الفصل الخامس
أغناطيوس ثيوفوروس
٦٤–١٠٧
ونكاد لا نعلم شيئًا عن أفوذيوس خليفة بطرس الأول، وهنالك تقليد أنه استشهد في عهد
نيرون،
١ وكلنا نعلم جيدًا أن أغناطيوس «حامل الإله» عاصر أفوذيوس وخلفه في رئاسة الكنيسة،
٢ ويرى البعض أن ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بأن يسام أسقف على المسيحيين
المتهودين، وأسقف آخر على المسيحيين الأمميين، وأن أفوذيوس وأغناطيوس ترأَّسَا معًا فترة
من الزمن، فلما توفي أو استشهد أفوذيوس تابَعَ أغناطيوس العملَ وحده مترئسًا على الكنيستين
في وقت واحد.
٣
وجاء لاناستاسيوس الكتبي أن أغناطيوس هو ذاك الطفل الذي أشار إليه متَّى في الفصل
الثامن عشر، حيث قال: «فدعا يسوع إليه ولدًا، وأقامه في وسطهم، وقال الحق أقول لكم، إن
لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات.»
٤ ولكن يوحنا الذهبي الفم الأنطاكي المولد يؤكِّد أن أغناطيوس لم يرَ المسيح،
٥ وشهادة الذهبي الفم في هذا الموضوع أثمن بكثير من شهادة أناستاسيوس الكتبي،
ويرى علماء الكنيسة أن أغناطيوس وُلِدَ من أصل سوري هليني حوالي السنة ٣٥، ثم تقبل
النعمة في أنطاكية على أيدي الرسل أو التلامذة أو المعلمين، فاتخذ لنفسه لقب ثيوفوروس
حامل الإله تيمُّنًا وتبركًا.
٦
ظروف كنيسة أنطاكية في عهد أغناطيوس
وتفاقمت الخطوب من حول كنيسة أنطاكية في النصف الثاني من القرن الأول، فتغير موقف
السلطات الرومانية من النصرانية والنصارى، وتطوَّرَ من اللامبالاة إلى التضييق والاضطهاد،
وذلك لأسباب أهمها أن الرسل انطلقوا يكرزون باسم الرب في كل مكان، فانتقلوا من
أوروشليم إلى جميع أنحاء فلسطين ولبنان وسورية، ثم آسية الصغرى، فاليونان وإيطالية
ورومة نفسها، وكان العرف عند الرومان واليونان يقضي بأن يُعتبَر الدين ميثاقًا
قوميًّا تجب مراعاته والمحافظة عليه، كما كان يوجب الثبوت على عهد الولاء للدولة،
فكان ترك دين الآباء والالتحاق بدين شعب آخر كالفرار من الجيش والدخول في خدمة عدو مداهم،
٧ ولكن هذا العرف لم يمنع الأجانب المقيمين في الأراضي الرومانية من
ممارسة طقوسهم الخاصة والتعبد لآلهتهم. ثم جاء عصر الفتوحات والتوسع، وتلاه عصر آخر
منحت فيه رومة حقوقَ المواطنين إلى غير المواطنين الرومانيين، فأصبحت آلهة
الرومانيين آلهة الشعوب الداخلة في حكم رومة، وباتت آلهة هؤلاء الشعوب محترمة
معترفًا بها في الأوساط الحاكمة، وتمت معادلات بين الآلهة، فأصبح جوبيتر الرومان
زفس اليونان، وتعبَّدَ اللبنانيون القدماء إلى جوبيتر في بعلبك تعبُّدهم إلى هدَد بعل
هذه المدينة السابق؛ ولكن إله اليهود والنصارى لم يكن إله قوم معين كسائر الآلهة،
بل إلهًا لا إله إلا هو، ولم يكن دينهم دين قوم واحد كسائر الأديان، بل الدين
الحقيقي الذي ليس بعده دين؛ وعلى الرغم من هذا التفرد في العقيدة والخروج على
المألوف، فإن السلطات الرومانية اعترفت عند الفتح بكيان الدين اليهودي، واعتبرته
دينًا شرعيًّا
Religio licita، وغضت النظر في
غالب الأحيان عن الدخول في هذا الدين خارج رومة وأوساطها العالية، ولم تضيق على مَن
قال بإله واحد، ما دام هذا القول لم يتبعه اختتان وانتماء ظاهر إلى الجاليات
اليهودية، ولم تكترث هذه السلطات بادئ ذي بدء للنصرانية، فاعتبرتها فرقة من فرق
اليهود، وهذا كان موقف بيلاطس في أوروشليم وزميله غاليو
Gallio في آخية، عندما نظر في شكوى يهود كورينثوس على بولس، ولكن
اليهود أبوا أن يتمتع النصارى بامتيازاتهم الخاصة، فأبانوا الفروق بينهم وبين أتباع
المسيح، فتفتحت أعين السلطات وبدأ الارتياب والظن.
