حجر حمص الأسود
وكانت حمص لا تزال تعبد الشمس وتقدس حجرًا أسود مخروطي الشكل يُحمَل لمناسبات
دينية خاصة، ويطاف به في شوارع المدينة تبركًا وإجلالًا، وكان السادن يوليوس
باسيانوس Bassianus وجيهًا محترمًا، له سطوة
ونفوذ في جميع الأوساط الوثنية في حمص وما جاورها.
وفي السنة ١٨٠ جاء حمص قائد روماني من أصل فينيقي أفريقي يُدْعَى سبتيميوس سويروس
Septimius Severus، فافتتنته يولية مرتي
ابنة باسيانوس الكاهن، ونُقل إليه أن عرَّافة تعلم الغيب تقول إن مَن يتزوج من يولية
مرتي يصبح ملكًا، فتزوج سبتيميوس القائد من مرتي، ونقل اسمها إلى اللاتينية فجعله
Domna فأصبحت زوجته يولية دومنة.
١
وكان ما كان من أمر سبتيميوس القائد، وأصبح في السنة ١٩٣ إمبراطور رومة الوحيد،
وكانت يولية ذكية قديرة فغَصَّ القصر بالحمصيين والحمصيات، وبينهم رجل محنك قانوني
كبير هو إميليوس بابنيانوس Aemilius Papinianus
أحد أنسباء يولية الإمبراطورة، فقدر للوثنية في حمص أن تلعب دورًا هامًّا في سياسة
الدولة الدينية.
سياسة سبتيميوس الدينية
وكان سبتيميوس نفسه متمسكًا بالوثنية، يقول بغثها وسمينها، ويواظب على القيام
بفرائضها، فلما قُدِّر له أن يصبح إمبراطور رومة وحبرها الأعظم
Pontifex Maximus اهتم اهتمامًا كبيرًا بالدين
ورجاله، وحافظ على التقاليد الموروثة والفرائض المفروضة، وعني بالمعابد والهياكل
فرمم القديم وعمَّر الجديد وبذل بسخاء في بعلبك، وكان من الطبيعي أن تُظهِر الحاشية
اهتمامَها أيضًا في الدين وفرائضه، فتبارى أفرادها في تكريم الآلهة والاعتناء بكل ما
يمتُّ إلى الدين الوثني بصلة.
٢
ولم يتعرَّض سبتيميوس للنصارى بسوء في السنوات الأولى من حكمه، ويذهب ترتليانوس إلى
أبعد من هذا، فيفيد أن النصارى وقفوا إلى جانب سبتيميوس في نزاعه ضد نيجر وألبينوس،
وأنهم فرحوا لنجاحه عندما سقطت بيزنطة في يده، وأنه تدخَّلَ هو فحمى وجهاءهم من سخط
الجماهير في السنة ١٩٧؛
٣ ولعلَّ السبب في هذا التفاهم والتعاون كان عطف الغريب على الغريب
للصمود في وجه الرومانيين الأصليين، ومما جاء في ترتيليانوس أيضًا أن سبتيميوس كان
قد ألحق عددًا من المسيحيين في خدمته قبل وصوله إلى العرش، وأنه كان قد وكل تربية
ابنه البكر إلى عائلة مسيحية وتقبل المسح بالزيت المقدس على يد طبيب مسيحي جعل هذا
الزيت دواء شافيًا.
٤
وعلى الرغم من هذا كله فإن المؤرخين يُجمِعون على أن الاضطهاد الخامس وقع في عهد
سبتيميوس، فأفسابيوس يؤكد أن هذا الاضطهاد بدأ في السنة العاشرة من حكم سبتيميوس؛ أي
في السنة ٢٠٢،
٥ ويضيف صاحب التاريخ الأوغوسطي أنه بعد أن توشح سبتيميوس بالقنصلية في
أنطاكية في أول كانون الثاني من السنة ٢٠٢، حرَّم التبشير بالدين اليهودي، واتخذ
قرارًا مماثلًا فيما يتعلق برعاياه المسيحيين.
