آريوس (٢٥٦–٣٣٥)
ونكاد لا نعلم شيئًا عن آريوس قبل خروجه على رئيسه ألكسندروس أسقف الإسكندرية،
وجل ما نعلمه هو أنه ليبي المولد والمنشأ، وأنه أمَّ الإسكندرية، وتعلم فيها وشايع
ملاتيوس لدى خروجه على رئيسه بطرس، ثم تراجع فسيم شماسًا، ثم انتقد رئيسه في أمر
توبة الجاحدين فقطع، فالتجأ إلى أخيلاس فسامه هذا كاهنًا، ثم وثق فيه ألكسندروس
فجعله خادم كنيسة بفكالس
Bavcalis.
١
وكان آريوس فيما يظهر عالمًا زاهدًا متقشفًا، يجيد الوعظ والإرشاد، فالتف حوله
عدد من المؤمنين، ولا سيما عذارى الإسكندرية اللواتي نذرن أنفسهن للعمل الصالح،
فأصبحن فخر كنيسة مصر، وانضم إلى هؤلاء عدد كبير من رجال الإكليروس، الذين وجدوا في
وعظه غذاء للنفوس، فآثروا الإصغاء إليه على الرغم من التخالف في التعليم بينه وبين
الأسقف رئيس الكنيسة.
٢
ووافق آريوس لوقيانوس المعلم الأنطاكي وأخذ عنه، ولعله درس عليه كما سبقت الإشارة
إلى ذلك في الكلام عن لوقيانوس، ولا نعلم بالضبط وتمام الوضوح ما علمه لوقيانوس،
كما أنه لم يَبْقَ من تعاليم آريوس
إلا مقتطفات يسيرة جاءت في بعض «الردود» عليه، ولا سيما ما كتبه القديس أثناسيوس
الكبير وما أورده القديس إمبروسيوس، الذي اطَّلَع فيما يظهر على تقارير الأسقف هوسيوس،
ولا يخفى أن هوسيوس انتدب للتحقيق في قضية آريوس قبيل انعقاد المجمع المسكوني
الأول، وأنه أصغى لكلٍّ من الأسقف ألكسندروس والقس آريوس.
وجلُّ ما يجوز قوله عن مذهب آريوس أنه كان فيما يظهر محاولة جديدة لتأكيد وحدانية
الآب، وتخفيض منزلة الابن
Subordinationisme
والروح القدس، فالآب وحده في نظر آريوس استحق لقب الإله، أما الابن فإنه لم يكن سوى
إله ثانوي منخفض في الرتبة والمنزلة، مخلوق من العدم بإرادة الآب؛ بيد أنه تميَّزَ عن
سائر المخلوقات في أنه كان صورة الله الآب في جوهره
Ousia وإرادته وقدرته ومجده، والثالوث في نظر آريوس ثلاثة في
الأقنوم، ولكنهم ليسوا واحدًا إلا باتفاق المشيئات.
٣ ومما أخذه سوزومينس المؤرخ على آريوس أنه كان لسانيًّا منطيقيًّا متطرفًا
جرَّه تطرُّفه هذا إلى الوقوع في الخطأ.
٤
وعلم ألكسندروس بما علَّم به آريوس خادم كنيسة بفكاليس، وسمع اعتراض بعض المؤمنين
على هذه التعاليم الجديدة، فدعا الطرفين إلى مناقشة علنية بحضوره في موضوع الخلاف،
فأوضح آريوس رأيه في الآب والابن والروح القدس، واستمسك خصومه بولادة الابن من الآب
قبل كل الدهور، وبمساواة الابن للآب في الجوهر، وأصغى ألكسندروس إلى كل ما قاله
الطرفان، وأثنى على جميع الخطباء، ولكنه قال بولادة الابن قبل كل الدهور، وبمساواته
للآب في الجوهر، وأمر آريوس أن يقول قوله ومنعه عمَّا كان يعلَّم به.
٥
واعتز آريوس بعلمه وبالأساقفة خارج مصر، الذين اخذوا عن لوقيانوس المعلم الأنطاكي
وقالوا أقوالًا مماثلة، وبين هؤلاء أفسابيوس أسقف نيقوميذية، وأفسابيوس أسقف قيصرية
فلسطين، وباتروفيلوس أسقف بيسان، وآيتيوس أسقف اللد، وبافلينوس أسقف صور،
وغريغوريوس أسقف بيروت، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، وأثناسيوس أسقف عين زربة في قيليقية،
٦ واعتز آريوس بعلمه وبهؤلاء، فرفض أمر سيده وامتنع عن الطاعة.
وعلم ألكسندروس أن أساقفة مصر يقولون قوله، فدعاهم إلى مجمع في الإسكندرية،
وأطلعهم على بدعة آريوس، وكانوا مائة فشجب ثمانية وتسعون منهم قول آريوس، وامتنع عن
الشجب أسقفان فقط، فقطع المجمع الإسكندري آريوس وهذين الأسقفين وستة قساوسة وستة شمامسة.
٧
مجمع في أنطاكية (٣٢٤-٣٢٥)
وتوفي فيتاليوس أسقف أنطاكية في السنة ٣١٩، فخلفه كما سبق وأشرنا فيلوغونيوس،
وكان فيلوغونيوس محاميًا «له مع عباد الله معاملة جميلة ومروءة ظاهرة ومعدلة
فاشية»، فرفع بعد وفاة زوجته إلى السدة الرسولية، وانصرف إلى خدمة الكنيسة بخوف
الله وورعه، وأتم بناء الكنيسة القديمة، وعاد بعدد وافر من الجاحدين إلى حظيرة
الخلاص، وقاوم اضطهاد ليكينيوس، وتحمل الضيق والشدة فاعتبر معترفًا، وأحزنه أمر
آريوس فبذل وسعه في محاربة هذه البدعة، وراسَلَ ألكسندروس الإسكندري مثبتًا، ثم رقد
بالرب يسوع في الرابع والعشرين من كانون الأول سنة ٣٢٤.
٢٦
وما إن طُوِيَتْ صحيفة هذا الرجل الصالح وخلا مكانه، حتى انتشر الصوت به في
الأوساط المستقيمة الرأي، فهرع الأساقفة إلى أنطاكية للتشاور في أمر الخلافة
الرسولية، فاجتمع في عاصمة النصرانية ستة وخمسون أسقفًا من فلسطين والعربية
وفينيقية وسورية وإسورية وقبدوقية برئاسة أفسابيوس الأسوري، فتشاوروا في أمر آريوس
وبدعته، وسلموا عكاز الرعاية في أنطاكية إلى أفستاثيوس (٣٢٥–٣٣٠) أسقف حلب، الذي
كان قد اشتهر بصحة عقيدته وتأييده لألكسندروس الإسكندري، واتخذوا لمناسبة البحث في
بدعة آريوس قرارًا جاء فيه أنهم يقولون بإله فائق القدرة أزلي لا يتغير، خالق
السماء والأرض وكل ما يوجد، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب
قبل كل الدهور؛
٢٧ واعترض على هذا القول ثلاثة من الأساقفة المجتمعين؛ أفسابيوس أسقف
قيصرية فلسطين، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، ونرقيس أسقف بانياس
Neronias إحدى المدن العشر، فقطعهم المجمع لمدة
معينة، ثم أقر نص الرسالة السلامية، ووجهها إلى أسقف رومة وغيره من رؤساء الكنائس
الشقيقة، وإلى عدد كبير من الأساقفة.
٢٨
ويرى بعض رجال الاختصاص أن كنيسة أنطاكية سبقت غيرها من الكنائس إلى فكرة المجامع
المسكونية، وأن هذا المجمع الأنطاكي نفسه اقترح دعوة أساقفة الشرق وآسية الصغرى
ومصر والغرب إلى مجمع مسكوني يجلس في أنقيرة للبت في قضية آريوس، وإخراج الكنيسة
الجامعة من الورطة التي وقعت فيها، ويستند هؤلاء العلماء في رأيهم هذا إلى نص
العبارات التي قُطِعَ بها الأساقفة الثلاثة، فقد أتاح نص القطع التوبة أمام مجمع
كبير في أنقيرة.
٢٩ وجاء في بعض المراجع الأولية أن الفضل في التفكير بمجمع مسكوني يعود
إلى ألكسندروس الإسكندري،
٣٠ وينسب أفسابيوس المؤرخ هذا الفضل إلى الإمبراطور قسطنطين نفسه،
٣١ ولكن روايته هذه مجروحة ينقصها شيء كثير من العدل؛ نظرًا لعلاقة
أفسابيوس الشخصية بآريوس والآريوسية.
مجمع نيقية (٣٢٥)
ودعا قسطنطين جميع الأساقفة من جميع أنحاء الإمبراطورية إلى التشاور وتبادل
الرأي، وعين مكان الاجتماع في نيقية لا في أنقيرة، ورأى أن تبديل المكان ضروري
لأسبابٍ، منها: أن مناخ نيقية ألطف من مناخ أنقيرة، وأن نيقية أقرب إلى نيقوميذية مقر
حكمه، وأن الوصول إليها أسهل على أساقفة الغرب وأوروبة من الوصول إلى أنقيرة. ولا
يزال بعض ما كتبه الإمبراطور في هذا المعنى محفوظًا حتى يومنا هذا،
٣٢ ولا نعلم السبب الذي حدا بالأساقفة المجتمعين في أنطاكية إلى تعيين
أنقيرة مكانًا للاجتماع، ولعله قُرْبها كمركز أنطاكي كنسي من نيقوميذية، وشهرة أسقفها
مركلوس
Marcellus وصموده العنيف في وجه آريوس
وأتباعه.