٨
وقضى تيطس على ثورة اليهود في فلسطين، ودمَّر الهيكل في أوروشليم في السنة ٧٠،
فظن أنه أصاب عصفورين بحجر واحد؛ اليهود والنصارى الذين تفرعوا عنهم.
٩ وجاء دوميتيانوس (٨١–٩٦)، فجبى ضريبة الهيكل من اليهود، وممَّن «عاش
عيشتهم وإن لم يكن أصله منهم»، فأدى ذلك إلى التفتيش الدقيق عن المسيحيين، وإلى
تدوين أسمائهم وإكراههم على دفع الذيذراخمة
Didrachma ضريبة الهيكل، وإرسالها إلى صندوق
Jupiter Capitolinus في رومة، وكانت جالية
اليهود في أنطاكية كبيرة كما سبق وأشرنا، وكان قد أصبح عدد المسيحيين في عاصمة
الشرق عظيمًا، فأقلقت هذه الترتيبات بال أغناطيوس وقضَّت مضجعه.
ولم تكن ظروف الكنيسة الداخلية في أنطاكية أقلَّ خطرًا من ظروفها الخارجية، فإن
الخلاف بين المسيحيين الأمميين والمسيحيين المتهودين كان لا يزال قائمًا حينما تسلم
أغناطيوس عُكَّازة الرعاية، وكان عدد كلٍّ من الفريقين كبيرًا في أنطاكية وفي سائر
المدن السورية، وكانت الغنوسية لا تزال تفسد على قادة الفكر المسيحي عملهم التبشيري
كما سبق وأشرنا في فصل سابق.
موقف أغناطيوس وسياسته الرعائية
وكان أغناطيوس قد دخل في الدين الجديد في عصر بطرس وبولس وبرنابا، فأصلحت سيرهم
نفسه وأثار حماسهم حميته، فاندفع في سبيل يسوع وتعلَّقَ به، ولم يكن ذلك اللاهوتي
النظري فلم يتعرض للبحث في الثالوث الأقدس أو في اتحاد الطبيعتين، ولكنه عني كل
العناء بالتعاليم المسيحية التاريخية
Depositum
Fidei، فسعى للمحافظة عليها خالية من الأدران، والتفت إلى
إدارة كنيسته، فوحَّد صفوفها، وحرص على السلطة الرعائية، فقوَّاها وقال برسالة واحدة
وكنيسة واحدة في العالم أجمع؛ فكان أول مَن استعمل اللفظ «كاثوليكي» في الإشارة إلى
كنيسة المسيح «الجامعة»، ولعله هو الذي أدخل ترتيل المزامير في كنيسة أنطاكية.
١٠
رسائله إلى الكنائس
وقضى ظرف استشهاده، كما سنرى قبل انتهاء هذا الفصل، بالتجول في آسية الصغرى
والبلقان وإيطالية، فكتب إلى كنائس هذه البلدان واعظًا مرشدًا، وقويت هذه الرسائل
على محن الدهر ونوائبه، فوصلت إلينا في مجموعات ثلاث: القصيرة والطويلة والمختصرة،
والقصيرة هي الأصلية فيما يظهر، وقد حفظت في مخطوطة يونانية قديمة تعود إلى القرن الثاني،
١١ ولا تشمل هذه المخطوطة نص الرسالة إلى الرومانيين، وأقدم النسخ التي
تحفظ لنا نص هذه الرسالة تعود إلى القرن العاشر.
