العودة إلى الأرثوذكسية
وكان يوستينوس قد نشأ يتكلم اللاتينية ويقول قول أساقفة رومة، فلما أدرك أن
المعارضة منوفيسية في الصميم، اضطر هو أن ينهج نهجًا أرثوذكسيًّا خالصًا،
٢ واندفع الشعب في سبيل هذا الإيمان القويم، فطالب الأسقف في الأحد الأول
بعد وصول يوستينوس إلى العرش وفي كنيسة الحكمة الإلهية، أن يقوم إلى الأمبون
Ambon وينادي بصحة أعمال الآباء في المجمع
المسكوني الرابع ففعل، ثم طالبوا بذكر أفيميوس ومقدونيوس ولاوون في الذبيحة فذكر،
وألحوا بلعنة سويروس الأنطاكي فلعن،
٣ وأوجبوا إعادة الإكليريكيين الأرثوذكسيين الذين أُبعِدوا عن مراكزهم،
فالتأم مجمع محلي في العشرين من تموز، وأقر ذلك ورفع قراره إلى الإمبراطور،
٤ فصدرت إرادة سنية إمبراطورية فرضت الاعتراف بالمجمع الخلقيدوني فرضًا،
وأوجبت إعداد نص جديد يحل محل الأينوتيكون، وقضت إرادة سنية أخرى بإبعاد الهراطقة
المونوفسيين عن وظائف الدولة وصفوف الجيش.
٥
وتجاوب الأرثوذكسيون فالتأم مجمع مقدس في أوروشليم في السادس من آب من هذه السنة
نفسها، واتخذ القرارات نفسها التي اتخذها مجمع القسطنطينية في العشرين من تموز،
وحذا الشاطئ اللبناني حذو القسطنطينية وأوروشليم، فاتخذ مجمع صور في السادس عشر من
أيلول قرارات مماثلة، وتظاهر الشعب تظاهرًا كبيرًا في كنيسة صور الكتدرائية، وقام
كيروس أسقف مريمينة المشتى في مجمع جمع زويلوس رفنية، وسويريانوس الرستن، وقوزمة حماة،
وأفسابيوس شيزر، فطلب لعن أسقف أبامية وقطعه ففر بطرس فرارًا،
٦ وأمر الإمبراطور بإلقاء القبض على سويروس الأنطاكي وقطع لسانه، فلاذ
سويروس بالفرار، فقام إلى سلفكية الساحل في التاسع والعشرين من أيلول وأقلع منها
إلى الإسكندرية حيث أقام مدة طويلة.
٧
وخيَّر الأساقفة الأنطاكيون بين القول بالطبيعتين وبين الاستقالة، فآثر اثنان
وثلاثون منهم الاستعفاء من الخدمة على الرضوخ والاعتراف بالمجمع الخلقيدوني، وكان
بين هؤلاء: بولس الإسكندرونة، وقسطنطين اللاذقية، وأنطونيوس حلب، ونونوس سلفكية الساحل،
وأيسيدوروس قنسرين، وبطرس أبامية، وتوما دمشق، وألكسندروس وادي بردي، وتوما يبرود،
ويوحنا تدمر، ويوحنا حوارين (أسقف الرهبان العرب)، وفيلوكسينوس منبج، وسرجيوس قورش،
وتوما مرعش، وبولس الرها، ويوحنا حران، وبولس الرقة، ومريون سورة، وماراس آمد, وتوما
دارا.
٨
واتُّخِذت إجراءات قاسية لإكراه الرهبان على القول بالطبيعتين، فطُرِدوا من أديرتهم
شبانًا وشيوخًا، أصحاء ومرضى ومقعدين، في حر الصيف وبرد الشتاء.
٩
مصر ملجأ الهراطقة
وتشاغل الأباطرة عن مصر وسياستها، فأطمعوا أبناءها في هيبة الحكم وروعته
فتطمَّعوا وراحوا يخادعون ويراوغون، ولولا الشقاق المزمن بين الفلاح والملتزم، لما
تمكَّنَ الروم من البقاء في مصر حتى ظهور الإسلام،
١٣ ومن هنا التجاء سويروس ويوليانوس وغيرهما من كبار المونوفيسيين إلى
وادي النيل، وإقامتهم فيه أعزاء الجانب لا ينالهم طالب ولا يطمع فيهم طامع، ومن هنا
أيضًا هذه الصلابة التي دفعت سويروس إلى متابعة العمل في أنطاكية وأبرشياتها بعد
خروجه منها،
١٤ ومن هنا كذلك أعمال يوحنا أسقف قسطنطينية الذي ظلَّ يمارس السلطة الروحية
في مسقط رأسه الرقة بعد استعفائه من الخدمة وخروجه من أبرشيته.
١٥
«وأقام سويروس في مصر عشرين سنة يدبر الكنيسة بنوَّابه ومراسلاته، ويحبِّر الكتاب
إثرَ الكتاب نقضًا «للبدع ودحضًا للمضللين» بهمةٍ لا تعرف الملل، ولا تتعثر بأذيال
الكلل، مجيبًا على مسائل السائلين، معطيًا الفتاوى السديدة في المشاكل الشرعية.»
١٦
وأكمل سويروس في مصر كتابه ضد يوحنا النحوي القيصراني الذي بدأ به في أنطاكية،
١٧ ثم اختلف مع يوليانوس الإليكرناسوسي فيما إذا كان جسد المسيح قابلًا
أو غير قابل الفساد، فانقسم المونوفيسيون في مصر إلى سويريين ويوليانيين، وما فتئوا
حتى الفتح الإسلامي.
١٨
زلزال أنطاكية (٥٢٦)
وتنوعت الكوارث الطبيعية في عهد يوستينوس واشتدت، فزُلزِلت الأرض في عين زربة،
١٩ وطفت المياه في الرها فغمرتها (٢٢ نسيان ٥٢٥)،
٢٠ وحلت صاعقة في بعلبك فأحرقت هيكلها،
٢١ وعمَّ الجفاف فلسطين بأسرها وطال أمده فحلَّ الجوع فيها، وفي التاسع
والعشرين من أيار سنة ٥٢٦ دهمت زلزلة كبرى أنطاكية، فخربتها تخريبًا وقضت على خمسين
ألفًا من السكان وعلى الأسقف إفراسيوس أيضًا.
٢٢
يوستنيانوس (٥٢٧–٥٦٥)
هو فلافيوس بتروس سباتيوس يوستنيانوس ابن أخت يوستينوس، وُلِد في توريزيوم
Tauresium مقدونية
٢٣ في السنة ٤٨٢، وقدم العاصمة في حداثته، فعني خاله الإمبراطور بتثقيفه
وتهذيبه، فأصاب شطرًا وافرًا من العلم، ولما تبوأ خاله عشر القسطنطينية كان
يوستنيانوس قد أنهى علومه وخبر الحياة السياسية وتحلى بالنضج والاتزان، ويقول
معاصروه إنه كان يميل إلى البساطة في العيش، لا يشرب الخمر ولا يأكل إلا القليل من
الخضراوات، وكثيرًا ما كان يصوم ليلتين ونهارًا بينهما،
٢٤ وجاء أيضًا أنه كان يحب مجالسة الأساقفة والرهبان للبحث في العقيدة
والدين، وأنه كان قد أخذ اللاهوت عن أكبر رجال عصره لاونديوس البيزنطي مؤسس اللاهوت
البيزنطي السكولاستيكي،
٢٥ ويجوز القول إن مغامرات يوستنيانوس في اللاهوت نشأت في بعض هذه الجلسات
التي أحياها الإمبراطور في قصره.
٢٦
أهدافه
وأراد يوستنيانوس أن يعيد إلى الدولة الرومانية سابق وحدتها السياسية، وأن يضرب
على أيدي الوثنيين واليهود والهراطقة؛ ليؤمن كنيسة واحدة جامعة،
٢٧ واعتبر نفسه مسئولًا أمام الله والناس عن الأمن والسلام في الدولة وفي
الكنيسة، فتدخَّلَ في شئون هذه تدخُّلًا منتظمًا لم يسبقه إليه أحدٌ من قبلُ، فلا قسطنطين
ولا ثيودوسيوس ولا غيرهما تدخل في أمور الكنيسة هذا التدخل المستمر المطلق
الصلاحية، ولا هذا ولا ذاك حاول أن ينظر في جميع المشاكل الكبيرة والصغيرة التي
اعترضت الأساقفة في علاقاتهم مع زملائهم ومع الإكليريكيين الخاضعين لسلطتهم؛ ومن
هنا هذا الاشتراع الكبير في المسائل الإكليريكية الذي تركه يوستنيانوس للخلف الصالح،
والذي لا يزال المرجع الرئيسي في القانون الكنسي حتى يومنا هذا.