٦ والواقع أن أنطونينوس بيوس كان قد حرم على اليهود ختن غير اليهود من
الوثنيين، وأن سبتيميوس كان قد كرر هذا التحريم، فأوجب معاقبة مَن يختن رومانيًّا
بمصادرة أملاكه وإبعاده إلى جزيرة من الجزر، وعاقَبَ مَن ختن رقيقًا بالموت،
٧ واتخذ سبتيميوس الإجراءات نفسها لكبح النصرانية وردها عن التوسع، فكان
ينظر في كل حادث على حدة، فيأمر بنوع من العقوبة المشار إليها أعلاه، ولم يتخذ فيما
يظهر قرارًا عامًّا أبطل به الدين المسيحي كما فعل خلفاؤه داقيوس وفاليريانوس وديوقليتيانوس.
٨
ولا نعلم شيئًا عن تطبيق هذه الأحكام وتنفيذها في فلسطين وسورية، ولعل ما حفظه
لنا أفسابيوس
٩ عن ارتداد دومنوس
Domnos في أنطاكية
وعودته إلى دين اليهود هو أثر من آثار هذا التهديد والتهويل، أما في مصر فإن نجاح
ذيذاسقاليون
Didasxaleion الإسكندرية وإقبال
الوجهاء والأعيان عليه، وجلوس الفلاسفة والنسوة الشهيرات وأفراد العائلات
الأرستوقراطية العالية وأبناء البيوتات المثرية على مقاعده، أفزع سبتيميوس، فهرع
إلى تطبيق عقوباته بشدة؛
١٠ ففر إقليمس الإسكندري رئيس هذا الذيذاسقاليون إلى قيصرية قبدوقية،
واستشهد ليونيذاس والد أوريجانس الشهير وجمهور من المؤمنين والموعوظين من جميع
أنحاء مصر، وأشهر هؤلاء القديسة الشهيدة بوتميانة.
١١
ولم تؤثر هذه الشدة في نفوس المؤمنين، ولم يقتفِ أثر دومنوس أحد فيما نعلم، وتابع
سرابيون أسقف أنطاكية العمل في حقل الدفاع عن العقيدة، فكتب ما كتب إلى أبنائه
الروحيين في أرسوز كما سبق وأشرنا، وقام من أبناء كنائس قيصرية فلسطين وعكة وصور
وبيروت مَن حمل الإنجيل إلى تلال لبنان وحارب الوثنية فيه، وتقبل أبجر التاسع ملك
الرها (١٧٩–٢١٦) النصرانية، فانتشرت بسرعة بين رعاياه في وادي الفرات وما جاورها،
ووجه برديصان رسالة بالسريانية إلى سبتيميوس دافَعَ فيها عن دين المسيح،
١٢ ولم يكن أثر شرائع سبتيميوس في نفوس المؤمنين في الغرب أشد منه في الشرق.
١٣
كركلا (٢١١–٢١٧)
وادَّعَى كركلا أنه أتقى الرجال،
١٤ واستمسك بدين رومة استمساك سلفه سبتيميوس، ورحب بالآلهة الشرقية وضحى
لها في أثناء وجوده في الشرق، وجمع أولبيانوس مستشاره القضائي كل ما كان قد صدر من
الأحكام ضد المسيحيين، فأوردها في الكتاب السابع من مؤلفه
De
officio Proconsulis،
١٥ ولكن كركلا لم يتخذ أي إجراء قانوني ضد النصارى، ويدَّعِي ترتليانوس أن
مسيحيين أشرفوا على تربيته؛
١٦ ومهما يكن من أمر تربيته فالواقع الذي لا جدال فيه هو أن عددًا من
المسيحيين التحقوا بحاشيته، وقاموا بمهام كبيرة، وأشهرهم أوريليوس بروسينس
Aurelius Prosenes.
١٧ ولا بد من إعادة النظر فيما نُسِب إلى عهده من قساوة واضطهاد واستشهاد،
فأما أن يكون الآباء المدونون قد ضلوا بسبب اسمه الرسمي
M.
Aurelius Antoninus، أو أن تكون بعض هذه الحوادث قد تمت في
الولايات تحت ضغط الغوغاء.
