليه كورنيليوس أكثر من مرة، وطعن في إيمان نوفاتيانوس ولكن دون جدوى،
٦ وتدخل ديونيسيوس فكتب إلى فابيوس موجبًا التروي والاعتدال، مستشهدًا
على صحة ما ذهب إليه بقصة الرجل الشيخ سيرابيون الإسكندري،
٧ وظهرت بوادر الشقاق في كنيسة أنطاكية حول هذا الموضوع،
٨ فاضطر فابيوس أن يشاور في الأمر، فدعا أساقفة الكرسي الأنطاكي إلى مجمع
يبحث قضية الجاحدين العائدين إلى التوبة، ويتخذ موقفًا حاسمًا من الشقاق الذي دبَّ
إلى كنيسة رومة وقرطاجة وغيرهما، ولبَّى الدعوة عدد من الأساقفة الأنطاكيين أشهرهم:
إلينوس
Elenos أسقف طرسوس، وفرميليانوس
Firmilianos القبدوقي، وثيوقتستوس
Theoctistos الفلسطيني.
٩ ورأى إلينوس — وكان فيما يظهر أقدمَ الأساقفة الأنطاكيين سيامة، وأشدهم
نفوذًا نظرًا لحجم طرسوس وتسلسل البركة فيها من الرسل أنفسهم — أنَّ اشتراك
ديونيسيوس الإسكندري في أعمال المجمع ضروري، فخاطبه بهذا المعنى واشترك معه في
خطابه هذا الأساقفة المذكورون أعلاه، ونحن لا نرى في نص أفسابيوس المؤرخ ما يؤيِّد
استنتاج الأب بردي، من أن إلينوس وأعوانه دعوا إلى المجمع لافابيوس أسقف أنطاكية
المتقدم بينهم؛
١٠ فأفسابيوس يفيد أن ديونيسيوس الإسكندري كتب إلى كورنيليوس الروماني
يقول إن إلينوس وفرميليانوس وثيوقتستوس دعوه إلى «اللقاء في مجمع أنطاكية؛ لأن
البعض يؤيدون شقاق نوفاتيانوس»، ولكنه لا يفيد أن هؤلاء الأساقفة دعوا أنفسهم إلى
هذا المجمع، ولا يخفى أن قلة المراجع الأولى تقضي بالتروي والاعتدال في
الاستنتاج.
معمودية الهراطقة والجاحدين
وكان قد خفَّ نشاط الهراطقة منذ نهاية القرن الثاني، وبدأ بعضهم يعود إلى حضن
الكنيسة، فاختلف الأساقفة في معمودية هؤلاء واعترف بعضهم بها، وامتنع غيرهم فأوجبوا
معمودية ثانية، ودعا أغريبينوس
Agrippinus أسقف
قرطاجة مجمعًا لهذه الغاية في السنة ٢١٧، وتتابعت جلساته، فقرَّرَ عدم الاعتراف
بمعمودية الهراطقة، وجرى مثل هذا في الشرق، فعقد فرميليانوس مجمعًا في أيقونية وآخر
في سنادة سنة ٢٣٠، فاتخذ قرارًا مماثلًا.
١٣
ثم ذرَّ الشقاق قرنه في رومة، فاتخذ نوفاتيانوس موقفًا شديدًا، وأعاد تعميد
التائبين وتعميد مَن تساهَلَ معهم، وثابر كرنيليوس على تساهل سلفائه، فلم يتطلب إعادة
التعميد، ولكنه لم يتدخل في شئون أساقفة الشرق وأساقفة أفريقية ولم يُثِرْ أي جدل
حول هذا الموضوع.
وتوفي كرنيليوس في السنة ٢٥٢، وخلفه في كرسي رومة لوقيوس (٢٥٢-٢٥٣)، ثم إسطفانوس،
وكان إسطفانوس خشن الجانب فيما يظهر، حادَّ الطبع شديدًا؛ فاشتد الخلاف حول معمودية
الهراطقة والجاحدين، ودخلت الكنيسة الجامعة في أزمة كادت تشقها شقًّا، ففي السنة
٢٥٥ أثار ثمانية عشر أسقفًا من أساقفة نوميدية قضية إعادة المعمودية أمام مجمع
قرطاجة، فأوجب المجمع التمسُّك بالتقليد المحلي، ونهى عن قبول معمودية الهراطقة والجاحدين،
١٤ وبعد ذلك بقليل كتب كبريانوس بالمعنى نفسه في الإجابة عن سؤالٍ وجَّهَه
إليه أسقفُ موري؛
١٥ وفي خريف السنة ٢٥٥ أو ربيع السنة ٢٥٦ أحب كبريانوس أن يجلي هذه القضية
جلاء تامًّا ويبتها بتًّا، فكتب إلى إسطفانوس مبينًا موقف مجمع قرطاجة، موجبًا إعادة
معمودية الهراطقة والتائبين:
إننا نرفع هذه الرسالة إليك أيها الأخ الحبيب؛ لتقف على حقيقة الأمور
رعايةً لرتبتنا العامة وكرامتنا المتبادلة، وبرهانًا على المحبة الخالصة
والشركة، ولنا الثقة بتقواك الحقيقي وإيمانك أن كل ما هو صالح وحقيقي يكون
حسنًا عندك، ونحن نعلم أن بعضًا لا يتخلون أبدًا عما يستصوبون من الآراء،
وأنهم لا يغيرون مواقفهم بسهولة، وأنهم في الوقت الذي يحافظون فيه على
علاقاتهم السلمية مع رفقائهم، يصرون على ما ذهبوا إليه ويعاندون، ونحن لا
نريد أن نرغم أحدًا على شيء إرغامًا، كما أننا لا نرغب في سن الشرائع
للغير؛ فكل رئيس من رؤساء الكنيسة حر أن يدير دفة الإدارة كما يرى مناسبًا،
وهو وحده مسئول عن أعماله أمام الرب.
١٦
فغضب إسطفانوس وكتب إلى أساقفة أفريقية، موجبًا المحافظة على تقاليد رومة
الموروثة، مكتفيًا بوضع الأيدي على التائبين، مهدِّدًا بقطع العلاقات، وكان قد أرسل
إنذارًا مماثلًا إلى كنائس الشرق إلى أساقفة قيليقية وقبدوقية وغلاطية، فدعا
كبريانوس الأساقفة إلى مجمع في أول أيلول، فلبَّى الدعوةَ سبعة وثمانون أسقفًا وقساوسة
كثيرون وشمامسة، وأيدوا بقرارٍ جديد موقفَ أفريقية من معمودية الهراطقة والجاحدين،
وأكد كبريانوس في جلسات هذا المجمع «أن اختلاف الآراء لا يضر ولا ينافي الاتحاد في
الإيمان، ولا يفك الربط بين الكنائس.»
١٧
موقف كنيسة أنطاكية
وتجلى موقف كنيسة أنطاكية برسالة طويلة دبجها أشهر أحبارها آنئذٍ فرميليانوس نفسه
أسقف قيصرية قبدوقية، الذي اشترك في أعمال مجمع أنطاكية كما سبق وأشرنا، وكان
الداعي لوضع هذه الرسالة أن كبريانوس وأساقفة أفريقية أوفدوا إلى قيصرية قبدوقية
الشماس روغاتيانوس Rogatianus برسالة إلى
فرميليانوس أوضحوا فيها موقفهم وموقف إسطفانوس أسقف رومة.