ومثَّل الكنائس عدد غفير من الأساقفة من: سورية، وقيليقية، وفينيقية، والعربية،
ومصر، وليبية، وما بين النهرين، وأسكيثية، والبونط، وغلاطية، وبمفيلية، وقبدوقية،
وفريجية، وتراقية، ومقدونية، وآخية، وأبيروس، وإيطالية، وغالية، وإسبانية، وأفريقية الشمالية،
٣٣ وتختلف المراجع في عدد الأساقفة المجتمعين، فإنهم مائتان وسبعون في
رواية أفستاثيوس أسقف أنطاكية،
٣٤ وثلاثمائة في عُرْف أثناسيوس الإسكندري، وبعد السنة ٣٦٠ جعل عددهم ثلاثمائة وثمانية
عشر ليتساووا «وغلمان إبراهيم المتمرنين»،
٣٥ وكان معظمهم من الولايات الشرقية.
ويُستدَل ممَّا تبقى من آثار هذا المجمع المسكوني الأول أن ثمانين أسقفًا أنطاكيًّا
أو أكثر أيدوا قراراته، وأنهم جاءوا من ولايات (أبرشيات) سورية وفينيقية وفلسطين
والعربية وما بين النهرين وقيليقية وإسورية وقبرص،
٣٦ وأشهر الأساقفة الأنطاكيين الذين اشتركوا في أعمال المجمع: أفستاثيوس
أسقف أنطاكية العالم اللاهوتي، ومكاريوس أسقف أوروشليم، وأفسابيوس أسقف قيصرية
فلسطين العالم المؤرخ والخطيب المفوَّه، ويعقوب أسقف نصيبين الناسك الورع المتوشح
بجلد الماعز، وإسبيريدون الراعي أسقف قبرص، الذي ذهبت له في الحلم والدعة شهرة
طائلة، وتوما أسقف مرعش المعترف الذي شُوِّهت أعضاؤه وحُبِس نحوًا من عشرين سنة، وبولس
أسقف قيصرية الجديدة الذي يبست أعصاب يديه من جراء تعذيبه بالحديد الحامي، وماركوس
العالم أسقف أنقيرة.
٣٧
ولم يستطع سيليفستروس أسقف رومة الحضور لشيخوخته، فناب عنه قسيسان رومانيان وأسقف
كلابرية، وحضر ألكسندروس أسقف الإسكندرية وشماسه أثناسيوس الشهير، كما حضر
ألكسندروس أسقف القسطنطينية، وأفسابيوس أسقف نيقوميذية، وكثير من أجلَّاء الأساقفة
الذين فاح عبير قدسهم، وحضر أيضًا آريوس بنفسه.
٣٨
واجتمع الآباء الأجلاء في اليوم العشرين من أيار من شهور السنة ٣٢٥،
٣٩ في بهو كبير في البلاط، وجلسوا في الأماكن المخصصة لهم إلى اليمين
وإلى اليسار، وباتوا ينتظرون وصول الإمبراطور منصتين، ثم أعطيت الإشارة بوصوله
فانتصبوا احترامًا وإجلالًا، ودخل قسطنطين بالأرجوان والذهب ووراءه بعض أفراد
الحاشية من المسيحيين، ولما وصل إلى المكان الذي أُعِدَّ له، شاء ألا يجلس قبل جلوس
الأساقفة، وأمرهم بذلك فامتثلوا.
٤٠
وتختلف الروايات فيمَنْ رأس المجمع، فالكاتب الذي رتب فصول كتاب أفسابيوس في
حياة قسطنطين يرى أن أفسابيوس نفسه ترأس المجمع،
٤١ ويُخيل للقارئ أن القديس أثناسيوس أراد أن يقول إن هوسيوس أسقف قرطبة
تبوأ أول المراكز،
٤٢ ولكن ثيودوريطس المؤرخ يعطي الرئاسة لأفستاثيوس أسقف أنطاكية،
٤٣ ولعل هذا القول أقرب إلى الحقيقة من سواه؛ لأنه أوضح من غيره، ولأن
أسقف أنطاكية كان أهم الأساقفة المجتمعين، ولا سيما وأن أسقف رومة لم يحضر بشخصه،
وأن ألكسندروس أسقف الإسكندرية كان أحد الخصمين المتداعيين،
٤٤ بَيْدَ أنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن اسم هوسيوس جاء في طليعة أسماء الموقعين.
٤٥
وتوسَّطَ الإمبراطور مجلس الآباء على كرسي من ذهب، ونهض رئيس المجمع، فشكر
الإمبراطور عنايته بالكنيسة، فرد عليه الإمبراطور شاكرًا «لملك الكون» نعمه
الكثيرة، ولا سيما تلك التي أتاحت له أن يرى الأساقفة مجتمعين بفكر واحد وقلب واحد،
وذكر بعد ذلك أنه بقدرة «الملك المخلص» تمكَّنَ من القضاء على الطغاة الذين قاوموا
الله، وأكد أنه يعتبر كل شغب في داخل الكنيسة مساويًا في الخطر لحرب كاملة.
٤٦
ونُقل خطاب الإمبراطور من اللاتينية إلى اليونانية، وشرع الآباء فور الانتهاء من
ترجمة هذا الخطاب إلى بحث القضايا الماثلة؛ ويرد رجال الاختصاص قول أفسابيوس المؤرخ
إن الإمبراطور تدخَّلَ مرارًا في البحث لإقرار السلم والوفاق،
٤٧ ولا يقرون قول روفينوس إن بعض الفلاسفة الوثنيين حضروا الجلسات وناقشوا الأساقفة.
٤٨ ويستبعد رجال الاختصاص أيضًا تدخل أثناسيوس شماس ألكسندروس الإسكندري
في البحث، ويميلون إلى الاعتقاد بأن الأساقفة وحدهم تباحثوا وتشاوروا، ثم اتخذوا
القرارات اللازمة.
٤٩
وبحث الآباء بدعة آريوس، واستمعوا إلى بعض ما جاء في كتابه «الثالية»، فسدوا
آذانهم نافرين،
٥٠ ولم يحضروه ولم يستنطقوه، وأول مَن قال باستحضاره روفينوس وقوله ضعيف
مردود، وأيد آريوس من وراء الستار عشرون أسقفًا أشهرهم: أفسابيوس أسقف نيقوميذية،
وأفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين، وثيودوتوس أسقف اللاذقية، وأثناسيوس أسقف عين زربة،
وغريغوريوس أسقف بيروت،
٥١ ولكن الجميع اعترفوا بأن ابن الله هو إله حق، واختلفوا في تفسير هذا
الكلام وتحديده، فقال بعضهم بوجوب الاكتفاء بتعبير الآباء السابقين، وقال آخرون
بوجوب التدقيق في قول هؤلاء الآباء السابقين وتحديد التعبير.
٥٢
وانتهز أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين هذه الفرصة، فعرض قانون إيمان كان يُتلَى في
كنيسته عند ممارسة سر المعمودية، وترجى قبوله والموافقة عليه، ولعل هذا القانون
نفسه هو من اجتهاد ألكسندروس الإسكندري وهوسيوس،
٥٣ أو من صياغة هيرموغونيوس أسقف قيصرية قبدوقية،
٥٤ ولكن الآباء أبوا أن يقبلوه كما كان، فأدخلوا عليه بعض العبارات للضبط
والتوضيح، فأوجبوا القول بأن ابن الله مولود من جوهر الآب، وأنه إله حق من إله حق
مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر. ويرى بعض رجال الاختصاص أن هوسيوس اقترح
إدخال العبارة «مساوٍ للآب في الجوهر»، فأيَّدَه في ذلك كلٌّ من أفستاثيوس أسقف
أنطاكية وماركلوس أسقف أنقيرة،
٥٥ ووافق قسطنطين على رأي الأكثرية الساحقة، فجاء نص قانون الإيمان
النيقاوي كما يلي:
نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع
المسيح ابن الله الوحيد مولود من الآب، أيْ من جوهر الآب إله من إله، نور من
نور، إله حق من إله حق مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر الذي به كان
كل شيء، ما في السماء وما على الأرض، الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا
نزل وتجسَّدَ وتأنس وتألم، وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وسيجيء
ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس.
٥٦
وألحق الآباء بهذا القانون العبارات التالية: «أما أولئك الذين يقولون إنه كان
زمن لم يكن فيه، وأنه لم يكن قبل أن يُولَد، وأنه صار من العدم، أو من أقنوم آخر، أو
جوهر آخر، أو أن ابن الله مخلوق أو متغير أو متحول، فهؤلاء جميعهم تفرزهم الكنيسة.»
وحرم الآباء آريوس وأتباعه، فأيدهم قسطنطين في ذلك، وحُكِمَ على آريوس بالإبعاد
والنفي.
