وأحَبَّ أغناطيوس كنيسته وولِه بها، ففارقها مضطرب البال لما كان قد حلَّ بها من خلافات
داخلية، وصلى لأجلها وحضَّ المؤمنين في كل مكان مرَّ به أن يصلوا لأجلها، وكتب إلى
الرومانيين المؤمنين من أزمير يقول: «اذكروا في صلواتكم كنيسة سورية التي أصبح الله
راعيها.» وصادف في تروادة الشيخين غابوس وأغاثوبوس والشماس فيلون، فنقلوا إليه أخبارًا
سارة ولكنه ظل قَلِقًا، فكتب من رومة إلى بوليكاربوس أسقف أزمير يحضُّه على إرسال أحد
المؤمنين الغيورين إلى أنطاكية لإصلاح حالها، ويؤكد أن مثل هذا العمل هو عمل الله،
ولبَّى المؤمنون في آسية الصغرى نداءَ الحامل الإله، فأوفدوا إلى أنطاكية مَن قضى على
أسباب الخلاف فيها.
هيرون وكورنيليوس وإيروتوس
وخلف أغناطيوس في رئاسة كنيسة أنطاكية هيرون
Hirona، ثم كورنيليوس
Kornelios، فإيروتوس
Erotos،
١ وحرف «النو» في الاسم الأول واضح جلي، وحرف «التو» في الاسم الثالث
ظاهر بَيِّن؛ وبالتالي فليس هنالك إيروس أول وإيروس ثانٍ كما جاء في بعض اللوائح
العربية.
ولا نعلم بالضبط السنة التي تولَّى فيها كلٌّ من هؤلاء رئاسته، فإن أفسابيوس المؤرخ
لا يعين هذه السنوات، وما جاء في ترجمة إيرونيموس من أن كورنيليوس تولى في السنة
١٢٨، وأن إيروتوس ترأَّسَ في السنة ١٤٢، لا يزال قيد البحث والتدقيق.
٢ وقد يفيد القارئ أن يعلم أن أقدم اللوائح المؤرخة لسلسلة البطاركة في
أنطاكية جاءت في حوليات ثيوفانس، وأن البطريرك المسكوني نيقيفوروس الأول (٨٠٦–٨١٥)
اعتمَدَ هذه اللائحة نفسها في تاريخه،
٣ وأن هنالك لائحة ثالثة في حوليات ميخائيل السوري.
٤
ولم يَبْقَ من أخبار هيرون شيء يمكننا الرجوع إليه، ورسالته إلى أغناطيوس مزوَّرة
لا
يجوز قبولها والاعتماد عليها،
٥ والدليل على تزويرها داخلي، فإنها لا تتفق في شيء والعصر الذي تتحدث
عنه، وقد فُقِدت أخبار كورنيليوس وإيروتوس أيضًا.
أدريانوس والمسيحيون (١١٧–١٣٨)
وقضت سياسة الإمبراطورية الرومانية بعودة تريانوس إلى رومة، وكانت الحرب بين رومة
وفارس لا تزال سجالًا، فرأى تريانوس أن يعود إلى العاصمة فيسوس الدولة ويستعد
للحرب، فترك قيادة جيشه في الشرق إلى نسيبه أدريانوس، وعيَّنه حاكمًا على ولاية
سورية، ونهض إلى رومة في صيف السنة ١١٧، وما إن وصل إلى سيلينوس
Selinus في قيليقية حتى أدركته المنية فتوفي فيها، ورأت زوجته
بلوتينة أن أدريانوس ابن عمة زوجها أحقُّ من غيره في الحكم، فادَّعَتْ أن تريانوس أوصى
بها خلفًا له، وكتبت إلى السناتوس بذلك، فوافق هذا المجلس وتبوَّأ أدريانوس أريكة
الحكم، وساس الإمبراطورية حتى وفاته في السنة ١٣٨.
٦
ولم يعدل أدريانوس الموقف القانوني من المسيحيين ولم يتحسس لهؤلاء، وعلى الرغم من
ميله إلى كل جديد وخروجه على تقاليد رومة الدينية، ودخوله في عداد الأخويات الدينية
الشرقية، فإنه ظل بعيدًا عن المسيحيين متمسِّكًا بقانون نيرون، مستعِدًّا لتطبيقه عند
الحاجة، وجل ما يذكر له من التساهُل أنه حرم صخب الجماهير وضجيجهم عند المطالبة
بالحكم على المسيحيين وإذلالهم، وتفصيل ذلك أن ليكينيوس غرانيانوس
Licinius Granianus قنصل آسية كتب في
السنة ١٢٤ إلى أدريانوس يتذمَّر من ضغط الجماهير الذي أدَّى إلى الحكم بالإعدام على
أشخاص لم يكن لهم ذنب سوى انتمائهم إلى طائفة معينة، فحرم الإمبراطور صخب الجماهير
وضجيجهم وضغطهم على الحكام، واكتفى بهذا القدر، ولم يبين ما إذا كان الانتماء إلى
النصرانية يشكِّل جرمًا يُوجِب العقاب.
٧
وقلَّ ضغط الجماهير على الحكام، ولكن شكاواهم تكرَّرت وتعدَّدت، فاتسع التدقيق
والتحقيق والتعذيب، وكثر التفنُّن في أساليب الإعدام.
٨ وسكوت المراجع عن حوادث الاستشهاد في سورية في القرن الثاني لا يعني في
حد ذاته أن السلطات ترفَّعَتْ عن الاضطهاد وامتنعت عن التقتيل، فقد يكون السبب في ذلك
ضياع الأخبار والتواريخ.