وكان فرميليانوس قد اشتهر بالتقوى والصلاح والفضل والعلم والمحافظة على سلامة
العقيدة، ولكنه كان قد ورث عن أستاذه أوريجانس الإسكندري شيئًا من الكره لرومة،
وكان قد أخذ على إسطفانوس نفسه قلة اهتمامه ببعض الأساقفة الشرقيين الذين أوفدوا إليه،
١٨ فلما اطَّلَع على الإضبارة التي حملها إليه روغاتيانوس، ووجد فيها ما يتفق
ومقررات مجمعَي أيقونية وسنادة، كتب إلى كبريانوس رسالة طويلة باليونانية، سَدَّدَ
بها موقفه وانتقد إسطفانوس انتقادًا لاذعًا، وقد ضاع نصها الأصلي ولم يبقَ عنه سوى
ترجمتها إلى اللاتينية، ولعل هذه الترجمة هي لكبريانوس نفسه.
١٩
وبعد أن أكَّدَ هذا القديس الأنطاكي «أن بيت الرب بيت واحد»، وشكر لإسطفانوس «عتوه»؛
لأنه أتاح له أن يخبر إيمان كبريانوس وحكمته؛ انتقد أسقف رومة في قوله إن الرسل
منعوا تعميد الراجعين من الهراطقة، مؤكدًا أن الهرطقة ظهرت بعد الرسل، وبيَّن بعد
هذا أن الهراطقة بانشقاقهم عن كنيسة المسيح خسروا السلطة والنعمة اللذين في
الكنيسة، وأن الولادة الروحية بالتالي لا يمكن أن تتم من دون الروح. ثم استطرد
الحبر الأنطاكي، فأشار إلى الذين عمدهم يوحنا قبل إرسال الروح القدس من الرب عمدهم
بولس مرة ثانية بالمعمودية الروحية، ووضع عليهم يده لينالوا الروح القدس، «فما دام
بولس عمَّد تلاميذ يوحنا، وقد كانوا معمدين منه، فكيف نقاوم نحن تعميدَ القادمين من
الهرطقات إلى الكنيسة؟»
ومما جاء في رسالة فرميليانوس قوله: «علينا أن نسأل مساعدي الهراطقة ما قولهم في
معموديتهم، أجسدية هي أم روحية؟ فإن كانت جسدية فلا فرق بينها وبين معمودية اليهود،
وإن كانت روحية فكيف يمكن أن تكون معمودية روحية عند الذين ليس لهم الروح القدس؟
وإذا كانت معمودية الهراطقة كافية لتمنح الولادة الثانية فالمعمدون من الهراطقة
ليسوا هراطقة، ولكن إذا كانت عروس المسيح واحدة، فمن الواضح أن تكون الكنيسة الجامعة
هي وحدها التي تلد أبناءً لله لا جماعة الهراطقة؛ لأن الزانية والفاسقة ليست عروسًا
ولا تستطيع أن تلد أبناءً لله.»
وتخالف الأحبار وتفرَّقت كلمتهم، وهدد إسطفانوس بقطع العلاقات فأجابه فرميليانوس:
«إنك قد بذرت خصومات لا تُعَدُّ ولا تُحصَى في كل كنائس المسكونة، ويا ليتك تعلم تحت
أية خطيئة وضعتَ نفسك إذ انفصلت عن هؤلاء الناس جميعهم، وإنك بعملك هذا لا تفصل عن
شركة الاتحاد الكنائسي سوى نفسك فتصبح أنت العاصي.»
فساد الإكليروس
والقرن الثالث من تاريخ الإمبراطورية قرنُ تفكُّكٍ وانهيار، ففيه نقصت موارد إيطالية
والولايات الغربية وكادت تنضب، وفيه دب الفساد إلى صفوف الجيش، واشتدت مطامع ضباطه
وتنوعت، وفيه أيضًا تمخضت أواسط آسية، فتحركت قبائل روسية وأواسط أوروبة وارتطمت،
فضغطت ضغطًا متزايدًا على حدود رومة عند الرين والدانوب، وفيه كذلك قُدِّرَ لفارس
أن تتطور، فاستلمت أزمةَ الحكم فيها أسرةٌ نشيطة قوية حاولت أن تستغل ضعف رومة عبر
الفرات.
وكان قد تزايد عدد المسيحيين تزايدًا ملموسًا، فأصبحوا في أنطاكية وحدها في القرن
الثالث الذي نحن بصدده مائةَ ألف،
٢٢ وأضحوا في عرف الذهبي الفم في القرن الرابع مائتي ألف،
٢٣ فاضطر بعض الحكام في بعض الأحيان إلى استرضاء زعماء النصارى ورؤسائهم،
فأصغوا إلى آرائهم وأسندوا إليهم بعض الوظائف فأكسبوهم هيبة ونفوذًا،
٢٤ فأدى هذا كله إلى تهافت الرجال على صفوف الكهنوت، ووصول مَن لا مطلبَ له
سوى المال والنفوذ إلى بعض المناصب الإكليريكية العالية؛ ومن هنا قول أفسابيوس
المؤرخ: «إن هؤلاء الذين يتظاهرون أنهم رعاتنا قد استخفوا بقواعد الدين وتلهبوا
حسدًا، ولم يتقدموا في شيء سوى المجادلة والمنازعة والمناظرة والمشاغبة والمباغضة.»
٢٥ ومن هنا أيضًا قول أوريجانس العظيم إن بعض الأساقفة يردون من يقودون عن
مملكة الله، ويحرمون بدافع الحسد والغضب مؤمنين أفضل منهم؛
٢٦ ومن هنا كذلك افتخار ديونيسيوس الإسكندري بأنه ترفَّعَ فاحتقر مدح الحكام
له وإغراء أعضاء مجلس الشيوخ.
٢٧
ولم ينحصر هذا الفساد في الأوساط الإكليريكية الشرقية، فإن كبريانوس يسمعنا
النغمة نفسها عندما يقول إن عددًا كبيرًا من أساقفته احتقروا السماويات فأهملوها
ليتفرغوا للأمور البشرية، وإنهم تركوا الوعظَ والإرشاد، وابتعدوا عن رعاياهم ليجوبوا
الولايات النائية طالبين المال، غير مبالين بالربى وبالطرق المعوجة التي سلكوها
للحصول عليه.
٢٨
ديمتريانوس أسقف أنطاكية (٢٥٣–٢٦٠)
ونكاد لا نعلم شيئًا عن أسقفية ديمتريانوس خلف فابيوس، وليس بإمكاننا أن نبتَّ في
زمن بدايتها ونهايتها، ويرى العلَّامة هارنك الألماني أن ديمتريانوس رقي الكرسي
الرسولي قبل حزيران السنة ٢٥٣،
٢٩ وجاء في خرونوغرافية نيقيفوروس أن أسقفية ديمتريانوس دامت أربع سنوات فقط،
٣٠ وجاء في خرونيقون أفسابيوس أنها كانت سبع سنوات، وجاء أيضًا في التقليد
لبعض المتأخرين أن ديمتريانوس نُفِي إلى فارس وتوفي فيها،
٣١ وهو قول ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه؛ نظرًا لتأخر الزمن الذي دُوِّنَ
فيه، فإنه لا يرد قبل القرن الثاني عشر،
٣٢ واستعدادُ هارنك لقبول هذا القول على أساس تآلفه مع الحوادث الراهنة
٣٣ لا تقره قواعد المصطلح؛ فالحقائق التاريخية لا تثبت بمرد تآلفها مع
غيرها من الحوادث، وقُلِ الأمرَ نفسه عن موقف العلامة الأب بردي من هذه الرواية،
٣٤ وجلُّ ما يجيزه المصطلح هو القول: لا ندري. وإن لا أدري لَمِنَ
العِلْم!
