الفصل التاسع عشر
يوحنَّا الذهبيُّ الفم
٣٤٥–٤٠٧
وأنجبت كنيسة أنطاكية في أثناء محنتها أفصح الآباء لسانًا وأبلغهم قلمًا وأشدهم ذودًا
عن حرمة الدين وشرف الإيمان، هو يوحنا الذهبي الفم، الذي لا يزال يهزنا بصلواته هزًّا،
ويثير فينا بمواعظه خوف الله وطاعته.
مولده وصباه
أبصر يوحنا النور في أنطاكية في السنة ٣٤٥ من أب عريق في الشرف سكوندوس Secundus قائد القوات الرومانية في سورية، وأمٍّ
مسيحية تقية أنثوسة Anthusa الشهيرة.
وَلَدَتْ أنثوسة ابنة ثم ابنًا، وتوفي سكوندوس في السنة الرابعة لزواجه، فترملت
أنثوسة وهي لا تزال في العشرين من عمرها، واحتقرت أباطيل هذه الدنيا، وزهدت في
ملاذها فرفضت الزواج بعد ترملها، وعطفت على ولديها وتفرغت لهما، فربتهما تربية
مسيحية خالصة، ونالت بذلك إعجاب جميع معارفها المسيحيين منهم والوثنيين، واضطر
ليبانيوس الفيلسوف الوثني أن يعترف بإخلاصها وثباتها، وأن يهتف قائلًا: «ما أعظم
النساء عند المسيحيين!»
١
تهذيبه وتحصيله
وشبَّ يوحنا فطلب اللغة والبيان في مدرسة ليبانيوس أشهر بلغاء عصره، فأجاد
اليونانية وشرب من مناهلها الكلاسيكية حتى تضلع؛ فكانت له خير عون في مواعظه
وشروحاته ورسائله، ولمس ليبانيوس مواهب تلميذه، فافتخر به وعده أبرع خطباء عصره،
وقال لتلاميذه عند احتضاره: لقد كان في ودي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي،
ولكن المسيحيين سلبوه منَّا.
٢ وطلب يوحنا الفلسفة، فقرأها على أنذروغاثيوس
Androgathius في أنطاكية أيضًا، وكان ليوحنا في حياة التلمذة عدد
من الأصدقاء الصادقين المخلصين الأمناء، ولكن واحدًا بينهم كان أرفع من غيره في
إخلاص الولاء، وهو باسيليوس الذي أصبح فيما بعدُ أسقفَ رَفنية بالقرب من مصياف، لا
باسيليوس الكبير كما ظن بعض الباحثين.
٣
زهده وورعه
وأراد باسيليوس أن ينتقي لنفسه سيرة الزهد، ويعبر إلى حمى «الفلسفة الحقيقة»،
وأطلع صديقه يوحنا على ذلك وحثه على ترك العالم، ولكن يوحنا لم يقبل، ومن هنا قوله:
مال الميزان بيننا، فارتفعت كفة صديقي وهبطت كفتي تحت ثقل الملاذ الدنيوي والأميال الشبابية.
٤
وامتهن يوحنا المحاماة ليلفت النظر إلى مواهبه ومداركه، ويصعد بها إلى أعلى
الدرجات، وبهر أقرانه في قاعات المحاكمة بفصاحته وبلاغته، ونال إعجاب القضاة ورجال
الحكم، ثم رغب عنها فجأةً وترفَّعَ فتركها أنفةً واستنكافًا.
وكانت أمه قد زرعت في قلبه خوف الله وحب الفضيلة، فأقبل على الإنجيل والتوراة
يستقي إيمانًا ومحبة وطهرًا، وكان ملاتيوس الجليل في القديسين أسقف أنطاكية يرقب
تقدُّم يوحنا في العلم والفضيلة، فلما تيقَّنَ من زهده أحلَّه في دار الأسقفية، وأرشده
ثلاث سنين متتالية، ثم منحه سر المعمودية ورقاه إلى درجة القارئ، ولا يخفى أن بعض
المسيحيين آنئذٍ هابوا سر المعمودية، وتحرزوا من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها،
فآثروا تأجيل ممارسة هذا السر حتى سن متأخرة، وليس في المراجع ما يبين لنا سبب تأخُّر
أنثوسة عن تعميد ابنها ووحيدها، أو سبب تأخُّر يوحنا نفسه عن سماع الوعظ وتقبُّل
النعمة حتى الثالثة والعشرين، وقد يكون السبب في ذلك انقسام الكنيسة في أنطاكية على
نفسها، وقد لا يكون.
٥
وبالمعمودية «رفع يوحنا رأسه فوق أمواج بحر العالم الجائشة»،
٦ فهرع إليه باسيليوس وعانقه ولازمه ابتغاء إرشاده، واتفق الاثنان على
الانزواء في مسكن واحد، مبتعدين عن العالم، مكرسين وقتهما للدرس والتأمل والصلاة،
ولكن أنثوسة ذكَّرت ابنها بترملها الباكر، وامتناعها عن الزواج للقيام بواجبها له
ولأخته، وطلبت إليه بلجاجة أن يعود إليها، فرضخ لسؤالها،
٧ وبقي معها ولكنه حبس نفسه في البيت، ولازم الصمت وقضى وقته في المطالعة والصلاة،
٨ ثم أنشأ بالاشتراك مع صديقه باسيليوس أخوية نسكية ضمت بعض رفاقهما في
التلمذة أمثال: ثيودوروس أسقف موبسوستة فيما بعدُ، ومكسيموس أسقف سلفكية أسورية،
وخضعت هذه الأخوية فيما يظهر إلى ديودوروس وكرتيريوس الراهبين الرئيسين في أنطاكية
آنئذٍ، وهاك ملخص ما قاله الذهبي الفم في وصف هذا التنسُّك:
«منذ نصف الليل وعند صياح الديك يهب رئيس الجماعة، ويطوف على غرف الإخوة، فيمس
كلًّا منهم برجله ناطقًا بعض كلمات مقدسة ليوقظهم ويدعوهم إلى الصلاة، فيقومون بصمت
وتهيب، ويرفعون قلبهم وأصواتهم إلى الله، ويتلون مناوبة صلاة السحر والتسابيح، ثم
يعودون ساكتين إلى مخادعهم، فيتبحرون متأملين في الأسفار المقدسة أو ينصبون على
التأليف، ثم يجتمعون في الكنيسة خمس مرات في النهار لتلاوة الساعات الأولى،
والثالثة، والسادسة، والتاسعة، والغروب. أما ساعات الفراغ في النهار فإنهم كانوا
يقضونها بالأعمال اليدوية؛ كحراثة الأرض، وحياكة السلال، والمسوح، وخياطة ثياب
الفقراء، وجمع الحطب ونقله إلى الدير، وحمل ما يحتاج إليه من القوت، وإصلاح
الأطعمة. وكان بابهم مفتوحًا يرحبون بكل ضيوفهم، إن أغنياء أو فقراء مرضى أو قطاع
طرق، أبرارًا أو خطأة، أصدقاء أو أعداء، وعندما كان الغريب يطأ عتبة الدير كانوا
يحيونه بألفاظ مقدسة، ثم يأتي أحد الإخوة وينفض عن ثيابه الغبار، ثم يغسل رجليه
ويقبلهما، ثم يجلسه إلى مائدة الضيوف، ويقف أمامه باحترام لخدمته.
وعند المساء بعد زوال النهار كانوا يجتمعون كلهم لتناول غدائهم الوحيد وهو الخبز
والملح لا غير، وكانوا لا يأكلون الزيت إلا قليلًا، أما إذا توعك أحدهم أو أضناه
المرض، فكانوا يأذنون له بأكل بعض الأعشاب والخضر المسلوقة، وبعد صلاة النوم كانوا
يتوغلون في التأمل، ثم ينطلقون لينالوا نصيبًا من الراحة، وكان فراشهم حصيرة ممدودة
على الأرض، فكانت لهم في النهار مجلسًا وفي الليل سريرًا، وكانوا يمشون حفاة وليس
على أبدانهم إلا أنسجة غليظة من شعر الماعز أو وبر الإبل أو بعض الجلود الجافة،
وكانوا كلهم في المأكل والملبس سواء مهما كان شرف أصلهم وغنى أسرتهم.» مأخوذ بتصرُّف
عن نخبة النخب ص١١–١٣.