ثورة ابن كوكب وسخطه على النصارى (١٣٢)
وزار أدريانوس الشرق مرارًا وخصَّ أنطاكية بعنايته، فجملها وتفقَّد سائر المدن،
فعطف على تدمر وأطلق اسمه عليها، وأنشأ الأبنية العمومية في جرش وعمان، ورفع دمشق
وصور إلى رتبة متروبوليس،
٩ ورأى أن أوروشليم كانت لا تزال خرابًا منذ أن دمَّرها طيطس، فأمر
بتخطيطها تخطيطًا يونانيًّا رومانيًّا، وأطلق عليها الاسم
Aelia
Capitolina، وقضت سياسته الداخلية بتوحيد الإمبراطورية، وتمكين
الروابط بين شعوبها المتباينة، فأوجب إنشاء هيكل لزفس على أنقاض هيكل يهوه، فلم
يَرُقِ اليهودَ هذا العملُ وأعلنوها ثورة لا هوادة فيها، وأدار دفة هذه الثورة ودبرها
الكاهن العالم المجتهد عَقيبة، وجعل من أحد الأشداء في القتال المسيح المنتظر، وقاد
جواده بيده، واستبدل اسمه «ابن كذب» بابن كوكب
Bar
Cocheba، وانقضَّ اليهود على معسكر روماني في أوروشليم، فقضوا
على أفراده.
وكان بعض النصارى قد عاد من بلة إلى أوروشليم، وكانت كنيسة الرسل لا تزال قائمة
على إحدى روابي هذه المدينة، فاستغل النصارى خراب الهيكل، وقيام معبد لزفس محله،
وقالوا لليهود: أَلَا ترون في بقاء كنيستنا هذه سالمة وفي خراب هيكلكم أكبر دليل على
عناية الباري بنا وغضبه عليكم؟ فردَّ اليهود: إن أدريانوس أراد إعادة بناء الهيكل،
ولكنكم أغريتموه فأفسدتم بيننا.
١٠ وكسب اليهود الدورة الأولى فاضطهدوا النصارى في كل مكان وأذاقوهم
ألوانًا من العذاب.
ولكن بوزانياس المعاصر يعلِّق على هذه الثورة فيقول: إن أدريانوس كان أبعد الناس
عن
اللجوء إلى العنف، وإن اليهود أكرهوه إكراهًا على ما أنزل بهم من عقاب؛
١١ ويرى الذهبي الفم أن حب العودة إلى الاستقلال تسلَّطَ على عقول اليهود في
هذه الحقبة فدفعهم إلى الثورة.
١٢
واهتم أدريانوس للأمر واستدعى يوليوس سيفيروس
Severus أفضل القادة من الجزر البريطانية، وأنفذه على رأس قوة
إلى فلسطين، فأخمد الثورة بقساوة وشدة، ومَن لم يسقط في ميدان القتال بِيعَ في أسواق
تربينة وغزة ومصر بثمن حصان واحد.
١٣
الخطر المرقيوني
وكانت الغنوسية قد أصبحت أكثر الحركات الفلسفية الدينية انتشارًا وأوسعها
ميدانًا، وكانت تعاليم مدرستها السامرية قد تسرَّبت إلى مصر وعشَّشت فيها، فإن كلسوس
يذكر أن هذا النوع من الغنوسية شاع في مصر، ويشير إلى بعض ما كتب فيه،
١٦ وأوريجانيوس نفسه درس هذه الفلسفة في الإسكندرية على أحد رجالها
السوريين بولس الأنطاكي،
١٧ وأثر هذه الغنوسية لا يزال ملموسًا حتى يومنا هذا في بعض صفحات الأدب
القبطي، وفي بعض أوراق البردي التي كشفها العلماء المنقبون؛ على أن أعظم ما جاءت به
قرائح رجال هذه المدرسة مربوط بأسماء إسكندريين ثلاثة، صنفوا فيما يظهر في القرن
الثاني في عصر أدريانوس الإمبراطور (١١٧–١٣٨) وبعده بقليل، وهؤلاء الثلاثة هم:
فالنتينوس
Valentinus، وفاسيليذس
Basilides، وكربوكراتس
Carpocrates، وقد فصَّل إيريناوس القديس مذهب فانتينوس من باب
الرد عليه، كما تكلَّمَ عن فاسيليذس وآرائه،
١٨ وعن كربوكراتس وملائكته.
١٩ ومما نقله إيريناوس عن كربوكراتس، وعن رأيه في المسيح المخلص أنه قال
إن يسوع كان ابن يوسف من صلبه، وأنه تمكَّنَ بواسطة التقمُّص وبما اختبره في «دوره»
الأول وبما أوتي من مقدرة من فوق؛ أن يسيطر على حكام هذا العالم، وأن يعود إلى الله
الآب، وأضاف أنه بمقدور جميع الناس أن يفعلوا ما فعله المسيح إنْ هم سلكوا سلوكه
وتذرعوا بأساليبه.
٢٠
ولم يقتصر نشاط هذه القوة الدينية الفلسفية على سورية ومصر، ولكنه انساب نحو
الشمال حتى شاطئ البحر الأسود، فقام في سينوب في هذا القرن الذي نحن بصدده ابن
أسقف مسيحي يعظ ويبشر بمسيحية غنوسية، ويعمل لها بكل ما أوتي من مقدرة ونشاط؛
والإشارة هنا إلى مرقيون
Marcion ابن أسقف سينوب
الذي نزع إلى الدين والفلسفة بعد أن أثرى في التجارة البحرية، وقال مرقيون بغنوسية
مسيحية، فغضب عليه والده وقطعه من شركة الكنيسة،
٢١ فخرج من سينوب وطاف آسية الصغرى مبشِّرًا باستحالة التوفيق بين التوراة
والإنجيل، موجبًا التخيُّر بين محبة المسيح التي لا نهاية لها وصلاحه السامي، وبين
عدالة إله إسرائيل القاسية، مبينًا أن إله اليهود إله الخليقة والناموس لا يمكن أن
يكون هو نفسه إله الرحمة، بل دونه مرتبة، «والمخلص» في نظره كان مظهرًا من مظاهر
الإله الحقيقي الصالح، وقد خلص البشر بإظهاره حقيقة الإله الصالح، الذي جاء من عنده
وبالصلب. ولما لم يكن له أي صلة بإله الخليقة؛ فإنه لم يكن بشرًا ولم يُولَد ولم
يَنَمُ، ولكن شُبِّه لهم في كنيس كفر ناحوم أولًا في السنة الخامسة عشرة لحكم طيباريوس
قيصر، ثم في سائر الجليل واليهودية والسامرة.