١٢ وقام في القرن الرابع من عُنِيَ بهذه الرسائل فحرَّفها وأضاف إليها،
فجعل مجموعها ثلاث عشرة رسالة بدلًا من سبع، فجاءت تشمل علاوة عن الرسائل إلى
كنائس أفسس ومغنيسية وترلة ورومية وفيلدلفية وأزمير وبوليكاربوس، رسائلَ إلى
كنائس أنطاكية وطرسوس وفيليبي وهيرون ومريم الكسبولة
Cassobola، ورسالة هذه إلى أغناطيوس؛ ونشر
Cureton في السنة ١٨٤٥ نصًّا سريانيًّا لا يشمل
سوى رسائل ثلاث إلى أهل أفسس وأهل رومة وبوليكاربوس، ولكن
Lightfoot وغيره من العلماء أثبتوا أن هذا النص
السرياني هو في الواقع ترجمة قديمة لما جاء في المجموعة القصيرة المشار إليها
أعلاه.
وظلت هذه الرسائل مدة من الزمن موضوع جدل بين علماء الكنيسة وبين العلماء
الإنجيليين، فزعم هؤلاء أنها مزورة، وقال أولئك بصحتها، ثم وُفِّقَ
Lightfoot
و
Harnack و
Zahn
و
Funk إلى إثبات أصالتها بالدليلين الداخلي
والخارجي، فسكت الإنجيليون وأصبحت هذه الرسائل من أفضل ما تبقى من آثار الآباء الأولين،
١٣ وقد نُقِلت إلى لغات متعددة في طبعات مختلفة.
١٤
وإليك بعض ما جاء فيها: فقد قال أغناطيوس إلى أهل أفسس: «لقد انتهى إليَّ أنه
مرَّ قوم من هناك تشربوا تعليمًا مفسدًا، وأنكم لم تدعوهم ينشرونه بينكم، فسددتم
آذانكم لئلا تقبلوا الزرع الردي الذي يزرعون.» وقال: «لا تحبوا شيئًا آخر غير
المسيح، فإني بالاتحاد معه أسير بسلاسلي التي هي درري الروحية، عسى أن أبعث بها
يوم القيامة بجاه أدعيتكم.»
١٥ وقال إلى أهل مغنيسية: «لا تتخذوا من حداثة أسقفكم حجة للإفراط في
الدالة عليه، بل احترموه؛ لأنه يحمل سلطة الله الآب، إني أعلم أن شيوخكم لم يستغلوا
حداثته الظاهرة في الجسد، ولكنهم بحكمة الله خضعوا له أو بالحري ليس له، بل لأبي يسوع
المسيح أسقف الجميع؛ وكونوا مسيحيين لا بالاسم وحسب، بل بالفعل، فإن هنالك
قومًا يدعون الواحد أسقفًا ولكنهم لا يعبئون به في تصرفاتهم، ويلوح لي أن ضمير
هؤلاء ليس مستقيمًا؛ لأنهم لا يؤمون الصلاة في الأوقات التي يعينها أسقفهم.»
١٦
أغناطيوس والكنيسة الجامعة
وجاء في الفقرة الثامنة من رسالته إلى أهل أزمير: «واتبعوا جميعكم الأسقف كما تبع
يسوع المسيح الله الآب، وسيروا في أثر الشيوخ سيركم في أثر الرسل، واحترموا
الشمامسة كما تحترمون وصايا الله، ولا تأتوا بعمل يمتُّ إلى الكنيسة بصلةٍ منفردين عن
الأسقف؛ والذبيحة الإلهية لا تصبح شرعية محللة إلا برئاسة الأسقف أو مَن يفوِّضه بها،
وكونوا حيث يكون الأسقف، فحيث يكون يسوع المسيح هناك أيضًا تكون «الكنيسة الجامعة» Catholici Ecclesia.»
كنيسة أنطاكية وكنيسة رومة
ويختلف علماء الكنيسة في تفسير عبارتين وردتَا في التحية التي استهل بها أغناطيوس
رسالته إلى أهل رومة، فقد جاء في هذه التحية العبارة التالية: «إلى الكنيسة التي
ترأس المكان السائد في أرض الرومان.» وجاء أيضًا في هذه التحية نفسها العبارة: «إلى
الكنيسة التي ترأس بالمحبة.» ويرى بعض العلماء أن هاتين العبارتين تشيران إلى رئاسة
كنيسة رومة وتفوقها وتقدمها على جميع الكنائس، وأن أغناطيوس اعترف بهذه الرئاسة
وذاك التفوق.