وفي السنة ٣٧٤ شاع في الأوساط النصرانية في أنطاكية أن أصحاب الرأي والقول من
رجال الإكليروس والشعب، مزمعون أن يرقوا باسيليوس ويوحنا إلى درجة الأسقفية (وفي
بعض النسخ إلى درجة الكهنوت)،
٩ وقضى العرف آنئذٍ بوجوب الرضوخ في مثل هذه الأحوال لمشيئة الشعب
والإكليروس، وجاز لهؤلاء إكراه مَن يرون فيه الكفاءة على قبول ما يقرون (ومن هنا
بكاء القديس أوغوسطينوس قبل سيامته). وعلم باسيليوس بما تضمره له ولرفيقه الأوساط
الدينية العالية، فجاء وأسرَّ إلى يوحنا هذا الخبر، وتوسل أن يبيح له بما في ضميره
ليعمل ما هو عامل، فإن رضي يوحنا بالأسقفية انضمَّا فيها كلاهما، وإن رفضها هربَا
معًا، فأجاب يوحنا جوابًا مبهمًا فهم باسيليوس منه الترغيب في قبول الأسقفية، وحان
الوقت وجاء الأسقف الراسم، فتوارى يوحنَّا ورسم باسيليوس وحده، فاستثقل باسيليوس
الحمل؛ ولا سيما لما وجد رفيقه قد أفلت منه، فجاءه متذمرًا باكيًا مذكرًا كيف
تصافيا على المحبوب والمكروه، وكيف رسخت بينهما قواعد المودة، وتوثقت عُرى المحبة،
مؤكدًا أنه لم يتهم وده قط، ولم يخشَ غدره مرة واحدة،
١٠ فوقع هذا الكلام في قلب يوحنا وقعًا شديدًا، فأنشأ كتابه الشهير في
الكهنوت مبيِّنًا سمو مرتبته، وافتخر بالخديعة التي اقترفها؛ لأنه بها أعطى الكنيسة
كاهنًا بحسب قلب يسوع المسيح، واعتبر الكاهن قديسًا وملاكًا وجيشًا وقاضيًا وطبيبًا
وراعيًا، وقال: «إن الكهنوت يباشر على الأرض إلا أنه مرتب بين العجائب السماوية؛
لأنه لم يرتب من إنسان ولا من ملاك ولا من أية قوة أخرى مخلوقة، بل من المعزي
الإلهي نفسه. ويرسم صورة الحرب الواجبة على كل كاهن، فيرى في الكاهن جنديًّا
مدافعًا عن الكنيسة جسد يسوع المسيح السري، مسلحًا بسلاحين: سلاح المثل الصالح،
وسلاح الكلام الذي يسند القلب ويؤيده.»
١١
وكان غضب والنس قد جاش على الأرثوذكسيين في السنة ٣٧٣، فأكره نسَّاكهم ورهبانهم
على الخدمة العسكرية أو المدنية التي تفرضها الدولة، واعتبر بعض المسيحيين تقشفات
النسَّاك ضربًا من الجنون، فهزءوا بهم وأهانوهم أينما وجدوهم وفاخروا بما فعلوا،
وضحك الوثنيون على الطرفين، فأخذت الكآبة من نفس يوحنا كل مأخذ، وعلم أحد الأصدقاء
بهذا الانفعال النفساني الشديد، فحضَّ يوحنا أن يقيم من كلامه حصنًا يدرأ به نار
الاضطهاد، فتردد يوحنا ثم أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية، ولا تزال حتى
يومنا هذا من أفضل ما صنف في موضوعها.
وازداد يوحنا في هذه الفترة (٣٧٤–٣٨١) رغبةً في الكمال الرهباني، فتوغل في وادي
العاصي وأوى إلى مغارة عند مصبه، فلم يقوَ جسمه على هذا التقشُّف الجديد، فهزل قديسنا
وحل به داء عضال، فظن هو أنه قد قارب أصدق المواعيد، فعاد إلى أنطاكية «ولم يدرِ أن
الله إنما افتقده لما رأى ثمره نضج، وقد حان الوقت ليرفع صوته ويسطع نوره في أفق
الكنيسة.»
الشماس والكاهن والواعظ (٣٨١–٣٩٨)
وكان الجليل في القديسين ملاتيوس قد عاد إلى أنطاكية في صيف السنة ٣٧٨، فلما أطل
يوحنا على دار الأسقفية ابتهج الأسقف الأنطاكي الجليل، وجاء به ورسمه شماسًا رغم
معارضته، فوزع الصدقات اليومية، وزار المرضى والحزانى، وحافظ على النظام والهدوء في
الاجتماعات الروحية، وعاون الأسقف في خدمة الأسرار وحمل المناولة إلى
المرضى.
ودُعِيَ ملاتيوس لحضور المجمع المسكوني القسطنطيني (٣٨١)، فاستصحب يمينه الكاهن
فلابيانوس، ووكل السهر على شئون الكنيسة في أنطاكية إلى شماسه يوحنا، ثم توفي
ملاتيوس في أثناء انعقاد هذا المجمع فبكاه يوحنا؛ لأنه فقد به مرشدًا ومحاميًا،
وأجمع الآباء الأنطاكيون أعضاء المجمع القسطنطيني على فلابيانوس خليفة للرسولين،
وأيدهم في ذلك غيرهم من أعضاء هذا المجمع، وتم انتخابه وتسنم السدة الأنطاكية،
فتوثقت بينه وبين يوحنا عُرى المحبة، وشرع يفكر في ترقية الشماس يوحنا إلى الكهنوت،
ثم وضع يده عليه في كنيسة القديس بولس سنة ٣٨٦، فجعله كاهنًا وواعظًا، وسمعت كنيسة
أنطاكية خطب يوحنا، فأخذتها الدهشة وأصغت جامدةً لا تبدي حراكًا، فملك يوحنا
قيادتها بزمام فصاحته ومثال قداسته، فكان يديرها كيف شاء، ولم يكتفِ بضرب معاقل
الرذائل ودكها، بل سعى لإصلاح المجتمع ومعالجة قضيتي الفقر والرقيق، فمثل المصائب
تمثيلًا بارعًا، وحرك الأغنياء أن يمدوا يد المعونة، فشرعت الكنيسة في إنشاء
المستشفيات والمآوي برئاسة الأسقف وتدبير الشمامسة والقساوسة.
الذهبي الفم وعيد الميلاد (٣٨٦)
وبدأت كنيستنا الأنطاكية تحتفل بعيد الميلاد في أيام الذهبي الفم، آخذةً بذلك عن
كنيسة رومة، فلما سيم قديسنا قسًّا في السنة ٣٨٦ رأى من واجبه إقناع المؤمنين
بأهمية العيد المجيد، فقال مما قال في العشرين من كانون الأول:
أيها المسيحيون، إن العيد المقبل علينا هو العيد الأكثر وقارًا وهيبة بين
جميع الأعياد، ولا نخرج عن محجة الصواب إذا قلنا إنه أبو الأعياد، فلو لم
يولد المسيح بالجسد لما كان اعتمد ولا صلب ولا أرسل الروح القدس؛ ومن ثم
فما كنا نقيم عيد الغطاس ولا الفصح ولا العنصرة، فمن عيد الميلاد المجيد
تولدت جميع الأعياد السيدية، وتدفقت منه كما تتدفق الأنهار من ينبوع واحد،
فأطلب إليكم وألتمس منكم جميعًا أيها الإخوة أن تتركوا منازلكم وتوافوا إلى
الكنيسة بجد ونشاط لنشاهد السيد موضوعًا في مذود.
وعاد قديسنا إلى الوعظ في يوم عيد الميلاد بفصاحته المعهودة، فقال قولًا بليغًا
خالدًا، وسجل بعض الأخبار المفيدة لتاريخ هذا العيد، فألمع إلى أننا لم نبدأ
بالاحتفال به في كنيستنا الأنطاكية قبل السنة ٣٧٦، وأننا أخذناه عن الغرب:
ولئن كان ظهور هذا اليوم الشريف ومعرفتنا إياه من مدةٍ لا تنيف على عشر
سنوات، فمع ذلك بما أظهرتموه فيه أيها المسيحيون من الجد والنشاط قد ازدهى
وأضاء كأنه مسلم به قديمًا، وقد كان معروفًا منذ البدء بين الشعوب القاطنين
في الغرب، ودخل بيننا حديثًا، ومع ذلك فقد أينعت ثماره الدانية القطوف
بغزارة تظهر لديكم جليًّا مما تشاهدون من احتشاد الشعب في الدار وما حولها،
فضلًا عن أن الكنيسة ضاقت بالذين وافوا إليها، وقد بلغني أنه قامت مناظرة
بشأن هذا العيد، وأن البعض نددوا بتعيين هذا اليوم، وأبوا أن يشتركوا في
الاحتفال به نظرًا لكونه مستحدثًا، والآخرين احتجوا على ذلك، وناضلوا عن
إقامة هذا التذكار المجيد، مبينين أنه قديم وأن الأنبياء قد سبقوا وأعلنوا
عن يوم ميلاد السيد، وأنه معروف عند جميع الشعوب القاطنين بلاد تراكي حتى
بلاد إسبانية ويحتفلون به كثيرًا.
وثورة أنطاكية
وتلطخت إدارة ثيودوسيوس بالرشوة، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي إلى الإمبراطور
يقول: «حكامك الذين تبعثهم إلى الولايات ليسوا سوى قتلة.» وجاءت السنة ٣٨٧ فشرعت
الحكومة المركزية تتهيأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور، وبإتمام
السنة الخامسة لإشراك ابنه أركاديوس بالسلطة، فاستثقل الأنطاكيون هذه الترتيبات
المالية الجديدة، وتقدم أعيانهم إلى عامل الإمبراطور في أنطاكية يسألونه رفع هذا
العبء، فلم يلتفت إلى سؤالهم، وأبدى جباة الضرائب الجديدة عنفًا وقسوة، فأمسوا
هدفًا للشتائم واللعان، واشتدت وطأة هذا الظلم على الفقراء، فأخذوا يتجولون في
الشوارع، وجعلوا يجدفون على الإمبراطور وأسرته، وحطموا تماثيلهم النحاسية ولا سيما
الإمبراطورة بلاكلَّة، التي كانت قد غمرت الأنطاكيين بالإحسانات، فإنهم جروا
تماثيلها في الأوحال والأقذار، ثم كسروها قطعًا، واختبأ رجال السلطة في منازلهم،
وحذا حذوهم سائر الأعيان والوجهاء، فأمست المدينة في يد أهل الفوضى، فنهبوا ودمروا
وخربوا تخريبًا، ثم أفاقوا فتأملوا مرتجفين، وتوقعوا نزول العقاب، فهجر بعضهم
المدينة، وهرب آخرون إلى الهضاب المجاورة.