٢٨ ولم يكتفِ هذا الرجل الفذ في تنفيذ قرارات المجامع المسكونية باقتباس
نصوصها وجعلها جزءًا من إراداته السنية، بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ لنفسه
صلاحية التفسير وكيفية التطبيق دون أن يستند في ذلك إلى أية سلطة كنسية.
٢٩
يوستنيانوس وتقدُّم رومة
وكان يوستنيانوس شديد الإيمان بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فما إن تبوأ خاله
عرش الإمبراطورية حتى عمد إلى إزالة الانشقاق بين كنيسة رومة الجديدة وكنيسة رومة
القديمة، واعترف يوستنيانوس ببطاركة خمسة: بطريرك لرومة القديمة، وآخَر لرومة الجديدة،
وثالث للإسكندرية، ورابع لأنطاكية، وخامس لأوروشليم،
٣٠ وخصَّ بطريرك رومة القديمة بلقب بابا، فخاطبه إما بهذا اللقب وحده أو
باللقبين بابا وبطريرك، وجاء في أحد القوانين الصادرة عنه أن أبرشية رومة الجديدة
تأتي بعد أبرشية رومة القديمة، واعتبر بابا رومة القديمة في إحدى الرسائل التي
وجهها إليه «رئيس جميع
الكنائس المقدسة»
caput omnium sanctarum ecclesiarum،
٣١ ولكنه على الرغم من هذا كله ظل يعتبر نفسه مسئولًا عن الدولة والكنيسة،
ورئيسًا لهذه كما كان لتلك.
٣٢
ثيودورة
وحرص يوستنيانوس أن يعلم كل شيء، وأن يدقق في كل شيء، وأن يقر كل شيء، وكان شديد
الإعجاب بمواهبه ومؤهلاته، لا يسمح لأحد من رجاله أن يعارضه في أمر، ولكنه على الرغم
من التظاهر بالعزم والحزم والثبات فإنه كان في قرارة نفسه مترددًا شديد التأثر
بآراء الحاشية، ولا سيما زوجته ثيودورة.
٣٣
ويقول بروكوبيوس المؤرخ في كتابه عن أسرار هذه الحقبة إن ثيودورة هذه تلطخت منذ
حداثتها بفساد المحيط حولها؛ لأنها نشأت في مسارح القسطنطينية ابنةً لمروِّض الدببة،
٣٤ ويقول شارل ديل الإفرنسي إن ثيودورة شغلت العاصمة فألهتها، لا بل
فتنتها، ثم جرَّت الخزي عليها،
٣٥ ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن بروكوبيوس كتب ليحطم يوستنيانوس وزوجته،
وأنه بالتالي راوٍ مغرض لا تُقبَل شهادته بدون تبصُّر وروية، ويجب ألا ننسى أيضًا أن
ثيودورة ترصنت بعد طيشها، وأنها أخرجت زوجها في كثير من الأحيان من مآزق
حرجة.
والمهم هنا هو أن نذكر ما كان لثيودورة من التأثير على زوجها، وألا ننسى أنها قالت
بالطبيعة الواحدة وعطفت على مَن شاركها هذا القول، وأنها ربما عرفت سويروس الأنطاكي
قبل زواجها من الإمبراطور، وأننا نجدها «عظيمة» في جميع المراجع المونوفيسية.
٣٦
اضطهاد غير المسيحيين
وأدى شعور يوستنيانوس بالمسئولية الدينية الملقاة على عاتقه بصفته إمبراطورًا
مسيحيًّا أرثوذكسيًّا، إلى أن يأمر بالتضييق على رعاياه غير المسيحيين ليصيروا
مسيحيين، وبدأ بهذا التضييق منذ أن شارك خاله يوستينوس في الحكم، فحرم الوثنيين
والسامريين والهراطقة حق الانتفاع من إرث آبائهم وأجدادهم، وحق توريث مَن لم يكن أرثوذكسيًّا،
٣٧ ثم حرم الكفار واليهود حق الشهادة على الأرثوذكسيين أمام المحاكم،
٣٨ وحق استرقاق الأرثوذكسيين،
٣٩ وأردف هذا كله بقانون آخر منع به المانويين والوثنيين والسامريين من
الاستفادة من أي حكم قانوني،
٤٠ ورأى ضروريًّا أن يقضي على عقائد الوثنيين وفلسفاتهم، فأمر في السنة
٥٢٩ بإقفال جامعة أثينة، فآثر دماسكيوس وزملاؤه الأساتذة النفي على التنصر، فأموا
بلاط كسرى وعاشوا في كنفه، وما فتئوا حتى انتهت الحرب الفارسية (٥٣٢) فقبل
يوستنيانوس بعودتهم إلى أوطانهم آمنين.
٤١
ونفذ يوستنيانوس قوانينه هذه بشدة وقساوة، واستعان في الوقت نفسه بالرهبان لوعظ
الوثنيين وتبشيرهم، فانتدب يوحنا الأفسسي أو الأسيوي لتبشير الوثنيين في جبال
أزمير وأفسس، فأحرز يوحنا نجاحًا عظيمًا وهدى ثمانين ألفًا، وأنشأ تسعًا وتسعين
كنيسة واثني عشر ديرًا.
٤٢
وُلِد يوحنا في الأرجح في بلدة أكل من ولاية آمد حوالي السنة ٥٠٧، وشارف
الموت وهو طفل، فدعا له وشفاه مارون الناسك العمودي في دير أرعاربتا في أجل،
فلما بلغ الرابعة أرسله أهله إلى الدير عملًا بأمر مارون، فأقام فيه حتى
الخامسة عشرة، وتوفي الناسك فانضم يوحنا إلى رهبان مار يوحنا الأورطي، فدرس
الأسفار وأجاد اللغتين اليونانية والسريانية، (وفي السنة ٥٢١) حين اضطهاد
الرهبان وتشريدهم خرج يوحنا معهم.
٤٣ ثم أمَّ القسطنطينية لينال عطف ثيودورة وينضم إلى مار
زعورا
Zooras ورفاقه، والظريف اللطيف
في هذا المبشر أنه لم ينقل إلى الموعوظين شيئًا من التعليم بالطبيعة الواحدة.
٤٤
وعلى الرغم من التضييق والتبشير، فإن الوثنية ظلت عائشة مدة غير يسيرة، فالرها
كانت وثنية في معظم سكانها في السنة ٥٤٠،
٤٥ والشرطة ضبطت في زوايا العاصمة في السنة ٥٦٢ عددًا من كتب السحر، فأوقفت
خمسة من كهنة الأوثان؛ واحدًا من أثينة، واثنين من أنطاكية، واثنين من بعلبك، وشوَّهتهم
ثم أركبتهم الجمال عراة، ودارت بهم في شوارع العاصمة وأحرقت كتبهم،
٤٦ ولدينا من الأدلة ما يجعلنا نعتقد أن هياكل بعلبك بقيت وثنية تقام فيها
الذبائح حتى السنة ٥٨٠،
٤٧ وأن شيئًا من الوثنية بقي لاحقًا بمصر حتى أوائل القرن السابع.
٤٨
واحترم الإمبراطور يوستنيانوس حقوق اليهود المدنية، وأذن لهم بحرية العبادة وإقامة
الشعائر الدينية، ولكنه لم يسمح لهم بالشهادة أمام المحاكم على المسيحيين
الأرثوذكسيين، ولم يأذن لهم بشراء أي شيء له علاقة بالكنيسة والكنائس، وادَّعَى أن
عددًا كبيرًا من اليهود لا يفقهون العبرية، فأمر باستعمال الترجمة السبعينية أو
ترجمة أكويلة
Aquila، ثم تدخل في أمور العقيدة
فحرَّم القول بالذفتيروسيس
Deuterosis (نكران
اليوم الآخر وقيامة الموتى)،
٤٩ وأمر بقطع مَن يقول هذا القول واعتباره وثنيًّا غير يهودي.