ومما جاء في التقليد أيضًا أن ديمتريانوس استشهد،
٣٥ ولكن هذا القول يشكو من وروده متأخرًا، ويتنافى وسكوت القرار الذي
اتخذه مجمع أنطاكية الثاني عند ذكر سلف بولس السميساطي، فديمتريانوس في عُرْف أعضاء
هذا المجمع رجل «مطوب الذِّكْر يستحق الثناء لنجاحه في إدارة الكنيسة».
بولس السميساطي أسقف أنطاكية (٢٦٠–٢٦٨)
ولا نعلم شيئًا عن أصل هذا الأسقف سوى اسم المدينة سميساط التي انتمى إليها،
٣٨ ويجوز «الافتراض» أن بولس هذا عرف أشياء عن اليهود ودينهم وعن التوراة
قبل وصوله إلى الكرسي الرسولي في أنطاكية، وأن زينب التي اشتهرت بعطفها على اليهود
عاونت بولس بنفوذها على الوصول إلى رئاسة كنيسة أنطاكية؛ لتضمن بذلك تعاونًا وثيقًا
بينها وبين المسيحيين في عاصمة الشرق،
٣٩ وما كاد بولس يصل إلى السدة الأنطاكية حتى جعلت زينب منه موظفًا
مدنيًّا عاليًا، فأسندت إليه مهامَّ مالية والإشراف على الجباية، ومنحته لقب
ذوقيناريوس
Ducenarius،
٤٠ وله تمتع بصلاحيات أوسع بكثير، فمثل ملوك تدمر في أنطاكية، فإن
الأساقفة الذين نظروا في أمره فيما بعدُ قالوا إنه لم يكن بمقدور أحد أن يجرؤ فيشكو
جور هذا الأسقف.
٤١
وتاه بولس بنفسه وتكبر، وسار في الشوارع بأبهة الحكام وفخفختهم، وصنع لنفسه عرشًا
عاليًا في الكنيسة، وأذن لمريديه بتقريظه فيها، ومنع تسبيح السيد المخلص في
الكنيسة، مدعيًا أن تلك التسابيح إنما أحدثها رجال متأخرون، واستعاض عنها بمزامير
داود وبتسابيح خصوصية أُعِدَّت لتمجيده، وأنشدتها النساء له في الكنيسة نفسها، وأطلق
بولس لسانه في انتقاد الآباء الأولين،
٤٢ ولعله خصَّ أوريجانس بشيء كثير من هذا الانتقاد، فأثار حقد مَن حوله من
الأساقفة المعاصرين تلاميذ هذا العالم العلامة الكبير.
٤٣
ولم يرضَ أساقفة كنيسة أنطاكية عن حياة بولس الشخصية، فإنه نشأ فقيرًا فاغتنى
بطرق غير شرعية واستغنى، وخامرهم الشك في سلوكه الشخصي؛ لأنه ساكن النساء واستصحب
بعضهن على الرغم من حداثتهن ومظهرهن المغري.
٤٤
ولكن بولس كان رجلًا لبقًا ماهرًا وخطيبًا بليغًا، فتمكَّنَ من إنشاء حزب حوله من
أبناء أبرشيته، وكان بين هؤلاء عدد من أساقفة الريف والكهنة والشمامسة، فانشقت
كنيسة أنطاكية إلى معسكرين: أبناء الريف وأمهات القرى، وأبناء المدن الكبيرة، أو
بعبارة أخرى: إلى وطنيين شرقيين سريانيين وعرب، وإلى يونانيين ورومانيين ومتهلنين،
وكان طبيعيًّا أن يرى البولسيون في زينب العربية زعيمة وطنية، تحاول التحرر من حكم
رومة وكل ما يمتُّ إلى الغرب بصلة،
٤٥ وعطف على هؤلاء وأيدهم عدد من اليهود والوثنيين الذين ناصروا زينب في
حركتها التحررية.
واستقدمت زينب لونجينوس
Longinus الحمصي من
أثينة إلى تدمر؛ ليتولى الدفاع عن موقفها بما أوتي من حجة وفصاحة، وأصغت إلى
إرشاداته في السياسة؛
٤٦ ولا يُستبعَد أن يكون بولس قد عرف لونجينوس، فتأثر بالفلسفة الأفلاطونية
الجديدة، وإذا ما ذكرنا أن هؤلاء الفلاسفة عطفوا على توحيد اليهود وعلى القول بتقوى
المسيح وخلوده وأنكروا ألوهيته، سهل علينا تفهُّم ضلالة بولس، وقوله بأن المسيح
«مخلوق» صالح حمل في أحشائه روح الله؛
٤٧ ووافَقَ بورفيريوس الفيلسوف بولس الأسقف فيما يظهر بالتمسُّك بظاهر نص
التوراة والابتعاد عن التأويل الإسكندري.
٤٨
وقاوم بولس كلُّ مَن أيَّدَ رومة والحضارة اليونانية الرومانية، وكان هؤلاء كثرًا
في
المدن ولا سيما أنطاكية، وعبثًا حاولت زينب أن تستميل هؤلاء بفصاحة لونجينوس
وبيانه، فإنهم ظلوا يعتبرونها بربرية تتطفل على الحضارة تطفلًا،
٤٩ ولم يجمع اليهود على تعضيد الدولة العربية الجديدة، فإن كثيرًا منهم
آثروا سلطة رومة البعيدة على حكم تدمر القريب.
٥٠ وإذا كان من الخطأ أن نغالي فنقول مع بتيفول إن معظم المسيحيين في
أنطاكية قاوموا أسقفهم، وإن الشقاق الذي حلَّ في عهد بولس كان شقاقًا بين الأسقف من
الجهة الواحدة وجمهور المؤمنين من الجهة الأخرى،
٥١ فإنه من المغالاة أيضًا أن نفترض مع ريفيل أن بولس نجح في استمالة معظم
أبنائه الروحيين في عاصمة الشرق.
٥٢
ويجب ألَّا يغيب عن البال أنه كان لا يزال في كنيسة المسيح أساقفة أبرار، حافظوا
على تعاليم الرسل ودافعوا عنها دفاع الأبطال، وهل ننسى ديونيسيوس الإسكندري
وفرميليانوس القبدوقي وغريغوريوس العجائبي، وجميعهم من أعيان هذا القرن الثالث
نفسه؟ والمقاومة التي لقيها بولس كانت في الصميم مقاوَمةً عقائدية هدفها تطهير
الكنيسة من بدعة فاسدة.