وتفطر قلب فلابيانوس الأسقف، وخشي سطوة الإمبراطور، فأشفق على خرافه من أن يؤخذ
البريء بذنب الجريء، وقر قراره أن يطرق باب الإمبراطور نفسه ويلتمس العفو منه، فسار
في إبان الشتاء مسرعًا؛ ليسبق السعاة المنفذين لإنذار ثيودوسيوس بما جرى، فنظر
الأنطاكيون إلى هذه الغيرة بعين الارتياح والتقدير، وشخصت أبصارهم إلى خليفته
الذهبي الفم، فاقتدى هذا بأصحاب أيوب، ولزم جانب الصمت سبعة أيام، ثم أخذ يعزي
نفوسهم مؤكدًا حماية يسوع، مذكرًا ببلايا أيوب وبالفتيات الثلاثة، الذين ظلوا
يسبحون الرب في وسط أتون النار.
وبلغ ثيودوسيوس خبر الاضطرابات في أنطاكية من الإشاعات قبل وصول السعاة، فاستشاط
غضبًا وجزم بأن ينزع عن جميع أنطاكية امتيازاتها، وينقل عاصمة المشرق إلى اللاذقية،
وأوفد إليها قائدين كبيرين: الليبيكوس Ellebichus
وقيصاريوس. فلما وصلا إلى أنطاكية في الثاني والعشرين من شباط من السنة ٣٨٧، أعلنا سقوط
امتيازات المدينة، وأقفلا الملاعب والمشاهد والميدان والحمامات، وشرعا ينقبان عن
المجرمين، ووقعت الشبهات على كثيرين من وجهاء المدينة لتقاعدهم عن قمع الهيجان،
فأوثقوا وطرحوا في السجون، وحجز على أموالهم وطردت نساؤهم من بيوتهم، ولم يجرؤ أحد
أن يقبلهن عنده خشيةَ أن يُتَّهَم بمشاركة أزواجهن، فتولى الذهبي الفم التعزية بنفسه،
وأقبل لمساعدته بعض أساقفة الكرسي الأنطاكي وعدد من الرهبان والنساك، وامتاز بين
هؤلاء مقدونيوس الناسك فإنه أوقف معتمدي ثيودوسيوس، وقال لهما قولًا حكيمًا، وطلب
إليهما أن ينقلاه إلى سيدهما؛ وخلاصة هذا القول أن ليس له أن يمحو من سفر الحياة
صورة الله الممتازة، فاندهش المعتمدان من بلاغة هذا الشيخ الزاهد وقوة لهجته،
ووعداه بأنهما لا يمسان أحدًا بسوء قبل أن يرفعا كلمته للإمبراطور.
وقابل الذهبي الفم موقف الأساقفة والنساك والرهبان في هذا الحادث الجلل بموقف
كبار الوثنيين، فقال في إحدى مواعظه ما معناه: أين هم الآن أولئك الرجال أصحاب
الطيالس الطويلة واللحى العريضة، الذين كانوا يتمشون شامخي الأنوف في الأندية
العمومية وفي يدهم عصًا؟! أين هم في ساعة الأحزان والذعر، لقد هجروا المدينة عند
حلول الخطر، وفروا إلى المغاور والأودية إخفاءً لعار ضعفهم، ولم يأتِ لإغاثة الشعب
في ضيقه إلا محبو الحكمة الحقيقية حكمة الصليب، هؤلاء النساك مستودعو كنز تعليم
الرسل ووَرَثة غيرتهم وشجاعتهم، وكفى بالحوادث صوتًا يفحم كل خصم (نخبة النخب:
٢٩).
ووصل أسقف أنطاكية فلابيانوس إلى القسطنطينية وهرع إلى البلاط، وكان قد عانى من
التعب أشده، ولا سيما وأنه سافر في أثناء الصوم الكبير وحفظ فريضته، فلما أبصره
ثيودوسيوس تصدم قلبه أسفًا، فذكر الامتيازات والإحسانات التي غمر بها أنطاكية،
وقال: أهذا هو عرفان الجميل؟ فرد عليه الأسقف الشيخ خليفة الرسولين بخطاب طويل،
وأفضل ما جاء فيه قوله: «إني لست فقط رسول شعب أنطاكية، بل أيضًا سفير الله أتيت
باسمه أنبئك أنك إن غفرت للناس سيئاتهم وهفواتهم، غفر لك أبوك السماوي مساوئك
وزلاتك. افتكرنَّ في ذلك اليوم الرهيب حين نلتزم جميعًا أن نؤدي عن أعمالنا حسابًا،
تذكر أنك اليوم تستطيع بلا عناء ولا دموع وبكلمة واحدة أن تعطف عدل الله أبيك،
وتؤكد لك في دينونة يسوع المسيح الحصول على الصفح والغفران، فبمثل ما تحكم الآن
يحكم عليك. إن سائر السفراء يمثلون بين يديك ببهاء الذهب ووفرة الهدايا وكثرة
المال، أما أنا فلا أقدم لك إلا شريعة يسوع المسيح المقدسة، والمثل الذي أعطاناه
بموته على الصليب ليستحق لنا مغفرة سيئاتنا.» فمست الشفقة قلب ثيودوسيوس، وأجاب: «إن
كان يسوع ربنا وسيدنا قد صار لأجلنا عبدًا وأسلم نفسه ليُصلَب، وإن كان قد سأل أباه
المغفرة لصالبيه، فكيف أتجاسر أن أتردد في المغفرة لأعدائي» (نخبة النخب: ٣٧–٤١).
وعاد فلابيانوس إلى أنطاكية حاملًا العفو المنشود، واحتفل بعيد الفصح المجيد،
فانبرى الذهبي الفم يرد آيات الشكر والتسبيح؛ لأن شعب أنطاكية كان ميتًا فعاش،
وضالًا فوجد.
١٢
أسقف رومة الجديدة (٣٩٨–٤٠٤)
وتوفي نكتاريوس أسقف القسطنطينية في خريف السنة ٣٩٦، فأصبح كرسي رومة الجديدة كرة
شقاق بين الشعب وبين رجال الكهنوت، وكان ثيودوسيوس قد توفي في مطلع السنة ٣٩٥
مخلفًا أزمة الحكم ليدين ضعيفتين لابنيه أركاديوس في الشرق وأونوريوس في الغرب،
وتسلط على أركاديوس وزيره الأكبر روفينوس، ثم قوي على هذا الخصي أفتروبيوس فأسقطه
وجلس في مكانه، وهذا هو الذي عهد إليه من حيث منصبه أن يرفض توسلات أولي الأطماع،
وأن يفتح أذنه إلى وحي ضمير المؤمنين وصوت الشعب المسيحي الحقيقي، وكان أفتروبيوس
الخصي قد عرف الذهبي الفم في أثناء إحدى رحلاته إلى «الشرق»، فأعجب بفصاحته
وقَدَّرَ فضله، فلم يجد أجدر منه بإعادة شعب العاصمة إلى الفضائل المسيحية، ولعله
أحس بوحي أُوتِيَهُ من فوق؛ فإنه عند المجاهرة باسم الذهبي الفم استصوب الجميع هذا
الاختيار. وعرف الخصي تعلُّق الأنطاكيين بمرشحه، فكتب إلى فيكتور استريوس والي الشرق
أن يرسل يوحنا خفية دون إطلاع أحد من الأنطاكيين على ذلك، فبادر الوالي إلى التنفيذ
ووجد أن أيسَرَ الطرق هو الاحتيال بإخراج يوحنا إلى ظاهر البلد ليتمكن من تسفيره
سرًّا، فدعا الوالي الكاهن يوحنا إلى زيارة قبور الشهداء خارج أسوار المدينة، فعَدَّ
يوحنا هذه الرحلة واجبًا مقدسًا ورضي بها، وما كاد يعبر باب أنطاكية حتى استلمه أحد
الخصيان وقائد من البلاط وحملاه إلى القسطنطينية.
١٣
ورغب الإمبراطور ومَن حوله أن يستقبلوا المرشح الأنطاكي بما استطاعوا من العظمة
والأبهة والإجلال؛ لأنه سيتبوأ أسمى المناصب في الكنيسة بعد أسقف رومة، فدعا
الإمبراطور إلى مجمع محلي للانتخاب، وجمع كل أكابر العاصمة، واستدعى ثيوفيلوس أسقف
الإسكندرية ليحتفل بوضع يده على الذهبي الفم وتسليمه عكاز الرعاية.
ولم يرضَ ثيوفيلوس عن مقررات المجمع المسكوني الثاني، التي جعلت من أسقف
القسطنطينية الثاني في الكرامة بعد أسقف رومة، وخشي مواهب يوحنا وقداسته، فأحَبَّ أن
يجعل أيسيدوروس الكاهن الإسكندري أسقفًا على رومة الجديدة، وكان هذا الكاهن راهبًا
فاضلًا، ولكنه ساذج مطواع، فأحبه ثيوفيلوس؛ لأنه رأى في انقياده الأعمى آلة يديرها
في يده كيف شاء،
١٤ فجاهر ثيوفيلوس بعدم الرضى، فاضطر أفتروبيوس الخصي أن يقول لهذا
الأسقف: «أمامك أحد أمرين: إما أن تنقاد لرأي الأساقفة والوجهاء، وإما أن تدافع عن
نفسك ضد المشتكين عليك.» فارتبك ثيوفيلوس واحتفل برسامة يوحنا الذهبي الفم في
السادس والعشرين من شباط سنة ٣٩٨،
١٥ ويجوز القول أيضًا مع السنكسار القسطنطيني إن هذه الرسامة تمت في منتصف
كانون الأول من السنة ٣٩٧.