ثم نظر المجمع في أمر عيد الفصح، فإن كنيسة أنطاكية كانت تجاري اليهود في حسابهم
لتعين الرابع عشر من نيسان، وبالتالي اليوم الذي يقع فيه عيد الفصح، وكانت السنة
اليهودية تتألف من اثني عشر شهرًا قمريًّا في السنين البسيطة، ومن ثلاثة عشر شهرًا
في السنين الإضافية، وكانت سنتهم الإضافية تعود سبع مرات في مدة تسعة عشر عامًا،
وكانوا يزيدون في هذه السنوات الإضافية «أمبوليسمية» شهرًا آخَر مؤلَّفًا من تسعة
وعشرين يومًا، يسمونه «وآذار» أي آذار الثاني، لتقريب السنة القمرية من السنة
الشمسية، وكانت كنيسة الإسكندرية قد غضت النظر عن حساب اليهود، واتخذت لنفسها قاعدة
خاصة جعلت عيد الفصح يقع بعد أول بدر بعد اعتدال الربيع في الحادي والعشرين من
آذار، ونتج عن تشبُّث كلٍّ من الكنيستين الشرقيتين بطريقتها الخاصة فرقٌ في موعد عيد
الفصح؛ فقد يسبق عيد الفصح الأنطاكي العيد نفسه الإسكندري بشهر كامل. وبعد أن أصغى
أعضاء المجمع إلى حجج الفريقين أقروا وجوب الاحتفال بهذا العيد العظيم في يوم واحد
في جميع الكنائس، وأوجبوا اتباع قاعدة الإسكندرية ورومة.
٥٧
وسن المجمع المسكوني الأول عشرين قانونًا لنظام الكنيسة، فقضى القانون الثامن
بقبول النوفاتيين في الكنيسة الجامعة، شرط أن يعترفوا كتابةً بعقيدة الكنيسة، وأن
يشاركوا ذوي الزيجة الثانية والساقطين في الاضطهاد، وقضى هذا القانون نفسه
بالاعتراف برسامة هؤلاء وبأسقفية أساقفتهم الرسمية إذا رضي بذلك أسقف الأبرشية
الأرثوذكسي، وأجاز القانون التاسع عشر عودةَ أتباع بولس السميساطي إلى حضن الكنيسة
شرط اعتمادهم ثانيةً، وأوجب الاعتراف برسامة هؤلاء فور الانتهاء من تعميدهم.
٥٨
وأوجب القانون الأول قطع الإكليريكي الذي يجبُّ نفسه، وعدم انتداب أي علماني
لممارسة الكهنوت ما لم يكن قد جبَّه الأطباء لمرض أو شوَّهه المضطهدون، ومنع القانون
الثاني قبول الحديثين في الإيمان في مصاف الإكليريكيين. وقضى التاسع والعاشر برفض
الكهنة الذين رسموا بغير فحص أو خلافًا للقانون، وبقطع الذين جحدوا الإيمان
ورُسموا دون أن يعرف بذلك راسموهم.
وبحث المجمع في القوانين: الثالث، والثالث عشر، والخامس عشر، والسادس عشر،
والسابع عشر، والثامن عشر؛ في تصرُّفات رجال الإكليروس، فقضى الثالث ألا يساكن الأسقف
أو القسيس أو الشماس امرأةً غير والدته أو شقيقته أو خالته أو عمته أو مَن لا تدور
حولها أية شبهة، وأوجب الثالث عشر مناولة الذين يطلبون القربان المقدس وهم في حالة
الاحتضار، ومنع الخامس عشر والسادس عشر الإكليروس من مغادرة كنائسهم والانتقال إلى
كنيسة أخرى، وأوجب بطلان الرسامة التي يقلدها أسقف شخصًا من كنيسة أخرى دون موافقة
أسقفها، ومنع السابع عشر الإكليروس عن الاتجار بالمال بالربى، وحرَّم الثامن عشر
جلوس الشمامسة بين الكهنة وتقديم القربان لهم.
وحضَّ القانون الرابع على اشتراك جميع أساقفة الأبرشية في سيامة أسقف من
الأساقفة، وأجاز سيامته من ثلاثة معًا بعد موافقة الغائبين، وأوجب موافقة
المتروبوليت وتصديقه، وقضى القانون الخامس عدم قبول الممنوعين من الشركة في
الأبرشية الواحدة في شركة أبرشية أخرى، وأوجب لهذه المناسبة التئام أساقفة الأبرشية
في مجمع محلي مرتين في كل سنة في الربيع وفي الخريف.
وجاء في القانون السادس «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف
الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعية الإجراء للأسقف الذي في رومة أيضًا، وعلى غرار
ذلك فليحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون
السابع: «أنه جرت العادة والتسليم أن يكون الأسقف الذي في إليَّة أي أوروشليم ذا
كرامة، فلتكن له المتبوعية في الكرامة.»
وختم المجمع أعماله في التاسع عشر من حزيران السنة ٣٢٥، ووافق هذا التاريخ أو كاد
يوافق إكمال السنة العشرين لتسلم قسطنطين أزمة الحكم، فدعا الإمبراطور الأساقفة إلى
مأدبة كبيرة في قصره،
٥٩ ثم حضر حفلة الختام وألقى فيها كلمة، حض بها الأساقفة على التفاهم
والسلم والمحبة، وعلى التعاضد في نشر الإيمان بين الوثنيين،
٦٠ وقدَّم لهم الهدايا كل بقدر استحقاقه، وأمر بتوزيع الحنطة على
الكنائس لسد رمق الفقراء والمساكين.
حقد الآريوسيين ومجمع أنطاكية (٣٣٠)
ولم يتمكن المجمع المسكوني الأول من استئصال بذور الشقاق، فإنه عندما عاد بعض
الأساقفة أعضاء المجمع المسكوني الأول إلى أبرشياتهم، وزال جو أكثرية الأعضاء، شعروا
بشيء من الحرية، فعادوا إلى الكلام عن المساواة في الجوهر، وأوَّلوا نص الإيمان
النيقاوي، وجرؤ ثيودوتوس أسقف اللاذقية على مثل هذه الأقاويل أكثر من غيره، وعلم
قسطنطين بذلك فكتب إلى ثيودوتوس في خريف السنة ٣٢٥ يبين له سوء العاقبة، ويحضه على
الاستمساك بالإيمان الطاهر؛ ليحظى بالمكافأة في الحياة الأبدية،
٦٣ وحرر رئيس كنيسة أنطاكية أفستاثيوس الورع إلى أفسابيوس أسقف قيصرية
فلسطين، يؤنبه على التبديل بعقيدة نيقية، فغضب أفسابيوس وكتب إلى خليفة الرسولين
يتهمه بالسبلنة
Sabellianisme؛ أيْ بالقول بما قال
به سبيليوس الكافر، الذي جحد بالثالوث الأقدس فقال بأن الله أقنوم واحد،
٦٤ وذلك لتمسك أفستاثيوس بالمساواة في الجوهر.
وكان أفسابيوس أسقف نيقوميذية مقبول الشفاعة في بلاط نيقوميذية، فإن صوزومينس
المؤرخ يقول إن قسطندية أخت قسطنطين أوصت أخاها، وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي
كان قد أصبح معلم ذمتها، وإن هذا الكاهن قدم أفسابيوس إلى قسطنطين،
٦٥ وكانت هيلانة أم قسطنطين من بنات دريبانوم
Derpanum في بيثينية، وكانت بلدة دريبانوم قد أصبحت مثوًى
لوقيانوس الشهيد، وكان قبره قد أصبح مزارًا فيها، وكانت هيلانة شديدة العناية بهذا
المزار، وكان أفسابيوس أسقف نيقوميذية أحد تلامذة هذا الشهيد كما سبق وأشرنا،
وشاركه في التلمذة ثيويغينس أسقف نيقية، فلما أمر قسطنطين بإبعادهما إلى غالية
لتمسكهما بآراء آريوس، شفعت هيلانة لهما عند ابنها، فقبل شفاعتها وأعادهما إلى
مراكزهما في السنة ٣٢٨.
٦٦
وما إن عاد أفسابيوس إلى أبرشية نيقوميذية وتسلم مقاليد أمورها، حتى استأنف نشاطه،
وخرج يسعى لتعليم مبادئه، وكان عالي الهمة، ماضي العزيمة، ذا علم ودراية وحنكة
ومراوغة، فتحاشى الطعن المباشِر في دستور نيقية، ولم يتلفظ بشيء من عبارات آريوس،
ولكنه ذكَّر المؤمنين بسبيليوس وهرطقته وتخوَّف من الوقوع فيها، وأشار بلطف زائد
إلى وجه التشابه بين عقيدة نيقية والقول بالمساواة في الجوهر، وبين قول سبيليوس بأن
الله أقنوم واحد لا ثلاثة.
وكان أفستاثيوس رئيس كنيسة أنطاكية عالمًا لاهوتيًّا كبيرًا درس في أنطاكية،
فأصبح أحد مصابيحها النيرة، ثم صار أسقفًا لحلب، فجاهد في سبيل الإيمان في إبان
الاضطهاد العظيم، وجلس على كرسي أنطاكية في أوائل السنة ٣٢٥، فقاوم الآريوسية وكتب
ضدها، وظهرت عظمة جهاده في المجمع النيقاوي، فترأس جلساته
٦٧ وأصبح في نظر الآريوسيين أول أعدائهم وأشدهم خطرًا، فرأى أفسابيوس
النيقوميذي أن يبدأ بتحطيم هذه الشخصية الكبيرة، فزار أنطاكية في السنة ٣٣٠ بحجة
رؤية كنيستها الجديدة المذهبة، ورافقه في زيارته هذه شريكه في الآريوسية والمنفى
ثيوغينس أسقف نيقية، فرحَّب بهما أفستاثيوس وزار معهما جميع الكنائس والأماكن
الأثرية في أنطاكية، ولم يدرِ بمكرهما، فانتهزا فرصة وجودهما في أنطاكية للاجتماع
بزعماء الآريوسية فيها وتدبير المكيدة على خليفة الرسولين،
٦٨ ثم غادرَا أنطاكية إلى أوروشليم، واجتمعا بأفسابيوس أسقف قيصرية،
وباتروفيلوس أسقف بيسان، وآيتيوس أسقف اللد، ولا بدَّ وأن يكونا قد اجتمعا أو اتصلا
بثيودوتوس أسقف اللاذقية، وقرَّ قرارهم على اجتماع أسقفي في أنطاكية للحطِّ من قدر
أفستاثيوس وتنزيله عن كرسيه الرسولي، وتوافدوا على عاصمة النصرانية في الشرق
واجتمعوا، فاتهم كيروس أسقف حلب رئيسه بالسبلنة واتهمه غيره بالفجور، وكانوا قد
تآمروا في ذلك مع امرأةٍ كان قد فجر بها رجلٌ يُدْعَى أفستاثيوس الحداد، وحلَّ بهذه
المرأة مرض وبيل واشتدت وطأته عليها، فكشفت سرَّ المؤامرة ولكن بعد فوات الفرصة.