واتخذ السامريون موقفًا معاديًا من المسيحيين ودولتهم واعتصموا بجبال فلسطين،
فأمر يوستنيانوس بتدمير معابدهم،
٥٠ فثاروا في السنة ٥٢٩ ونادوا بيوليانوس إمبراطورًا،
٥١ فاضطر والي الشرق أن يجهز جيشًا لمحاربتهم، فاستعان بالقبائل العربية
وطوقهم تطويقًا، وقتل منهم عشرين ألفًا وسجن عشرين ألفًا آخرين وأمر بيوليانوس فقطع رأسه،
٥٢ ثم ثاروا ثانية في السنة ٥٥٥ فذبحوا إسطفانوس برو قنصل فلسطين وعددًا
من النصارى، ونجَّسوا الكنائس وأحرقوها، فأُخضِعوا ثانية وصُلِب زعماؤهم صلبًا.
٥٣
التضييق على الهراطقة
أبعد يوستنيانوس الهراطقة عن الوظائف والمهن الحرة، ومنع اجتماعاتهم وأغلق كنائسهم
كما سبق وأشرنا، وحرمهم حقوقهم المدنية قائلًا: «يكفي هؤلاء أن يؤذن لهم
بالعيش.»
ولم ينجُ من هذا التضييق سوى المونوفيسيين ولا سيما السويريين منهم، فيوستينيانوس
رأى التفاهم مع هؤلاء ممكنًا على أساس الاستمساك بنص الدستور النيقاوي وتفسيره على
طريقة كيرلس الإسكندري، ولمس في الوقت نفسه قوتهم المتزايدة في مصر، فرهبانهم هناك
ألَّفوا جيشًا متراصًّا مستعِدًّا لتنفيذ أوامر البطريرك. ولا يخفى أن يوستينيانوس
كان مؤمنًا مخلصًا يقول بكنيسة واحدة جامعة، وأنه كان لاهوتيًّا واسع الاطلاع أخذ
علمه هذا عن يد قطب أهل اللاهوت آنئذٍ وعميدهم لاونديوس الكبير،
٥٤ ومما تجب الإشارة إليه أن المؤرخين المونوفيسيين لمسوا إخلاص
يوستينيانوس في معالجة قضيتهم، فلم يهملوا الإشارة إلى ورعه واهتمامه بالفقراء.
٥٥
وزينت ثيودورة لزوجها وحسَّنت، فأشارت عليه منذ وصوله إلى العرش أن يسمح بعودة
الرهبان المونوفيسيين والأساقفة من منافيهم إلى أوطانهم ففعل، وعاد منذ السنة ٥٣١
إلى آمد والرها جميع الرهبان المونوفيسيين الذين كانوا قد لجئوا إلى البادية،
٥٦ ثم حبَّبت إليه إقامة بعض الرهبان المونوفيسيين في العاصمة فسمح بهذا
أيضًا، وأمَّ العاصمة أساقفة مونوفيسيون ثمانية وعدد كبير من الرهبان، وانتظم هؤلاء
برعاية ثيودورة وإدارة مار زعورا
Zooras في دير ما
وراء القرن الذهبي أقيمت فيه الصلوات بحضور الإمبراطورة وحاشيتها.
٥٧
مؤتمر في القسطنطينية (٥٣٣)
وركن المونوفيسيون إلى يوستنيانوس، فرفعوا إليه طلبًا ضمنوه بيانًا بمعتقدهم،
فتراءى للإمبراطور أنه بإمكانه أن يعيدهم إلى الإيمان القويم بواسطة مؤتمر يضم
ممثلين عنهم وعن الكنيسة الأم، ودعا الإمبراطور إلى هذا المؤتمر ستة أساقفة عن كل
جانب، ووجه دعوة خصوصية إلى سويروس الأنطاكي زعيم المونوفيسيين، ولكن سويروس اعتذر
ولم يحضر.
وعقد هذا المؤتمر جلساته في قصر الهورميذدة في السنة ٥٣٣ فترأس الجلستين الأولى
والثانية قومس العطايا
Comes Sacrarum Largitionum،
وشرف الثالثة والأخيرة الإمبراطور بشخصه، ووافق الأساقفة الشرقيون المونوفيسيون
زملاءهم ممثلي الكنيسة الأم على شجب أقوال أوطيخة، ووجوب دعوة المجمع المسكوني
الرابع للنظر في البدعة في خلقيدونية، ثم اختلفوا في الجلسة الثانية حول القول
بالطبيعتين، فأقام المونوفيسيون شهادة ديونيسيوس الآريوس باغوسي وأشاروا إلى مؤلفات
نسبوها إليه لأول مرة في تاريخ الفكر اليوناني، ثم أبرزوا نصوصًا أخرى اعتبرها
زملاؤهم الأرثوذكسيون مزورة، وعبثًا حاول يوستنيانوس في الجلسة الثالثة التقريب بين
الطرفين، ولم يعترف بصحة موقف الكنيسة الأم من جميع الأساقفة المونوفيسيين سوى
فيلوكسينوس أسقف دولك، وأصر الخمسة الآخرون على شجب تساهل المجمع الخلقيدوني في أمر
إيبا وتيودوريطس.
٥٨
أحد الثالوث تألم في
الجسد Unus de Trinitate passus
وتابع الإمبراطور سعيه للتقريب بين المونوفيسيين والأرثوذكسيين، فأصدر في الخامس
عشر من آذار سنة ٥٣٣ وفي السادس والعشرين من هذا الشهر نفسه أيضًا إرادتين سنيتين
إمبراطوريتين أبان فيهما موقفه من النزاع القائم حول الطبيعة الواحدة والطبيعتين،
فأهمل ذكر أي مجمع مسكوني وتحاشى الإشارة إلى «الطبيعتين»، وأكد وحدة شخص السيد
المسيح على طريقة الرهبان السكيتيين الذين قالوا بتألم الإله
Theopaschites،
٥٩ فأغضب الرهبان الذين «لا ينامون»
Akoimetoi٦٠ ولم يُرض المونوفيسيين!
ونظر البابا يوحنا الثاني في هذا النص اليوستنياني بناء على طلب الإمبراطور نفسه،
وشاور الشماس الأفريقي فران
Ferrand، ووافق على نص
الإرادة الإمبراطورية ومضمونها، وشجب موقف الذين لا ينامون.
٦١
سويروس ويوستنيانوس (٥٣٥)
وكدَّتْ ثيودورة للمونوفيسيين وسعت، فعلمت بقرب أجل تيموتاوس الثالث بطريرك
الإسكندرية، فأرسلت في مطلع السنة ٥٣٥ أحد خدامها الخصي كالوتيخيوس
Kalotychios إلى مصر، فحضَّ السلطات فيها على
مساعدة ثيودوسيوس الشماس أحد تلاميذ سويروس الأنطاكي،
٦٢ وفي شهر حزيران توفي أبيفانيوس بطريرك القسطنطينية، فتدخلت ثيودورة
وجعلت زوجها والأساقفة يوافقون على سيامة أنثيموس أسقف طرابزون بطريركًا على رومة
الجديدة، وكان أنثيموس هذا يتظاهر بالأرثوذكسية ويُبطِن القول بالطبيعة الواحدة،
فلما تبوأ العرش القسطنطيني وجه رسالته السلامية إلى سويروس وثيودوسيوس معتبرًا كلًّا
منهما أسقفًا شرعيًّا، متناسيًا خلع سويروس عن عرش أنطاكية، وقيام إفراميوس بطريركًا
أرثوذكسيًّا على سدة الرسولين.