٥٣
وتزعَّم هذه المقاومة الروحية في أنطاكية نفسها اثنان من أبناء هذه المدينة؛
دومنوس بن ديمتريانوس الأسقف السابق، وملكيون أحد معلمي الفلسفة والمنطق والفصاحة
والبيان في مدارس أنطاكية الهيلينية،
٥٤ وأحد أبناء كنيسة أنطاكية الأبرار الذين اشتهروا بالتقوى والصلاح. وجاء
فيما حفظه لنا بطرس الشماس أن الأساقفة المجتمعين في أنطاكية للنظر في بدعة بولس
أجمعوا على تولية ملكيون أمْرَ المناقشةِ الرسمية،
٥٥ ولا يزال اسمه حتى يومنا مقرونًا باسم القديس فرميليانوس في أخبار
القديسين تحت الثامن والعشرين من تشرين الأول.
٥٦
وقد يجوز الافتراض أن دومنوس وملكيون نجحا في تنظيم المقاومة، فازداد الشق
اتساعًا وحدثت اضطرابات في أنطاكية أدت إلى تدخل أساقفة الكنائس المجاورة.
تدخل الأساقفة (٢٦٤)
ويرى العلامة الأب بردي أن ليس في المراجع الأولية ما يبرر القول مع بارونيوس أن
ديونيسيوس الإسكندري كتب بادئ ذي بدء عن ضلال بولس الأنطاكي إلى ديونيسيوس
الروماني، وأن الحبرين الروماني والإسكندري اتخذا منذ البدء موقفًا حازمًا فهدَّدَا
بالقطع، وجلُّ ما توصَّل إليه هذا العالِم البحَّاثة مع زميله الألماني لوفس هو أن قضية
بولس بدأت شرقية وحلَّت حلًّا شرقيًّا مستقلًّا.
٥٧
ولما اشتدت المشادة في أنطاكية، دعا إلينوس أسقف طرسوس إخوته أساقفة كنيسة أنطاكية
إلى اجتماع في أنطاكية للنظر في قضية أسقفها، فلبى هذه الدعوة كثيرون أشهرهم على حد
قول أفسابيوس المؤرخُ
٥٨ فرميليانوس أسقف قيصرية قبدوقية، وغريغوريوس العجائبي أسقف قيصرية
الجديدة في بلاد البونط، وأخوه أثينودوروس، ونيقوماس أسقف أيقونية، وهيميناوس أسقف
أوروشليم، وثيوتيقنوس أسقف قيصرية فلسطين، ومكسيموس أسقف بصرى حوران. ولا يخفى أن بلاد
البونط ظلت تابعة لأنطاكية حتى مجمع نيقية،
٥٩ ورغب هؤلاء في الاستفادة من علم ديونيسيوس الإسكندري وحكمته ودرايته
وشهرته، فدعوه إلى الاجتماع معهم في أنطاكية، وأحب ديونيسيس أن يلبي هذه الدعوة
ويعيد الوحدة إلى صفوف كنيسة المسيح، ولكنه اعتذر عن الحضور نظرًا لتقدمه في السن،
٦٠ وحض الأساقفة على التقوى وخوف الله،
٦١ وأوفد أفسابيوس الشماس الإسكندري إلى أنطاكية؛ لينقل رسالةً خصوصيةً في
موضوع بولس،
٦٢ وكان هذا قد اشتهر بتمسكه بالدين القويم وبتضحيته في هذا السبيل، فلما
أحب أن يعود إلى الإسكندرية مرَّ في اللاذقية التي عند البحر (لاذقية سورية)،
فاستمسك به أبناؤها المسيحيون وجعلوه أسقفًا عليهم.
٦٣ وأهم ديونيسيوسَ أمرُ بولس وأقلقه، فطلب إلى أناطوليوس الإسكندري
العالم الفيلسوف
٦٤ أن يرافق أفسابيوس الشماس إلى أنطاكية، وأن يسخر علمه وفلسفته في سبيل
الدفاع عن العقيدة، ولا بد وأن يكون ديونيسيوس قد رأى في أقوال بولس خروجًا على
تعاليم الرسل الأطهار، وتحديًا لرأيه ورأي أستاذه أوريجانس في الثالوث الأقدس.
٦٥
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن مواعظ بولس وآراءه في العقيدة قد ضاعت،
ولم يبقَ منها شيء سوى ما جاء في ردود أخصامه عليه، فأصالة الرسالة إلى هيمنايوس
Hymnaeus، التي تُنسب إلى الأساقفة الستة الذين
نظروا في قضية بولس بادئ ذي بدء، لا تزال موضوع جدل بين رجال الاختصاص، وقُلِ الأمرَ
نفسه عن الشذرات الباقية من خطب بولس إلى سبينوس
Sabinus.
٦٦
ويذكر علماء الكنيسة اهتمامَ الآباء في القرن الثالث بالثالوث الأقدس، وسعيهم
للتوفيق بين وحدانية الله في التوراة وألوهية المسيح في الإنجيل، واختلافهم في هذا
التوفيق، ثم يذكرون فكرة التبنِّي
Adoptianism التي
قال بها ثيودوتوس وأرطمون، وفكرة المونارخية التي نادى بها براكسياس
Praxeas في القرن الثاني،
ثم سبيليوس
Sabellius في القرن الثالث، ويقرءون في
تاريخ أفسابيوس
٦٧ اعتراض الأساقفة المجتمعين في أنطاكية واتِّهَامهم بولس بالأرطمة،
ويطالعون أقوال القديسَيْن هيلاريوس
٦٨ وباسيليوس
٦٩ في موضوع بولس، فيجدون اعتراضًا على لجوئه إلى اللفظ اليوناني
Homoousios للتعبير عن علاقة المسيح بالآب،
نقول يذكر علماء الكنيسة جميع هذا، فيخلصون إلى القول بأن بولس شارك المونارخيين،
فزعم معهم أن الله أقنوم واحد، وأخذ عن الأرطمة
Artemon فقال إن الله تبنَّى المسيح تبنيًا.
٧٠
المجمع الأنطاكي الثاني (٢٦٤)
وعقد المجمع الأنطاكي الثاني جلساته في أنطاكية نفسها في السنة ٢٦٤، وحضر هذه
الجلسات كهنة وشمامسة،
٧١ وأُلقِيت الخطب وكثر النقاش، ودارى البولسيون الأحبار ولَايَنُوهم، واستتروا
فأخفوا هرطقتهم، وحاول الأحبار كشف اللثام فلم يفلحوا،
٧٢ وتوفي ديونيسيوس الإسكندري، فخسر الأحبار سندًا كبيرًا، ولم يبقَ بينهم
واحد بحزمه وعزمه؛ وكانت زينب لا تزال في أوج عزها ومجدها، وأيد بولس وشد أزره جميع
أعداء رومة، واعترف بولس بأنه قال قولًا جديدًا وقطع العهود على نفسه بالعودة إلى
السراط المستقيم،
٧٣ فمال القديس فرميليانوس إلى اللين، واكتفى بما تقدم ذكره، وعاد الأحبار
كلٌّ إلى أبرشيته.
ولا يجوز القول مع البحاثة رفيل إن فرميليانوس اكتفى بابتعاد بولس عن الغنوسية
وعن مونارخية سبيليوس؛ لأن موقف الآباء من اللوغوس
Logos كان لا يزال مائعًا،
٧٤ وذلك لسببين: أولهما أن مؤلفات فرميليانوس ضائعة، والثاني أن القديس
باسيليوس استشهد بآراء فرميليانوس لتدعيم موقفه من الروح القدس.