٢٢
وقال مرقيون بخلاص البعض لا الكل، وأوجب الزهد الشديد في المأكل والمشرب، ونهى عن
الزواج، وسمح بمعمودية المتزوجين بعد موافقتهم على الافتراق.
ولم يلجأ مرقيون إلى النبوات ليؤيد صحة مذهبه، ولم يحاول أن يربط عقيدته بنصوص
التوراة، ولم يعتمد سوى رسائل بولس وإنجيل لوقا، وقال بأن الرسل الأطهار لم يفهموا
الإنجيل فهمًا تامًّا؛ لأنهم اعتبروا المسيح رسول الإله الخالق، فاصطفى يسوع بولس
ليصحِّح التعاليم. وقال عمَّا جاء في رسائل بولس من إشارات إلى الإله الخالق أنها دُسَّت
دسًّا، ومن هنا قول ترتليانوس إن مرقيون قرض الأناجيل فاستحق اللقب «جرذ البونط»،
وأضاف أتباعه فيما بعدُ إلى إنجيل لوقا ورسائل بولس العشر رسالة مرقيون في التناقض
بين التوراة والإنجيل
Antitheses، فكان لهم كتاب
مقدس خاص شاع استعماله في جميع كنائسهم.
٢٣
واحتدم الجدل بين مرقيون والقديس بوليكاربوس، فاعتبره هذا «أول خلق الشيطان»،
٢٤ وأمَّ مرقيون رومة حوالي السنة ١٤٠، وكتم غنوسيته ونفح كنيسة رومة بهبة
جليلة، وعكف على «قرض» إنجيل لوقا ورسائل بولس، وعلى تصنيف كتابه في التوراة والإنجيل،
٢٥ ولما تمَّ له ذلك كشف عن وجهه الحقيقي ودعا إلى آرائه، فالتفَّ حوله عدد من
المسيحيين، فطردته الكنيسة وأطرحت هبته، واغتنم القديس بوليكاربوس فرصةَ وجوده في
رومة في السنة ١٥٤، فأنقذ من الضلال عددًا من أتباع مرقيون.
٢٦ وحُكِي أن مرقيون ندم وارتضى بما اشترطته الكنيسة عليه، ولكنه توفي قبل
أن يفعل، ولا نعلم سنةَ وفاته بالضبط، ويرى العلَّامة هرنك الألماني أنها لم تقع بعد
السنة ١٦٠.
٢٧
وذاع أمر هذا القول وفشا، فانتشر في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وعلى
الرغم من دفاع الآباء فإنه ظل شائعًا حتى أواخر القرن الرابع، فقد جاء في كتاب
الهرطقات لأبيفانيوس المؤرخ أن مرقيون كان لا يزال متبعًا في أنطاكية ومصر وفلسطين
والعربية وسورية وفارس وغيرها من البلدان.
٢٨ وجاء القرن الثالث، فسطت المانوية على هذه البدعة، وبدأت تحل محلها في
الغرب أولًا، ثم في الشرق.
٢٩
برديصان (١٥٤–٢٢٢)
واشتهر في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث غنوسي آخَر هو برديصان الرهاوي،
وبرديصان
Bardesenes مشتقة من بار السريانية،
ومعناها ابن، ومن ديصان وهو نهر فوق مدينة الرها، وُلِدَ برديصان على هذا النهر
فسُمِّي به، ثم نشأ في الرها في قصر أبجر التاسع واهتدى إلى النصرانية، فانبرى ينتصر
لها، ثم زاغ عندما تقبَّلَ الغنوسية على مذهب فالنتينوس،
٣٠ وانتمى إلى فرع هذه البدعة الشرقي، فزامَلَ أكسيونيكوس
Axionikos واشتغل بالتنجيم، وأجاد السريانية ونظم الأناشيد،
وأحسن التلحين فافتتنَ بأناشيده شبانُ الرها وفتياتها ونقلوا أضاليله بها. وجاء في
تاريخ أفسابيوس أن برديصان كتب مقالات كثيرة في الفلك والقدرة وغير ذلك، وأن بعضها
نُقِل إلى اليونانية، وليس لدينا اليوم من مصنفاته هذه سوى كتابه في شرائع البلدان
٣١ الذي أملاه على تلميذه فيليبوس، ويرجِّح العلَّامة الأستاذ بيفان أن
برديصان هو صاحب «أنشودة النفس»، ولكن أحدًا من زملائه العلماء لا يشاركه في هذا الرأي.
٣٢
وحكى مار إفرام الملفان أنه قال بسبعة كائنات، ونقل مار ميخائيل الكبير وابن
العبري أنه قال بثلاث طبائع كبار وأربعة كائنات صارت ٣٦٦ عالمًا وكائنًا، وأن الله
لم يكلم موسى والأنبياء وإنما هو رئيس الملائكة، وأن مريم لم تلد جسدًا قابلًا
الموت، لكن نفسًا نيرة اتخذت شكلًا جسديًّا، وكذَّب بالقيامة، وخلط في أمر تكوين العالم.