٦٣
وكان يوستنيانوس قد دعا كلًّا من: سويروس الأنطاكي وتيموثاوس الإسكندري إلى التشاور
في أمر الاختلاف القائم، فاستوفى تيموثاوس أنفاسه وطاحت روحه، وقام سويروس يلبي
الدعوة في صيف السنة ٥٣٥، فنهض إلى القسطنطينية وأقام فيها سنة كاملة، واستصحب
سويروس تلميذه بطرس أسقف أبامية للتعاون في الإقناع والتبشير، وبينما كان سويروس
وبطرس يسعيان لاجتذاب الشخصيات الإكليريكية العالية، كان مار زعورا يُطلق لنفسه عنان
هواه في الأوساط الشعبية، وغلا وجاوز الحد فعمد أبناء بعض العائلات المعروفة في يوم
عيد الفصح في الثالث والعشرين من آذار السنة ٥٣٦،
٦٤ وطبع الله على بصيرة مونوفيسي آخر إسحاق الفارسي فتجرأ وثقب عيني
الإمبراطور في إحدى صوره الزيتية؛ لأنه «لم يرضَ عن فتوره»!
٦٥
البابا أغابيتوس
وكان ثيوداتوس ملك القوط قد طلب إلى أغابيتوس بابا رومة أن يفاوض يوستنيانوس في
سياسته ومطامعه في إيطالية، ووصل أغابيتوس إلى القسطنطينية في الثاني من شباط سنة
٥٣٦ فاستقبل استقبالًا حافلًا حارًّا، وآثر البابا الدين على السياسة، وكان رجلًا
تقيًّا جليلًا، فعلم بما في الزوايا من خبايا، فدعا أساقفة القسطنطينية ومقدمي
الكهنة فيها إلى مجمع محلي برئاسته، وقطع فيه أنثيموس ومَن شاركه رأيه، ثم انتخب
الإكليروس والإمبراطور والشعب ميناس بطريركًا على القسطنطينية،
٦٦ وفرَّ أنثيموس ولجأ إلى القصر واختبأ فيه اثنتي عشرة سنة،
٦٧ وأصغى أغابيتوس إلى شكاوى رهبان العاصمة ورهبان سورية وفلسطين من سياسة
سويروس واعتداءاته، فاقترح عقد مجمع ينظر في هذه الشكاوى وفي قضية أنثيموس وغيرها،
ووافق الإمبراطور، ولكن أغابيتوس انصرف إلى جوار ربه في الثاني والعشرين من
نيسان.
قطع سويروس الأنطاكي
والتأم مجمع في القسطنطينية في الثاني من أيار سنة ٥٣٦ برئاسة ميناس البطريرك
الجديد، وعضوية أساقفة الكرسي القسطنطيني، وأساقفة الوفد الروماني، ووكيلَيْ بطريرك
أنطاكية وبطريرك أوروشليم. ودعا المجمع أنثيموس للدفاع عن نفسه أولًا وثانيًا
وثالثًا، فلم يحضر، فجُرِّد من صلاحياته الروحية بما في ذلك صلاحيات الكهنوت وخُلع
وقُطع، وبعد الاتصال بالإمبراطور قُطع سويروس الأنطاكي وأُبطِلت مصنفاته، وقُطع أيضًا
بطرس أسقف أبامية السابق والراهب مار زعورا،
٦٨ وفرَّ سويروس والتجأ إلى مصر ثانيةً، فلم يرضَ اليوليانيون عنه، فاختبأ في
إحدى القرى، وما فتئ أن لفظ أنفاسه في السنة ٥٣٨.
٦٩ وأصر مار زعورا وإخوانه الرهبان المونوفيسيون على البقاء في
القسطنطينية، فطُرِدوا منها طردًا.
٧٠
إفراميوس بطريرك أنطاكية (٥٢٧–٥٤٥)
وخلف إفراسيوس في الكرسي الأنطاكي إفراميوس الآمدي، وكان إفراميوس قومس الشرق
فاضطر أن يتدخل في شئون أنطاكية السياسية في السنة ٥٢٥ ليقضي على مشادة عنيفة كانت
قد نشبت بين الزرق والخضر، فأُعجِب الأنطاكيون باتزانه وعدله وجمال خلقه، وقام في
سلفكية الساحلية (السويدية) أثر يشيد بفضل هذا القومس العادل،
٧١ ثم دُهمت أنطاكية بزلزال السنة ٥٢٦ وتهدمت بيوتها وأبنيتها العمومية
وكنائسها، وتوفي أسقفها إفراسيوس تحت الأنقاض، فجاءها القومس إفراميوس مرة ثانية
يُعينها على النهوض من كبوتها، فتعلق الناس به ورأوا في شخصه خلفًا صالحًا للرسولين،
فسيم أسقفًا على أنطاكية في نيسان أو أيار السنة ٥٢٧،
٧٢ وكان إفراميوس أرثوذكسيًّا صادق العهد وفيًّا ملمًّا بالعلوم الإلهية
مؤلفًا كاتبًا،
٧٣ فدافع عن الأرثوذكسية دفاعًا شديدًا.
وكان يوستنيانوس لا يزال ينفق في
سبيل إنهاض أنطاكية من الكبوة التي حلت بها بعد زلزالَيِ السنة ٥٢٦ و٥٢٨، فلما قارب
العمل النهاية اقترح القديس سمعان العمودي «الأصغر» على الإمبراطور أن يطلق على
أنطاكية الاسم «مدينة الله» تعوذًا، فوافق يوستنيانوس على هذا الاقتراح، ولا تزال
أنطاكية مدينة الله حتى يومنا هذا. وقام إفراميوس في السنة ٥٣١ ينفذ إرادة
إمبراطورية يوستينية فطالَبَ بنفي مَن قال بالطبيعة الواحدة في أنطاكية، فقاومه العوام
في ذلك وتدخلت السلطة فجرت حوادث مؤلمة،
٧٤ وما إن صدر قرار المجمع القسطنطيني بقطع سويروس وحرق مصنفاته في السنة
٥٣٦، حتى هبَّ إفراميوس ينفذ بالشدة التي عرف بها، فأعاد اضطهاد المونوفيسيين
وتشريدهم، وجاب البلاد يفتش عن زعمائهم، ووصل إلى حدود فارس جادًّا في طلب
ديونيسيوس أسقف قسطنطينة، فقيل له إنه عبر الحدود والتجأ إلى المرزبان في نصيبين،
فاتصل إفراميوس بالمرزبان وتسلَّم ديونيسيوس وحبسه في دير على باب أنطاكية وشدَّد
عليه، «فصبر هذا على مكروه عظيم» حتى انقضت أنفاسه.
٧٥ وجاء في بعض المراجع أن إفراميوس أمر بإحراق بعض مَن أصرَّ على غيِّه
ومضى في طغيانه من هؤلاء المونوفيسيين.
٧٦
ويقول ميخائيل المؤرخ السرياني إن إفراميوس سافر إلى الرها محاولًا إقناع أهلها
بتقبل قرارات المجمع الخلقيدوني، وإنه توجَّهَ إلى بلاد فارس وسنجار للغاية نفسها
فاجتذب كثيرين، وإنه قصد الحارث بن جبلة وحدثه في الموضوع نفسه ولكنه عجز عن إقناعه.
٧٧
ونجد هذا البطريرك في مطلع السنة ٥٤٠ متعاونًا مع زميله بطرس الأوروشليمي
وبيلاجيوس وكيل الحبر الروماني جالسًا في غزة فلسطين، ناظرًا في قضية بولس بطريرك الإسكندرية.
٧٨
إسطفانوس بار صوديلي والأوريجينية الجديدة
وقام في الرها في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الراهب السرياني إسطفانوس بن
صوديلي، يدعو إلى أوريجينية جديدة تستند إلى تعاليم أوريجينس الإسكندري وتقول بشيء
من وحدة الوجود، فنبذه الرهاويون وطردوه، فلجأ إلى فلسطين إلى محابس الرهبان إلى
رهبان من أهل مذهبه، وكان القديس سابا لا يزال في قيد الحياة فنهى الرهبان عن هذه
الأقوال، وكاشف إسطفانوس بار صوديلي بالمقاومة، ورحل إلى القسطنطينية يطلب المعونة
للقضاء على الأوريجينية الجديدة،
٧٩ ولكنه ما كاد يعود إلى فلسطين حتى انتقل إلى دار القرار (٥٣٢)، فضاعف
الأوريجينيون جهودهم وبثوا دعايتهم في دير مار سابا نفسه، فقاومهم الساباويون
وطردوا أربعين راهبًا من رهبانهم اتهموا بالأوريجينية (٥٣٩)، وشد أزر الأوريجينيين
اثنان منهم كانا قد نالا حظوة في عيني يوستنيانوس (٥٣٦)، فأمر بترقيتهما إلى رتبة
الأسقفية، وتدخل هذان الأسقفان ثيودوروس إسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية، ودوميتيانوس
أسقف أنقيرة في الأمر، فقضت الإرادة السنية بوجوب إبعاد أشد الرهبان عداوة
للأوريجينية عن دير القديس سابا، فخرج من هذا الدير ستة من كبار الرهبان عُرِفوا
بعداوتهم لبار صوديلي وفلسفته.
