تيمايوس وكيرلس
وتوفي دومنوس الأول بعد خلع بولس السميساطي في السنة ٢٧١، فتولى خلافة بطرس في
أنطاكية تيمايوس
Timaios ورعى المؤمنين حتى السنة ٢٧٩،
١ ولعله هو الذي تسلَّم الأوقاف والقلاية بأمر أوريليانوس كما سبق
وأشرنا، وجاء كيرلس بعده فساس الرعية حتى السنة ٣٠٣،
٢ وجميع هذه التواريخ تقديرية لا يجوز اعتبارها ثابتة.
٣ ومما يُروَى عن كيرلس أنه أُبعِد عن أنطاكية عند بدء الاضطهاد في السنة
٣٠٣، وحُكِمَ عليه بالأشغال الشاقة في مقالع بانونية، فتوفي فيها بعد ثلاث سنوات.
٤
فلول البولسيين
وتدخل الإمبراطور أوريليانوس في النزاع بين المجمع الأنطاكي وبين بولس السميساطي،
فنفَّذَ رغبات المجمع، وأكره بولس على تسليم الأوقاف للأسقف الشرعي، وغاب بولس عن
أنطاكية وانقطعت أخباره، ولا نعلم شيئًا عن أتباعه في أنطاكية وتوابعها قبل مجمع
نيقية، ولعلهم انزووا ولم يأتوا بحركة.
٥ ويرى لوفس
Loofs العلامة الألماني أن
البولسيين ظلوا منتظمين كنيسة مستقلة في أنطاكية حتى مجمع نيقية برعاية أسقف كان
يُدعَى لوقيانوس، وأن أسقفهم هذا هو غير لوقيانوس المعلم الشهير،
٦ ولكن النصوص التاريخية الباقية لا تخول المؤرخ المدقق هذا القدر من
الاستنتاج.
دوروثيوس الكاهن
ويقول أفسابيوس المؤرخ إنه عرف في أنطاكية دوروثيوس
الكاهن
Dorotheos، فوجده ملمًّا باللاهوت مطَّلِعًا على علوم اليونان، يجيد
العبرية ويقرأ الأسفار بلغتها الأصلية. ويقول أفسابيوس أيضًا إن دوروثيوس وُلِد
خصيًّا، وأن الإمبراطور ألحقه بالبلاط، ووكل إليه إدارة مصبغة صور؛ ثم يخلص المؤرخ
إلى القول: «لقد سمعناه يفسر الأسفار بحكمة في الكنيسة.»
٧
وقام بعد أفسابيوس مَن خلط أخبار دوروثيوس الكاهن هذا بأخبار دوروثيوس آخر جعله
التقليد أسقفًا على صور في أيام يوليانوس الجاحد،
٨ ولا نعلم شيئًا عن دوروثيوس الكاهن أكثر مما أوردناه أعلاه.
٩
لوقيانوس المعلم
وجاء في التقليد
١٠ أن لوقيانوس أبصر النور في سميساط في بيت كريم، وأنه درس الأسفار
المقدسة في الرها على مفسر شهير كان يُدعَى مكاريوس، وإذا صح هذا التقليد جاز القول
إن بولس السميساطي استقدم لوقيانوس ابن بلدته إلى أنطاكية بعد أن أصبح رئيس الكنيسة
فيها، فَعُنِيَ بتثقيفه ورسمه كاهنًا، ووكل إليه الإشراف على تلقين الدين المسيحي
في عاصمة الشرق.
١١
والثابت الراهن لدى المدققين الثقات هو أن لوقيانوس كان كاهنًا عالمًا في أنطاكية
في الثلث الأخير من القرن الثالث، وأنه ماشى بولس السميساطي في آرائه اللاهوتية،
فقطعه دومنوس عن الشركة بعد قرار المجمع الثالث، فبقي مقطوعًا حتى تولى تيرانوس
(٣٠٤–٣١٦) بعد كيرلس،
١٢ والدليل على قطعه هو شهادة ألكسندروس الإسكندري بذلك بعد وفاة لوقيانوس
بعشر سنوات فقط.
١٣ ومن الأدلة على قطعه انتماءُ آريوس إليه في المذهب،
١٤ وقول عدد من كبار الآريوسيين إنهم من أتباع لوقيانوس يقولون قوله
ويدينون بمذهبه، وأشهر هؤلاء: أفسابيوس النيقوميذي، وماري الخلقيدوني، ومينوفنتيوس،
ونومينيوس، وأفذوكسيوس، وألكسندروس، وأستيريوس القبدوقيون، وأنطونيوس الطرسوسي،
١٥ ويضاف إلى هذا كله دستور إيمان نُسِبَ إلى لوقيانوس، وبحث في مجمع
أنطاكي في السنة ٣٤١، والقول في هذا الدستور بالهوموئيسية الآريوسية جلي واضح.