٣٣
دفاع النصارى
واقتدى الشهداء الأولون بالسيد المخلص، فدافعوا عن الإيمان دفاعه أمام بيلاطس،
ودفاع أسطفانونس أمام المجلس، وبولس أمام فيستوس، ولكن ظروف الاستشهاد لم تسمح بأكثر
من دقائق معدودة، فهبَّ المسيحيون المتنورون يصنفون الرسائل للدفاع عن الإيمان،
وهؤلاء هم الآباء الأبولوغيون. والأبولوغية Apologia كلمة يونانية معناها الدفاع عن قول أو فعل.
وأقدم المدافعين المسيحيين الذين وصلت أخبارهم إلينا القديس كوادراتوس
Quadratus، الذي وجَّه دفاعًا عن الدين القويم إلى
الإمبراطور أدريانوس فقال: «إن أعمال مخلصنا باقية، فالأموات الذين أقامهم والمرضى
الذين شفاهم استمروا في الحياة إلى ما بعد انتقاله، وبعضهم ظلَّ حيًّا حتى عصرنا.»
٣٧ ووجَّهَ القديس أريستيذس
Aristides
الفيلسوف الأثيني دفاعًا آخَر إلى الإمبراطور أنطونينوس بيوس (١٣٨–١٦١) بين السنة
١٣٨ والسنة ١٤٧.
٣٨
يوستينوس الشهيد (١٠٥–١٦٥)
ووُلِدَ في نابلس في مستهل القرن الثاني من أبوين وثنيين يونانيين، يوستينوس
الفيلسوف القديس الشهيد، فنشأ نشأة وثنية، وطلب الحقيقة عند الرواقيين فالأكاديميين
فالفيثاغوريين فلم يرتوِ، ثم استوقفته الأفلاطونية مدةً من الزمن، فلم يجد فيها
مطلبه، وظلَّ يتوق لمعرفة الخير الأعظم والحق الأسمى، فصادف عند شاطئ البحر رجلًا
شيخًا كلَّمه فيما كان يبحث عنه، وأرشده إلى الأسفار المقدسة، وأكَّدَ له أنه لا يمكنه
الوصول إلى ما تمنى «إلا إذا وهبه الله ومسيحه النور السماوي»، ثم غاب عنه واختفى،
فثابر يوستينوس على قراءة النبوات والإنجيل، ووجد ضالته فيها، وتقبل النعمة
بالمعمودية في الثلاثين من عمره، وشاهد المؤمنين يحتقرون الزمنيات ويتقبلون الموت
بلا خوف أو جزع؛ فزاده ذلك إيمانًا، وجعل يبتعد عن العالم، فقبل الكهنوت وانطلق يرشد
ويعلم،
٤٠ ونفخ في الفلسفة اليونانية روحًا مسيحية فكان أول الفلاسفة المسيحيين،
٤١ وقال بوجوب مشاركة الغير فيما وجد لنفسه، واعتبر امتناعه عن ذلك خطيئة
توجب العقاب، فجال في الأرض يبشر بالإنجيل لخلاص النفوس،
٤٢ وما فتئ يجول ويطوف حتى وصل إلى رومة، فاستقر فيها معلمًا.
وأدى إخلاصه وورعه إلى الدفاع عن الدين القويم فصنَّفَ كثيرًا، ولم يَبْقَ من مصنفاته
سوى الأبولوغيتين الأولى والثانية والذيالوغوس، والأبولوغية الأولى موجَّهة إلى
الإمبراطور أنطونينوس بيوس ما بين السنة ١٤٨ والسنة ١٦١،
٤٣ أما الثانية فإنها وُجِّهت إلى مجلس الشيوخ الروماني، وأهم ما جاء في
الأولى رجاء القديس الفيلسوف أن يشمل الإمبراطور المسيحيين بعطفه، فينظر هو في
قضاياهم المماثلة أمام المحاكم، وأردف القديس هذا الرجاء بانتقاد موقف السلطات
الرسمي من المسيحيين، فأبان أن اللفظ «مسيحي» كاللفظ «فيلسوف» لا يشكِّل في حد ذاته
جرمًا أو براءة، ثم يخلص إلى القول بأن امتناع المسيحيين عن احترام الآلهة والتعبد
لها إنما هو ناشئ عن خوفهم من غضب الله في يوم الدينونة، وأنهم بابتعادهم عن الشر
يصبحون أفضل العناصر لتدعيم الحكم وتأييده، وينتقل بعد هذا إلى وصف عقيدة المسيحيين
والطقوس التي يمارسونها والأسباب التاريخية التي تدفعهم إلى ذلك، فالنبوءات في نظره
تثبت أن يسوع ابن الله، والمسيح المخلص أسَّسَ الدين المسيحي ليغير البشرية، ويردها
إلى ما كانت عليه في الأصل، والشياطين قلدت النبوءات فأنشأت أسرار الديانات الوثنية
وطقوسها، وأفلاطون نفسه أخذ عن التوراة؛ ومن هنا هذه الأفكار المسيحية في
فلسفته.
ويستهل القديس الشهيد دفاعه الثاني بالإشارة إلى الحكم بالإعدام، الذي أصدره
أوربيكوس
Urbicus برايفكتوس رومة على ثلاثة من
المسيحيين لمجرد اعترافهم بأنهم مسيحيون، ثم يحكِّم الرأي الروماني العام في مثل
هذه القضية، ويحتج على قساوة الأحكام الصادرة، ويدحض عددًا من التهمات التي كانت
تُلصق بالنصارى، ويرد على بعض المستهزئين، فيقول للذين استغربوا إحجام النصارى عن
الانتحار، على الرغم من أن هذا الانتحار يعجِّل لقاءهم بربهم: إن النصارى لا يعاكسون
إرادة الله، ولكنهم لا يحجمون عن الاعتراف بنصرانيتهم أمام القضاة؛ لأنهم أصحاب
ضمير يعتبرون الكذب نفاقًا وزندقة.
٤٤ ويخلص إلى القول بأن الاضطهاد يهيئ للمسيحيين ظرفًا يُظهِرون فيه تفوُّقَ
دينهم على الأديان الوثنية.