ومما قاله هؤلاء المتآمرون عن هذا الحبر الجليل أنه انقبض عن هيلانة والدة قسطنطين
لدى مرورها بأنطاكية؛ لأنها أكرمت لوقيانوس الشهيد المدفون في بلدتها، واتخذوا
قرارًا بخلعه ورفعوه إلى قسطنطين، فنفاه الإمبراطور إلى تريانوبوليس في تراقية في
طبقة من القسوس والشمامسة، ثم أمر بنقله إلى فيليبي، وبقي فيها حتى انطلقت نفسه
الزكية في السنة ٣٣٧.
٦٩
وتحلى أفستاثيوس بالدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية، فصنَّف كتابًا في قمع الآريوسية،
ودبج رسالات في تفسير الأيام الستة والمزامير والنفس، ولم يبقَ من مصنفاته سوى
رسالته في عرَّافة عين دور، وفيها يفند هذا العلَّامةُ الصالح رأيَ أوريجانس ويدحض
طريقته الرمزية،
٧٠ وأعجب بعض الآباء بتوقد خاطره وسلاسة إنشائه.
٧١ وجاء في الدرر النفيسة لغبطة البطريرك أغناطيوس أفرام عن ابن كيفا أن
أفستاثيوس وضع ليتورجية مطولة.
مجمع صور (٣٣٥)
وتوفي ألكسندروس أسقف الإسكندرية في الثامن عشر من نيسان سنة ٣٢٨، وخلفه في
الرئاسة أثناسيوس القديس، وكان ملاتيوس زعيم المعارضة في كنيسة مصر قد توفي أيضًا
وخلفه في المعارضة يوحنا أرقف
Arkaph، وكان يوحنا
من أبرع سماسرة الشقاق وتجار الفساد، فاندسَّ إلى الإمبراطور وتناول أثناسيوس عنده
وادَّعَى أن أسقف الإسكندرية فرض على المؤمنين الضرائب، وأمدَّ فيلومينوس الخائن
بالمال، وأنه أمر بكسر كأس الأفخارستية الذي كان يمارس السر به الكاهن أسخيراس؛
٧٨ ويرى رجال البحث أن أفسابيوس النيقوميذي مسئول عن هذا الشغب، وأنه هو
الذي أزكى نار الشقاق في مصر بعد وفاة ألكسندروس وملاتيوس،
٧٩ واستدعى قسطنطين أسقف الإسكندرية إليه، فذهب أثناسيوس إلى نيقوميذية
وردَّ هذه التُّهَم، فاقتنع الإمبراطور وأعاد الأسقف إلى كنيسته قبيل فصح السنة ٣٣٢،
وفي أواخر السنة ٣٣٣ أو أوائل السنة ٣٣٤ عاد يوحنا أرقف وأتباعه إلى المشاغبة،
فاتهموا أثناسيوس بقتل أرسانيوس أحد أساقفتهم، فأوفد قسطنطين أخاه دلماتيوس للتحقيق
في هذا الحادث المزعج، وقام دلماتيوس بالمهمة الموكولة إليه، فوجد أرسانيوس حيًّا
في أحد الأديرة، ونظر في قضية كأس الأفخارستية، واتصل بأسخيراس نفسه، فنفى أسخيراس
الخبر وكتب أنَّ شيئًا من هذا لم يحدث،
٨٠ واغتبط قسطنطين بما ثبت، وكتب إلى أثناسيوس يهنئه ويعنِّف المشاغبين
ويوجعهم لومًا،
٨١ وكان الإمبراطور قد دعا الأساقفة إلى مجمع في قيصرية فلسطين في ربيع
هذه السنة نفسها (٣٣٤)، فلما ثبتت براءة أثناسيوس كتب إلى الأساقفة أن يعودوا إلى
مراكز أبرشياتهم.
وقربت السنة ٣٣٥ فأحب الإمبراطور أن يحتفل فيها بمرور ثلاثين عامًا على تسلُّمه
أزمة الحكم، ورأى أن كنيسة القيامة
Anastasis التي
كان قد أمر بإنشائها قد تم بناؤها على أكمل وجه، وكاد يلمس سلمًا في الكنيسة
الجامعة، ولم يَبْقَ في نظره من عقبة في سبيل هذا السلم سوى التفاهم بين آريوس
وأثناسيوس، فدعا إلى مجمع كبير في صور للنظر في موقف هذين الزعيمين في صيف السنة
٣٣٥، وأمر بانتقال الأساقفة بعد الانتهاء من أعمالهم إلى أوروشليم ليحتفلوا بمرور
الثلاثين عامًا، وليتوجوا هذا الاحتفال بتكريس كنيسة القيامة ورفع الصليب المقدس فوقها.
٨٢
وكان قد توفي إفرونيوس أسقف أنطاكية في السنة ٣٣٣، فخلفه فلاكيلوس
Flacillus صديق أفسابيوس القيصري، فقام فلاكيلوس
إلى صور، واجتمع حواليه عدد من الأساقفة أخصام أثناسيوس وأركان الآريوسية، أمثال:
أفسابيوس النيقوميذي، وأفسابيوس القيصري، وثيوغنيس النيقاوي، وماريس الخلقيدوني،
ودُعِيَ إلى الاجتماع مع هؤلاء الغلاة عددٌ من الأساقفة المحايدين أمثال ألكسندروس
أسقف ثسالونيكية، فبلغ عدد الجميع ستين أسقفًا، وأمَّ أثناسيوس صور على رأس وفد مصري
مؤلَّف من تسعة وأربعين أسقفًا، فلم يُسمَح لهم بالاشتراك في الأعمال،
٨٣ ومثَّل قسطنطين القومس فلافيوس ديونيسيوس، وحافَظَ على النظام عددٌ من الجند.
٨٤
واتهم الملاتيوسيون أثناسيوس بأمورٍ، أهمها: عبثه بكأس الأفخارستية، وضغطه على
الإكليروس، وعسفه وجوره. وأراد بعض الأساقفة أعضاء المجمع أن يجعلوا من قضية كأس
الأفخارستية تهمة أساسية، فاقترحوا إيفاد لجنة إلى مصر للتحقيق في هذه القضية، فقبل
أثناسيوس بذلك شرط ألَّا تُؤلَّف هذه اللجنة من أخصامه، ولكن المجمع أبى أن يصغي لهذا
الرجاء، وأوفد إلى مصر أساقفة آريوسيين منذ اللحظة الأولى، وأجرت اللجنة تحقيقًا
مغرضًا، وقدمت تقريرًا مكدرًا مؤلمًا؛
٨٥ ويلوح لبعض رجال الاختصاص أن حرص أثناسيوس على العقيدة الصالحة
واندفاعه في سبيلها، أخرجاه في بعض الأحيان عن جادة الاعتدال في معاملة
الملاتيوسيين، ويستدلون على هذا بما جاء في بعض أوراق البردي، التي تعود إلى ربيع
السنة ٣٣٥ نفسها.
٨٦ وليس هنالك من الأدلة التاريخية ما يحملنا على القول مع روفينوس المؤرخ
٨٧ بأن المجمع الصوري حقق أيضًا في تهمة فجور، واشتدت الدعاية في صور
نفسها ضد أثناسيوس، فهاج هائج السكان، وتوافدوا على قاعات المجمع متهمين أثناسيوس
بالسحر والقساوة، مطالبين بإنزال أشد العقوبات، وطالب جمهور الأساقفة المصريين
الذين لم يشتركوا في أعمال المجمع برفع القضية إلى مسامع الإمبراطور، وأيدهم في
مطلبهم ألكسندروس أسقف ثسالونيكية، ولكن معتمد الإمبراطور اكتفى بِحَثِّ أعضاء المجمع
على الاتزان والاعتدال.
٨٨
وأيقن أثناسيوس باليأس مما طلب، وتقوَّضت حصون آماله، فانسلَّ من صور خفية وانطلق
نحو القسطنطينية،
٨٩ فأصدر عليه المجمع حكمًا غيابيًّا قضى بعزله من منصبه، وحرر المجمع
بذلك رسالة سلامية وجهها إلى جميع أساقفة المسكونة، مبينًا تغيُّب أثناسيوس عن مجمعي
قيصرية وصور، وامتناعه عن الإجابة عما وُجِّهَ إليه من تُهَم راجيًا قطعه من
الشركة.