والتجأ الستة الكبار إلى إفراميوس بطريرك أنطاكية فقبلهم، وعقد مجمعًا أنطاكيًّا
وشجب الأوريجينية، فضغط الأوريجينيون في فلسطين (٥٤١) على بطرس بطريرك أوروشليم،
موجبين حذف اسم إفراميوس الأنطاكي من الذبتيخة، فأرسل بطرس وفدًا إلى القسطنطينية
يبين واقع الحال ويرجو اتخاذ موقف واضح من أورويجينس ومؤلفاته، فكان من ميناس بطريرك
القسطنطينية أن عقد مجمعًا محليًّا بموافقة الإمبراطور حكم فيه على أوريجينس وتعاليمه.
٨٠
هيرارخية مونوفيسية
وتسابق سويروس الأنطاكي ويوحنا التلاوي إلى حياض المنية، فتوفي الأول في الثامن من
شباط سنة ٥٣٨، وسبقه الثاني بيومين لا ثالث لهما،
٨١ وكان أنثيموس الطرابزوني لا يزال مختبئًا في حمى ثيودورة، وكذلك
ثيودوسيوس بطريرك الإسكندرية السابق، فإنه كان مبعدًا في تراقية لا يستطيع القيام
بأي عمل روحي، فلاحت بارقة أمل للإمبراطور وكبار رجال الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق
والغرب معًا أن تتقطع حبال السلطة المونوفيسية، فيجيء يوم يصبح فيه المونوفيسيون
بدون رؤساء روحيين يدبرون أمورهم.
ولكن ثيودورة ظلَّت تداهن وتصانع فتمكنت من نقل ثيودوسيوس الإسكندري من منفاه من
ذركوسة تراقية إلى القسطنطينية، وتمكن هو من استصحاب يمينه الأسقف يوحنا (الراهب
الفلسطيني)، وما إن تم لثيودورة هذا حتى دفعت بثيودوسيوس ويوحنا إلى الاهتمام
برعاية المونوفيسيين في آسية، وسيامة الكهنة ورؤساء الكهنة لخدمتهم وتدبير أمورهم،
والواقع أن يوحنا الفلسطيني هذا عبر البوسفور مرارًا مستترًا بداعي المرض، فجاب
ولاية آسية بأسرها متفقدًا شئون المونوفيسيين ناظرًا في احتياجاتهم.
٨٢
وتفيد المراجع الأولى أن الحارث بن جبلة الأمير الغساني اتصل بثيودورة سنة ٥٤٣
ورجاها أن تعيِّن أسقفًا يرعى شعبه، فأحالت الإمبراطورة طلبه على ثيودوسيوس
الإسكندري، فسام هذا ثيودوروس رئيسًا على أساقفة بصرى، ويعقوب البرادعي أسقفًا على
الرها ومتروبوليتًا مسكونيًّا.
٨٣
ويرى ثيودور نولدكه مؤرخ الغساسنة أنه ليس ثمة من أساس تاريخي للعلاقة الأولى بين
الحارث الغساني وبين يعقوب البرادعي مؤسس الكنيسة السريانية القائلة بالطبيعة
الواحدة، التي تُدعَى أحيانًا كنيسة اليعاقبة؛ ومما يذهب إليه نولدكه أن بعض رجال
الاختصاص صبغوا هذه العلاقة بمسحة من الإعجاز
٨٤ لا تتفق والواقع التاريخي، ويؤكد هذا العلامة أن الحارث بن جبلة لم
يرحل إلى القسطنطينية في هذه الحقبة، وأن ما جاء من هذا القبيل في كلام المتقدمين
والمتأخرين هو خطأ فاضح.
٨٥
وُلِد يعقوب ابن القس ثيوفيلوس بن معنو في تل موزل، وترهب في دير فسيلتا القريب من
مسقط رأسه، وأجاد السريانية واليونانية، وفي السنة ٥٢٨ رحل إلى القسطنطينية مع مَن
رحل إليها من الرهبان المونوفيسيين، وهو في نظر غبطة بطريرك السريان «أشهر الأحبار
ورعًا وطهرًا، وأكبر المجاهدين الرسوليين في نصرة المعتقد القويم ونخبة النساك
الصوَّامين القوَّامين ذوي الصلاح والدين المتين».
٨٦
وما كاد يعقوب البرادعي يصير أسقفًا على يد ثيودوسيوس، حتى طفق يطوف متنكرًا
مرشدًا مشجعًا مؤسسًا، ومما يُروَى عنه أنه سام في رحلاته العديدة سبعة وعشرين أسقفًا
وبضعة آلاف شماس وقس، وأنه زار مصر ورسم فيها اثني عشر أسقفًا، وشملت رحلاته آسية
الصغرى وسورية وما بين النهرين وفارس ومصر وقبرص ورودوس وغيرهما من الجزر، وأعطى
يعقوب المنوفيسيين بعمله هذا ملاكًا إكليريكيًّا خصوصيًّا، ولكنه مزَّق كنيسة
أنطاكية إذ جعل من الأسقفية الواحدة أسقفيتين، ومن الكنيسة الواحدة كنيستين، وأقام
على هذه الحال خمسًا وثلاثين سنة فاعتُبِر بحق أحد مؤسسي الكنيسة السريانية، ونُسِبت
هذه إليه فدُعِيت يعقوبية وعُرِف أبناؤها باليعاقبة،
٨٧ وهذه أسماء خلفاء سويروس الأنطاكي حتى الفتح الإسلامي:
سويروس |
٥١٢–٥٣٨ |
سرجيوس |
٥٣٨–٥٦٢ |
بولس |
٥٦٤–٥٨١ |
بطرس |
٥٨١–٥٩١ |
يوليانوس |
٥٩١–٥٩٤ |
أثناسيوس |
٥٩٥–٦٣١ |
يوحنا |
٦٣١–٦٤٩ |
الفصول الثلاثة (٥٤٤-٥٤٥)
واتفق أن كان في البلاط ثيودروس أسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية ودوميتيانوس أسقف
أنقيرة، وهما الراهبان الفلسطينيان اللذان رحلا إلى القسطنطينية سنة ٥٣٦ ليدافعَا عمَّن
قال بالأوريجينية الجديدة من رهبان فلسطين، فنالا الحظوة لدى الإمبراطور ورقيَا إلى
رتبة الأسقفية، وبقيَا بين العاصمة وآسية، وكان ثيودوروس لا يزال يحقد على بيلاجيوس
ممثل رومة، وجيلاسينوس رئيس أخوية القديس سابا؛ لما أبدياه من النشاط في ملاحقة
الرهبان الذين قالوا بالأوريجينية الجديدة في فلسطين، فرأى هذا الأسقف الأوريجيني
«الباطني» أن يحقر سميه ثيودوروس المبسوستي مقابل تحقير أوريجنس لتعلق جيلاسينوس
وأتباعه به وتعظيمهم له، ولا يخفى أن ثيودوروس المبسوستي كان قد انتقد أوريجينس
وتفاسيره الرمزية.