٧٥
المجمع الأنطاكي الثالث (٢٦٨)
وعاد بولس إلى سيرته الأولى، ولم يعبأ بما قطع من عهود، فكتب إليه الأحبار رادعين
واعظين ولكن بدون جدوى،
٧٦ فخامرهم الشك وداخلهم الريب، وقالوا بوجوب العودة إلى أنطاكية لاتخاذ
الإجراءات اللازمة، ودعا إلينوس أسقف طرسوس مرة ثالثة إلى اجتماع في أنطاكية وذلك
في السنة ٢٦٨،
٧٧ فأمَّ عاصمةَ الشرق عددٌ كبير من الأساقفة،
٧٨ ولعل مجموعهم بلغ السبعين أو الثمانين.
٧٩
وخلا مكان غريغوريوس العجائبي، وتوفي فرميليانوس بعده وهو في طريقه إلى أنطاكية،
فتبوَّأ إلينوس أسقف طرسوس المكان الأول بين المجتمعين، وجاء بعده فيما يظهر هيمنايوس
أسقف أوروشليم، ثم ثيوتيقنوس أسقف قيصرية فلسطين، ومكسيموس أسقف بصرى، ونيقوماس
أسقف أيقونية، وثيوفيلوس أسقف صور،
٨٠ وبروكلوس، ونيقوماس، وإليانوس، وبولس، وبولانوس، وبروتوجينس، وهيراكس،
وإفتيخيوس، وثيودوروس، وملكيون، ولوقيوس،
٨١ ولا تذكر المراجع أسماءَ الأساقفة الباقين.
وخشي الأساقفة أعضاء المجمع مكرَ بولس ودهاءه، فوكلوا أمر المقارعة بالمنطق إلى
ملكيون الكاهن، مدرس المنطق في إحدى مدارس أنطاكية الهلينية، كما فعل غيرهم من قبلُ
في ظروف مماثلة،
٨٢ واستقدموا عددًا من الكتَّاب الماهرين لتدوين المناقشة،
٨٣ وكان ملكيون حاضر الدليل صحيح الاستدلال، فناقش بولس في العقيدة، وأثبت
رأيه بالحجج الملزمة فاستظهر عليه.
٨٤
فأدان المجمع بولس ووصمه بالهرطقة؛ لأنه «امتنع عن القول بأن ابن الله نزل من
السماء، ولأنه قال بأن يسوع المسيح بشر وإنسان».
٨٥ وأكد المجمع شذوذ بولس في حب المال والجاه والفخفخة، وشجب أيضًا إقدامه
على مساكنة النساء والسماح لبعضهن أن يرتلن في الكنيسة، وما إلى ذلك مما سبقت
الإشارة إليه، وصرَّح المجمع أيضًا أن إصلاح مَن يشعر بوحدة الكنيسة ويعدُّ نفسه منها
ممكن، ولكن ذاك الذي يستهزئ بسر التقوى، ويفخر بهرطقة أرطمون المنتنة، لا فائدة من محاسبته.
٨٦ وسرُّ التقوى هنا هو في الأرجح ذاك الذي جاء في الآية السادسة عشرة من
الفصل الثالث من رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس: «وإنه لعظيمٌ ولا مراء
سرُّ التقوى الذي تجلَّى في الجسد، وشهد له الروح، وشاهدته الملائكة وبُشر به في
الأمم وآمَن به العالم وارتفع في مجد.»
وخلع المجمع الأنطاكي الثالث بولس وانتخب دومنوس بن ديمتريانوس سلف بولس أسقفًا
على أنطاكية، وكتب بذلك رسالة محبة إلى «ديونيسيوس أسقف رومة ومكسيموس أسقف
الإسكندرية، وجميع الإخوة الأساقفة في المسكونة، والكهنة والشمامسة، وإلى كل الكنيسة
الجامعة»، ليكتب هؤلاء بدورهم إلى دومنوس معترفين برئاسته.
٨٧
امتناع بولس عن الطاعة
وامتنع بولس عن طاعة المجمع المقدس، وظلَّ يعتبر نفسه رئيسًا على كنيسة أنطاكية،
٨٨ وطاوَعَه في ذلك أتباعه،
٨٩ وأيَّدَتْه زينب صاحبة السلطة، فظلت أوامره نافذة،
٩٠ وجل ما ربحه المؤمنون أنه أصبح لهم أسقف صافي العقيدة تقيًّا يلتفون
حوله بإيمان وخشوع، ويمارسون الطقوس كسائر أبناء الكنيسة الجامعة، ولكنهم ظلوا غير
مُعترَف بهم من السلطات التدمرية، يعقدون معظم اجتماعاتهم في السرِّ أو في بعض
الكنائس الحقيرة.
٩١
وجاء في بعض المراجع المتأخرة أن مكسيموس الإسكندري وفيليكس الروماني الذي خلف
ديونيسيوس على السدة الرومانية اتصلا بدومنوس، واعترفا برئاسته على كنيسة أنطاكية
في السنة ٢٦٩،
٩٢ ولكن بولس لم يعبأ بهذا كله، وما فتئ يتمتع بالسلطتين الروحية والزمنية
في أنطاكية حتى خروج زينب منها.
ولم تَدُمْ رئاسة دومنوس أكثر من ثلاث سنوات،
٩٣ وجاء في حوليات إيرونيموس أن تيمايوس
Timaios خلف دومنوس في الرئاسة في السنة الأولى من حكم
الإمبراطور أوريليانوس ٢٧٠-٢٧١.
٩٤
زوال زينب وبولس
وسقط غاليانوس محارِبًا ضد أوريولوس في السنة ٢٦٨، ولكن الجنود نادوا بكلوديوس
الثاني إمبراطورًا (٢٦٨–٢٧٠)، فقتل هذا أوريولوس وقهر الألماني والقوط وتوفي
بالطاعون، فخلفه أوريليانوس (٢٧٠–٢٧٥)؛ إذ نادى به جنوده إمبراطورًا، وصالح
أوريليانوس القوط، وتنازل عن حقوق رومة في ما وراء الدانوب.
وفي أواخر السنة ٢٧٠ أو أوائل السنة ٢٧١ أنفذت زينب زبدة قائد قواتها إلى مصر
ليستولي عليها، ففعل وأبقى حاميةً تدمريةً فيها وعاد إلى سورية، وكان حاكم مصر
الروماني بروبوس
Probus قد خرج منها لتأديب بعض
العصاة في ليبية وقرطاجة، ولتطهير بحر الأرخبيل من القوط، فعاد إلى مصر بعد خروج
زبدة منها، وحارب الحامية التدمرية ومَن ناصرها من المصريين، فمات محاربًا، فأضحت
زينب في حرب ضد رومة، فاتخذت لنفسها ولابنها لقب أوغوسطوس،
٩٥ ودفعت برجالها عبر طوروس إلى آسية الصغرى فاحتلت أنقرة ثم بيثينية،
ووصلت طلائع جيشها إلى خلقيدونية مفتاح البوسفور، وكان نبأ تولِّي أوريليانوس قد وصل
إلى خلقيدونية، فصمد الخلقيدونيون في وجه التدمريين.