١٨
وأحَبَّ كركلا الشرقَ فعاد إليه في السنة ٢١٥، واستقبلته أنطاكية استقبالًا حافلًا،
وأقام فيها مُعِيدًا إليها عزَّها ومجدَها، وكان والده قد غضب على أنطاكية، فجعل
اللاذقية عاصمة الشرق، وقسم ولاية سورية إلى ولايتين: سورية الفينيقية وسورية
المجوفة
Coele، فجعل مدينة صور عاصمة الأولى،
وضمَّ إليها دمشق وحمص وتوابعهما،
١٩ وترامى إلى كركلا سخر الإسكندريين منه ومن والدته، فترك والدته في
أنطاكية، ونهض إلى الإسكندرية فاقتصَّ من أهلها وعاد إلى أنطاكية، ثم استدعى كلًّا من
ملك الرها وملك أرمينية إلى أنطاكية ليكرمهما إكرام الحلفاء الأصدقاء، فزجهما في
السجن وجعل من مملكتيهما ولايتين رومانيتين، وحارب أرطبون ملك البرت فخرَّ صريعًا
(٨ نيسان ٢١٧) من جرَّاء مكيدة دبَّرها مكرينوس قائد الحرس، وتلقت يولية دمنة والدته
نبأ مقتله في أنطاكية فخضعت لأمر الإمبراطور الجديد، ولكنها امتنعت عن الطعام فماتت جوعًا.
٢٠
إله الجبل (٢١٨–٢٢٢)
ولم يرضَ أشراف رومة وعظماؤها عن وصول مكرينوس إلى الحكم؛ لأنه لم يمتَّ بصلة إلى
الأسرة الحاكمة، ولأنه لم يكن سوى فارس عادي، وعلى الرغم من الاحترام الذي أظهره
لأعضاء السناتوس، ومن بعض الإصلاحات الداخلية والوعود التي قطعها على نفسه لجمهور
الشعب في رومة، فإنه لم يُوفَّق إلى الحصول على الرضى، وكان قد اضطر لإنهاء حرب الفرات
اضطرارًا، فجاء سلمها محاطًا بكرامة رومة واعتزاز جنودها.
وكانت يولية ماييسة
Julia Maesa شقيقة يولية
دمنة قد عادت إلى مسقط رأسها مع ابنتي شقيقتها يولية سومياس
Soemias ويولية مامية
Mammaea،
وكان قد وُلِدَ ليولية سومياس من زوجها القنصل السوري فاريوس مركلوس
Sex. Varius Marcellus ولدٌ ذكرٌ اسمه
فاريوس باسيانوس
Varius Avitus Bassianns،
وعلى الرغم من حداثة سنه، وكان لم يتجاوز الرابعة عشرة، فإنه كان قد ورث وظيفة جده
لأمه، فأصبح كاهن حمص الأعظم، فلما أخفق مكرينوس في استرضاء الرومانيين روَّجت
يولية ماييسة خبرًا في الأوساط العسكرية الرومانية في سورية، مؤداه أن فاريوس
باسيانوس هو ابن لكركلا غير شرعي من نسيبته سومياس، وأنه هو أحق بالحكم من هذا
المغامِر الأفَّاق، ووعدت الجنود بالعطاء فقبلوا، فخرج غنيس
Gannys مربي باسيانوس إلى معسكر حمص في السادس عشر من أيار سنة
٢١٨، وخرج معه كومازون أفتيخيانوس محافظ البلدة، فقدما باسيانوس إلى الجند، فنادوا
به إمبراطورًا،
٢١ ولم يقوَ مكرينوس على الصمود في وجه الإمبراطور الجديد، ففرَّ من سورية
وأُلقِي القبض عليه وقُتِل.
وأدخل باسيانوس عبادة الشمس الحمصية إلى رومة، ونقل إليها حجرها الأسود، واتخذ
لنفسه اسم إلهه فعُرِف ﺑ
Elagabalus أو
Heliogabalus، وتلخص سياسته الدينية في أنه
توخى الجمع بين جميع الأديان الوثنية الرائجة في إمبراطوريته، ولا صحة فيما يظهر
لما جاء في التاريخ الأوغوسطي من أن هذا الإمبراطور أراد أن يمثل في معبد إلهه
النصرانية والسامرية واليهودية.