والذيالوغوس الذي أعَدَّه يوستينوس يتضمَّن جدلًا دار في أفسس زهاء يومين كاملين
مع
تريفون اليهودي،
٤٥ ويبدأ القديس هذا الذيالوغوس بسرد ما جرى له في سعيه وراء الحقيقة وفي
كيفية دخوله في النصرانية، ثم يبين في الفصول ٩–٤٧ موقف النصارى من التوراة، فيؤكد
أن ناموس موسى كان وقتيًّا، وأن الناموس المسيحي هو ناموس البشرية بأسرها على مدى
الأجيال، وينتقل بعدئذٍ إلى المسيح الإله، فيكرِّس الفصول ٤٨–١٠٨ إلى تدعيم ألوهية
السيد المخلص، ثم يعتبر المؤمنين به الحافظين وصاياه شعبَ الله الخاص (١٠٩–١٤٢).
والذيالوغوس في الشكل الذي نعرفه عبارة عن تدوين ملخص ما جرى في أفسس، لا تدوين
أسئلة وأجوبة بالتسلسل الذي جاءت فيه أثناء المناقشة.
٤٦
ويرى الآباء المجتهدون أن يوستينوس الشهيد الفيلسوف كان أول مَن كشف الأسرار
المقدسة للوثنيين واليهود، فقد جاء في الفصل الحادي والستين من أبولوغيته الأولى
أنه يجب على مَن رام الدخول في النصرانية أن يصوم ويصلي، ويلتمس الغفران عن مآثمه
السابقة، وبعد ذلك يُقَادُ إلى المكان المهيَّأ فيه الماء، فيُعمَّد باسم الآب والابن
والروح القدس، ثم يُؤخَذ إلى حيث يكون الإخوة مجتمعين، فيصلِّ من أجله ومن أجل جميع
المؤمنين؛ وبعد قبلة المحبة يقدِّم الخبز والخمر والماء إلى المترأس، فيشكر هذا الآب
مبدع الكون باسم الابن والروح القدس، ويشترك المؤمنون بهذا الشكر بلفظة آمين؛ الكلمة
العبرية التي تعني «فَلْيكن»، وبعد أن يكمل المترأس الصلوات والتسابيح يأخذ الشمامسة
الخبز والخمر ويوزعونهما على الحاضرين، ثم يأخذونهما للغائبين أيضًا؛
٤٧ ويؤكد القديس أن هذا القوت يُدعَى عند المسيحيين أفخارستية، فلا يتناوله
إلا مَن قال قولهم واغتسل من آثامه، وطبَّقَ تعاليم السيد المخلص، وأن الخبز ليس خبزًا
عموميًّا، وأن الخمر ليس مشروبًا اعتياديًّا، بل هما جسد الكلمة المتجسد ودمه.
٤٨
وتطاول كريشنتة
Crescens الفيلسوف الكيني على
المسيحيين، فقال إنهم كفرة مجدفون يخدعون الجماهير ليربحوا تأييدهم، فانبرى
يوستينوس للدفاع، وحج هذا الفيلسوف الوثني وقرَّعه، فضمر كريشنتة السوء، ووشى
بيوستينوس وبستةٍ آخرين، فاستجوبهم روستيكوس
Rusticus برايفيكتوس رومة في السنة ١٦٥، وأمر بضربهم بالعصي، ثم
بقطع رءوسهم، وحفظ المسيحيون المعاصرون نصَّ هذه المحاكمة وأورثوها الخلف الصالح،
٤٩ وإليك بعضها:
روستيكوس
:
أيَّ علم تدرس؟
يوستينوس
:
لقد درست جميع العلوم الواحد بعد الآخر، وقد انتقيت لنفسي تعاليم
المسيح.
روستيكوس
:
وما هي هذه التعاليم؟
يوستينوس
:
أن يؤمن بإله واحد خالق كل شيء، وأن يُعترف بيسوع المسيح ابن الله ديَّان
البشر، ولا يمكنني أنا الضعيف أن أتكلم عن ألوهيته كما يجب؛ فإن هذا الكلام
هو عمل الأنبياء الذين تنبئوا عنه منذ قرون بوحي من فوق.
روستيكوس
:
أين يجتمع المسيحيون؟
يوستينوس
:
حيثما يمكنهم ذلك؛ لأن إله المسيحيين يُعبَد في كل مكان.
روستيكوس
:
هل أنت مسيحي؟
يوستينوس
:
أنا مسيحي.
روستيكوس
:
يقول الناس إنك فيلسوف فصيح، فإذا ضربتك بالعصي، ثم قطعت رأسك، أتعتقد أنك
تصعد إلى السماء؟
يوستينوس
:
إني واثق إلى حدٍّ لا يعتريني شكٌّ بعدَه.
روستيكوس
:
تعبَّد للآلهة.
يوستينوس
:
العاقل لا يشتري الضلالة بالهدى!
وأعدم القديس الفيلسوف في عهد الإمبراطور مرقس أوريليوس، وسرق المسيحيون جسده
وأجساد رفاقه ووضعوها جميعها في مكان لائق بها، ولا نزال نحيي ذِكْر هؤلاء في القداس
الإلهي في أول حزيران من كل عام.