وقام أوريليانوس من إيطالية إلى البلقان في صيف السنة ٢٧١، ثم انتقل بجيشه إلى
آسية الصغرى، فرأت زينب أن تقاتله قريبة من البادية، فتراجعت برجالها إلى سورية
الشمالية وصمدت في أنطاكية، ووصل أوريليانوس إلى أنطاكية، فوجد الخيالة التدمريين
بانتظاره عند ضفة العاصي، فدنا منهم وتناولهم بالقتال وتظاهر بالضعف وتراجُع، فلحقوا
به وما فتئوا مُجِدِّين في إثره، وكانوا من النوع الثقيل حتى أعياهم السعي، ففاجأهم
أوريليانوس بهجوم صاعق وذبح منهم عددًا كبيرًا، فرأى زبدة أن لا مفر من الجلاء عن
أنطاكية، فأشاع خبرًا مؤداه الانتصار على الرومان، وعرض في المساء في شوارع أنطاكية
رجلًا بزيِّ إمبراطور روماني، وادَّعَى أنه أوريليانوس نفسه، ثم قام تحت جناح الليل
إلى حمص، وترك في دفنة ساقة تؤخِّر تقدُّم أوريليانوس، وقام معه عدد كبير من الأنطاكيين
الموالين له ولسيدته زينب، ودخل أوريليانوس أنطاكية فضبط أمورها، وتساهل مع
الأنطاكيين مدَّعِيًا أنَّ مَن لحق منهم بزبدة إنما فعل ذلك مُكرَهًا، ثم نهض أوريليانوس
إلى أبامية فحماة فالرستن فحمص، واصطدم هنالك بزبدة ورجاله وكتب النصر له، فانثنت
زينب عن حمص وانصرفت إلى تدمر، ولحق بها أوريليانوس، فحارب البدو يمينًا وشمالًا،
ووصل إلى تدمر بعد أسبوع واحد، فشدد على تدمر الحصار، فاتصلت زينب بشابور الساساني
وطلبت معونته فأنجدها، ولكن أوريليانوس تمكَّنَ من القضاء على هذه النجدة قبل وصولها
إلى تدمر، فخفت زينب بنفسها إلى طلب نجدة ثانية، وخرجت من تدمر تحت جناح الظلام
طالبة الفرات، ولكن الرومان أدركوها عند هذا النهر، وعادوا بها إلى معسكر سيدهم،
فدخل أوريليانوس تدمر ظافرًا، ونقل كنوزها إلى حمص وجرَّ وراءه ملكتها وملكها
ومستشارها لونجينوس الفيلسوف وبعض أعيانها، وحاكَمَ أوريليانوس لونجينوس في حمص، وأمر
بقتله فقُتِل فيها، وتقبَّلَ لونجينوس الموت بشجاعة، فلفظ أنفاسه وهو يعزي ذويه ويقوي
أصدقاءه وأحباءه.
٩٦
وبزوال الحكم التدمري زال نفوذ بولس السميساطي، وقويت شوكة تيمايوس وجمهور
المؤمنين، فانتهز تيمايوس (٢٧١–٢٧٩) هذه الفرصة السانحة، وتقدم من الإمبراطور
المحرر راجيًا إخراج بولس من قلاية الأسقفية وكف يده، ورأى أوريليانوس وجه الحق في
هذا الطلب، ولعله رأى أيضًا في شخص تيمايوس وفي أعوانه حزبًا يونانيًّا رومانيًّا
قاسى الأمرين في عهد زينب «البربري»، «فأمر بأن تُعطَى القلاية إلى أولئك الذين كانوا
على صلة بالمكاتبة بأساقفة العقيدة المسيحية في إيطالية ومدينة رومة»،
٩٧ ولا نعلم عن مصير بولس بعد هذا.
ماني وثنويته (٢١٦–٢٧٦)
وجاء في تاريخ الراهب الرهاوي أن مجمع أنطاكية الثالث حرَّم تعاليم ماني في الوقت
نفسه، الذي حَرَّمَ فيه تعاليم بولس السميساطي، وهو قول ضعيف لا يجوز الأخذ به؛ لأن
المؤرخ الرهاوي دوَّنَ أخباره في القرن الثالث عشر، وجاء أيضًا في بعض التواريخ
السريانية وفي تاريخ ميخائيل الكبير «أن ماني وُلِدَ في مدينة السوس سنة ٢٤٠، وتنصَّرَ
وسامه أسقفها كاهنًا سنة ٢٦٨، ثم مرق من النصرانية لخبث طينته».
٩٩ وهذا القول ضعيف أيضًا؛ لأنه جاء متأخرًا؛ فميخائيل الكبير وُلِد في
السنة ١١٢٦ في ملطية، وتوفي في السنة ١١٩٩.
ويُجمِع رجال البحث والتنقيب على أن ماني بن بابك وُلِدَ في ماردين في السنة ٢١٥ أو
٢١٦، وأنه ادَّعَى الوحي أول مرة في الثالثة عشرة من عمره، ثم في الخامسة والعشرين، أي
السنة ٢٤٠ أو ٢٤١، وعلَّمَ ماني وبشَّرَ في طيسفون وخصَّ شابور بإحدى رسائله، وقال
بسببين أصليين النور والظلام، وبظروف ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. والنور
والظلام عند ماني كائنان مستقلان منفصلان منذ الأزل، ولكن الظلام غزا النور في
الماضي، وأصبح بعض النور ممتزجًا بالظلام، وهذه هي حالة عالمنا في الحاضر. ثم يخلص
ماني إلى القول أنْ لا بدَّ من تنقية النور من هذا الظلام؛ كي يعود النور والظلام
إلى الانفصال التام كما بدآ، والله هو سيد عالم النور، والشيطان سيد عالم الظلام.
هذا بعض ما قاله ماني عن الماضي، فأما في الحاضر فإن قوى النور أرسلت بوذا
وزورواستر، ثم يسوع وهو أهم الجميع؛ والعالَم عند ماني ينتهي في المستقبل بثوران
هائل وسقوط عظيم، فيصعد الصالحون في الفضاء إلى أعلى، والأشرار يهبطون إلى ظلام
دائم.
ماني والنصرانية
وخصَّ ماني السيد المخلص بمكانة ممتازة، وادَّعى أنه هو رسوله، وأنه هو البارقليط
المنتظر الذي وعد به السيد، وأن مقدرته على معرفة ما كان وما سيكون مستمَدة من
البارقليط الذي حلَّ فيه. ويرى رجال الاختصاص الذين وفقوا إلى درس ما بقي من رسائل
ماني في تركستان، وفي أوراق البردي في مصر؛ أن المانوية تفرَّعَتْ عن المسيحية لا الوثنية.
١٠٠
وانتظم المانويون في كنيسة واحدة مؤلَّفة من طبقتين: المنتقين المصطفين والمستمعين،
وكان على رأسها بادئ ذي بدء رسلٌ اثنا عشر، ثم تلاميذ ستون، ثم أساقفة وكهنة وشمامسة
ورهبان، وكانوا يجتمعون في كل أحد للصلاة والترتيل وقراءة الأسفار، ومنها الأناجيل
ورسائل بولس الرسول.