١٦
ولم يعبأ يوحنا بأبهة العاصمة، ولم يتعاظم بعظم مركزه، ولم يتباهَ بقربه من
البلاط، بل حاول أن يوفِّق بين حياته الرعائية وبين حياة المخلص، وابتدأ بالإصلاح من
بيته، فخفض النفقات وبذل ما فاض من الدخل في سبيل إسعاف الفقير وتخفيف مصائب
المرضى، وسعى سعيًا حثيثًا لحماية خرافه من حملات الهراطقة: الآريوسيين،
والأفنوميين، والمانيين، والمركونيين، والفالنتينيين. والأفنوميون كانوا أتباع
أفنوميوس أسقف كيزيكة، وقد سبقت الإشارة إليه في فصل سابق.
وعُنِيَ هذا الأسقف القديس بإصلاح الإكليروس، فسلق بعضهم بلسانه سلقًا، وأوجب
عليهم الزهد في الملبس والمأكل والقيام بالواجب المقدس، وكان لكلامه وقع شديد في
قلوب السامعين، فانقاد إكليروس القسطنطينية لصوته، وعاد عدد كبير منهم إلى ما اعتاد
عليه آباء الكنيسة الأولون من التواضع والفقر والقناعة والقداسة. وكان
الأرشدياكون سرابيون أشد من الذهبي الفم غيرة على الإصلاح، فأمسى إفراطه في التنقيب
والتأنيب عثرة في سبيل القديس، فحقد بعض رجال الإكليروس على الأسقف وعلى
الأرشدياكون، واضطر الأسقف بعد أن يئس من إصلاحهم أن يقطعهم من جسم الكنيسة، وتفقَّدَ
القديس بنفسه جميعَ الأديرة، فأثنى على المحافظين على فرائض الدعوة، وأكره الذين نفخ
فيهم ريح العالم على الرجوع إلى الأديرة، والتقيُّد بقوانينها وتقاليدها، وحرم على
الكهنة قبول العذارى المصونات في بيوتهم، وأنشأ للعذارى مآوي انقطعن فيها للصلاة
والفضائل ولنسج ثياب الفقراء وتزيين الكنائس، وجعل عليهم أمًّا واحدة لسياستهن
نيكارتية النيقوميذية، ثم التفت إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأرامل فئة الكنيسة
العاملة في أوائل عهدها، فمنعهن عن التردد إلى البيوت والحمامات والملاعب، وأمرهن
أن يعتضنَ عنها بالتأمل والصلاة، ومؤاساة الفقراء، وعيادة المستشفيات، وحتم أنهن إن
استثقلن الترمل فليتقيدن بزواج ثانٍ خير لهن وأولى، وفاقت أولمبياذة جميع الأرامل
بجميل فضائلها وكثرة حسناتها، وكانت قد ترملت وهي في العشرين من عمرها، فالتحقت
بأحد الملاجئ، فلما أتى يوحنا القسطنطينية كان لها من العمر خمسون سنة، فأثرت
شخصيته في نفسها، فعرضت عليه خدماتها وأموالها، فأنفق القديس عن سعةٍ في سبيل تبشير
القوط والروس وبعض الفينقيين في تلال لبنان، وفي إنشاء المؤسسات الخيرية.
سقوط أفتروبيوس (٣٩٩)
وكان أفتروبيوس ثاقب العقل، وقَّاد الفكر، ينظر في مشاكل ويحلها من أبواب لم يستطع
غيره الوصول إليها؛ فكبرت منزلته في عين أركاديوس، ورأى فيه الرجل الوحيد الذي لا
غنًى عنه في تدبير السلطنة، وولد هذا الاحترام في قلب الخصي صلفًا وتيهًا.
وكان ثيودوسيوس قد أدخل إلى صفوف الجيش عددًا كبيرًا من القوط، ولا سيما في سلاح
الخيالة، وكان بعضهم قد خدم الجيش بإخلاص وأبلى البلاء الحسن، فرقي من رتبة إلى
رتبة، وكان بين هؤلاء غايناس القوطي، وكان غايناس يهتم بشئون القوط أبناء جنسه، ولم
يكن عدد هؤلاء قليلًا في العاصمة، فأصبح غايناس أحد زعماء السياسة، وأصبحت سياسة
العاصمة تطاحنًا مستمرًّا بين غايناس وبين أفتروبيوس، وكان لغايناس نسيب اسمه
تربيجلد كان مستلمًا قيادة بعض الجيوش في آسية الصغرى، فوسوس إليه غايناس أن يجتاح
برجاله القوط سهول فريجية مقوضًا وناهبًا، ففعل فتظاهر غايناس بالغيظ، واستأذن
بالانطلاق لإطفاء نار الثورة والعصيان، فسار إلى آسية الصغرى، وجمع الكل تحت إمرته
وزحف على القسطنطينية،
١٧ فانخلع قلب أركاديوس وفاوض غايناس، فكان من أهم شروط الصلح أن يترك
الإمبراطور وزيره أفتروبيوس، ثم أمر الإمبراطور بنفي أفتروبيوس ثم بقتله، فالتجأ
هذا إلى الكنيسة، وهرع إلى المذبح والتزق به! وتابعه الجنود لإلقاء القبض عليه،
فصدهم الذهبي الفم. وفي اليوم التالي، بينما كان أفتروبيوس لا يزال بجانب المذبح، رقي
الذهبي الفم المنبر، ووعظ عظته الأولى في حادث أفتروبيوس:
١٨
باطل الأباطيل كل شيء في هذه الدنيا باطل، أين قنصليتك وظروفها الباهرة،
أين ذهبت تلك المشاعل الساطعة والرقص ووقع أرجل الراقصين، أين تلك الأعياد
والمآدب، أين ذهبت ستائر المرسح وأكاليل الزهر، أين تصفيق المدينة وهتافات
الملعب، أين إطراء المعاينين المتفرجين؟ الكل اضمحل؛ لقد عصفت الزوبعة،
فزعزعت الشجرة وذرت أوراقها وهددت بقطع عروقها. أين أصدقاؤك المداهنون
الممالقون؟ أين مآدبك وخمرك؟ أين أولئك الذين توددوا إليك وغازلوا سطوتك؟
هي أحلام تضاءلت وتلاشت عند الفجر، باطل الأباطيل كل شيء باطل. أين أولئك
الذين كانوا آلةً في يد شهواتك؟ أين أولئك السائرون أمامك لتمهيد السبيل
لقدميك في الطرق العمومية؟ لقد هربوا عند حلول الخطر وكفروا بنعمتك حرصًا
على تخليص أنفسهم، أكذلك يا ترى صنع خدمة الكنيسة؟ إن الكنيسة التي اضطهدت
أيام كنت مسلطًا تفتح ذراعيها اليوم لتعانقك وتحميك، وحذار أيها الشعب أن
تفكروا أن غاية كلامي الشماتة على هذه السقطة، كلا لست أقصد فيها إلا تأييد
الذين لم يسقطوا بعدُ، فعندما جاءوا من البلاط أمس ليجروه بالقوة هرع إلى
الاعتصام بالآنية المقدسة، وقد امتقع وجهه حتى صار كالأموات، وكانت فرائصه
ترعد، وجميع أعضائه ترتعش، واختنق صوته واعتقل لسانه، ولعلكم تقولون إنه
بالشرائع البربرية التي سنها قد أغلق في وجهه أبواب هذا الملجأ، أفلا ترون
أنه قد ضرب نفسه بالضربة عينها التي أتاها، وأنه هو نفسه كان أول مخترق
لأحكامه الجائرة، وجاء الآن يكفر على مشهد من السماء عن قساوته عينها، ليكن
لدينا عظيمًا هذا المذبح المقدس الذي يمسك ويحمي هذا الأسد المقيد.
١٩
ورضي الإمبراطور وعفا عن أفتروبيوس، فخرج من حمى المذبح المقدس فاعتقل ونُقف عنقه.
٢٠
الذهبي الفم وغايناس
وكان غايناس آريوسيًّا كمعظم القوط أبناء جنسه، فلما تغلب على أفتروبيوس دبَّ
النشاط إلى الأوساط الآريوسية، وأخذوا يجتمعون في الليل أجواقًا يرتلون أناشيد
آريوسية، فنظم الذهبي الفم أجواقًا أرثوذكسية، وجعلهم فئات يحيون الليل في الهياكل
مرنمين لألوهية السيد ترانيم وأناشيد، وأدى هذا كله إلى الاشتباك وسفك الدماء في
بعض الأحيان، ولكن غايناس واظب على احترام الذهبي الفم وتقديره وإجلاله، وكان من
مظاهر هذا الاحترام أنه عفا عن أوريليانوس وسترنينوس إكرامًا للذهبي الفم،
٢١ وأنه امتنع عن مصادرة إحدى الكنائس في العاصمة للسبب نفسه، وكان بعض
القوط أرثوذكسيين، فخصهم الذهبي الفم بعنايته، ورسم لهم كهنة منهم، وأفرد لهم كنيسة
يتعبدون فيها بلغتهم.