ووصل أثناسيوس إلى القسطنطينية وطلب مقابلة الإمبراطور فردَّ طلبه، فاغتنم خروج
قسطنطين للنزهة على ظهر جواده، واعترض سبيله والتمس عدله، فأصغى الإمبراطور إليه
وسمع شكواه، ثم استدعى الأساقفة المجتمعين في صور، فمثل بين يدَيْه أفسابيوس
النيقوميذي وأفسابيوس القيصري وأربعة غيرهما، ولم يذكروا قضية كأس الأفخارستية
وحصروا شكواهم في أن أثناسيوس هدَّدَ بمنع تصدير الحنطة من الإسكندرية إلى
القسطنطينية، وعبثًا حاوَلَ أثناسيوس إقناع الإمبراطور بأن شيئًا من هذا لم يصدر عنه،
وأمر قسطنطين بإبعاده؛ فنفي إلى تريف
Trèves في غالية.
٩٠
الآريوسيون ورومة (٣٣٨)
ورضي قسطنطين الثاني عن أثناسيوس، فأذن له بالعودة إلى الإسكندرية في السابع عشر
من حزيران سنة ٣٣٧، وشمل هذا العفو سائر الأساقفة المنفيين، ووصل أثناسيوس إلى
الإسكندرية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني من السنة نفسها، فاضطرب الآريوسيون
وسعوا في الشرق والغرب معًا للاعتراف بسلطة مرشحهم بيستوس
Pistus على كنيسة الإسكندرية وتوابعها، وكتبوا إلى جميع أساقفة
المسكونة بذلك، وأوفدوا إلى يوليوس أسقف رومة كاهنًا اسمه مكاريوس وشماسين لإطلاعه
على قرارات مجمع صور، وإقناعه بقانونية عملهم ووجوب اعترافه بأسقفهم،
٩٧ وعقد الأساقفة الأرثوذكسيون المصريون مجمعًا في السنة ٣٣٨ لدرس الموقف
واتخاذ الإجراءات اللازمة، واجتمعوا في الإسكندرية واتخذوا قرارًا يؤيدون به أسقفهم
أثناسيوس، ويجرحون في الوقت نفسه قرار مجمع صور، وحرروا رسالة سلامية بهذا كله،
ووجهوها إلى يوليوس أسقف رومة وجميع أساقفة المسكونة،
٩٨ وإلى الأباطرة الثلاثة خلفاء قسطنطين.
ودعا يوليوس أسقف رومة زميله أثناسيوس إلى رومة، وأوفد إلى الشرق قسين يدعوان
الأساقفة الآريوسيين وغيرهم إلى مجمع مسكوني في رومة للبت في القضية الماثلة، فرفض
الأساقفة الآريوسيون في مطلع السنة ٣٤٠ اقتراح أسقف رومة، واحتجوا على إعادة النظر
في قضيةٍ شرقيةٍ بتَّ فيها مجمع شرقي، وهددوا بقطع العلاقات معه إن هو اعترف بأثناسيوس،
٩٩ وأشهر الأساقفة الذين وقعوا هذا الاحتجاج فلاكيلوس أسقف أنطاكية،
وأفسابيوس أسقف القسطنطينية، وكان هذا الأخير قد نجح في إبعاد بولس عن كرسي
القسطنطينية، وحلَّ محله جاعلًا أمفيونوس خلفًا له في نيقوميذية، أما أفسابيوس أسقف
قيصرية فلسطين، فإنه توفي قبل هذا الاحتجاج.
وردَّ يوليوس ردًّا قويًّا على هذا الاحتجاج، مبينًا وجوب اطلاع «جميع» الأساقفة
على القرارات المتخذة؛ ليشترك «الجميع» في إحقاق الحق، ويرى بعض علماء الكنيسة
اللاتينية الشقيقة دليلًا في هذا الرد على سلطة رومة،
١٠٠ وهو توسع في الاستنتاج لا تقره قواعد المنطق، وجل ما يجوز قوله هو أن
أسقف رومة طالَبَ في رده هذا بإعلام جميع أساقفة الكنيسة الجامعة وإشراكهم في إحقاق
الحق، والاعترافُ بسلطة «الجميع» — أي المجامع المسكونية — حقيقةٌ تاريخية مسيحية ناصعة
لا يختلف فيها اثنان.
١٠١
تكريس كنيسة أنطاكية الكبرى (٣٤١)
وكان قسطنطين الكبير قد أمر بإنشاء كنيسة كبيرة فخمة في عاصمة النصرانية في
الشرق، فبوشر في بنائها في السنة ٣٢٧ على الجزيرة بالقرب من القصر، وفي عهد
أفستاثيوس الشهير،
١٠٢ وتوفي قسطنطين في السنة ٣٣٧، فتبنى هذا المشروع ابنه قسطنديوس الثاني،
وقامت هذه الكنيسة مثمنة الأضلاع تعلوها قبة جميلة فدُعِيت الكنيسة المثمنة، ودُعِيت
أيضًا الكروية والجليلة والذهبية.
١٠٣
وتمَّ بناء هذه الكنيسة في أواخر السنة ٣٤٠ أو أوائل السنة ٣٤١، فتوافد الأساقفة
إلى أنطاكية للاشتراك في تكريس هذا المعبد، وناهز عددهم المائة، ولا نعلم أسماءهم
كلهم، وجل ما يجوز قوله هو أن أفسابيوس النيقوميذي دعا إلى هذا المجمع، وأن
فلاكيلوس ترأس أعماله،
١٠٤ وأن الأساقفة المجتمعين بحثوا أقوال آريوس، فانقسموا إلى فئات ثلاث؛
فأعلن أفسابيوس وجماعته أنهم لم يتبعوا آريوس، وإنما نظروا فيما قاله، واقترحوا
تعديلًا للفصل الأول من دستور نيقية والرجوع عن اللعنة التي جاءت في آخره. وقال
آخرون بدستور نيقية ولكنهم رغبوا في تلطيفه، واقترحت فئة ثالثة تعديلًا مسكنًا
مخدرًا في عباراته الإيجابية، موجبًا في ناحيته السلبية لعن السبلنيتين القديمة والجديدة،
١٠٥ وأقر المجمع هذا الاقتراح الأخير، وأعلن دستور إيمان أنطاكي شبيه
بدستور نيقية قريب منه، ولكنه خالٍ من العبارة «مساوٍ للآب في الجوهر».
وأهم ما جاء في هذا الدستور الأنطاكي الجديد عن الابن الكلمة أنه إله من إله، وكل
من كل، وواحد من واحد، تام من تام، وأنه غير قابل للتكييف وللتحول في الألوهية، وأنه
«صورة تامة» لمجد الآب، كما أنه مظهر من مظاهر مشيئته وعظمته، وأن الآب هو آب حق،
وأن الابن ابن حق، وأن الروح القدس روح حق، وأن هذه الأسماء لم تُذكَر عبثًا، بل تدل
دلالة حقيقية على منزلة كلٍّ ممن تسموا بها وقوتهم ومرتبتهم، وأن هذه الأقانيم ثلاثة
ولكنها واحد.
١٠٦ ومعظم هذا النص مأخوذ عن تعليم لوقيانوس المعلم الأنطاكي.
١٠٧
وكان قسطنس لا يزال منهمكًا في أمور الغرب بعد مقتل أخيه قسطنطين الثاني، فكتب
إلى أخيه قسطنديوس أن يوافيه بما استقر الرأي عليه في أنطاكية، فأوفد الآباء
المجتمعون في أنطاكية كلًّا من: نرقيس أسقف بانياس
Neronias، وماري أسقف خلقيذونية، وثيوذوروس
أسقف هرقلية، ومرقس أسقف أرسوز
Arethusa، إلى مقر
الإمبراطور في تريف، وذلك في مطلع السنة ٣٤٢، وخشي أعضاء هذا الوفد ألا يرضى قسطنس
عن نص قرار المجمع الأنطاكي، فنقلوا إليه ما اصطلح المؤرخون أن يسموه «دستور
أنطاكية الرابع»، وقد جاء فيه فيما يظهر تأكيد لأزلية ابن الله، وتشبث بدوام ملكه،
ولعنة لكلِّ مَن يقول إنه كان زمان أو وقت أو أزل قبل ولادة الابن.
١٠٨
وقد يستغرب القارئ تعدد قوانين الإيمان في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة، ولا سيما
بعد أن اتخذ المجمع المسكوني الأول قراره الشهير، ولكن الواقع التاريخي هو أن
المجمع المسكوني الأول جعل من قراره هذا ردًّا على بدعة آريوس لا قانونًا للإيمان
كاملًا مانعًا، وأنه ترك المجال مفتوحًا للقول بالقوانين المحلية القديمة المتوارثة
عن الرسل.
١٠٩
ومات آريوس وحل أصدق المواعيد بمعظم أتباعه الأولين، فاستصعب خلفاء هؤلاء مخالفة
الآباء النيقاويين الثلاثمائة والثمانية عشر، واضطروا أن يعيدوا النظر فيما قاله
السلف على ضوء التطورات الأخيرة، وأراد يوليوس أسقف رومة أن يستغل هذا التطور،
فانتهز فرصة مثول الوفد الشرقي بين يدي الإمبراطور قسطنس للدعوة إلى مجمع جديد يحل
قضية أثناسيوس المعلقة، ويجلس في سرذيكة أي صوفية على الحدود بين الإمبراطوريتين
الشرقية والغربية، فاستوسط يوليوس الإمبراطور قسطنس، ورجاه أن يكتب إلى أخيه
قسطنديوس محبذًا اجتماع الآباء لهذه الغاية، فقبل قسطنس وكتب بذلك.
مجمع سرذيكة (٣٤٣)
وقبل الآباء ذلك، فاجتمع في سرذيكة في خريف السنة ٣٤٣ مائة وسبعون أسقفًا، منهم
ستة وسبعون شرقيون آريوسيون أو نصف آريوسيين، وأربعة وتسعون غربيون وشرقيون
أرثوذكسيون مستقيمو الإيمان.