وانتشرت تعاليم ماني في بابل وما بين النهرين أولًا، ثم في سورية وفلسطين ومصر
وأفريقية الشمالية وفارس وأواسط آسية، وسكت عنها شابور الأول لرحابة صدره واتساع
أفقه، ولكن كهنة مزدة قاوموا هذه التعاليم، فاضطر ماني أن يغادر فارس إلى الكشمير
وتركستان والصين، وتوفي شابور الأول في السنة ٢٧٢، وتوفي ابنه وخلفه هورمزد الأول
في السنة ٢٧٣، وتولَّى العرش بهرام الأول، فظنَّ المانويون أن سيتاح لمعلمهم أن يعود
إلى وطنه ويعيش بأمان وحرية، ولكنه اعتُقِل وصُلِب وسُلِخ جلده وحُشِي قشًّا في السنة
٢٧٥
أو ٢٧٦.
الأسفار الأبوكريفية
واللفظ اليوناني Apokryphos معناه المخفي
والمستور والمكنون، وأسفار السيبولات عندهم وعند الرومان كانت أبوكريفية؛ لأنها
كانت مقدسة لا يجوز أن تبقى في متناول جميع الناس، والأسفار الأبوكريفية عند
المسيحيين الأولين كانت الأسفار الخالية من الوحي الإلهي، ويُطلِقُ رجال الاختصاص
هذا اللفظ اليومَ على كل كتاب غير صحيح، أو غير موثوق به، أو غير أصلي.
ولجأ أهل البدع في القرنين الثاني والثالث إلى التزويق والتلفيق والتزوير لخداع
المؤمنين، ولمس المؤمنون نقصًا في أخبار طفولة السيد وحداثته، وفي أخبار العذراء
وأعمال الرسل، فأقدموا على مطالعة ما أعَدَّه أهل البدع، فهبَّ الآباء بدورهم يدققون
وينذرون ويحرمون.
١٠١
والأسفار الأبوكريفية المسيحية متنوعة؛ منها الإنجيل، ومنها الرسائل، ومنها أيضًا
الأعمال، وعدد الأناجيل الأبوكريفية يربو على العشرين: إنجيل العبرانيين وهو قريب
جدًّا من إنجيل متى، وقد كُتِب بالآرامية بأحرف عبرية، وإنجيل المصريين، وإنجيل
الأبيونيين ويُدعَى أيضًا إنجيل الرسل، وإنجيل بطرس وقد سبقت الإشارة إليه عند
الكلام عن سيرابيون أسقف أنطاكية، وإنجيل نيقوذيموس، وإنجيل يعقوب، وإنجيل توما،
وإنجيل الطفولية العربي، وسيرة يوسف النجار العربية، وإنجيل فيليبوس، وإنجيل متيا،
وإنجيل برنابا، وإنجيل برثلماوس، وإنجيل أندراوس، وإنجيل يهوذا الأسخريوطي، وإنجيل
تدايوس، وإنجيل بسيليدس، وإنجيل كيرينثوس، وإنجيل فالنتينوس، وإنجيل أبيليس؛ وأثر
الغنوسية في الأناجيل الثمانية الأخيرة واضح جلي.
وأهم الأعمال الأبوكريفية أعمال
بولس Acta Pauli، وأعمال بطرس، وأعمال بطرس وبولس، وأعمال يوحنا، وأعمال أندراوس،
وأعمال توما، وأعمال تدايوس، وفيها رسالة أبجر ملك الرها إلى السيد المخلص.
وأشهر الرسائل الأبوكريفية رؤيا بطرس، ورؤيا بولس، ورؤيا إسطفانوس، ورؤيا توما،
ورؤيا يوحنا، ورؤيا العذراء، ورسالة الرسل
Epistola
Apostolorum، وهذه من بقايا النصف الثاني من القرن الثاني، وقد
حُفِظت باللغتين القبطية والحبشية.
١٠٢
وأفيد هذه النصوص الأبوكريفية لتاريخ كنيسة أنطاكية والنصرانية في القرن الثالث:
إنجيلُ بطرس، وإنجيل يعقوب، وأعمال يوحنا، وأعمال بولس، وأعمال بطرس، وأعمال توما، وأعمال
أندراوس، ورسالة الرسل.
وإنجيل بطرس كما نعرفه اليوم يعود إلى النصف الأول من القرن الثاني (١٢٠–١٣٠)،
ويحمل آثارًا تدل على أنه دوِّن في سورية.
١٠٣ ولعل جامع أخباره قال بالتشبيه
Docetism وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم، فإنه يستعيض عن النص «إلهي
إلهي لماذا تركتني»؟ بالعبارة «قدرتي قدرتي لقد تركتيني»! وتقع مسئولية صلب المسيح
في هذا النص المزيف على اليهود بأكملها، فإن هيرودوس ملك اليهود حكم على المسيح
بالإعدام لا بيلاطس؛ ويظهر مما جاء في شرح أوريجانس على إنجيل متَّى أن القول بتحدر
إخوة المسيح من زوجةٍ ليوسف سابقة لمريم جاء في هذا الإنجيل الأبوكريفي عينه،
١٠٤ ويؤكد أفسابيوس أن سيرابيون أسقف أنطاكية حرَّم مطالعة هذا الإنجيل؛
لأنه كان يمتُّ إلى المشبهين بصلة قوية.
١٠٥
وإنجيل يعقوب يعود في أقدم أجزائه إلى النصف الثاني من القرن الثاني (١٥٠–١٨٠)،
وفي مجموعه كما نقرؤه اليوم بنصه اليوناني إلى القرن الرابع.
١٠٦ وعلى الرغم من ورود إشارة واضحة في ذيله إلى أن يعقوب أخا الرب وأسقف
أوروشليم، هو الذي دوَّن هذا الإنجيل، فإن العلماء الباحثين يرون أن شخصًا أقل
اطِّلاعًا على جغرافية فلسطين من يعقوب وضع هذا السفر، وأنه كان من المقيمين في مصر،
١٠٧ ولعل الغاية الأساسية من جمع أخباره إثباتُ عذرة العذراء قبل ولادة
السيد وبعدها، وهو أغنى المصادر الأولى في أخبار مريم ويوسف وطفولة السيد المخلص،
وأكثرها تفصيلًا.
أما كاتب أعمال يوحنا فإنه آسيوي عُنِيَ بجمع أخبار يوحنا الحبيب في آسية الصغرى،
فذكر رحلاته فيها ودَوَّنَ عظاته، ووصف العجائب التي تمَّتْ على يديه، ويستدل من بعض
ما جاء في هذا السفر الأبوكريفي أن كاتبه دوَّن أخباره في النصف الثاني من القرن
الثاني، وأنه قال بالتشبيه أيضًا؛ فقد جاء في الفصل الثالث والتسعين من هذا الكتاب
ما محصله: «وكنتُ إذا أردتُ أن ألمس السيد، أضع يدي على جسم مادي صلب، وفي بعض
الأحيان كنت إذا لمسته أجد جوهره بدون جسم، كأنه لم يوجد أبدًا.»
١٠٨
وكتاب أعمال بولس يشمل قصةَ بولس وتقلا وردَّ الكورنثيين على رسالتَيْ بولس الثانية
والثالثة إليهم، وأخبارَ استشهاد بولس. وصاحب هذا الكتاب هو في الأرجح كاهن من كهنة
آسية الصغرى من أعيان النصف الثاني من القرن الثاني.