٢٢ واختتن «إله الجبل» وامتنع عن أكل لحم الخنزير،
٢٣ ولكن هذا لم يعنِ أنه تهود؛ لأن معظم الساميين شاركوا اليهود في هذه
التقاليد، وليس لدينا ما يثبت أن السيدة سفيرينة
Severina التي وجه إليها هيبوليتوس
Hippolytus عالم الكنيسة إحدى رسائله، هي زوجة إله الجبل أو إحدى نسائه،
٢٤ وجل ما يجوز قوله هو أن أحدًا من المسيحيين لم يُمَسَّ بأذًى في عهد هذا
الإمبراطور، وأن أحدًا من كتابهم لم يذكر هذا الإمبراطور بسوء.
٢٥
سويروس ألكسندروس (٢٢٢–٢٣٥)
وكان ما كان من أمر تهتك «إله الجبل» وانصرافه عن شئون الدولة ومصرعه، فتولى
الحكم بعده ابن خالته أليكسيانوس
باسيانوس
Alexianus Bassianus ابن يولية مامية وغاسيوس مرقيانوس العكاري
Gessius Macianus، وكانت ماييسة قد
أشاعت عن أليكسيانوس أيضًا أنه ابن كركلا غير الشرعي، فلما تسلم أزمة الحكم انتسب
إلى سويروس وعُرِفَ بالاسم سويروس ألكسندروس.
٢٦
وكانت يولية مامية قد عنيت عناية فائقة بتربية ولدها وتثقيفه؛ فنشأ أليكسيانوس
شابًّا أديبًا مهذبًا لطيفًا وديعًا، يجيد اللغتين اليونانية واللاتينية ويتذوق
آدابهما، ويحترم رومة وتقاليدها، فلما تسلم أزمة الحكم أعاد الحجر الأسود إلى حمص،
وأظهر تعلقه بآلهة رومة ودينها، وأكرم في قصره من الأباطرة مَن كان قد أصبح في مصاف
الآلهة، كما أظهر احترامًا شديدًا للإسكندر الكبير ولأبولوتيوس تيانة وفيرجيليوس
وشيشرون وغيرهما من كبار الرجال،
٢٧ ولا يعقل أن يكون قد أكرم بهذه الطريقة نفسها إبراهيم اليهود ومسيح
النصارى؛ لأن شرائع رومة كما سبق وأشرنا كانت قد بيَّنتْ وجه التناقض بين دين
الدولة وهذين الدينين، وقُلِ الأمرَ نفسه عمَّا جاء في التاريخ الأوغوسطي من أن هذا
الإمبراطور أراد أن ينشئ هيكلًا للمسيح، وأن يعتبر سيد النصارى إلهًا من آلهة رومة،
٢٨ وأنه لدى وقوع المشادة بين نصارى رومة وأصحاب الحانات فيها حول ملكية
قطعة من الأرض، حكم بالملكية للنصارى، فإن مثل هذه المواقف تتعارض والقوانين السارية
المفعول.
٢٩
وجلُّ ما يجوز قوله هو أن هذا الإمبراطور العاقل المسالم سكت عن النصارى ولم
يلاحقهم بشيء، فأذن لهم بذلك بالبقاء، ولكنه لم يتمكن في الوقت نفسه من الصمود في
وجه تيار قد يُثار ضد مسيحي معين أو جماعة من المسيحيين، كما يدلنا على ذلك حادث
استشهاد أسقف رومة القديس كليستوس في الرابع عشر من تشرين الأول سنة ٢٢٢.