١١٠
وكان فلاكيلوس أسقف أنطاكية قد توفي في السنة ٣٤٢، فأقيم بعده إسطفانوس رئيسًا
على أنطاكية وتوابعها، وكان إسطفانوس كاهنًا في عهد أفستاثيوس، فأثم فاعلًا ما لا
يحل له، فقطعه أفستاثيوس، فحاول رفع هذا الحرم فلم يُفلح، فانضم إلى الآريوسيين.
١١١ وترأس إسطفانوس وفد الشرف إلى مجمع سرذيكة، وانضوى تحت لوائه ستة
وسبعون أسقفًا، أشهرهم: منوفنتس أسقف أفسس، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين، وذيانيوس
أسقف قيصرية قبدوقية، وثيودوروس أسقف هرقلية، وماري أسقف خلقيدونية. وتميَّزَ في
المعسكر الأرثوذكسي هوسيوس الشيخ أسقف قرطبة، وأثناسيوس الوقور أسقف الإسكندرية،
وماركلوس أسقف أنقيرة، ومثل يوليوس أسقف رومة كاهنان وشماس.
١١٢
وأدرك الآريوسيون قلة عددهم، فسعوا لعرقلة أعمال المجمع، وطلبوا منذ اللحظة
الأولى إبعاد أثناسيوس وماركلوس وأسكليباس عن جلسات المجمع؛ لأن مجمعًا سابقًا أقر
خلعهم، ولأن إعادتهم إلى كراسيهم هي موضوع البحث، واعتبر الأساقفة الأرثوذكسيون خلع
هؤلاء لاغيًا، فاعتزل الآباء الشرقيون عن الاشتراك في البحث، وعقدوا جلسة منفردين
عن سائر أعضاء المجمع، ثم انتقلوا ليلًا إلى فيليبوبوليس متخذين عذرًا بشرى انتصار
قسطنديوس على الفرس، وتخلَّف عن الوفد الشرقي أستيريوس أسقفُ البتراء وأسقف فلسطيني
يُدعَى آريوس، واشتركَا في أعمال مجمع سرذيكية.
١١٣
وبرأ الآباء الأرثوذكسيون أثناسيوس وأسكليباس وماركلوس، وقطعوا كلًّا من باسيليوس
أسقف أنقيرة وغريغوريوس أسقف الإسكندرية، وكوينتيانوس أسقف غزة، واتخذوا قرارات
مماثلة، فحكموا بالقطع على جاورجيوس أسقف اللاذقية، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين،
ونرقيس أسقف بانياس، وأسطفان أسقف أنطاكية وغيرهم؛ وبحثوا دستور الإيمان فاقترح بعض
الآباء نصًّا جديدًا، هو في زعمهم أدق من نص نيقية وأوسع، يؤكد وحدة الجوهر، ويبين
أن الآب غير منفصل عن الابن، ويثبت أن الذي تألم ومات ثم قام هو الإنسان الذي وُلِد
من مريم العذراء لا الله؛
١١٤ وفي هذا النص المقترح خطر على الإيمان القويم، فاعترض أثناسيوس القديس
على هذا النص الجديد وأكَّدَ أن النص النيقاوي يفي بالغرض المقصود، وحذَّر الآباء من
التمادي في البحث كي لا يجرأ على الاسترسال في الكلام مَن لا يشبع منه،
١١٥ فاقتنع الآباء وعدلوا.
ووضع الآباء المجتمعون في سرذيكة قوانين منعت تبديل الأبرشيات، وحضت الأساقفة على
البقاء في مراكزهم وعدم التغيب عنها، وحذرت من شر اللجوء إلى البلاط الإمبراطوري
وغير ذلك من القوانين الغربية المحلية.
وجدد الآباء الشرقيون في أثناء وجودهم في فيليبوبوليس الحكم على أثناسيوس
وماركلوس، وقطعوا يوليوس أسقف رومة وهوسيوس أسقف قرطبة وغيرهما، وأقروا ثانيةً دستور
الإيمان الأنطاكي.
لونديوس أسقف أنطاكية (٣٤٤–٣٥٨)
وكان لونديوس قد أخذ اللاهوت والفلسفة عن لوقيانوس المعلم الأنطاكي، فامتنع
أفستاثيوس عن قبوله في مصاف الإكليروس الأنطاكي، وكان أيضًا قد جبَّ نفسه ليتمكن من
مساكنة المرأة إفستوليوم
Eustolium، فخرج بذلك على
قرارات المجمع المسكوني الأول، وأصبح غير لائق أن يتحلى برتبة الكهنوت،
١١٧ ولكنه اعتدل في آرائه مع تقدُّمه في السن واتَّزَن في سلوكه، وأظهر مقدرة في
تسيير دفة الأسقفية في زمنٍ كثُرَ فيه الشقاقُ واشتدَّ الخصام،
١١٨ ولم يتمكن الأسقفان الغربيان فيكنديوس وإفراتاس من إقناع الإمبراطور
قسطنديوس بإصدار العفو عن الأساقفة الأرثوذكسيين المنفيين، ولكنهما استصدرا أمرًا
أوجب عودة الكهنة والشمامسة الأرثوذكسيين من أرمينية إلى أماكنهم، وإيقاف الاضطهاد
الذي كان قد حل بالإكليروس الأرثوذكسي في مصر.
١١٩
وأظهر لونديوس استعدادًا للتفاهم مع الأرثوذكسيين المجتمعين في ميلان آنئذٍ، فقام
وفد مؤلف من الأساقفة ذيموفيلوس وأفذوكيوس ومقدونيوس ومرتيريوس إلى الغرب؛ ليبحثوا
أمر العقيدة مع الأساقفة الأرثوذكسيين وأمام الإمبراطور قسطنديوس، وحملوا إلى ميلان
(٣٤٥) قانون إيمان أنطاكيًّا طويلًا، عُرِفَ فيما بعدُ بالمكروستيكوس
Machrosticos؛ أي ذي الأسطر الطويلة،
١٢٠ وأعلن هذا القانون «الطويل» وحدانية الله وألوهية الابن قبل كل الدهور
وعدم فناء ملكه، فأنكر بهذا القول الآريوسية الأصلية، ثم كذَّب القانون الطويل
أقوال ماركلوس الأنقيري وفوتينوس السرمي،
١٢١ ولكن الآباء الأرثوذكسيين المجتمعين في ميلان أوجبوا إضافة نص صريح
تُنكَر به الآريوسية، فامتعض أعضاء الوفد الأنطاكي من هذا الإلحاح، ولا سيما وأن
البيانات التي صدرت عن أنطاكية في السنة ٣٤١ كانت قد أنكرت الآريوسية إنكارًا
تامًّا، فرفضوا أن يضيفوا شيئًا إلى المكروستيكوس وانسحبوا من المجمع وعادوا إلى أوطانهم.
١٢٢
غالوس والكنيسة (٣٥٠–٣٥٣)
وتمرد الجند على قسطنس وقتلوه في السنة ٣٥٠، فاضطر قسطنديوس الثاني، وقد أصبح
المالك الشرعي الوحيد، أن يخمد الثورة في الغرب، وكان قسطنديوس رجلًا عاقرًا لا وارث
له، فاستدعى ابن عمه غالوس Gallus من منفاه ورفعه
إلى رتبة قيصر، وأمره على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان
جافيَ الطبع فظَّ القلب قليلَ الرحمة؛ فطغى وتجبَّرَ وأرهب الناس إرهابًا، فاستدعاه ابن
عمه الإمبراطور إليه في إيطالية في السنة ٣٥٣ وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذٍ طلب
ابن عمه الأصغر يوليانوس وجعله قيصرًا على غالية في الغرب.
ولا نعلم بالضبط ما إذا كان غالوس مسيحيًّا أو وثنيًّا، ولكننا نعلم العلم اليقين
أن حاشيته في أنطاكية كانت غير أرثوذكسية، فإن ثيوفيلوس الهندي المتقشف الشهير كان
قد أخذ أشياء وأشياء عن معلمه أفسابيوس النيقوميذي، وأن لاونديوس أسقف أنطاكية لم
يكن أرثوذكسيًّا، وأن آئيتيوس
Aèce أقرب المسيحيين
إلى القيصر، ومعلم أخيه يوليانوس، كان آريوسيًّا شديدًا صارمًا،
١٢٥ والتفَّ هؤلاء وغيرهم حول القيصر، وأخذوا يدلسون عليه الرأي، فزينوا له
وللإمبراطور فوقه أن أثناسيوس على صلة بالمتمردين في الغرب، وأنه رجل خطر يخلُّ
بالأمن، وأن المصلحة تقضي بنبذه وإبعاده عن الإسكندرية.
وتمادى لاونديوس في هذه السياسية الجديدة، فرسم آئيتيوس شماسًا وسمح له بالوعظ في
الكنيسة، فاحتج الأرثوذكسيون على ذلك وأجمعوا على محاربة آئيتيوس، ولم ينفرد أتباع
أفستاثيوس بهذا الاحتجاج، فإن السواد الأعظم من الأرثوذكسيين، الذين كانوا قد
واظبوا على إجراء الطقوس مع أتباع لاونديوس ضنًّا بوحدة الكنيسة، استنكروا صوت
آئيتيوس في الكنيسة، والتفوا حول زعيمين علمانيين ذيذوروس وفلافيانوس، وهددوا
بالانفصال التام ففاوضهم لاونديوس، فأصروا على تعديلٍ في الذوكسة (المجدلة)، يثبت
مساواة الابن للآب في الجوهر، فأوجبوا القول «المجد للآب والابن والروح القدس»،
بدلًا من القول «المجد للآب في الابن والروح القدس»، كما جرت العادة آنئذٍ، فوافق
لاونديوس على ذلك، ولكنه خشي مقاومة الآريوسيين في الكنيسة، فرتل «المجد للآب» ثم
أضعف صوته متظاهرًا بالألم في حلقه، حتى إذا وصل إلى العبارة «الآن وكل أوان وإلى
دهر الداهرين» رفع صوته فرتلها بوضوح.