٢٢
أخصام الذهبي الفم
وخشي الوطنيون الروم مطامع غايناس، فعاهدوا قوطيًّا آخر فرافيتة، ولدى خروج
غايناس من العاصمة في أوائل السنة ٤٠٠ هجم الوطنيون على مَن تبقَّى من عساكره في داخل
المدينة وقتلوهم، وعبر غايناس الدانوب، ووقع أسيرًا في يد الهون، وقُتِلَ في أواخر
السنة ٤٠٠.
٢٣
وبزوال أفتروبيوس أولًا ثم غايناس، زالت هيبة السلطة، فجهر أخصام الذهبي الفم
بمعارضةٍ أدَّتْ مع مرور الزمن إلى نفيه ووفاته، وشملت هذه المعارضة منذ البداية عناصر
معينة من الرهبان والأرامل والأساقفة، وتزعم معارضة الرهبان إسحاق الراهب السوري،
الذي كان قد أمَّ العاصمة في عهد والنس الإمبراطور، واشتهر بحق أو بغير حق بقداسة
فائقة، وبجرأة في سبيل الأرثوذكسية أدت به إلى مصارحة والنس باقتراب أجله، وكان قد
أسس لنفسه مقرًّا عند مدخل العاصمة أصبح أول الأديار فيها،
٢٤ ولم يرضَ إسحاق الراهب عن إصلاحات الذهبي الفم، فلما زالت سطوة البلاط
بدأ يطعن في الأسقف القديس، فكان لكلامه ودعاياته أسوأ الأثر.
٢٥
وانضم إلى الرهبان المعارضين عدد من الأرامل اللواتي حقدن على الأسقف القديس
لأنه انتقد خفتهن جهارًا، وكان بينهن عدد من المقربات إلى البلاط كمرسة أرملة
الجنرال بروموتوس، وكستريكية أرملة القنصل سترنينوس، وإفغرافية
Eugraphia التي قُدِّرَ لها أن تلعب دورًا هامًّا في الدس
والمؤامرات في البلاط.
٢٦
في أفسس (٤٠٠)
وتعبد أنطونينس أسقف أفسس للمال، فشكاه أفسابيوس أسقف ليدية إلى الذهبي الفم،
فأرسل الذهبي الفم أسقفين إلى أفسس للبحث والتدقيق، وتوفي أنطونينس في غضون هذا البحث،
فأقبلت الرعية تطلب إلى أسقف العاصمة أن يقوم إليها ليصلح شئونها، ففعل وعقد مجمعًا
محليًّا وسام شماسه هرقليذس أسقفًا على أفسس، وأسقط ستة أساقفة كانوا قد رقوا إلى
درجاتهم بالسيمونية.
٢٧
الإخوة الأربعة الطوال (٤٠١–٤٠٣)
وكان ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية مطماعًا كلفًا بحشد الأموال، فطمع بثروة الرهبان،
فاتهم بعضهم باتباع أوريجانس واضطهدهم، فهرب عدد منهم ولاذوا بأسقف أوروشليم، ثم
سار خمسون منهم إلى القسطنطينية، يتقدمهم الأربعة الطوال ليرفعوا للإمبراطور
شكواهم، وهؤلاء الأربعة هم: أمونيوس، وأفسابيوس، وأفثيميوس، وذيوسقوروس أسقف هرموبوليس،
٢٨ ولدى وصولهم إلى القسطنطينية ذهبوا توًّا لزيارة أسقفها القديس، وشكوا
ما قاسوا من اضطهاد، فأنزلهم في بيت قريب من إحدى الكنائس، وسمح لهم بالصلاة مع
سائر المؤمنين، ولكنه منعهم عن الاشتراك في ممارسة الأسرار المقدسة ريثما تنكشف
الحقيقة، وكتب إلى ثيوفيلوس يناشده برابطة «المحبة الأخوية الجامعة» أن يصفح عن
الإخوة الطوال، وأبان أنهم إذا كانوا مؤاخذين بذنب، فليرسل أيًّا شاء من المدعين
عليهم إلى القسطنطينية، فخشي ثيوفيلوس المحاكمة في القسطنطينية، وأدرك أنه إذا تمَّتْ
أخذ هو بجرائره ومظالمه، فاتهم يوحنا الذهبي الفم بقبول الإخوة الطوال بشركة
الأسرار بدون فحص أو تدقيق، واعتبره شريكًا لهم في أضاليلهم الأوريجانية، ثم أرسل
رسلًا إلى القسطنطينية، يطوون التهم والتقريعات على الأربعة الطوال، فاضطر هؤلاء أن
يذكروا مساوئ ثيوفيلوس نفسه أمام زميله القديس يوحنا، فاستكبر الذهبي الفم هذا
الأمر، وكتب ثانيةً إلى ثيوفيلوس يشير إلى الشكايات عليه، ويرجوه أن يكلفه بحسم
المسألة، فأجاب ثيوفيلوس أن قوانين نيقية لا تسمح للأساقفة أن ينظروا في الدعاوي
الخارجة عن حدود أبرشياتهم،
٢٩ ولم يتعجل الأمور ولم يذهب إلى القسطنطينية فورًا، بل إنه أوفد إليها
القديس أبيفانيوس أسقف سلامينة قبرص (٤٠٣)، وكان هذا لا يطيق أوريجانس وتآويله،
فلما قرأ رسالة ثيوفيلوس ضد الأربعة وأوريجانس أقلع حالًا إلى العاصمة، وأعلنها
حربًا لا هوادة فيها على الأربعة وعلى الذهبي الفم أيضًا! فتدخلت السلطات في أمره،
وطلبت إليه أن يعود إلى أبرشيته، ففعل وتوفي وهو في طريقه إليها.
٣٠
ثيوفيلوس في القسطنطينية
وسئم الأربعة الطوال الصبر، وكتبوا العروض وأودعوها شيئًا من جرائم ثيوفيلوس،
وذهبوا إلى كنيسة القديس يوحنا، وانطرحوا على أقدام الإمبراطورين، والتمسوا حضور
ثيوفيلوس ليحاكم بإزاء الذهبي الفم، وأصابت هذه الشكوى أذنًا صاغية، فكتب أركاديوس
إلى عامله في مصر أن اقبض على ثيوفيلوس وأرسله مخفَّرًا، فقام ثيوفيلوس إلى
العاصمة، وأطلق إليها أيضًا جميع الأساقفة الخاضعين لكرسيه، ولما وصل إلى البوسفور
أقام في خلقيدونية أيامًا، ثم جاء القسطنطينية، ومرَّ أمام كنيسة الرسل ولم يدخل
إليها، وعلى الرغم من هذا فإن الذهبي الفم ذهب لاستقباله في القصر الذي أعدَّ له
ودعاه للإقامة عنده، ولكن ثيوفيلوس أسفر بجفاء أنه لا يريد أن يرى الذهبي الفم، ولا
أن يسمع صوته ولا أن يشاركه في الصلوات، وأنشأ ثيوفيلوس حزبًا قويًّا لعضده، فكان
لديه تسعة وعشرون أسقفًا مصريًّا، وعدد من الأساقفة والرهبان الناقمين على الذهبي
الفم، وشد أزره بحارة أسطول القمح، وكانوا جميعهم مصريين، ونثر ثيوفيلوس الذهب،
فابتاع عددًا من الوجوه وكبار الموظفين، وأصبح صالون إفغرافية الأرملة مركز
المشاغبة على الذهبي الفم، واقتنعت أفذوكسية الإمبراطورة أن الأسقف القديس عناها هي
نفسها عندما أشار في إحدى عظاته إلى إيزابل.
٣١
مجمع البلوطة (٤٠٣)
ولما تَمَّ اتفاق هذه العناصر واتحدت كلمتهم، خافوا أن تُحبَط مساعيهم إذا عقدوا
اجتماعاتهم في العاصمة؛ لأن الذهبي الفم كان محبوبًا من عموم الشعب، موقرًا من
جمهور الإكليروس، فاستحسنوا بلدة خلقيدونية على ضفة البوسفور الآسيوية، ونزلوا
ضيوفًا على أسقفها كيرينوس المصري، وعقدوا اجتماعاتهم في قصر البلوطة، وانضم إليهم
أكاكيوس أسقف حلب، وسويريانوس أسقف جبلة، وأنطيوخوس أسقف عكة،
٣٢ وماروطة أسقف ميافارقين، ومكاريوس أسقف مغنيسية، وأصغى الأساقفة
المجتمعون في قصر البلوطة إلى جميع الاتهامات الواردة في سوء حال يوحنا الذهبي
الفم، فبلغت شكايات الأرشدياكون يوحنا تسعًا وعشرين، وادَّعَى الأسقف إسحاق على الذهبي
الفم أنه قبلَ في كنفه الرهبان الذين قالوا قول أوريجانس، وأنه لم يصغِ إلى الرهبان
الذين مثلوا ثيوفيلوس، وأنه تدخل في شئون أبرشيات غيره من الأساقفة، وجاء الراهب
إسحاق مقدمًا ثماني عشرة شكوى، منها «مزيد حنو القديس على الخطأة»!