٣٠
أحبار أنطاكية
ووافقت رئاسة سرابيون عهد سبتيميوس سويروس، فبدأت في السنة ١٩١ وانتهت في السنة
٢١٢، وخلف سرابيون في الكرسي الرسولي أسقليبياذس
Asclepiades، وكان قد ذاق العذاب لأجل يسوع في قبدوقية فاستحق لقب
«المعترف»، وما إن علم إلكسندروس المعترف أسقف قيصرية قبدوقية بوصول أسقليبياذس إلى
السدة الأنطاكية، حتى كتب إلى الأنطاكيين يقول:
من إلكسندروس خادم يسوع المسيح وسجينه إلى كنيسة أنطاكية المغبوطة سلام
بالرب: لقد جعل السيد أصفادي محتملة خفيفة حينما بلغني، وأنا لا أزال في
السجن، إن أسقليبياذس الذي يستحق التقدير لأجل إيمانه قد تقبَّل بعناية الله
أسقفية كنيستكم الأنطاكية المقدسة، وإني أبعث لكم يا سادتي وإخوتي برسالتي
هذه على يد إقليمس القس السعيد الفاضل المحترم الذي تعرفون، لقد كان حضوره
بيننا بعناية السيد ورقابته مثبتًا للكنيسة ومقوِّيًا لها.
٣١
وتُوفِّيَ أسقليبياذس في السنة ٢١٨، فخلفه في الرئاسة فيليطوس Philetos (٢١٨–٢٣١)، وقدِّر لهذا الأسقف أن يجني
شيئًا من فوائد المهادنة التي كانت قد حلت بين الكنيسة والدولة في عهد الأباطرة
الحمصيين، فسُرَّ من عطف الإمبراطور سويروس ألكسندروس على يوليوس الأفريقي أحد
أبناء كنيسة أوروشليم، واغتبط لما شاهده في أنطاكية نفسها من مظاهر الإكرام
والاحترام التي أحيط بها أوريجانس الإسكندري عالم الكنيسة آنئذٍ.
يوليوس الأفريقي
هو سكستوس يوليوس
أفريكانوس
Sextus Julius Africanus، وُلِدَ في أوروشليم في المستعمرة الرومانية العسكرية
Aelia Capitolina في النصف الثاني من القرن
الثاني، والتحق بالجيش الروماني، ورافق الإمبراطور سبتيميوس سويروس إلى الرها
وجهاتها، واشترك في الأعمال الحربية فيها وأصبح ضابطًا محترمًا، ثم أقام في
عمواس
Nicopolis متقاعدًا، وألَحَّ زملاؤه من
أبناء هذه المستعمرة أن يقوم إلى رومة؛ ليعرض بعض المطالب ويفاوض السلطات فيها، فأمَّ
العاصمةَ الرومانية في السنة ٢٢٤ لهذه الغاية، فقُدِّرَ له أن يتصل بشخص الإمبراطور
سويروس ألكسندروس، فأصغى إليه وعطف عليه، وطلب إليه أن يجمع له مكتبة بالقرب من
البانتيون ففعل.
٣٢ وكان يوليوس قد بدأ بوضع كشكولٍ أدبي علمي، فأسماه الوشاء
Kestoi، وضمنه مسائل طبية وزراعية وعسكرية وسحرية
وتنجيمية، فجاء في أربعة وعشرين بابًا، ورأى يوليوس أن يهدي هذا المؤلف إلى
الإمبراطور، فاغتنم فرصة وجود الإمبراطور في أنطاكية سنة ٢٣١-٢٣٢، ونهض إليها فقدَّمَ
هذا المؤلَّفُ إلى الإمبراطور نفسَه، وصنَّف يوليوس حوليات في تاريخ العالم
Chronographia منذ أقدم العصور حتى السنة ٢٢١،
أبان فيها قدم التاريخ المقدس وأفضليته على تاريخ اليونان والرومان، وشاع استعمال
هذا المؤلَّف فيما بعد، فأخذ عنه أفسابيوس وعدد من مؤرخي الروم،
٣٣ وحرَّرَ يوليوس رسائل بحث فيها قصة سوسان ونسبة مار يوسف خطيب السيدة
العذراء في إنجيل متَّى ولوقا، وتوفي حوالي السنة ٢٤٠.
٣٤
أوريجانس في أنطاكية
وخرَّ أرطبان صريعًا في صيسفون في السنة ٢٢٧، فدالت دولة الأراشقة، وأسس أردشير
دولة ساسانية فتية، واضطر أردشير أن يقضي على مَن تبقى من الأراشقة في أرمينية،
فامتد لهيب الحرب إلى أرمينية وحدود رومة، وأنذر سويروس ألكسندروس زميله الساساني
الجديد، وذَكَّرَهُ بما فعلته رومة بسلفائه الأراشقة فلم تنفع الذكرى؛ فاضطر
الإمبراطور الروماني أن يجيِّش للقاء هذا الخصم الجديد، فنهض إلى أنطاكية في السنة
٢٣١ وجعلها قاعدة أعماله، ورافقته والدته يولية مامية، فاستقرت في أنطاكية مدة من
الزمن.