١٧ ويذهب غيرهم إلى أن أغناطيوس كرَّم رومة تكريمًا، وأنه لا يلزم القول
بأكثر من هذا.
١٨
والواقع أن هنالك غموضًا في هذين النصين أدَّى بطبيعة الحال إلى هذا الاختلاف في
الرأي، فما هي «أرض الرومان» بالضبط، وما هو مقدار اتساعها؟ وإذا كانت الكنيسة
تترأس في أرض الرومان، فما هو نوع هذه الرئاسة؟ هل هي رئاسة سياسية أم ثقافية أم
أدبية أم روحية؟ وما هو معنى «المحبة» بالضبط؟ ولماذا خصَّ أغناطيوس هذه الكلمة
بأداة التعريف في النص اليوناني؟ وحيث يشعر المؤرخ بشيء من هذا الشك في فهم النص،
يكمل قراءة النص لعله يقف على إيضاحِ ما التبَسَ، فإن أعياه ذلك فعليه بسائر كتب
المؤلف، وأنَّى لنا هذا ورسائل أغناطيوس ومعاصريه قليلة نادرة، وقد تعرضت مع مرور
الزمن إلى جهل الناسخين وعبثهم بها؟ ولذا نرانا مضطرين أن نقول لا ندري؛ ومن ترك
قول لا أدري أصيبت مقالته!
الإمبراطور تريانوس والنصرانية
وكان نيرون قد اشترع قانونًا خصوصيًّا جعل به التدين بالدين الجديد خروجًا على
القانون
Non licet esse christianos،
١٩ وجاراه في ذلك كلٌّ من فيزبازيانوس وتيطس ودوميتيانوس، وليس لدينا ما
يثبت إثباتًا قاطعًا تطبيق هذا القانون في الولايات خارج رومة وإيطالية،
٢٠ ولكننا نعلم أن تريانوس الإمبراطور وافَقَ منذ السنة ٩٩ على قانون نيرون
وأمر بتنفيذه، وأن بلينيوس الأصغر حاكم بيثينية استوضح تريانوس في السنة ١١٢ أمْرَ
القانون الذي منع التديُّنَ بالنصرانية، فسأله أن يفسِّر له نقاطًا معينة تتعلق بتفاصيل
التنفيذ،
٢١ فأجابه هذا الإمبراطور أن ليس على السلطات أن تفتش عن المسيحيين
Christiani conquirendi non sunt، وأن مَن يُعلن
من هؤلاء أنه ليس مسيحيًّا يُعتبَر بريئًا، ومَن يُصِرُّ على مسيحيته يُدان ويُعدَم.
٢٢
أفذوكية وشربل وبيبة
وطبق هذا القانون في السنة ١٠٠ في رومة، فاستشهد أقليمس أسقف رومة الثالث بعد
بطرس، ونفذ في بعلبك فامتحنت أفذوكية البتول المؤمنة بأنواع كثيرة من العذاب، ثم
حُكِم عليها بقطع الرأس فتقبلت هذا الحكم بفرح عظيم.
٢٣ وكان برصوم أسقف الرها قد نجح في الدعوة، فعمَّدَ كثيرين في منطقة
الفرات الوسطى، وكان بين هؤلاء كاهن الأصنام شربل وأخته بيبة، فلما شدَّدَ تريانوس نكل
لوكيانوس الحاكم بهذا الكاهن، فنشره بالمنشار وقتل أخته.
٢٤
سمعان أسقف أوروشليم
وفي السنة ١٠٧ أثار اليهود الشغب على المسيحيين في مدن فلسطين، فوشى بعضهم بسمعان
أسقف أوروشليم الثاني بعد يعقوب، وقالوا إنه مسيحي ومن سلالة داود، فأمر
Claudius Atticus Herodes
حاكم فلسطين آنئذٍ بتعذيب سمعان
الشيخ الطاعن في السن وبصلبه.