واستدعت رومة بيلاجيوس عام ٥٤٣ فأضحى الأسقف ثيودوروس أشد المستشارين أثرًا في
نفس الإمبراطور، وكانت ثيودورة لا تزال تداور زوجها وتدامله لتصلح بينه وبين
جماعتها المونوفيسيين، فشجعت ثيودوروس على موقفه من سميه المبسوستي ونصحت إليه أن
يطلع زوجها على رأيه، فانتهز ثيودوروس ظرفًا ملائمًا في إحدى سهراته في مكتبة
القصر، ولفت نظر يوستنيانوس إلى إمكانية كسب المونوفيسيين بشجب مصنفات النساطرة
الذين تبرَّءوا في المجمع الخقيدوني،
٨٨ فأصغى يوستنيانوس إليه، ثم شاور نفسه فصوَّب رأي ثيودوروس، وأصدر إرادة
سنية جديدة حرَّم فيها تعاليم ثيودوروس الموبسوستي وثيودوريطس القورشي وإيبا
الرهاوي.
وجاءت هذه الإرادة الإمبراطورية في ثلاثة فصول، ومن هنا القول الفصول الثلاثة،
وقد ضاع نص هذه الإرادة ولم يبقَ منه سوى بعض شذرات منثورة هنا وهناك، ويعود الفضل
في جمع هذه الشذرات إلى العلامة شوراتز الذي عانى مشقةً في مضاهاة النصوص الباقية
وضمها بعضها إلى بعض ليؤلِّف منها مجموعًا موحدًا متسلسلًا متواصلًا.
٨٩
ولا يخفى أن ثيودوروس الموبسوستي جعل من اتحاد الكلمة بالناسوت في المسيح مجرد
سكنى وتلطف ومسرة
eudoxia، لا اتحادًا في
الجوهر
ousia، فأصبحت السيدة في نظره
أم إنسان
anthropotoxos وأم إله
theotoxos! وأهم ما أُخِذ على ثيودوريطس القورشي
اعتراضه على البند الثاني عشر من بنود كيرلس الإسكندري، الذي نصَّ على أن «الله
الكلمة تألَّمَ وصُلِب ومات في الجسد». أما إيبا الرهاوي فإنه نقل تعاليم ثيودوروس إلى
السريانية، وفنَّد أعمال مجمع أفسس في رسالة وجَّهَها إلى ماري أسقف أردشير.
٩٠
وطلب يوستنيانوس إلى جميع الأساقفة في الشرق والغرب معًا أن يوافقوه على شجب هذه
المصنفات والأقوال، فتردد إفراميوس بطريرك أنطاكية مدةً ثم وافَقَ قبيل وفاته،
٩١ ولم يرضَ أساقفة الغرب عن هذه الفصول، وجاراهم في ذلك البابا فيجيليوس،
وكتب أسقف قرطاجة إلى الإمبراطور أنه لا يجوز إيقاع الحرم بشخص بعد موته، واستخف
المونوفيسيون بعمل الإمبراطور؛ لأن نص الإرادة بتحريم الفصول الثلاثة حوى أيضًا
تحريمًا مماثلًا لمَن فكَّر في إبطال مقررات المجمع الخلقيدوني.
٩٢
فاستدعى يوستنيانوس البابا إلى القسطنطينية، فحضر إليها وانتهى بالنزول عند إرادة
الإمبراطور، فأنشأ رسالته المعروفة بالجوديكاتوم
Jvdicatvm، وفيها شجب الفصول الثلاثة (٥٤٨)، ولكن أساقفته
انتقضوا عليه وعينوا له وقتًا للندامة، فلبث فيجيليوس في القسطنطينية ورجع عن قوله
في الجوديكاتوم، ثم أصدر يوستنيانوس أمرًا ثانيًا (٥٥١) بشجب الفصول الثلاثة وطلب
الموافقة عليه، فأبى فيجيليوس ودخل كنيسة القديس بطرس في قصر الهورميزدا واحتمى بها
مستمسكًا بعمود المائدة، فسحبه الجند بالقوة فانسحب العمود معه وسقطت المائدة.
٩٣
دومنينوس البطريرك (٥٤٥–٥٥٩)
وتوفي إفراميوس في السنة ٥٤٥ فاهتم يوستنيانوس للأمر اهتمامًا بالغًا، وأخذ يبحث
بنفسه عن خلف صالح للرسولين في أنطاكية، فتقدم عدد من الكهنة مرشحين أنفسهم لهذا
المنصب الكبير، واتفق أنْ أمَّ العاصمةَ آنئذٍ دومنينوس
Domninos رئيس إحدى المؤسسات الخيرية في ليخنيذس
Lychnidos في تراقية، وما إن تعرف الإمبراطور إلى
شخص هذا الرجل الصالح الوقور، حتى أوعز بانتخابه بطريركًا على أنطاكية العظمى. وهو
ذومنينوس لاذومنوس بدليل الكتابة اليونانية التي أُنشِئت في الجوَّانية لذكر هذا
الراعي الصالح في السنة ٥٥٤،
٩٤ ولنا في كره السريان له واعتباره «أكولًا نهمًا لا يعمل شيئًا سوى ركوب
الخيل والاضطهاد»، دليلٌ على اندفاعه الشديد في سبيل المحافظة على الإيمان القويم.
٩٥
المجمع المسكوني الخامس (٥٥٣)
ورأى يوستنيانوس أن يضع حدًّا للنزاع حول الفصول الثلاثة، فشاور في الدعوة إلى
مجمع مسكوني خامس ينظر في هذا النزاع ويبتُّ فيه، وتوفي في أثناء المشاورة ميناس
بطريرك القسطنطينية، فخلفه أفتيشيوس الراهب البونطي، وأعلن أفتيشيوس تسلمه عكاز
الرعاية إلى البابا فيجيليوس المقيم في القسطنطينية (٦ كانون الثاني ٥٥٣)، وأرفق
رسالته السلامية هذه ببيان بالإيمان موقَّع منه ومن أبوليناريوس بطريرك الإسكندرية،
وذومنينوس بطريرك أنطاكية، وإيليا رئيس أساقفة تسالونيكية،
٩٦ ولمس فيجيليوس أرثوذكسية زملائه لمس اليد، فوافق على الدعوة إلى مجمع
مسكوني ينعقد برئاسته لينظر في أمر الفصول الثلاثة.
٩٧
وأحب بابا رومة أن يجتمع المجمع في صقلية أو إيطالية ليضمن أكثرية غربية أفريقية،
ولكن يوستنيانوس أوجب المساواة بين البطريركيات الخمس ورومة القديمة ورومة الجديدة
والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، وذلك بإرسال عدد مماثل من الأساقفة من كلٍّ من هذه البطريركيات،
٩٨ واحتج البابا ولكن الإمبراطور لم يعبأ به.
واجتمع المجمع في القصر البطريركي في جوار كنيسة الحكمة الإلهية في الخامس من
أيار سنة ٥٥٣ برئاسة أفتيشيوس البطريرك القسطنطيني، وعضوية كلٍّ من أبوليناريوس
بطريرك الإسكندرية ودومنينوس بطريرك أنطاكية ومائة وخمسة وأربعين أسقفًا.
وتألَّفَ الوفد الأنطاكي من: دومنينوس البطريرك، ودوميتيوس قنسرين، وديونيسيوس
سلفكية الساحلية، وتوما أبامية، وثيودوتوس سلفكية أسورية، وبولس أدراسوس، وبطرس
دوميتيوبوليس، وبطرس طرسوس، وكبريانوس كوريكوس، وقوزمة مالوس، وإيثيريوس عين زربة،
وباسكاسيوس إيجة، ونيقيطاس أبيفانية قيليقية، وثيودوروس منبج، ويوحنا قيصرية
الجديدة التي على الفرات، ويوليانوس بلقيس
Zeugma،
وأمازون الرها، ويوليانوس سروج
Batnae، وتوما قرقيسية،
وتوما قسطنطينة، ونونوس دوسر، وسرجيوس هيميرية، وكيرياكوس آمد، وثيودوروس إنجل
Ingel، ويوحنا بصرى، وذوريمانيوس درعة، وأفسابيوس صور،
وزوسيموس طرطوس، وأسينكراتيوس أرواد، ولاونديوس عرقة، وإسطفانوس البترون، وثيودوسيوس
جبيل، وجاورجيوس عكة، وأنسطاسيوس رخلة
Rachlé،
وأفستاثيوس دمشق، ويوحنا برقش (الغوطة)، وثيودوروس جيرود
Gorada، وإفلوغيوس مهين
Danaba،
وثيودوروس اللاذقية، وإسطفانوس اللاذقية، وإسطفانوس بانياس الساحلية، ورومانوس جبلة،
وإبراهيم الرصافة، وإسطفانوس دارا.