واهتمت والدة الإمبراطور لانتشار النصرانية، وعلمت أن علم أعلامها آنئذٍ كان
أوريجانس الإسكندري، فأوفدت إليه حرَّاسًا إمبراطوريين، واستقدمته إلى أنطاكية لتسمع
منه شروح بعض المسائل الدينية، ففعل وأقام في أنطاكية مدة من الزمن. ويختلف رجال
الاختصاص في تعيين الزمن الذي تمت فيه هذه الزيارة؛ فالأستاذ كاديو يجعلها من حوادث
السنة ٢٢٤-٢٢٥،
٣٥ أما العلَّامة بينييه والسيد بيلماير، فإنهما يتفقان في جعلها من حوادث
السنة ٢٣٢،
٣٦ ويجب ألا يغيب عن البال أن أفسابيوس الذي ينفرد في رواية هذا الخبر
٣٧ لا يقول إن يولية هذه كانت مسيحية، ولا إنها تنصَّرَتْ بعد هذه المقابلة،
ولا يخفى أيضًا أن حاكم العربية، ولعله
Furnius
Julianus كان قد استدعى أوريجانس إلى بصرى ليتحدث إليه في «بعض
أمور» منذ السنة ٢١٤-٢١٥، وأن أوريجانس كان قد لبى الطلب.
٣٨
مكتبة أوروشليم
وكانت أم الكنائس قد خصت رئاستها بأقرباء السيد في الجسد وبغيرهم ممن كان من أصل
يهودي، فلما أوقد اليهود نار الثورة سنة ١٣٢، وتشردوا كما سبق وأشرنا، أخذت أم
الكنائس تختار لرئاستها أساقفة من الأمم، وكان مرقس الأسقف الأول من هؤلاء والسادس
عشر بعد يعقوب أخي الرب، وفي السنة ١٨٥ رقي السدة الرسولية الأوروشليمية نرقيسوس
القديس Narxisson الذي تشرف بفعل المعجزات،
وعَمَّرَ نرقيسوس طويلًا (١٠٠–٢١٦)، ولما لم يَعُدْ يستطيع القيام بأعباء وظيفته
لتقدمه في السن، دعت عناية الله ألكسندروس أسقف قيصرية قبدوقية لزيارة الأماكن
المقدسة في السنة ٢١٢.
وكان ألكسندروس هذا قد درس على بنطينس وأقليمس الإسكندريين، وجاهد في سبيل الدين،
فما إن علم المسيحيون بقدومه حتى ألحوا عليه بالبقاء بينهم وتولي شئون كنيستهم،
واشترك مسيحيو الكنائس المجاورة في هذا الإلحاح، فقبل ألكسندروس وساس كنيسة
أوروشليم تسعًا وثلاثين سنة (٢١٢–٢٥١)، وأفضل ما يُذكَر له بعد تمسُّكه بأهداب
الدين القويم وقيامه بالواجب الرعائي، اهتمامُه بإنشاء مكتبة في أوروشليم تجمع أهم
ما صنف في الدين المسيحي، وأثمن ما تبودل من رسائل في مشاكل الكنيسة واحتياجاتها في
ذلك العصر، وقد تَسَنَّى لأفسابيوس المؤرخ أن يستعين بهذه المجموعة القيمة عندما
صمَّم على تدوين تاريخ الكنيسة.
٣٩ ويُجمِع العلماء الباحثون على أن هذه المكتبة هي أقدم مكاتب النصرانية،
٤٠ ومما يُذكَر لهذا الأسقف التقي الفاضل اهتمامُه في تشجيع الحج إلى
الأماكن المقدسة، وما كان للحج من أثر في تقريب القلوب وتوحيد الصفوف.