٥٠
تاتيانوس السوري (١١٠–١٨٠)
وُلِدَ تاتيانوس
Tatianus في الجزيرة السفلى في
حديابين، من أبوين وثنيين فتربَّى في الوثنية، ثم طلب الحكمة، فرحل وتجول وأقام في
بلاد اليونان مدةً من الزمن وانتهى في رومة، وعاشر اليونانيين والرومانيين ومارس
طقوسهم، فلم يجد في أديانهم إلا ضلالًا وفسادًا؛ فهو يقول: لقد رأيتُ هذه الأشياء،
واشتركتُ في ممارسة الأسرار، وتفحَّصت جميع الطقوس التي أنشأها المخنثون والخناثى،
فوجدت جوبيتر الروماني يستلذ الدم البشري والذبائح البشرية، وكذلك أرتميس فإنها
أجازت مثل هذا، ووجدت شياطين آخرين يقذفون انفجارات من الشر؛ وعندئذٍ عدتُ إلى نفسي
أبحث عن السبل التي تقودني إلى الحقيقة، فوقعت يدي على مصنفات برابرة أقدم من آراء
اليونانيين وأقرب من ضلالاتهم إلى الحق الإلهي، فراقت لي سذاجتها، وتجلَّى لي صِدْقها
وحسن عندي تعليمها بوحدانية الله، وثبت لدي أن الطقوس الوثنية تقود إلى الدينونة
والعقاب، وأن هذه الأسفار تخرج من العبودية، وتخلِّص من ربقة الطغاة وجمهور المعلمين.
٥١
ويرى العلماء الباحثون أن تاتيانوس تنصَّر في رومة، ولزم يوستينوس الفيلسوف وأخذ
عنه وانتصر للنصرانية ودافع عنها، ولكنه خالف أستاذه في موقفه من الفلسفة
اليونانية، فيوستينوس وجد شيئًا من الحقيقة فيما صنفه رجال الفكر اليوناني واحترم
فلسفتهم، أما تاتيانوس فإنه انثنى على اليونانيين بالملام الشديد، فانهال على
فلسفتهم وعلومهم وفنونهم ولغتهم، وعذلها عذلًا.
٥٢
وأنشأ تاتيانوس بعد استشهاد معلمه مدرسة في رومة علَّم فيها الدين وشرح الأسفار،
والتفَّ حوله عدد من الطلبة بينهم رودون
Rhodon.
٥٣
وصنف تاتيانوس لمناسبة الأستذة خطابًا Discursus
في أربعة أجزاء؛ خص الأول منها بالكوسمولوغية Cosmologia، فأبان موقف المسيحيين من الإله الخالق وعلاقة
الكلمة بالآب، وكيفية خلق العالَم والإنسان والملائكة، وبحث في الجزء الثاني من هذا
الخطاب في الشياطين والشيطنة، وشدَّدَ في الثالث النكير على الحضارة اليونانية، فأظهر
محالية الفلسفة اليونانية وسمو التجسُّد النصراني، ورذائل المسرح اليوناني، والتناقض
بين الفلسفة اليونانية والشرع اليوناني، وتفوق الدين المسيحي، وأبان في الجزء
الرابع من هذا الخطاب قدم عهد الآداب المسيحية.
وساقه الغرور إلى الانحراف عن الصراط المستقيم، وأخذ عن الغنوسيين وغيرهم من
هراطقة القرن الثاني،
٥٤ فانكفأ إلى وطنه حوالي السنة ١٧٢، وأقام مدة في أنطاكية فقيليقية
فالرها، وجمع في الرها الأناجيل الأربعة في كتاب واحد أسماه «من خلال الأربعة»
Diatessaron، وكتبه باليونانية أولًا،
ثم بالسريانية، فتُلِي في كنائس الرها وإقليم الفرات زمانًا مديدًا حتى أبطله
رابولا أسقف الرها في القرن الخامس، واستبدله بالأناجيل الأربعة المفضلة.
٥٥ وقد عثر المنقبون في دوره في السنة ١٩٣٤ على جزء من الدياتيسرون
باليونانية، يعود فيما يظهر إلى ما قبل السنة ٢٥٤،
٥٦ ونُقِل الدياتيسرون إلى الأرمنية في القرن السادس، وإلى العربية في
القرن الحادي عشر، وذلك على يد الراهب أبي الفرج ابن الطيب ودُعِي
«الرباعي».
ويرجح العلماء المدققون أن تاتيانوس هو مؤسس مذهب الإنكراتيت
Encratites، وهؤلاء قوم «من غلاة الأعفة نسجوا على بعض منوال
المرقيونية، واستهواهم الإفراط في الزهد، فحرَّموا أكل اللحم وكل ذي نفس والخمر
والزواج»، واستعاضوا عن الخمر بالماء في سر الأفخارستية، فسموا «الأكواريون» أيضًا
Aquariens، ولا نعلم شيئًا عن وفاته.
٥٧
ثيوفيلوس الأنطاكي (١٦٩–١٨٥)
وهبَّ للدفاع عن الإيمان المقدس بعد أرستون ويوستينوس وتاتيانوس ثيوفيلوس أسقف
أنطاكية، ولا يخفى ما لدفاع هذا الأسقف من الأهمية؛ لأنه صدر عن رئيس مسئول، ولأنه
قُوبِل بارتياح تام في الأوساط المسيحية القديمة، فظلَّ مرجعًا هامًّا لمَن عني بالعقيدة
طوال قرون ثلاثة متتالية.
وعلى الرغم من تقدير لكتانيتوس (٢٥٠–٣٢٥)
٥٨ لهذا الأسقف المجاهد واهتمام أفسابيوس المؤرخ (٢٦٥–٣٣٩) لمؤلفاته ومصنفاته،
٥٩ وتذرع إيرونيموس (٣٣١–٤٢٠) بأقواله،
٦٠ فإن أحدًا منهم لم يحفظ لنا شيئًا من أخباره، وجلُّ ما دوَّنه أفسابيوس أن
ثيوفيلوس كان الأسقف السادس بعد بطرس، وأنه جاهَدَ ضد الهراطقة، وكتب في مواضيع
معينة.