١٢٦ واشتد احتجاج الأرثوذكسيين في أنطاكية، فنزل لاونديوس عند رغبتهم وأبعد
آئيتيوس عن أنطاكية.
المساواة في الجوهر والتشابه والاختلاف
وكان من الطبيعي بعد هذا النصر الكبير أن تتطاول أعناق الآريوسيين إلى تعديل
دستور الإيمان النيقاوي، وأن يطالبوا بذلك جهارًا، ولم يقم بينهم بعد وفاة أستيريوس
الصوفي حبر لاهوتي كبير يتزعم هذه المطالبة بالتعديل، فإن ثيودوروس أسقف هرقلية
(+٣٥٥) كان مفسرًا للكتاب أكثر منه لاهوتيًّا متعمقًا، وعُنِيَ أفسابيوس أسقف حمص
(+٣٥٩) بالرد على الوثنيين واليهود والنوفاتيين والمانويين، وكان معتدلًا متزنًا
يكره التطرُّف.
١٣٤ وكان جاورجيوس أسقف اللاذقية من هذا الطراز أيضًا، فإنه كتب ضد
المانوية، وعني عناية خاصة بسيرة أفسابيوس أسقف حمص.
١٣٥ أما أكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين فإنه تابع السلف القيصري، فعني بمكتبة
كرسيه، وأضاف إليها وفسَّرَ سِفر الجامعة،
١٣٦ فلم يبقَ والحالة هذه سوى آئيتيوس الشماس يمين لاونديوس الأنطاكي وعدو
الأرثوذكسيين في أنطاكية.
وكان آئيتيوس آريوسيًّا متطرفًا يحب اللاهوت ويعشق الجدل، فلم يرضَ عن القول
بالتشابه في الجوهر
homoiousion السائد آنئذٍ في
الأوساط الآريوسية، المناظر للقول بالمساواة في الجوهر
homoousion الذي أقرَّه مجمع نيقية، فأجهر بالاختلاف في الجوهر
anomoios، وجاهر به الأرثوذكسيين معلنًا أنه ليس
هنالك أي ارتباط بين الآب والابن!
١٣٧ فتخطى بذلك آريوس نفسه، وشاطر جرمينيوس أسقف سرميوم الشماس آئيتيوس
رأيه، ودعا إلى مجمع في صيف السنة ٣٥٧ في سرميوم، فحرَّم هذا المجمع الإشارة إلى
الجوهر والمساواة في الجوهر والتشابه؛ لأن هذه الاصطلاحات لم تَرِد في الكتاب المقدس،
ولأنها تقلق راحة المؤمنين، وأكَّدَ عظمة الآب وتفوُّقه على الابن،
١٣٨ ورغب الآباء الآريوسيون المجتمعون في ترويج النص الجديد، فاتصلوا
بهوسيوس أسقف قرطبة وشيخ القائلين بالمساواة في الجوهر، وكان هوسيوس قد هرم وولى
وبلغ من الكبر عتيًّا، فعجز عن المقاومة ووافق على القول الجديد.
١٣٩
مقاومة أرثوذكسية
وتمادى أفذوكسيوس أسقف أنطاكية في ضلاله وغلا في الآريوسية وجاوَزَ الحد، فقبل
التعليم الجديد الصادر عن سرميوم، وحضَّ أساقفة الكرسي الأنطاكي على قبوله، وقرَّبَ
آئيوس وإفنوميوس
Eunomios واعتمد رأيهما، فثار
ثائر الأرثوذكسيين في كنيسة أنطاكية، وانضم إليهم عدد كبير من المعتدلين، ولا يخفى
أن مجمع التكريس الأنطاكي كان قد امتنع في السنة ٣٤١ عن القول بأقوال آريوس وعن
الانتماء إليه وحمل اسمه، وأن معظم الأساقفة الأنطاكيين الذين اشتركوا في أعمال
المجمع الأول في سرميوم سنة ٣٥١ كانوا قد قالوا قولًا لا يجوز اعتباره هرطقة إذا
حسن تفسيره، فلما جاء آئيوس ببدعته الجديدة وأنكر ألوهية الابن، هبَّ لمقاومته هؤلاء
المعتدلون أنفسهم، وكتب جاورجيوس أسقف اللاذقية كتابًا إلى كلٍّ من: مقدونيوس أسقف
القسطنطينية، وباسيليوس أسقف أنقيرة، وكيكروبيوس أسقف نيقوميذية، وأفجينس أسقف
نيقية، يناشدهم الإسراع في المعونة لتخليص كنيسة أنطاكية من أفنوميوس وزمرته.
١٤٠ وكان باسيليوس أسقف أنقيرة قد نفر من آئيوس وحذلقاته، فعقد مجمعًا في
أنقيرة في ربيع السنة ٣٥٨، وكتب باسم هذا المجمع رسالة سلامية وجهها إلى جميع
أساقفة المسكونة،
١٤١ ثم عاد فكتب ثانيةً باسمه وباسم جاورجيوس أسقف اللاذقية.
١٤٢
ويتضح من هاتين الرسالتين أن الآباء المجتمعين في أنقيرة شجبوا القول بالاختلاف
في الجوهر وأكدوا ألوهية الابن، وابتعدوا عن المساواة في الجوهر خشية الجنوح إلى
بدعة بولس السميساطي، فآثروا القول بالتشابه في الجوهر homoiousion.
وحمل باسيليوس أسقف أنقيرة، وأفستاثيوس أسقف سبسطية، وإلفسيوس
Eleusios أسقف كيزيكة؛ مقررات مجمع أنقيرة إلى قسطنديوس في سرميوم،
١٤٣ ونبذ عدد من أساقفة غالية وأفريقية قول آئيوس وأفنوميوس،
١٤٤ فأيد قسطنديوس موقف الأساقفة في أنقيرة، وكتب إلى الأنطاكيين ينفي أن
يكون هو قد عَيَّنَ أفذوكسيوس أسقفًا عليهم، ويحذرهم شر أولئك الذين يغيرون
أبرشياتهم ليزيدوا دخلهم، وأولئك المتفلسفين الذين يتجرون بالنفاق والزندقة ليخدعوا
الجماهير، وذكر الإمبراطور الأنطاكيين بما قاله لهم عن العقيدة، وكيف أنه أبان لهم
أن المخلص هو ابن الله وأنه مشابه للآب في الجوهر،
١٤٥ وانتهز بافيليوس هذه الفرصة السانحة، فاستصدر أمرًا إمبراطوريًّا أبعد
به أفذوكسيوس أسقف أنطاكية إلى أرمينية، وآئيوس إلى بابوزة
Papuze، وسجن بموجبه أفنوميوس في أنقيرة.
١٤٦
مجمع سلفكية (٣٥٩)
وسعى باسيليوس لعقد مجمع مسكوني، ينظر في قضية الإيمان ويقر موقفًا نهائيًّا
منها، وأراد أن يلتئم أساقفة المسكونة للمرة الثانية في نيقية، ولكن ذكريات النضال
حول مقررات المجمع النيقاوي الأول قضت باستبدال نيقية بمكان آخر، فاقترح باسيليوس
أن يجتمع الأساقفة في نيقوميذية فوافق الإمبراطور، ولكن هزة أرضية دمرت هذه المدينة
في الرابع والعشرين من آب سنة ٣٥٨، فرأى الإمبراطور أن يستفتي الأساقفة في أمر
المكان الذي يرغبون الجلوس فيه وذلك بالكتابة إليهم فردًا فردًا، فطال أمر الاستفتاء
وعاد باسيليوس إلى مركز أبرشيته، فاستغل بعض رجال الإكليروس تغيبه عن البلاط،
وطلبوا إلى ركنين من أركان الآريوسية أن يقوما إلى سرميوم ويتصلا مباشرة بقسطنديوس،
فأمَّ البلاط الإمبراطوري في سرميوم كلٌّ من نرقيس أسقف بانياس وبتروفيلوس أسقف بيسان،
وكانا من كبار الأساقفة الذين اشتركوا في مجمع نيقية المسكوني، وخشي الأسقفان ألا
يكون أتباعهما ومناصروهما أكثرية في مجمع مسكوني يضم أساقفة الشرق والغرب، فأظهرا
صعوبة التفاهم بين الأساقفة لتباين اللغتين اليونانية واللاتينية، وبينَّا كثرة
النفقات اللازمة لنقل الأساقفة الغربيين إلى الشرق، واقترحا عقد مجمعين في آن واحد:
مجمع غربي في ريميني
Rimini على شاطئ الأدرياتيك
الإيطالي، ومجمع في سلفكية أسورية بالقرب من الساحل القيليقي.