وبينما كان ثيوفيلوس وأصحابه يفتلون الشر فتلًا ويحكمونه إحكامًا، قام غيرهم
أربعون أسقفًا من إقليم القسطنطينية وغيرها ينظرون في ملافاة الخطر، أما الذهبي
الفم فإنه طلب إلى هؤلاء الملتفين حوله ألَّا يدع أحد منهم كنيسته لأجله، ومما
قاله: «هو ذا عاصفة شديدة تهب علينا، لكن لا تنخلعنَّ لها قلوبنا؛ إذ لا نخاف البتة
من الغرق، فمهما جاش البحر فماذا يستطيع أن يصنع مع صخرة الكنيسة غير المتزعزعة
التي نحن عليها راسخون.»
ثم كتب مجمع البلوطة إلى الذهبي الفم أن يبرر نفسه أمامهم، وأن يصحب معه الكاهنين
سرابيون وتكريوس، فرَدَّ الأساقفة المجتمعون في القسطنطينية أن في هذا الطلب خروجًا
على القوانين الموضوعة في المجمع النيقوي، وأنه يجب على أقلية مثلهم أن تخضع
لأكثرية مؤلفة من أربعين أسقفًا برئاسة سبعة مطارنة،
٣٣ وكتب الذهبي الفم إلى مجمع البلوطة يؤكد أن ضميره لا يبكته بشيء، وأنه
مستعد أن يمثل أمام مجمع مؤلف من مائة أو ألف أسقف، ثم يقول: وإن شئتم أن أمثل في
محفلكم، فبادروا إلى تطهيره من أعدائي الشخصيين، فثيوفيلوس الإسكندري قال في ليقية:
«إني منطلق لعزل الأسقف يوحنا.» وقد أبى منذ دخوله هذه المدينة كل اشتراك معي،
وأرفض أيضًا أكاكيوس مطران حلب الذي تجاسر في كنيستي نفسها أن يهددني، وأنطيوخوس
وسويريانوس أسقفا عكا وجبلة سيجازيهما العدل الإلهي قريبًا، فإن أردتم أن أدافع
أمامكم، فامحوا هذه الأسماء الأربعة من عِداد قضاة مجمعكم.
٣٤
وأبى الذهبي الفم أن يمثل أمام قضاة البلوطة، فاتخذوا قرارًا بخلعه، وبعثوا به
إلى البلاط، ونشروه في جميع كنائس العاصمة، ولم يُبنَ الحكم فيه إلا على أن المجمع
دعاه أربع مرات فلم يحضر ليزكي نفسه،
٣٥ وقد ضاعت أعمال هذا المجمع ولم يبقَ منها سوى ما نقله فوطيوس العظيم عنها.
٣٦
نفيه إلى بيثينية
واستغاث الذهبي الفم بالكنيسة الجامعة، وسأل عقد مجمع مسكوني، ولم يخضع فورًا
لحكم قضاة البلوطة، بل ظل يواصل أعماله الرعائية يومين كاملين، وكان يقول: وما هي
أفكارهم وآمالهم، أيظنون أنهم يخيفوني بتهديدات الموت، والموت عندي خير عظيم، أم
بالمنفى والأرض بكمالها للرب الذي وقفت له حياتي، إن يسوع معي فماذا أخشى، ولا أنفكُّ
أقول لتكن مشيئتك يا رب فها أنا ذا بين يدَيْك مستعِدٌّ لأعمل وأتحمل بسرور ما يجري من
معين رحمتك، أو ما تأمر به إرادتك!
ولم يتجرأ عمال الإمبراطور أن ينفذوا حكم البلوطة بالقوة؛ لأن الشعب كان عازمًا
على مقابلة القوة بالقوة، ثم رغب القديس حبًّا بالسلام أن يسلم نفسه بأيدي الجنود
دون علم الشعب، فنقل في الليل إلى مرفأ هيرون على البوسفور، فهام القديس على وجهه،
وظلَّ تائهًا حتى وصل إلى بيت قروي قرب برينيت
Prenetos في ساحل بيثينية فأوى إليه.
٣٧
رجوعه معززًا
واستيقظ الشعب عند الصباح ولم يجد أسقفه فغضب، واكتظت الشوارع بالناس وأحاط بعضهم
بالقصر من كل جانب، وصرخوا طالبين إرجاع أبيهم المنفي، وظلوا على هذا الحال حتى
المساء، وفي أواسط الليل أرجفت الأرض وتزلزلت أركان القصر الإمبراطوري،
٣٨ فاشتد خوف الإمبراطورة، ورأت في ذلك انتقامًا ربَّانيًّا، فقالت
لأركاديوس: إن لم يَعُدِ الأسقف فليس لنا تاج ولا سلطان. فوكل أركاديوس إليها أن تفعل
ما تشاء، فكتبت بخط يدها تبدي عذرها، وأوفدت أحد خصيانها ليرجو العودة، فلما عبر
البوسفور أبى العودة إلى كرسيه توًّا لئلا يخترق حرمة القانون الكنسي، فإن خروجه
كان بحكم مجمعي، فكان لا بد من حكم مجمعي لعودته،
٣٩ ولكن الشعب لم يقبل له عذرًا، فسار بموكب عظيم إلى كنيسة الرسل وأوجز
في الكلام، فبارك اسم الرب إلى الأبد: «أجل تبارك الله الذي يحبط المكايد ويقضي
برجوع الراعي، تبارك الذي يثير العواصف، تبارك الذي يحلُّ جليد الشتاء ويقمع هيجان
الرياح ليقوم مقامها الهدوء والصحو والسلام.»
٤٠ والتفت في كنيسة الحكمة الإلهية إلى كنيسته، فتراءت له متوجة بإكليل
سموي، فهي العروس سارة العفيفة الطاهرة، التي سعَّرت طلعتها الجميلة نار الهوى في
جوانح فرعون،
٤١ والإشارة هنا إلى ثيوفيلوس الإسكندري.
عودة ثيوفيلوس إلى مصر
ومال كوكب «فرعون» إلى الهبوط وكاد ينفضح أمره، واختلف الآباء المجتمعون في قصر
البلوطة حول قضية هرقليذس أسقف أفسس واشتد بينهم الضجيج، وسمع الشعب المحدق بالقصر
جلبتهم وتردد اسمي يوحنا وهرقليذس، فانتصروا لهما ولعنوا المجتمعين، فخاصمهم
البحارة المصريون واشتد القتال وجرت الدماء،
٤٢ وسمع «فرعون» نفسه أنصارَ القديس يوحنا يطلبون طرحه في المياه،
٤٣ وعلم أن الإمبراطور يميل إلى دعوة مجمع مسكوني للبت في القضية الماثلة،
٤٤ فركب البحر مستصحبًا إسحاق الراهب وعاد إلى الإسكندرية.
التآمر على الذهبي الفم
وفي خريف السنة ٤٠٣ أقام أركاديوس لزوجته أفذوكسية تمثالًا من الفضة الخالصة فوق
عمود من البورفير، وعلى قاعدة مزدانة بأجمل النقوش، ولا تزال هذه القاعدة محفوظة
حتى يومنا هذا في متحف القديسة إيرينة وعليها كتابة الإهداء والتدشين باللغتين
اليونانية واللاتينية،
٤٥ وجعل الإمبراطور محل هذا التمثال في أكبر باحات المدينة بحذاء مجلس
الشيوخ وبإزاء كنيسة الحكمة الإلهية، وكان حاكم العاصمة آنئذٍ رجلًا مانويًّا يكره
الذهبي الفم، فأقام لمناسبة الاحتفال بالتمثال ملعبًا للرقص والمصارعة أمام أبواب
كنيسة الحكمة، فلم يستطع الذهبي الفم صبرًا، فذكَّرَ المؤمنين أن هذه الملذات من
شأنها أن تجدد قبائح الديانات الوثنية، ولا يجوز الاشتراك فيها،
٤٦ ولم يأتِ الذهبي الفم على ذكر الإمبراطورة ولم يلمِّحْ، خلافًا لما
قاله بعض المؤرخين وكما قلناه نحن سابقًا.
٤٧ ولا يُستبعَد أن تكون العظة «يوحنا المعمدان» التي لا تزال تُنسَب إلى
الذهبي الفم ملفَّقة مزوَّرة،
٤٨ وخُيِّلَ لأفذوكسية أنها حُقرت فأرعدت وأزبدت، واغتاظ لغيظها الإمبراطور
وحاشيته، فاستشاروا ثيوفيلوس الإسكندري، فأفتى بوجوب تبرير الذهبي الفم أمام مجمع
كنسي، وانتدب ثلاثة من أعوانه، وأرسلهم إلى القسطنطينية، ولدى وصولهم دعا الإمبراطور
أساقفة آسية وأنطاكية، فلبى الدعوة بعضهم وأبى آخرون خشيةَ اتساع الشقاق في الكنيسة،
وكان بين الذين هرعوا إلى القسطنطينية أكاكيوس حلب، وسويريانوس جبلة، وأنطيوخوس عكة،
وليونيتوس أنقيرة، وأمونيوس لاذقية بسيدية. وأطل عيد الميلاد، وبات المؤمنون ينتظرون
قدوم الإمبراطور والحاشية لحضور الاحتفال، فاعتذر أركاديوس مبينًا أنه لا يشترك مع
الذهبي الفم بشيء ما لم يُبرر أمام المجمع،
٤٩ واستمع أركاديوس إلى عشرة من الأساقفة الموالين ليوحنا وعشرة من
الأساقفة أخصامهم، فلعب البيذس أسقف لاذقية سورية دوره المشهور، وطلب إلى أخصامه أن
يوقعوا قانون أنطاكية، كأنه عمل أرثوذكسي قبل تطبيقه على يوحنا الذهبي الفم،
فاحتاروا في أمرهم؛ لأنهم إن قبلوه تلطخوا بالآريوسية وإن أبوا سقطت حجتهم، فلاذوا
بالكذب ووعدوا بالتوقيع ثم أخلفوا.