ولذا ترانا مضطرين أن نعود إلى ما تبقى من مصنفات ثيوفيلوس لالتقاط ما أشار إليه
هذا الأسقف عن نفسه في عرض كلامه، ويستدل من رسالته الثانية إلى أوتوليكوس أنه نشأ
في بيئة هلينية يونانية بالقرب من الفرات، وأنه اهتمَّ للغة العبرية،
٦١ ويجوز القول إنه كان واسع الاطِّلاع يعرف شعر هوميروس وإسيوذ وبعض
مناقشات أفلاطون، وأنه أحَبَّ التاريخ واستعان به كثيرًا، ولا نراه كثير الاهتمام
بالعلوم الزمنية والفلسفية؛ فهو يسخر ممَّن بحث في شكل الأرض، ويقول إن العقل البشري
لا يمكنه أن يعلم ما إذا كانت الأرض كرويةَ الشكل أو مكعبة؛
٦٢ ولا يجوز القول إنه كان لاهوتيًّا قديرًا، فإن ما قاله عن خلق السموات
والأرض ينمُّ عن شيء من السذاجة والسخف،
٦٣ ولكن لا يختلف اثنان فيما نعلم في مقدرة ثيوفيلوس في الكتابة والتصنيف،
فإنه كان أديبًا واسع الخيال، رشيق اللفظ، فخم الكلام.
٦٤
وقد غالى بعض العلماء في النقد، فقالوا بثيوفيلوسين أحدهما أسقف أنطاكية والآخر
صاحب الرسائل التي أشرنا إليها، واستدلوا على ذلك بالإشارة الواردة إلى وفاة مرقس
أوريليوس في الرسالة الثالثة، فقالوا إن تاريخ هذه الوفاة أمر تاريخي ثابت يجب
الابتداء به والبنيان عليه؛ فمرقس هذا توفي في السابع عشر من آذار سنة ١٨٠،
وثيوفيلوس الأسقف توفي بموجب رواية أفسابيوس في السنة ١٧٨، فلا يجوز والحالة هذه أن
يقال إنه هو صاحب هذه الرسائل، وآثروا القول بثيوفيلوس آخر عاش بعد الأسقف الأنطاكي.
٦٥ وقد فات هؤلاء أن أفسابيوس الذي يستمسكون بروايته يقول بصراحة إن واضع
هذه الرسائل هو ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، ويرى العلامة الأب بردي أن أفسابيوس أخطأ في
تاريخ وفاة ثيوفيلوس الأسقف، وأنه أقرب إلى الحقيقة أن يكون هذا الأسقف قد توفي في
السنة ١٨٥ لا ١٧٨.
٦٦
وليس لدينا من مصنفات هذا الأسقف الباسل سوى رسائله الثلاث إلى أوتوليكوس، ولا
نعلم مَن هو أوتوليكوس، فقد يكون شخصًا حقيقيًّا ألَّف ليسخر من الدين المسيحي، وقد
يكون شخصًا وهميًّا جعل منه الأسقف هدفًا للنصح والإرشاد.
٦٧
وقد جاء في رسالة ثيوفيلوس الأولى إلى أوتوليكوس أن أوتوليكوس هذا كان أحد
أصدقائه الوثنيين، الذين مجدوا آلهتهم وأنبوا ثيوفيلوس لاعتناقه العقيدة النصرانية،
وهزءوا من إلهه غير المنظور ومن قيامة الموتى، قائلين إنهم لم يروا ميتًا عاد إلى
الحياة، فيجيبهم ثيوفيلوس: إن الله روح لا يراه إلا المؤمن، ولا يجده إلا نقي القلب
ولا يوصف لأنه يفوق البصيرة، وإذا كنا لا نُبصره فإننا نلمس وجوده بمظاهر عنايته وتدبيره.
٦٨ ثم ينتقل هذا الأسقف الباسل إلى قيامة الموتى فيتذرع بالإيمان فيقول:
أليس من الضروري أن نثق بالطبيب الذي يعالجنا، والمعلم الذي يعلمنا، والربان الذي
يقود سفينتنا؟ فأحرى بنا أن نؤمن بما يقوله الله لنا، الإله الحق لا آلهة الوثنيين المزورة.
٦٩
ويستهل ثيوفيلوس رسالته الثانية بخلاصة ما جاء في الأولى، ثم يحاول أن يرد
أوتوليكوس عن الآلهة، فيتساءل عن ماهيتها وقيمتها وسبب توقُّفها عن التناسُل بعد خصبها
الأول، ويهزأ من الفلاسفة فيرى باعترافهم بوجود هذه الآلهة ضربًا من الجهل
والبلاوة، وفي اختلافهم في الرأي حولها دليلًا على قلة وزن ما يقولون.
٧٠ وينتقل بعد هذا إلى النبوات المقدسة التي أوحى الله بها إلى أنبيائه،
فيبين صدقها باكتمالها فيما بعدُ، ثم يعرض عندئذٍ قصة الخليقة كما جاءت في سفر التكوين،
٧١ ويجيء بعد هذا كلامٌ عن السيبولات المتنبئات اليونانيات، يظهر ثيوفيلوس
فيه بعض الاتفاق بين ما قلنه وبين ما جاء على ألسنة الأنبياء.
٧٢
ويثير أوتوليكوس حداثة عهد النصرانية والنبوات التي تستند إليها، فيكرِّس ثيوفيلوس
قسمًا هامًّا من رسالته الثالثة إلى هذا الموضوع، وبعد أن يبين ضآلة الأساطير
اليونانية التي تبحث في كيفية نشوء العالم، يؤكد أن الأنبياء وحدهم يستحقون الثقة فيما
يقولون عن هذه المواضيع البعيدة الأجل؛ لأنهم تكلموا فيها بوحي من الله. ويخلص
بعد هذا كله إلى القول بأن موسى والأنبياء أقدم بكثير من مشترعي اليونان وشعرائهم.