١٦
والثابت الراهن أيضًا أن لوقيانوس استشهد في السنة ٣١٢ في نيقوميذية،
١٧ فغسلت معموديته بالدم سابق ذنوبه، ونُقِل جثمانه إلى دريبانوم
Drepanum ودُفِن فيها،
١٨ فأصبح ضريحه مزارًا للمؤمنين، وأقامت القديسة هيلانة فيما بعدُ كنيسةً
فوق هذا المزار،
١٩ تلقى فيها ابنها قسطنطين الوعظ والإرشاد قبيل اعتماده،
٢٠ ومن هنا أيضًا اندفاع الذهبي الفم في تقريظ لوقيانوس في السابع من
كانون الثاني سنة ٣٨٧،
٢١ وفي تعليقه على الآية السادسة من الفصل التاسع من نبوة أشعيا.
٢٢
لوقيانوس والتوراة
وعُنِيَ لوقيانوس بالتوراة وشرح نصوصها، وصحح ترجمتها إلى اليونانية،
٢٣ ولكننا نجهل شرحه وليس لدينا من آرائه سوى ما يجوز استنتاجه من
تصحيحاته للترجمة اليونانية، وأفضل ما تبقى من هذه التصحيحات ما حفظه لنا كلٌّ من
يوحنا الذهبي الفم وثيودوريتس في مصنفاتهما المختلفة.
ويُستدل مما تبقى من ترجمة لوقيانوس أنه توخى الضبط والإيضاح، فاستبدل بعض الكلمات
الغامضة في مدلولها بما اعتبره أدق وأوضح منها، واستعاض عن الضمير في بعض الأحيان
بالأسماء التي يشير إليها هذا الضمير، وتلافى بعض النقص في نص القصص بما يتممه،
٢٤ وكان رائده في هذا كله أن يضمن نصًّا سهل القراءة، واضح المعنى، دقيق
التعبير، لا يفسح المجال للتأويل والتفسير، كما كان يجري في الإسكندرية وغيرها من
الأوساط الشرقية، التي تأثرت بطريقة أوريجانس في البحث. وعلى الرغم من خروج
لوقيانوس على العقيدة الأرثوذكسية الرسولية في بعض أبحاثه اللاهوتية وتوجيهه
الآريوسي (إذا صحَّ هذا التعبير)، فإن طريقته في تفسير الأسفار المقدسة ظلت طريقة
أنطاكية زمنًا طويلًا.
٢٥
ولا نعلم شيئًا عن تفاصيل عمله في حقلي الترجمة والتفسير، ولا نعرف مَن عاونه في
هذا العمل العظيم، والقول مع سويت العلامة الإنكليزي إن دوروثيوس اشترك في هذا
العمل، هو مجرد افتراض ينقصه الدليل.
٢٦
تعاليم لوقيانوس
وجاء في رسالة ألكسندروس الإسكندري إلى ألكسندروس البيزنطي، التي حُرِّرَتْ بعد
استشهاد لوقيانوس بعشر سنوات فقط؛ أن لوقيانوس خلف بولس السميساطي، وأنه قُطع من
الشركة، وأن آريوس قال قوله وقول غيره من الخارجين قبل بولس.
٢٧ وقال القديس أبيفانيوس (٣١٠–٤٠٣) الفلسطيني أسقف قسطنطينة في جزيرة
قبرص: «إن لوقيانوس وأتباعه أنكروا أن يكون ابن الله قد اتخذ لنفسه روحًا، وقالوا
إنه اكتفى بالجسد فقط؛ ليتمكنوا من القول إن ابن الله تألم وجاع وعطش وتعب وحزن واضطرب.»
٢٨ وورد هذا القول في عرض الكلام عن آريوس والآريوسيين، وجاء عن أستيريوس
تلميذ لوقيانوس أنه عدَّل تعليم معلمه، فقال إن طبيعة الابن هي صورة مشابهة تمامًا
لطبيعة الآب.
٢٩
وفي هذا كله ربط بين تعاليم لوقيانوس وتعاليم آريوس بعده، وبالتالي فإنه يجوز
القول إن لوقيانوس مهَّدَ الطريق فيما يظهر، إما عن قصد أو عن غير قصد، للقول بخلق
الابن، وأن معمودية الدم التي اعتمد بها في نيقوميذية في السنة ٣١٢ غسلت ذنبه هذا
ورفعته إلى مصاف القديسين.