٢٥
أغناطيوس أمام السلطة
ولعل ظروفًا مماثلة دعَتْ إلى استجواب أغناطيوس أمام حاكم سورية المحلي، فأدت إلى
استشهاده في رومة في أوائل السنة ١٠٧،
٢٦ وجاء لصاحب اﻟ
Martyrium Colbertinum
أن أغناطيوس مثل أمام الإمبراطور تريانوس نفسه، وذلك لمناسبة الحرب الفرتية وإقامة
تريانوس في أنطاكية قاعدته في الشرق.
٢٧ والواقع أن هذه الحرب جاءت في السنتين ١١٥–١١٧، لا في السنة ١٠٧ كما تنص
هذه الرواية المجهولة الراوي، وأن أفسابيوس والذهبي الفم لا يشيران إلى مثول
أغناطيوس أمام الإمبراطور نفسه، وهنالك سبب آخر يجعلنا نشك في صحة هذه الرواية، وهو
أن أغناطيوس نفسه يرجو المسيحيين في رومة ألا يسعوا لدى السلطات فيها لاستبدال
الحكم بالموت بأي حكم آخر، فلو كان تريانوس نفسه قد حكم عليه بالموت، لكان حكمه
مبرمًا لا يمكن تعديله في رومة.
ومما جاء في التقليد أيضًا أن هذا الحكم الروماني وجَّه إلى أغناطيوس القول: أأنت
تجسر كشيطان رجيم أن تخالفني في أوامري، وتغر الآخرين على هلاك نفوسهم؟ فأجاب
أغناطيوس: ما من أحد غيرك سمى ثيوفوروس حامل الإله شيطانًا رجيمًا، وعبيد الله
ليسوا بأبالسة، والشياطين ترتعد منهم وتنهزم. فقال الحاكم مستدرجًا: أتظن أننا لا
نحوي في قلوبنا آلهة تقاتل عنا؟ فأجاب أغناطيوس غير هياب: إنك في غرور، فآلهتك
ليسوا إلا أبالسة، فلا إله إلا الله الواحد القهار خالق السموات والأرض، ولا يوجد
إلا يسوع المسيح وحده ابن الله الوحيد الذي أتوق إلى مملكته. فقال الحاكم: لعلك
تعني يسوع الذي علقه بيلاطس على الصليب؟ فأجابه أغناطيوس: يجب أن يقال إن يسوع هذا
علق الخطية وصانعها على الصليب، فأعطى الذين يحملونه في قلوبهم سلطانًا لسحق الجحيم
وقوته. فقال الحاكم: أنت إذن حامل يسوع في أحشائك؟ فقال أغناطيوس: لا ريب في ذلك؛
لأنه قيل أحل بينهم وأسير معهم. فحكم الحاكم في السادس من كانون الثاني سنة ١٠٧
بتكبيل أغناطيوس، وإرساله إلى رومة ليُطرح للوحوش أمام الشعب، فهتف أغناطيوس: أشكرك
يا رب؛ لأنك منحتني حبًّا كاملًا لك، وشرفتني بالقيود التي شرفت بولس بها. ثم تقدَّمَ
من تلقاء نفسه إلى القيود وصلى لأجل الكنيسة، واستودعها اللهَ بدموع غزيرة، ثم أسلم
نفسه للشرطة.
استشهاد حامل الإله
وانطلق أغناطيوس مصفدًا بالأغلال يخفره عشرة جنود قساة، ويرافقه كلٌّ من الشهيدين
روفوس
Rufus وزوسيموس
Zosimus، اللذين شملهما الحكم بالإعدام، وقام الجميع من أنطاكية
إلى سلوقية التي على مصب العاصي، ثم أقلعوا إلى مرفأ من مرافئ قيليقية أو بمفيلية،
ومنها إلى أزمير، وقضت ظروف السفر ببقائهم في هذه المدينة مدةً من الزمن، فتعرَّفَ
أغناطيوس إلى بوليكاربوس أسقف أزمير، وحرَّرَ منها عددًا من الرسائل إلى كنائس آسية
الصغرى واليونان ومقدونية، وهرعت أساقفة مغنيزية وأفسس وفيلادلفية في وفود كنائسها
لاستقباله والتبرُّك به والتقاط درر تعاليمه، فاغترفوا من بحر إيمانه وإرشاده؛ وقد
تجلت في رسائله روحه الرسولية، فلا يتمالك قارئها من الشعور في كل فقرة منها أن روح
الله يتكلَّم بلسان هذا القديس العظيم.