٥٠
فصح السنة (٤٠٤)
ومضت أَشْهُر عشرة، والمدينة في قلق واضطراب والقديس لا يتزعزع، فاحتال أخصامه في
إغلاق فيه وصوروا مجتمعاته مستوقدات للاضطراب والإخلال بالنظام، وسعوا في منع
انعقادها، ثم طلبوا طرد الذهبي الفم قبل عيد القيامة (١٧ نيسان)؛ لأنه محجوج من
المجمع، فأتى أركاديوس هذه المنكرة، وأوجب خروج الذهبي الفم من كنيسته، فقال الأسقف
القديس: لقد استلمت الكنيسة من يسوع المسيح، ولا أستطيع أن أقصر في خدمتها، فإن
أردت أن أترك هذه الحظيرة المقدسة فاطردني قهرًا. فطُرِد يوم سبت النور من الكنيسة
طردًا، وحذر عليه الخروج من قلايته،
٥١ وطُرِد من الكنائس أيضًا جميع الكهنة الذين كانوا في شركة الأسقف القديس،
وكانت العادة حينئذٍ تقضي بأن يبقى المسيحيون ساهرين بالصلوات حتى صياح الديك،
معدين طالبي المعمودية إلى قبول هذه النعمة، فلجئوا جميعهم إلى الحمام الكبير الذي
شيده قسطنطين وحولوه إلى كنيسة، فسعى المتآمرون في فض هذا الاجتماع، فدخل الجند
الحمام والسيوف بأيديهم مصلتة، واخترقوا الحشد حتى وصلوا إلى جرن المعمودية، فضربوا
الكهنة والشيوخ والنساء واختلسوا الآنية المقدسة، فخرج المؤمنون خارج الأسوار،
واحتفلوا بالتعميد، وأقاموا الذبيحة في ميدان قسطنطين.
٥٢
نفي الذهبي الفم
وبعد العنصرة بخمسة أيام؛ أيْ في التاسع من حزيران سنة ٤٠٤، سار أكاكيوس وأعوانه
إلى
الإمبراطور وقالوا: إن الله لم يجعل في الأرض سلطانًا فوق سلطانك، وليس لك أن
تتظاهر بأنك أكثر وداعة من الكهنة وأعظم قداسة من الأساقفة، وقد حملنا على رءوسنا
وزر عزل الأسقف يوحنا، فحذار مما ينجم عن إهمال التنفيذ، فأوفد أركاديوس أحد كبراء
البلاط إلى الذهبي الفم يسأله أن يهجر كنيسته ورعيته حبًّا بالراحة العمومية.
٥٣ فأصغى القديس، وقام إلى المنفى فالموت وصلى وودَّع «ملاك الكنيسة»، ثم
ذهب إلى مصلى المعمودية ليودع الشماسات الفاضلات: أولمبياذة الأرملة القديسة،
وبنتاذية، وبروكلة، وسلفينة، وقال لهن: لا تدعن شيئًا يخمد حرارة محبتكن للكنيسة.
٥٤
وخرج القديس خفية، وقبض عليه الشرطة، وعبروا البحر به إلى نيقية حيث ألقوه في
السجن، واستبطأ الشعب خروج راعيهم، فارتفعت جلبتهم في كنيسة الحكمة، وفيما هم على
هذه الحال اتقدت نار تحت المنبر وحولته رمادًا، ثم امتد لهيبها إلى السقف وسرى خارج
الكنيسة، ثم دفعته ريح شمالية إلى الجنوب، فبلغ قصر الشيوخ فقوَّضه، وأمست الكنيسة
الكبرى قاعًا صفصفًا، ولم يسلم منها إلا آنية الأفخارستية!
٥٥
وأقام الذهبي الفم في نيقية أربعين يومًا أو أكثر، وعلى الرغم مما كان عليه من
مضايق السجن وغلاظة الجنود، فإن نفسه ظلت تتوقد غيرةً على خلاص النفوس في سورية
وفينيقية وتحطيم الوثنية وهياكلها، وكان صديقه قسطنديوس البار لا يزال يعمل في حقل
الرب في تلال فينيقية وسهولها، متكبدًا أشد المصاعب من الوثنيين ومن «الإخوة
الكذبة»، فقيَّض الله للذهبي الفم راهبًا زاهدًا في نيقية، فاستقدمه الأسقف القديس
إليه، واستمال قلبه إلى التبشير في فينيقية، وأرسله إلى صديقه قسطنديوس.
٥٦
وفي الرابع من آب سنة ٤٠٤ قامت قوة من الحرس الإمبراطوري إلى نيقية لتنقل الذهبي
الفم إلى منفاه، وقضى أمر النفي بوجوب مواصلة السفر نهارًا وليلًا إجهادًا
وتعجيلًا، وما كاد الذهبي الفم يصل إلى مداخل قيصرية قبدوقية حتى وقع لا يعي
حراكًا، فوقف حرَّاسه عن المسير وأذنوا له بشيء من الراحة، بَيْدَ أن فارتاريوس أسقف
قيصرية شدد النكير، فاضطر الذهبي الفم أن «يخرج وينفض غبار رجليه»، وبعد سفر دام
ستة وخمسين يومًا وصل الأسقف القديس في آخر أيلول إلى منفاه بلدة كوكوس في شمالي
طوروس، وعلى الرغم من إقفارها وحقارتها فإن الذهبي الفم ابتهج بمرآها؛ لأنه أحب
الانقطاع والراحة، ولأن أهلها كانوا قد أوفدوا الرسل إلى قيصرية يسألونه قبول
دعوتهم في بيوتهم، ولأن أذلفيوس أسقف كوكوس كان على جانب من القداسة والطهارة، ولأن
جماعته الفقراء في المادة كانوا أغنياء بالتقوى والكمال، ومما زاد في سروره أنه
لاقى في كوكوس صديقه القديم القس قسطنديوس الأنطاكي، الذي اضطهد في أنطاكية لولائه
وإخلاصه، وابتهج القديس ودهش أيضًا عندما رأى الشماسة سبينة تنتظر قدومه في كوكوس،
فإنها على الرغم من تقدُّمها في السن تجشمت مشقة الأسفار، وسبقت راعيها إلى
المنفى!
موقف أنطاكية ورومة
وكان فلافيانوس أسقف أنطاكية قد بلغ من العمر قرنًا كاملًا، فلم يقوَ على محاربة
عقارب الحسد التي دبَّت في قلوب بعض الأساقفة أمثال: أكاكيوس حلب، وسويريانوس
جبلة، وأنطيوخوس عكة، وفاليريوس طرسوس، فالذهبي الفم بلغ رتبةً تقاصر عنها هؤلاء،
وشأوًا تقطعت دونه أعناقهم، فأصغوا إلى مفاسد ثيوفيلوس الإسكندري، وآثروا الإقامة في
العاصمة والدس على الذهبي الفم على العمل المثمر في أبرشياتهم.
٥٧
وتوفي فلافيانوس في السادس والعشرين من أيلول سنة ٤٠٤، فهرع أكاكيوس وأعوانه إلى
أنطاكية لانتخاب خلف يقول قولهم ويسعى سعيهم، فأيدوا بورفيريوس الكاهن الأنطاكي،
وحاربوا قسطنديوس مرشح الشعب، وانتهزوا خروج الشعب إلى دفنة لمشاهدة الألعاب
الأولمبية، فأتموا انتخاب بورفيريوس وسيامته، ثم تواروا عن الأنظار وتولت السلطات
المدنية إخماد كل حركة مضادة. وفي الثامن عشر من تشرين الثاني صدرت إرادة
إمبراطورية أوجبت الاعتراف بسلطة أرساكيوس في القسطنطينية، وثيوفيلوس في الإسكندرية،
وبورفيريوس في أنطاكية،
٥٨ ونفذت هذه الإرادة السنية بشدة، فنُفِي كيرياكوس أسقف حمص إلى تدمر، وسُجِن
كلٌّ من إلبيذيوس
Elpidius أسقف اللاذقية،
وببوس
Pappus ثلاث سنوات متتالية.
٥٩
وحرر ثيوفيلوس الإسكندري إلى أنوشنتيوس أسقف رومة في موضوع الذهبي الفم، وكتب
يوحنا نفسه أيضًا إلى أسقف رومة يعلمه بالجريمة التي ارتُكِبت في القسطنطينية،
ويقول: «ولما كان لا يجوز لنا أن نحزن، بل يجب علينا أن نعيد النظام، ونبحث عن
الوسائل التي تمكننا من إيقاف هذه العاصفة، رأينا من الضروري أن نقنع السادة
الجزيلي الشرف والتقوى، الأساقفة: ديمتريوس، وبانسوفيوس، وببوس، وأوجينيوس، أن
يتركوا كنائسهم، ويجازفوا بأنفسهم، فيقوموا بهذه الرحلة البحرية الطويلة ويسرعوا
لملاقاة محبتكم، وبعد اطلاعكم على كل شيء يتخذون الإجراءات اللازمة لمداواة الموقف بسرعة.»