٩٩
وتُلِيت رسالة يوستنيانوس وفيها استمزاج الأعضاء في أمر الفصول الثلاثة، وتلميح إلى
أن معظم الأساقفة سبق لهم أن شجبوا تعاليم الأنطاكيين الثلاثة، ثم تقرر أن ينتقل
وفد من الأساقفة إلى مقر البابا فيجيليوس ليدعوه باسم المجمع إلى الاشتراك في أعمال
المجمع، فقام وفد مؤلف من البطاركة الثلاثة وعدد كبير من الأساقفة واتصلوا
بفيجيليوس وأبلغوه قرار المجمع، فشكا البابا من مرض ألَمَّ به واستمهل المجمع بعض
الوقت قبل القبول أو الرفض، ثم أعاد الوفد الكرة في اليوم التالي فأجاب فيجيليوس
أنه لا يشترك في أعمال المجمع ما لم يشترك معه أساقفة إيطاليون آخرون،
١٠٠ فترأس المجمع بطريرك القسطنطينية، وأقر جميع أعمال المجامع المسكونية
السابقة، وفي الثاني عشر من أيار أو الثالث عشر دقق المجمع قضية الفصول الثلاثة.
١٠١
وفي الرابع عشر من أيار قدم فيجيليوس بابا رومة إلى الإمبراطور
مذكرة
Constitutum١٠٢ استعرض فيها موقفه من الفصول الثلاثة، منذ أن أُثِيرت قضيتها حتى اليوم
الذي حرر فيه مذكرته، وأبان فيجيليوس في هذه المذكرة أشياء عديدة لام فيها ثيودوروس
الموبسوستي، ولكنه امتنع عن شجب ثيودوروس بعد وفاته، ولا سيما وأنه توفي في حضن
الكنيسة الجامعة، وامتنع أيضًا عن نبذ ثيودوريطس وإيبا؛ لأن المجمع المسكوني الرابع
استمع إليهما وبرَّأهما من النسطرة،
١٠٣ ورفض يوستنيانوس تناول هذه الوثيقة الباباوية مدعيًا أنها عديمة الجدوى،
مؤكدًا أن البابا سبق له أن نبذ الفصول الثلاثة، وأنه إذا دافع بوثيقته الجديدة عما
نبذ من قبلُ يكون قد ناقض نفسه وأضعف حجته.
١٠٤
وفي السابع عشر والتاسع عشر من أيار عاد المجمع يدقق قضية الفصول الثلاثة، وفي
الثاني من حزيران في الجلسة الثامنة الأخيرة، أجمع الأعضاء على نبذ جميع مصنفات
ثيودوروس الموبسوستي، وعلى استنكار موقف ثيودوريطس من مجمع أفسس وبنود كيرلس،
وأبانوا بوضوحٍ كفرَ إيبا وإلحاده في الرسالة التي وجهها إلى ماري، واعتبر يوستنيانوس
قرارات هذا المجمع مُلزِمة، وأكره الأساقفة على قبولها، ونفى حاشية فيجيليوس إلى صعيد
مصر، وترأف بالبابا نفسه؛ لأنه كان يشكو من داء الحصى، فأبقاه في القسطنطينية ولم
يبعده عنها، كما جاء في بعض المراجع،
١٠٥ وبعد ستة أشهر وافق فيجيليوس على قرار المجمع وحرر بذلك إلى زميله
القسطنطيني، وأصدر مذكرة ثانية
Constititum تنقض ما
جاء في الأولى (شباط ٥٥٤)، وبقي فيجيليوس في القسطنطينية سنة أخرى ولم يبرحها قبل
أن نال من الإمبراطور موافقته على نظام جديد لإيطالية، وأقلع إلى رومة ولكنه توفي
في سرقوصة قبل أن يصل.
ضلال يوستنيانوس
وتوفيت ثيودورة بداء السرطان في السنة ٥٤٨، فانكشف أمر أنثيموس البطريرك
المونوفيسي، وتبين أنه عند خلعه التجأ إلى الإمبراطورة فخبأته في قصرها، وتبين أيضًا
أنها أوصت بإكرامه وإكرام غيره من الإكليروس المونوفيسي الذين كانوا قد التجئوا
إليها وأقاموا في ظلها، وما إن أُدرجت وسُوِّي عليها التراب، حتى استدعى يوستنيانوس
إليه كلًا من أنثيموس وثيودوسيوس البطريركين المونوفيسيين المبعدين، ظانًّا أن وفاة
حاميتهما ستجعلهما أقل تصلفًا من ذي قبلُ، وأكثر استعدادًا للتفاهم مع الكنيسة الأم
الجامعة، وتحدث الإمبراطور إلى البطريركين في هذه الأمور، وطلب إلى يوحنا الأفسسي
أن يقوم إلى سورية ويجيء بعدد كبير من رهبان الإكليروس المونوفيسي للبحث في التفاهم
والوئام، وامتنع يوحنا ولكن منوفيسيًّا آخر دفع بأكثر من أربعمائة راهب مونوفيسي
سوري للقيام إلى العاصمة، وظل هؤلاء زهاء سنة كاملة من الزمن يدخلون العاصمة
ويجادلون ثم يخرجون بدون جدوى، وفي السنة ٥٥٧ وصل إلى العاصمة يعقوب البرادعي
ووراءه عدد من الرهبان السوريين،
١٠٦ ولكن شيئًا من التفاهم لم يتم!
وتوفي ثيودوروس سكيذاس أسقف قيصرية في السنة ٥٥٨، فتقرَّبَ أسقف يافة من يوستنيانوس،
وأصبح هو صاحب الرأي في المسائل اللاهوتية عند الإمبراطور، ويرى بعض المدققين أن
هذا الأسقف الفلسطيني كان مثل سلفه ثيودوروس أسكيذاس أوريجينيًّا في الباطن، وأنه
اقترح على الإمبراطور إمكانية توحيد الصفوف بالتقرُّب من مونوفيسيين غير سويريين، فذكر
اليوليانيين وشرح موقفهم من السويريين وأشار بإمكانية التفاهم معهم.
١٠٧
وهكذا فإننا نرى يوستنيانوس يصدر في السنة ٥٦٢ إرادة إمبراطورية توجب القول
بالطبيعتين، وتنذر المخالفين بأشد العقوبات، فيُطمئِن بها الإرثوذكسيين، ثم يعمل بنصيحة
أسقف يافة، فيعمم في السنة ٥٦٤ البراءة الأفثرتوذوقية
Aphthartodocetisme، ويؤكد مع اليوليانيين المونوفيسيين أن جسد المسيح
لا يتعب ولا يتألم ولا يفسد! ويعتقد فيما يظهر أنه بعمله هذا إنما يفسر
الخريستولوجية الخلقيدونية على طريقة كيرلس الإسكندري.
١٠٨
واضطرب أساقفة الكنيسة الجامعة وانزعجوا، فكتب أسقف ترير
Trier من وادي الرين يؤنب الإمبراطور لسقوطه في أثناء الشيخوخة مع
نسطوريوس وأوطيخة اللذين أنكرَا على السيد ألوهيته،
١٠٩ ولا نعلم موقف البابا يوحنا الثالث، ولكننا نعلم العلم اليقين أن
أفتيشيوس بطريرك القسطنطينية لمس ضلال يوستنيانوس لمس اليد، وامتنع عن الموافقة على
مضمون البراءة الإمبراطورية، فأمر الإمبراطور بحبسه وإبعاده، وأوعز بانتقاء وكيل
البطريرك الأنطاكي المحامي يوحنا السرميني
Sirimis
خلفًا له، وكان هذا عالمًا فاضلًا وقانونيًّا قديرًا، وُلِد في سرمين في سورية
الشمالية، وتلقَّى علومه في أنطاكية، ثم عُيِّن وكيلًا عن الكرسي الأنطاكي لدى البلاط
الإمبراطوري، وقبل يوحنا السرميني الدعوة ولكنه اشترط في الموافقة على البراءة
الأفثرتوذوقية موافقة البطاركة الآخرين، ولا سيما بطريرك أنطاكية موكله الكبير.