٢٨
وقام حامل الإله ورفيقاه من فيليبي إلى شاطئ الأدرياتيك، ومنه أبحروا إلى
بوتيولي Puteoli، ورغب أغناطيوس أن يقتفي أثر
بولس، فينزل في هذه البلدة ثم يقوم منها إلى رومة، ولكن الرياح منعته فأقلَعَ إلى
مرفأ رومة، ولدى وصوله إلى هذا المرفأ وجد عددًا كبيرًا من المسيحيين في انتظاره،
فحيَّاهم وكرَّرَ رجاءَه ألَّا يعيقوا انتقاله للقاء سيده.
وانتهى هذا القديس إلى عاصمة الإمبراطورية، وحل موعد أعياد الختام
Sigillariu، فتقاطر الرومانيون إلى مدرج
فلافيانوس الذي عُرِفَ باسم اﻟ
Collosseum؛
ليحتفلوا بانتصارات تريانوس في داقية، فيشاهدوا المجالدات الدموية بين ألوف
المجرمين والأسرى، والمصارعة بين بعض المجرمين والوحوش الضارية، فاستشهد روفوس
وزوسيموس في باحة هذا المدرج في الثامن عشر من كانون الأول، وفي العشرين عُرِّي الشيخ
الوقور الحامل الإله من ثيابه وطُرِح إلى الوحوش، فمزَّقَتْ جسده الطاهر والتهمته، ولم
تُبقِ من جسمه إلا العظام الخشنة، فجمعها المؤمنون بكل احترام وأرسلوها إلى
أنطاكية، فدُفِنت خارج السور بالقرب من باب دفنه، وبقيت هنالك حتى أيام إيرونيموس،
٢٩ ثم تحول هيكل فورتونة في قلب أنطاكية إلى كنيسة مسيحية، فنقل ثيودوسيوس
الصغير رفات القديس إلى هذه الكنيسة، وأطلق عليها اسم الشهيد البار تخليدًا لذكره.
٣٠
ومما نُقِل عن المؤمنين في رومة، الذين شاهدوا هذه الميتة المجيدة أنهم سكبوا
لأجلها العبرات، وأقاموا الليل كله بالسهر والصلاة، متوسلين إلى الرب المخلص أن
يشدد ضعفهم، فظهر لهم الشهيد بهيئة مجاهد خرج من القتال ظافرًا، فامتلأت قلوبهم
فرحًا، وعينوا للإخوة في أنطاكية اليومَ الذي نال فيه الحامل الإله إكليل الجهاد؛
أملًا بالاشتراك في ذكر هذا المجاهد الذي داس إبليس لتمجيد الرب يسوع؛ ولا تزال
الكنيسة الأرثوذكسية تحتفل بذكرى أغناطيوس الحامل الإله في العشرين من كانون الأول،
أما الكنيسة الكاثوليكية فإنها خصصت الأول من شهر شباط لهذه الغاية النبيلة، ولعل
السبب في هذا هو الجمع بين يوم استشهاده ويوم نقل رفاته إلى أنطاكية.
وجاء في حوليات يوحنا ملالاس الأنطاكي أن تيبريانوس حاكم فلسطين كتب إلى تريانوس
الإمبراطور ينبئه بمتابعة التنكيل بالنصارى، ثم يفيد أن هذا التنكيل لم يأتِ
بالنتيجة التي توخاها، فإن النصارى ما فتئوا يهرعون إلى قاعة المحاكمة مقدمين
أنفسهم للموت.
٣١
القديسة ذروسيذة
وجاء في هذه الحوليات أيضًا أن تريانوس أعَدَّ أتونًا في أنطاكية، ودعا المسيحيين
الذين أبوا إنكار دينهم إلى إلقاء أنفسهم فيه، وأنه ألقى القبض على خمس عذارى بينهن
ذروسيذة، فاستنطقهن وحكم بإحراقهن، ومما جاء في هذه الحوليات أن كنيسة أنطاكية شيدت
هيكلًا باسم ذروسيذة العظيمة في الشهيدات والشهداء، واحتفلت بعيد استشهادها في كل
سنة.