٦٠ وأرسل الذهبي الفم مثل هذه الرسالة إلى كلٍّ من فينيريوس
Venerius أسقف ميلان، وكروماتيوس
Chromatius أسقف أكويلية، راجيًا المعونة
لإنقاذ الموقف، فكتب أنوشنتيوس إلى كلٍّ من ثيوفيلوس والذهبي الفم يؤيد دوام الشركة،
ويقترح عقد مجمع مسكوني يمثل الشرق والغرب للنظر في الأمر.
٦١
ويلاحظ العلامة الأب غوستاف بردي أنه ليس في نصوص هذه الرسائل ما يخولنا القول إن
الذهبي الفم لجأ إلى أسقف رومة ليستصدر حكمًا في القضية الماثلة بينه وبين أسقف
الإسكندرية، ويضيف الأب بردي أن الذهبي الفم لم يخص أسقف رومة وحده بهذه «الشكوى»،
فإنه كتب إلى أسقفي ميلان وأكويلية بمثل ما كتب إلى أسقف رومة.
٦٢ ويُلاحظ أيضًا لهذه المناسبة أن القديس أنوشنتيوس أسقف رومة أوصى بمجمع
مسكوني للبت في هذه القضية، وألَحَّ بذلك.
وأيقن أنوشنتيوس أن دعوى ثيوفيلوس فارغة، فاندفع في سبيل الذهبي الفم، ولم يكترث
لموقف القديس إيرونيموس الذي نقل كلام ثيوفيلوس إلى اللاتينية، فاتصل بأونوريوس أخي
أركاديوس، فقر قرار الاثنين أن يدعى إلى مجمع مسكوني في تسالونيكية، وكتب أونوريوس
إلى أخيه بذلك وتألف الوفد الروماني إلى المجمع المنتظر، وما كاد هذا الوفد يدخل
داخل حدود إمبراطورية أركاديوس، حتى أُلقِي القبض على أعضائه وأُعِيدوا إلى الغرب.
٦٣
وفاته (٤٠٧)
وتوفي أرساكيوس في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة ٤٠٥،
٦٤ فتأمل الأرثوذوكسيون أن تعود الراحة بموته إلى مجراها، وأن يعود يوحنا
إلى رعيته، ولكن المتآمرين أقاموا أتيكوس السبسطي أسقفًا على القسطنطينية، فأبى بعض
الأساقفة الاشتراك معه وتنحى الشعب عنه، فاستشاط غيظًا، فنال من الإمبراطور أمرًا
بنقل يوحنا من كوكوس إلى بيتوس على الساحل الشرقي من البحر الأسود، وعهد في إجراء
هذا الأمر إلى بعض الجنود، فقطعوا به آسية الصغرى من غربيها الجنوبي إلى شرقيها
الشمالي بعنف وصلابة وبدون راحة، ولما دنوا من كومانة كان قديسنا قد أضحى كالخيال،
فتوفي على بُعد ستة أميال منها في الرابع عشر من أيلول سنة ٤٠٧، في كنسية أسقفها
القديس باسيليكوس الشهيد.
٦٥
مؤلفاته
وصنَّف الذهبي الفم كثيرًا، ولعله أكثر الآباء إنتاجًا، وكتب متأثرًا بنفحات
إيمان حار، «فكان تارة يوشح خطبه البسيطة بثوب قشيب من الطلاوة الشعرية الظريفة،
وطورًا يزينها بحلي التشابيه اللطيفة، فيسكر السامعين ويسترق ألبابهم».
ووعظ وأرشد فأبان ضرورة المعمودية للحصول على نعمة الله في الدنيا والسعادة في
الآخرة، وأوجب مصارعة إبليس، فأنشأ ثلاث خطب في قدرة الأبالسة، وثلاثة كتب وجهها إلى
ستاجير في «فوائد» التجارب وأخطارها، وأعد تسع خطب في التوبة والمحبة، واعتبر
الوثنيون في أنطاكية تجسد ابن الله حلمًا من الأحلام، فردَّ قديسنا مبددًا أقاويلهم
مبينًا اتفاق السماء والأرض في هذا العمل العظيم، وأَلَّفَ خطبتين في خيانة يهوذا
بعد تناول جسد الرب، مبديًا إيمانه في سر الاستحالة:
أيها الرب إلهي، أنا أعلم أني لست مستحقًّا ولا أهلًا أن تدخل تحت سقف
نفسي؛ لأنها مقفرة ساقطة، وليس لك فيَّ موضع أهل لتسند إليه رأسك، لكن كما
أنك من أجلنا تواضعت منحدرًا من العلاء، تنازَلَ الآن أيضًا إلى حقارتي … فلتصر
لي جمرة جسدك الأقدس ودمك الكريم لتقديس وإنارة وتقوية نفسي وجسدي
الحقيرين … ولئلا أمسي فريسةَ الذئب العقلي إذا ابتعدت جدًّا عن شركتك.
(السواعي، المطاليبسي)
وشرح قيامة المسيح في خطبتين بليغتين، ورأى فيهما عربون قيامتنا، ولا نزال نقول
معه: «لا يخافن أحد من الموت؛ لأن موت المخلص قد حررنا، أين شوكتك يا موت، أين ظفرك
يا جحيم؟ قام المسيح وأنت غلبت، قام المسيح والملائكة يفرحون. قام المسيح واستقرت
الحياة، قام المسيح وليس ميت في القبر؛ لأن المسيح بقيامته من الأموات قد صار مقدمة
الراقدين.»
وحرِّض القديس على أعمال التقوى، ففي خطبته في شهداء مصر يوجب احترام ذخائر رجال
الله المقدسة، وفي خطبه في حنة أم صموئيل وشاوول وداود، وفي خطبه الثماني في سفر
التكوين يبين قديسنا لسلفائنا في هذه الكنيسة الأنطاكية المقدسة الأسباب الداعية
لتكريم ذخائر الشهداء، وأهمية الصوم ومنفعة التوبة وفوائد الصدقة وطهارة القلب،
ويطعن طعنًا عنيفًا في الملاعب العمومية، وألقى في كنيسة القديس بولس في أنطاكية
أيضًا ثمانيًا وثمانين خطبة في إنجيل يوحنا، فارتقى مع «التلميذ الحبيب» إلى البحث
في الجوهر، وتولد الكلمة المتأنس وتساوي الآب والابن في الجوهر.
ولاقى القديس يوحنا أعداء النصرانية ببرهان كلامه وحسن سيرته، فخص الكهنوت بكتب
ثلاثة كما سبق وأشرنا، وأنشأ ثلاثة كتب شديدة اللهجة في الدفاع عن الرهبان
والرهبانية، ودبَّج خمس مقالات في طبيعة الله الغير المدركة، ردَّ بها على أفنوميوس
وبدعته، وخصَّ اليهود بثماني خطب أبان لهم بها بطلان موقفهم من النصارى. وله إحدى
وعشرون خطبة في ثورة أنطاكية سرد فيها رذائل عاصمة الشرق أنطاكية، وتخلي الله عنها
وسقوطها في لجة الإثم، ثم أشار إلى كيفية التخلص، فأوجب الابتعاد عن السباب
والتجديف والتمسك بالتوبة والفضيلة.
وعني الذهبي الفم منذ صبوته بتفسير الأسفار المقدسة، فخص سِفر التكوين بسبع وستين
خطبة، ثم فسر الزبور، ولم يبقَ من هذا التفسير سوى ثماني وخمسين خطبة، وفسر أيضًا
بعض ما جاء في أشعيا وآرميا ودانيال، وله في إنجيل متَّى تسعون خطبة، وفي رسالة
بولس إلى أهل رومة اثنتان وثلاثون خطبة، وقد دحض فيها أضاليل بيلاجيوس وفظائع
المانويين.
وأورع ما جاء على يد هذا الرجل البار أربع وأربعون خطبة في تفسير رسالة بولس
الأولى إلى أهل كورنثوس، وشرح أيضًا الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، وفسر رسالة
الرسول إلى الغلاطيين ففنَّدَ أضاليل ماني ومرقيون وأنوميوس، وأنشأ أربعًا وعشرين
خطبة في رسالة بولس إلى أهل أفسس، وثمانيًا وعشرين في رسالته إلى تيموثاوس، وأربعًا
وثلاثين في الرسالة إلى العبرانيين، وقد اعتبرها من رسائل بولس.
وأقدم الطبعات لمؤلفات الذهبي الفم وأكملها طبعة الآباء البندكتيين التي ظهرت
باليونانية واللاتينية في آن واحد في باريز سنة ١٧١٣ في ثلاثة عشر مجلدًا، وقد أعيد
طبعها في البندقية سنة ١٧٣٤–١٧٤١، وفي باريز سنة ١٨٣٤–١٨٣٩. وفي السنوات ١٨٥٩–١٨٦٣
ظهرت طبعة مين
Migne في ثلاثة عشر مجلدًا، وقد
ترجمت هذه المؤلفات إلى لغات عديدة منها اللغة الإنكليزية، والإشارات في متن كلامنا
هي هذه الترجمة.
٦٦
وقد يلذ للقارئ أن يعلم أن إراسموس الشهير عني بمصنف الذهبي الفم في الكهنوت،
فنشره باليونانية في بازل سنة ١٥٢٥، وأن العالم الإنكليزي السر هنري سافيل Saville شغف بالذهبي الفم، فكرَّس معظم أوقات الفراغ
له، ورصد للتفتيش عن مصنفاته ثمانية آلاف استرليني؛ فأقضَّ بذلك مضجع زوجته وأثار
غيرتها، فهددت بحرق جميع ما جمع زوجها من آثار الذهبي الفم.