١١٠
يوستينوس الثاني (٥٦٥–٥٧٨)
ولم يخلف يوستنيانوس عقبًا، ولم يشرك أحدًا معه في الأرجوان، ولكنه كان يثق بابن
أخته يوستينوس ويستشيره في أمور الدولة، ولمس أعضاء مجلس الشيوخ هذه الثقة وأحبوا
يوستينوس، فعوَّلوا على انتخابه فور وفاة الإمبراطور الشيخ، وأدرك يوستنيانوس
الثالثة والثمانين ومرض مرضه الأخير، ولم يَفُهْ بكلمة واحدة تنبئ عمَّن يريده خلفًا
له
في الحكم، وكاد يلفظ أنفاسه في ليلة من ليالي الخريف، فجلس يوستينوس وزوجته صوفية في
إحدى نوافذ قصرهما التي تطل على البوسفور وباتا ينتظران، وعند الفجر أبلغهما
الرسول وفاة الإمبراطور ورجاء مجلس الشيوخ أن يتوليَا دفة الأحكام، وقضت التقاليد
بأن يرفض يوستينوس الرجاء ففعل، ثم قبل وذهب توًّا إلى القصر (١٤ تشرين الثاني،
٥٦٥)، وخرج منه مرتديًا الأرجوان، متزينًا بالجواهر التي اقتنصها بليساريوس من القوط،
فرفعه الجند على الترس معلنين بذلك موافقتهم، ثم أيدته الكنيسة فباركه بطريرك
العاصمة ووضع التاج على رأسه.
١١٣
وكان يوستينوس نشيطًا مجتهدًا شجاعًا جريئًا، فامتنع عن أن يؤدي المنح السنوية
للبرابرة، «وكانت قد بلغت ثلاثمائة ألف ليرة ذهبًا»، وأعاد العناية بالجيش واهتم
بالمالية، وحاول محاولة صادقة في إزالة الهم والعناء عن جميع الرعايا، ولكن الحوادث
تتالت قوية عنيفة فجاءت بما لم يشتهِ وكعمته كعمًا، وكان يوستينوس على مزاياه شامخًا
متغطرسًا تعوزه الحيلة، وفي أواخر السنة ٥٧٣ أُصِيب في عقله إصابةً ظاهرة، فتصدَّتْ زوجته
صوفية للقيام بأعباء الحكم، مستعينةً بقومس الحرس طيباريوس الأمين، ثم إن يوستينوس
تبنَّى طيباريوس، وفي السابع من كانون الأول سنة ٥٧٤ أعلنه قيصرًا، فصرَّف طيباريوس
الأمور باسم سيده أربع سنوات متتاليات، إلى أن قضى يوستينوس فانفرد بالحكم.
تثليث الآلهة
وأدَّى الشقاق إلى التطرُّف فالضلال، فإن واحدًا من أبامية اسمه يوحنا أسكوصناغ
Askusnagès علم في القسطنطينية في السنة ٥٥٧ بأن
المسيح له طبيعة واحدة، وأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة له طبيعة واحدة خاصة، فقُطع
ونُفي وتوفي، وانقسم أتباعه فعلم يوحنا فيلوبونوس
Philoponos الأستاذ الإسكندري بتثليث الآلهة
Tritheisme، وقال بفناء جسد الإنسان بحسب الهيئة والمادة معًا،
وعلم كونون
Conon أسقف طرسوس بأن جسد الإنسان فانٍ
بحسب الهيئة فقط، وذهب دميان أحد بطاركة الطبيعة الواحدة في الإسكندرية إلى القول
بتربيع اللاهوت، أي إنه اعتبر وجودًا خاصًّا لكل واحد من الأقانيم الثلاثة، ووجودًا
رابعًا عامًّا للثلاثة معًا.
١١٤
يوستينوس الثاني والكنيسة
وعلى الرغم من فشل يوستنيانوس في سياسة التودد إلى مَن قال بالطبيعة الواحدة، فإن
يوستينوس لم يغيِّر شيئًا من خطة خاله الكبير، فظل رائده توحيد الصفوف، وظلت وسيلته
إما مساومة في العقيدة أو ضغطًا في الإدارة، ولم تختلف صوفية زوجته عن نسيبتها
ثيودورة، فالاثنتان قالتَا بالطبيعة الواحدة على طريقة سويروس الأنطاكي، والاثنتان
أيَّدَتَا المونوفيسيين بما أُوتِيتا من حكمة ودهاء ومقدرة.
١١٥
وبدأ يوستينوس برنامجه الديني بإرجاع الأساقفة المنفيين إلى أوطانهم، ثم استقبل
ثيودوسيوس البطريرك الإسكندري الذي كان لا يزال في المنفى بعيدًا عن أبرشيته، بحفاوة
فائقة، ولدى وفاته في السنة ٥٦٦ أمر يوستينوس بدفنه دفنًا فخمًا عظيمًا،
١١٦ وتصبَّر فاستمع إلى المثلثين في العاصمة، وإلى أخصامهم المونوفيسيين؛
محاولًا الإصلاح وتوحيد الصفوف، ودعت صوفية إلى مؤتمر شبه دائم في القسطنطينية
لتقرب وجهات النظر بين الآباء المتخاصمين المتجادلين، فجاء البرادعي وجاء غيره من
كبار المونوفيسيين، ودام الاحتكاك الشخصي سنة كاملة (٥٦٦)، ولكن بدون فائدة،
١١٧ فلجأ يوستينوس إلى البيانات والتحريم والضغط الإداري، وأصدر في السنة
٥٦٧ أينوتيكونًا قضى بنبذ الفصول الثلاثة، وقبول سويروس الأنطاكي، وتجاهل المجمع
الخلقيدوني، ولكنَّ المونوفيسيين أصروا على وجوب الاعتراف جهرًا بالطبيعة الواحدة،
١١٨ فأمر يوستينوس سفيره في فارس البطريق يوحنا أن يعرج على سورية لدى
عودته، ويحاول إقناع الآباء المونوفيسيين بقبول الأينوتيكون والعمل بموجبه، وهكذا
فإننا نرى الآباء مجتمعين في الرقة
Callinicum في
السنة ٥٦٧ للتداول مع يوحنا البطريق في أمر الأينوتيكون، ويلين البرادعي وغيره، ولكن
جمهور الآباء ظل مرتابًا في كل حلٍّ إمبراطوري من هذا النوع، وقام أحدهم وخطف الوثيقة
الإمبراطورية من يد القارئ ومزَّقها، وعاد يوحنا إلى القسطنطينية مخفقًا.
١١٩
وأعاد يوستينوس الكرة وألَحَّ على التفاهم، وأطلع كبار المنوفيسيين على نص تفاهم
جديد قبل إصداره، وفي السنة ٥٧١ أبرز الأينوتيكون الثاني، وفيه اعتراف بطبيعة واحدة
متجسدة، ولكن في الثيوريا
theoria فقط، واعتراف
بفرق بين طبيعتين إلهية وبشرية، مع اعتراف ضمني بالمجمع الخلقيدوني، واستمرار القطع
الذي حل بسويروس الأنطاكي.
١٢٠
غريغوريوس بطريرك أنطاكية (٥٧٠–٥٩٣)
ولم يتعاون يوستينوس الإمبراطور مع أنسطاسيوس البطريرك الأنطاكي، ولعل السبب في
ذلك أن أنسطاسيوس أخلص للعقيدة الأرثوذكسية كل الإخلاص، وأن تصلبه في الدين لم يتفق
ومرونة يوستينوس في السياسة، وفي السنة ٥٧٠ اشتد الخلاف بين العاهلين فاتهم
الإمبراطور البطريرك بالتفوُّه بما لا يليق بالحضرة السنية وبتبذير أموال الكنيسة،
فاضطر أنسطاسيوس أن يغادر أنطاكية إلى أوروشليم، فأقيم مكانه غريغوريوس رئيس دير
سيناء، فساس الرعية بالتقى وخوف الله حتى وفاته في السنة ٥٩٣، فأعيد أنسطاسيوس إلى
خلافة الرسولين وظلَّ يرعى بالعزم والغيرة حتى الوفاة في السنة ٥٩٨.