٣٠
بمفيلوس البيروتي (٢٥٠–٣٠٩)
وُلِد بمفيلوس
Pamphilos في بيروت وتلقى علومه
الأولية فيها، ثم رحل إلى الإسكندرية، ودرس اللاهوت على بيريوس
Pierius خلف أوريجانس، الذي كان يُدْعَى أوريجانس الأصغر، فأصبح
بمفيلوس من أتباع المعلم العظيم، يقول قوله ويدافع عن رأيه، وعاد إلى وطنه، فاستقر
في قيصرية فلسطين حيث علم أوريجانس في أواخر أيامه، وتقبل سر الكهنوت على يد
أغابيوس أسقف قيصرية، وأنشأ مدرسة درَّس فيها اللاهوت ليواصل عمل أوريجانس، ثم أنفق
بسخاء فجمع مكتبةً خدَمَ بها الفكر المسيحي أجيالًا متواصلة. ومما يُرْوَى عنه أنه
كان يستنسخ الكتب التي لا يمكن شراؤها، فينقلها بخطه في بعض الأحيان، ودرَّب
أفسابيوس المؤرخ على قراءة النصوص وترجمتها ونقدها وجمعها، ولولا عنايته بآثار
أوريجانس لضاع معظمها،
٣١ وأُلقِي القبض عليه في السنة ٣٠٧، وزُجَّ في السجن، ثم استشهد في السادس
عشر من شباط سنة ٣٠٩ أو ٣١٠.
ذيذاسكالية الرسل
ومن آثار الفكر المسيحي الأنطاكي في هذا القرن الثالث تعاليمُ الرسل والتلاميذ Didascalia Apostolorum، وهي لمؤلف مجهول
تحدر من أصل يهودي وسيم أسقفًا، فصنف رسالة في تعاليم الرسل على مثال الذيذاخة،
وقصد بها إرشاد رعية مستجدة في النصرانية تقطن شمالي سورية، وهو يستعين كثيرًا
بالأسفار المقدسة والذيذاخة وإيريناوس وإنجيل بطرس الأبوكريفي وأعمال بولس.
وهو يبحث في فصوله الأولى في الحياة الزوجية، ثم كيفية انتقاء الأساقفة والكهنة
والشمامسة، ويبحث بعد ذلك في حقوق الأساقفة وواجباتهم، فيوصي باللين في معالجة
التائبين وبالعطف على الفقراء والمساكين، ويحذر المؤمنين من الإخوة الكَذَبة، ويحضهم
على عدم الالتفات لشهادة الوثنيين على المؤمنين. وبعد أن يصف كيفية الاحتفال
بالصلاة المشتركة ووجوب الاتجاه نحو الشرق في أثناء القيام بها، يشدد على الاشتراك
في هذه الصلاة، وعدم التلهي عنها بمزاولة الأعمال اليومية أو بزيارة الملاهي، وهو
يحض الأساقفة على الاهتمام بالمضطهدين والمسجونين لأجل المسيح، ويؤكد على جميع
المؤمنين وجوب الترفيه عن «المعترفين» بتقديم الأموال اللازمة، ويشير إلى الرجاء
الأكيد بقيامة الموتى، فيوجب عدم التهرب من الاستشهاد، ويحث المؤمنين بعد هذا على
صوم الأربعاء والجمعة، وصوم أسبوع الآلام ابتداءً من صباح الإثنين حتى «الليل بعد
السبت».
ولا يبحث صاحب الذيذاسكالية في العقيدة، ولكنه يكره اليهود ويخشى الغنوسيين،
ويحذر المؤمنين من شر الاثنين، فيقول مثلًا إن الله ترك كنيس اليهود وجاء كنيسة
النصارى، ولكن الشيطان أيضًا فعل الأمر نفسه.
وقد ضاع أصل الذيذاسكالية اليوناني ولم يبقَ منه سوى شذرات يسيرة، ولكن بقاء نص
قانون الرسل كاملًا يمكننا من ترميم ما تبقى من الذيذاسكالية، ولا يخفى أن الكتب
الستة الأولى من قانون الرسل مأخوذة عن الذيذاسكالية.
ونقلت الذيذاسكالية من اليونانية إلى السريانية في عصر قريب من عصر مؤلفها، وبقيت
عن ترجمتها السريانية نسخٌ نُشِرت في أوروبة في النصف الثاني من القرن الماضي، وهنالك
ترجمة لاتينية قديمة تشمل ثلاثة أثمان الذيذاسكالية، وتعود إلى القرن الرابع بعد
الميلاد، وقد تولى نشر هذه الترجمة هولر في السنة ١٩٠٠، ونص الذيذاسكالية العربية
والحبشية مأخوذ عن النص السرياني.
٣٥