٧٣
وقد ضاعت مؤلفات ثيوفيلوس الأخرى، وأهمها كتابه في تكوين العالم الذي أشار إليه
في الرسالة الثانية إلى أوتوليكوس،
٧٤ ورده على كلٍّ من هيرموجانوس ومرقيانوس اللذين ذكرهما أفسابيوس في تاريخ الكنيسة،
٧٥ وقد يكون رد ترتيليانوس على هيرموجانوس مستوحًى من كتاب ثيوفيلوس،
٧٦ ويرى بعض العلماء أن كلًّا من أدمنتيوس وإيرينايوس اعتمدا ردَّ ثيوفيلوس
على مرقيانوس في مصنفَيْهما الشهيرين.
٧٧ ويفيد أفسابيوس أن ثيوفيلوس صنَّفَ في التعليم المسيحي، ويذكر إيرونيموس
أن ثيوفيلوس كتب في تفسير الإنجيل وفي شرح أمثال سليمان.
٧٨
ويرى رجال اللاهوت أن ثيوفيلوس الأنطاكي تشرد في الإيمان، فلم يرَ موجبًا لإقامة
الدليل على العقائد، ولكنه لم يحرِّم اللجوءَ إلى العقل والفلسفة، فهو يقول إن مجرد
الالتفات إلى الكون والوقوف على نظامه يكفيان للاعتراف بخالق حكيم قدير،
٧٩ بَيْدَ أنه لا يشعر بحاجة إلى هذا النوع من الدليل؛ لأن البرهان الحقيقي
في مثل هذه الأمور هو قول الأنبياء.
ويقول ثيوفيلوس بإله واحد خالق السموات والأرض، لا بداية له ولا نهاية، حي قيوم لا
يتغير، وهو آب؛ لأنه سبق كل شيء وخلق كل شيء، وكان الكلمة عند الله، وكان كائنًا فيه
Logos Endiathetos، ففاه الله الكلمة قبل كل
شيء
Logos Proforichos وصنع به كل شيء،
٨٠ وأنطق الأنبياء بالروح القدس فكانوا قديسين عادلين، وبحكمته تكلَّموا عن
خلق العالَم وعن كل شيء.
٨١ ويعزو المؤرخون المجتهدون هذا التفريق بين الكلمة الكامنة — إذا جاز هذا
التعبير بالعربية — والكلمة الناطقة؛ إلى أثر الفلسفة الرواقية.
٨٢
ولا يجوز القول إن ثيوفيلوس هو «أول مَن جاهَرَ بالثالوث الأقدس»؛
٨٣ لأن المكاشفة بالثالوث جاءت في الأناجيل الطاهرة والرسائل المقدسة، وجل
ما يجوز قوله هو أن اللفظ اليوناني
Trias يَرِد لأول
مرة في الأدب المسيحي القديم (كما نعرفه اليوم) في رسائل ثيوفيلوس إلى أوتوليكوس،
ويجوز القول أيضًا إن هذا اللفظ اليوناني ليس من نحت ثيوفيلوس؛ لأن ثيوفيلوس لا
يشعر عند استعمال هذا اللفظ أنه أتى بشيء جديد، فهو لا يقف عنده ولا يلفت النظر
إليه، بل يستعمله كلفظ معروف شائع مفهوم؛ ولا يستغرب والحالة هذه أن يكون غيره قد
استعمل هذا اللفظ من قبله، وأن تكون الألسن قد تداولته حتى أصبح معروفًا لا حاجة
إلى تفسيره والتعليق عليه.
٨٤
ويرى العلامة الأب باردي أن سكوت ثيوفيلوس عند التجسد الإلهي في رسائله الثلاث
هذه، إنما نشأ عن اهتمامه في الرد على قضايا معينة أثارها الوثنيون المعاصرون، فهو
لم يهدف إلى وضع مصنف كامل شامل في العقيدة المسيحية، وإنما قصد أن يردَّ تُهَمًا معينة
ويهدي من الضلال.
٨٥
سرابيون (١٩١–٢١٢)
وجلس بعد ثيوفيلوس في سُدَّة أنطاكية مكسيمينوس
Maximinos (١٨٥–١٩١)، وقد ضاعت أخباره، ولم يبقَ منها سوى ذكر اسمه،
٨٧ وخلفه بعد وفاته سرابيون
Serapion وهو
التاسع بعد بطرس، وقد اشترك في الدفاع عن الإيمان، وصنف في ذلك رسائل عدة، منها
رسالة إلى الإكليريكيين كيريكسوس
Carixos
وبنطيوس
Pontios، ومنها رسالة وجهها إلى
ذمنوس
Domnos الذي كان مسيحيًّا فارتد عن
الإيمان؛ ليردَّ عن نفسه آلام الاضطهاد في عهد سبتيميوس سويروس «فسقط في خرافة اليهود».
٨٨
ومما نُقل عنه أنه صنف كتابًا في إنجيل بطرس بيَّنَ فيه ما حواه هذا الإنجيل
المزوَّر من التعاليم المرقيونية الفاسدة، وكان الداعي لذلك أن دعاة المرقيونية
تسلَّلوا إلى صفوف كنيسة أرسوز
Rhossos بين رأس
الخنزير والإسكندرونة، فبذروا فيها بذور الشقاق، فأقبل بعض أبناء هذه الكنيسة على
مطالعة هذا الإنجيل المزور وامتنع غيرهم عن ذلك، فأذن سرابيون بقراءته أولًا تهدئة
للخصام، ثم استحصل على نسخة من هذا الإنجيل وعكف على مطالعتها، فلمس الدسَّ والتضليلَ
فيها، فوضع رسالة في ذلك كله، وبعث بها إلى المؤمنين في أرسوز وأنبأهم بقرب زيارته لهم؛
٨٩ وجاء في التقليد أن سرابيون سام بالوط أسقفًا على الرها،
٩٠ فأثبت بذلك وبتدخله في شئون كنيسة أرسوز سلطته على الكنائس التي أسَّسها
المبشرون الذين انطلقوا من أنطاكية.