١٤٧
وقبل الإمبراطور اقتراح الأسقفين نرقيس وبتروفيلوس، وطلب إلى مرقس أسقف أرسوز
الذي كان آنئذٍ في سرميوم أن يعدَّ نصًّا لدستور إيمان جديد يُعرَض على أساقفة
المجمعين، فأعدَّ مرقس دستور إيمان عُرِف فيما بعدُ بالدستور المؤرخ؛ لأن مرقس بدأ
النص بالإشارة إلى موافقة قسطنديوس، وإلى السنة والشهر واليوم الذي تمَّتْ فيه هذه
الموافقة. و«الدستور المؤرخ» ينص على التشابه في الجوهر
omoios بعبارات غامضة، ويؤكد «أن المسيح هو ابن الله مولود قبل
كل الدهور، وأنه يشابه الآب في كل شيء كما جاء في الأسفار المقدسة»، ويتميز هذا
الدستور بالإشارة الواردة فيه لأول مرة إلى نزول السيد إلى الجحيم،
١٤٨ وأوجب الإمبراطور على المجمعين تفحص «الدستور المؤرخ» وإيفاد وفدين
إليه يحملان رأيي الأساقفة المجتمعين، وترك البت في الأمور الشخصية الفردية وغيرها
إلى كلٍّ من المجمعين على انفراد.
١٤٩
فالتأم في ريمينة أربعمائة أسقف، ورفض معظمهم الدستور المؤرخ، وأيدوا دستور
نيقية، وقطعوا عددًا من الأساقفة المخالفين، وقام إلى القسطنطينية وفدان: أحدهما
يمثل الأكثرية الساحقة، والآخر الأقلية، فأذن الإمبراطور لوفد الأقلية بالمثول بين
يديه، ورفض الإصغاء إلى وفد الأكثرية، ثم حاوط الآريوسيون هذا الوفد وداوروا رئيسه،
فوافق الأكثرية على حذف العبارة «في جميع الأشياء» عن الإشارة إلى تشابه الابن
بالآب، وقبلوا بالدستور المؤرخ، ووقعوا بروتوكولًا بهذا المعنى في العاشر من تشرين
الأول سنة ٣٥٩.
١٥٠
وبدأ المجمع الشرقي أعماله في سلفكية في السابع والعشرين من أيلول سنة ٣٥٩، وضمَّ
أكثر من مائة وخمسين أسقفًا، وأشهر أعضائه أصحاب الرأي والقول: باسيليوس أسقف
أنقيرة، ومقدونيوس أسقف القسطنطينية، وإلفسيوس
Eleusios أسقف كيزيكة، وسلوانوس أسقف طرسوس، ومرقس أسقف أرسوز،
وواضع نص الدستور المؤرخ موضوع البحث، وكيرللس أسقف أوروشليم، وصفرونيوس أسقف
بومبيوبوليس
Pompeiopolis، وجاورجيوس أسقف
الإسكندرية، وأفذوكسيوس أسقف أنطاكية سابقًا، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين. وتألَّفَ
الوفد الأنطاكي من: مرقس أسقف أرسوز، وأكاكيوس أسقف قيصرية، وأورانيوس أسقف صور،
وسبعة عشر آخرين بينهم أربعة يمثلون أبرشيات «العربية».
١٥١
واقترح سلوانوس أسقف طرسوس القول بدستور «التكريس» الأنطاكي، الذي أقره المجمع
الأنطاكي سنة ٣٤١، وأيده في هذا مائة وخمسة أساقفة،
١٥٢ فاحتج أكاكيوس أسقف قيصرية على هذا القرار، وخرج من المجمع وتبعه
ثمانية عشر أسقفًا، واجتمع هؤلاء منفردين، وأقروا قبول «الدستور المؤرخ» ملطفين بعض
عباراته، لاغين القول بالاختلاف في الجوهر
anomoios،
١٥٣ وعاد أكاكيوس وجماعته إلى المجمع في الجلسة الثالثة، وحاولوا إعادة
البحث في الدستور فلم تقبل الأكثرية بذلك، وقال ألفسيوس قوله الشهير: «لم نجتمع
لوضع دستور جديد، وإنما اجتمعنا لإثبات قول الآباء.»
١٥٤ وغضب ليوناس ممثل الإمبراطور، وخرج من المجمع قائلًا: إني جئت لأمثل
الإمبراطور في مجمع متحد متفق لا في مجمع منشق منقسم. ثم رفض أكاكيوس وجماعته
الاشتراك في أعمال المجمع.
وتابعت الأكثرية أعمالها، فنظرت في قضية كيرللس أسقف أوروشليم، وفي الخلاف الذي
كان قد نشأ بينه وبين أكاكيوس متروبوليت الأبرشية، فإن كيرللس كان قد استمسك في بعض
الامتيازات التي أقرها التقليد لأم الكنائس، فقاومه في ذلك أكاكيوس مدعيًا أنه هو
متروبوليت الأبرشية، وكان كيرللس قد باع آنية كنيسته ليطعم بثمنها الفقراء
والجائعين، فاعترضه أكاكيوس وأمر بخلعه،
١٥٥ فأعاده مجمع سلفكية إلى كرسيه مكرمًا، وقطع هذا المجمع كلًّا من:
جاورجيوس أسقف الإسكندرية، وأفذوكسيوس أسقف أنطاكية سابقًا، وأكاكيوس أسقف قيصرية،
وبتروفيلوس أسقف بيسان، وخمسة أساقفة آخرين، ورفع أنيانوس
Annianos أحد كهنة أنطاكية إلى كرسيها الرسولي، ثم أعلن أسماء
أعضاء الوفد الذي سيحمل قرارات هذا المجمع إلى الإمبراطور قسطنديوس في القسطنطينية،
ولم يرضَ لوريقيوس دوق أسورية عن القرار الذي اتخذ في أمر أسقفية أنطاكية، وألقى
القبض على أنيانوس ونفاه.
١٥٦
ملاتيوس أسقف أنطاكية (٣٦١–٣٨١)
وأقام الأساقفة المجتمعون في القسطنطينية أفذوكسيوس أسقف أنطاكية السابق أسقفًا
على القسطنطينية، واعتبروا ترقية أنيانوس إلى الكرسي الأنطاكي غير قانونية، فانتخب
أكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين وأتباعه ملاتيوس أسقفًا على أنطاكية، واحتاطوا لهذا
الأمر فوقَّعوا محضرًا بانتخاب ملاتيوس، وجعلوا أفسابيوس أسقف سميساط يحتفظ به دفاعًا
لكل اعتراض،
١٦٢ وكان ملاتيوس قد أبصر النور في ملاطية أرمينية، واشتهر بالتقوى واللطف
والمحبة والاستقامة، فلما انفرط عقد المؤمنين في سبسطية أرمينية، وانقسموا على
بعضهم، نادى البعض بملاتيوس أسقفًا ضد أفستاثيوس الأسقف القديم، ولم يتمكن ملاتيوس
من الوصول إلى كرسي سبسطية هذه نظرًا لشدة الخصام والشغب، فابتعد عنها وأقام في
حلب، وفي السنة ٣٥٩ التأم مجمع سلفكية، فمثل سبسطية أرمينية أفستاثيوس، ووافق
أكثرية المجمع على التمسك بالدستور الأنطاكي، أما ملاتيوس فإنه ماشى أكاكيوس، إما
في أثناء انعقاد المجمع أو بعد ذلك بقليل.
١٦٣
ودخل ملاتيوس أنطاكية في شتاء السنة ٣٦٠-٣٦١، وتسلم عكاز الرعاية بحضور قسطنديوس
الإمبراطور، وأكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين، وجاورجيوس أسقف الإسكندرية، وطلب
الإمبراطور إلى الأساقفة الثلاثة أن يتكلموا في موضوع الآية: «الرب حازني في أول
طريقه قبل عمله منذ البدء» (أمثال ٨: ٢٢)، فصارح جاورجيوس المؤمنين بالآريوسية،
واكتفى أكاكيوس بالتعليمات المبهمة، أما ملاتيوس فإنه اعترف بأن المسيح هو ابن الله،
إله من إله، وواحد من واحد، وتحاشى استعمال الكلمتين جوهر وأقنوم،
١٦٤ فأرضى بذلك الأرثوذكسيين ولكنه أغضب الآريوسيين.
١٦٥ ويرى العلامة كافاليرا في كتابه انشقاق أنطاكية
١٦٦ أن ملاتيوس كان منذ البدء، وظل حتى النهاية أرثوذكسيًّا لا غش فيه،
والواقع أن ملاتيوس ماشى أكاكيوس كما سبق وأشرنا، وأن أكاكيوس وجاورجيوس اشتركا في
تسليمه عكاز الرعاية، وأن سقراط وأبيفانيوس يؤكدان علاقة ملاتيوس بأكاكيوس،
١٦٧ ولعل باسيليوس الذي اعتبر ملاتيوس نيقاويًّا كاملًا أراد أن يكتفي بما
اعترف به ملاتيوس في أواخر عهده، وأن يغض النظر عما فاه به ووقعه في بدء حياته العملية،
١٦٨ ورقب الآريوسيون حركات ملاتيوس وسكناته، فاحتجوا على بعض إجراءاته
الإدارية وطلبوا عزله وإبعاده، فنفاه قسطنديوس إلى أرمينية في آخر الشهر الأول من أسقفيته،
١٦٩ وتبوأ الكرسي الرسولي الأنطاكي بعده إفظويوس
Euzoios الآريوسي، وكان إفظويوس شماسًا ماشى الآريوسيين منذ
اللحظة الأولى، فدخل في حرم ألكسندروس الإسكندري ونزعت عنه رتبته الكنسية، وانتصرت
الآريوسية انتصارًا باهرًا، وأصبح أساقفة معظم الكنائس الكبرى في الشرق والغرب معًا،
إما آريوسيين متطرفين أو معتدلين.
١٧٠