١٠٩
وأعمال بطرس دُوِّنَتْ فيما يظهر في سورية أو فلسطين عند نهاية القرن الثاني، وهي
تشمل رحلة بولس إلى إسبانية بعد رومة ووصول سمعان الساحر إلى عاصمة الدولة
الرومانية، ولحاق بطرس بهذا الساحر وانتصاره عليه، ثم أخبار استشهاد هامة الرسل،
ومما يُؤْخَذ على واضع هذا السفر الأبوكريفي أنه كان يقول بالتشبيه أيضًا، فإنه
يذكر أن بولس كان يمارس سر الأفخاريستية بالخبز والماء.
١١٠
وأعمال توما من مصنفات القرن الثالث، وقد وُضِعت بالسريانية أولًا، ثم نُقِلت إلى
اليونانية والأرمنية والحبشية واللاتينية، وواضعها رهاوي من أتباع برديصان، وقد
سبقت الإشارة إليه، وهو يجعل من توما مبشِّر الهند بعد ما بين النهرين. وتشكو هذه
الأعمال من شيء من الغنوسية والمانوية، وقد تبنى غبطة البطريرك أغناطيوس أفرام
شيئًا كثيرًا مما جاء في هذا السفر الأبوكريفي، وذلك في كتابه الدرر النفيسة في
تاريخ الكنيسة.
١١١
ويرى رجال البحث أن لفكيوس
خارينوس
Leukios Charinos هو الذي صنف أعمال أندراوس في منتصف القرن الثالث، ويقول
أفسابيوس إن العقيدة التي تتجلى في هذا المصنف الأبوكريفي لا تتفق والعقيدة
الأرثوذكسية الحقيقية، وإن أحدًا من المؤمنين لم يردِّد ما جاء في هذا المصنف، وإن
صاحبه أو أصحابه هراطقة.
١١٢ وتشمل أعمال أندراوس قصة أندراوس ومتياس بين أكلة البشر في البحر
الأسود، وقصة بطرس وأندراوس، واستشهاد أندراوس في آخية، وعظته في سجن بتراس.
١١٣
أما رسالة الرسل
Epistola Apostolorum فإنها
أبصرت النور، إما في آسية الصغرى أو في مصر بين السنة ١٦٠ والسنة ١٧٠ بعد الميلاد،
وقد ضاع أصلها اليوناني ولم يبقَ عنه سوى جزء من ترجمته إلى القبطية وترجمته إلى الحبشية،
١١٤ والقسم الأكبر من هذه الرسالة الأبوكريفية يبحث في ظهور السيد المخلص
لتلاميذه بعد القيامة، وهنالك مقاطع تبحث في ألوهية السيد فتُظهِره ذا طبيعتين إلهية
وبشرية، وتوجب القول بأقانيم ثلاثة وكنيسة مقدسة ومغفرة الخطايا، وتجعل من
المعمودية شرطًا لازمًا للخلاص. وعلى الرغم من ظهور بعض الغنوسية في هذه الرسالة،
فإنها تعتبر سمعان الساحر وكيرينثيس رسولين كاذبين، وتؤكد قيامة الجسد في يوم الدينونة.
١١٥
أهمية الأبوكريفية
والأسفار الأبوكريفية تظل على ما فيها من عيب مراجع مفيدة لتاريخ كنيسة أنطاكية
والنصرانية جمعاء، فهي تحفظ لنا ما ظنَّه بعض رجال البدع جذابًا لجمهور المؤمنين،
وإذا ما فتشنا هذه الأسفار لهذه الغاية نجد موضوع البكارة مطروقًا أكثر بكثير من
غيره، فقصة بولس وتقلا سحرت عقول المؤمنين أجيالًا طوالًا، وقد نلمس شيئًا من
المغالاة في حض الرجال والنساء على العفة في سِفر أعمال بولس، ولكننا نضطر في الوقت
نفسه أن نكبر في الرسول مثله العليا، ومقدرته على الأخذ بقلوب المؤمنين، فقصة تقلا
تمثل لنا سطوة العقيدة الجديدة، وتمكنها من اقتلاع الأنفس من أوساخها الوثنية
وتقديمها للمسيح، فقد جاء على فم بولس في الفصل الخامس من الأعمال التي تُنسَب إليه
ما يلي:
طوبى لأنقياء القلب؛ لأنهم يعاينون الله.
طوبى لأعفَّاء الجسد؛ لأنهم يصبحون هيكل الله.
طوبى لأغضَّاء الطرف وأنقياء العِرض؛ لأنهم يخاطبون الله.
طوبى لمن يتخلون عن هذا العالم؛ لأنهم يُستحسنون عند الله.
طوبى للمتزوجين الذين كأنهم لم يتزوجوا؛ لأنهم يرثون الله.
طوبى لمن يخافون الله؛ لأنهم يصبحون ملائكة الله.
ويذهب واضع سِفر أعمال يوحنا إلى أبعد من هذا، فيحرم الزواج ويحض المؤمنين على
زيجة سماوية طاهرة حقيقية لا تنفصم أبدًا هي الاتحاد بالمسيح،
١١٦ ولا يختلف موقف مَن وضع أعمال توما وأعمال أندراوس من الزواج عن هذا
الموقف نفسه.
١١٧
ومما تظهره هذه الأسفار الأبوكريفية تطوُّر في صلوات جمهور المؤمنين، فالسيد المخلص
لا الآب أصبح قبلة أنظار المصلين «خارج الكنيسة»، وتقلا في أعمال بولس تهتف: «يا
ربي وإلهي إله هذا البيت الذي أبصرت فيه النور، يا يسوع المسيح ابن الله ملجئي في
السجن وأمام الحكام وفي النار وبين الوحوش، أنت الله ولك المجد إلى الأبد، آمين.»
١١٨ وما نلاحظه في أعمال بولس من هذا القبيل نجده أيضًا في أعمال بطرس
وأعمال يوحنا وتوما وأندراوس.
ومن أهم ما جاء في المصنفات الأبوكريفية موقف بعضها من الناموس، فالرسائل
المنسوبة إلى إقليمس الشريف الروماني تجعل موسى ينقل الناموس إلى السبعين شفاهًا،
وتصرُّ على أن الناموس لم يُدوَّن إلا بعد وفاة موسى، وأن بعض مَن حمله في صدره بدَّل
قولًا غير الذي قيل له،
١١٩ وأن الله سكت عن هذا التبديل كي لا يصبح الناموس كافيًا في حد ذاته،
ثم تخلص هذه الرسائل إلى القول بأن افتراض فهم الناموس من مجرد قراءته خطأ خطر؛
١٢٠ وفي هذا كله تشابه شديد مع ما جاء في رسالة بطليموس الغنوسي إلى فلورة،
ففي هذه الرسالة أيضًا تفريق في الأهمية بين مصادر الناموس الثلاثة؛ الله وموسى
والشيوخ، وبالتالي تحرر من الخضوع لهذا التشريع.
١٢١
وجاء في ذيذاسكالية الرسل أن الله منح شعبه ناموسًا طاهرًا، فلما سقطوا في
التجربة وعبدوا الأصنام، أنزل لهم ناموسًا آخر أشد من الأول وأقسى، فجاء المسيح
فأقر الناموس الأول وألغى الثاني، وعلى جمهور المؤمنين أن يتحرروا من ربقة الناموس
الثاني، وأن يعملوا بموجب نصوص الأول.
١٢٢ ويرى العلماء المدققون صلةً قوية بين هذين السِّفرين الأبوكريفيين وبين
بعض الأوساط المسيحية في النصف الأول من القرن الثالث في شرقي الأردن.
١٢٣