٤١
مدرسة قيصرية فلسطين
وكان ما كان من أمر الاضطهاد الذي أمر به كركلا في السنة ٢١٥-٢١٦، ففرَّ أوريجانس
العالم من الإسكندرية، والتجأ إلى قيصرية فلسطين، فرحب به أسقفها ثيوكتيستوس
Theoctistos وأسقف أوروشليم صديقه ورفيقه في
التلمذة ألكسندروس، وطلبا إليه مع غيرهما من أساقفة فلسطين أن يفسر الأسفار المقدسة
لجمهور المؤمنين، ففعل وعلَّم وأرشد، فغضب ديمتريوس أسقف الإسكندرية، وكتب يؤنب
زملاءه في فلسطين لخروجهم عن العُرْف المألوف وسماحهم لرجل علماني أن يعلِّم في
الكنيسة، وأمر ديمتريوس أوريجانس بالعودة إلى الإسكندرية، فعاد إليها وواظب على
التعليم والتأليف من السنة ٢١٧ حتى السنة ٢٣٠،
٤٢ ثم قام إلى أخائية في بلاد اليونان للفصل في اختلاف نظري بين بعض
المسيحيين، ومرَّ بقيصرية فلسطين، فاحتفل أسقفها وأسقف أوروشليم بسيامته قسًّا،
فغاظ ذلك ديمتريوس فأسقطه من وظيفة التعليم.
وفي السنة ٢٣١ استقدمته مامية والدة الإمبراطور إلى أنطاكية، فلما انتهى من عمله
فيها عاد إلى قيصرية فلسطين واستقر فيها، فنشأت حوله مدرسة لاهوتية اشتهرت
بأساتذتها وطلابها، فزادت النصرانية في فلسطين وما جاورها إيمانًا وازدهارًا، وأشهر
مَن قرأ على أوريجانس في قيصرية غريغوريوس العجائبي وأخوه أثيندوروس وفرميليانوس القبدوقي،
٤٣ وتابع أوريجانس أبحاثه في تحري النصوص المقدسة والتعليق عليها، وفي
الدفاع عن الإيمان القويم، ومن أفيد ما دبَّجَ يراعُه في قيصرية عظاتُه وإرشاداتُه،
فإنها تلقي ضوءًا واضحًا على حالة الكنيسة في النصف الأول من القرن الثاني.
٤٤
يوليوس مكسيمينوس (٢٣٥–٢٦٨)
وفي آخِر السنة ٢٣٤ نهض سويروس ألكسندروس إلى غالية وعبر الرين على جسر من القوارب
ليحارب البرابرة، ولكنه بدأ يفاوض هؤلاء مفاوضة بدلًا من محاربتهم، فغضب الجند
لكرامتهم ولم يرضوا عن التفاوض، ونسبوا هذا الضعف والتقاعس في السياسة إلى والدة
الإمبراطور، التي كانت ترافقه في جبهة القتال، وكانوا قد أحَبُّوا مدرِّبهم
Julius Verus Maximinus لشجاعته وكرمه، فعرضوا
الإمبراطورية عليه فرفض أولًا ثم قبل، فنادوا به إمبراطورًا، وانقضُّوا على سويروس
ألكسندروس ووالدته وقتلوهما.
وشكا مكسيمينوس من مركب نقص في نفسه، فشعر أن سلفه كان أعلم منه وأشرف، فخشي سوء
العاقبة واضطهد حاشية سويروس فنكَّلَ بهم تنكيلًا، وبما أن سويروس عطف على المسيحيين،
وألحق عددًا منهم بخدمته، فإن مكسيمينوس اضطهد النصارى، وخصَّ رؤساءهم بعذاب أليم،
٤٥ وكأنه قصد بتهجمه على الرؤساء أن ينفذ الأحكام التي كان قد أصدرها
سبتيميوس سويروس منذرًا أن التبشير بالنصرانية أمر غير شرعي،
٤٦ فأبعد عن رومة إلى سردينية أسقف رومة بونتيانوس وعالم كنيستها
هيبوليتوس، وأمر الإمبراطور الجديد بإلقاء القبض في قيصرية فلسطين على الشماس
إمبروسيوس يد أوريجانس اليمني وعلى الأب بروتيكتيتوس، أما أوريجانس نفسه، فإنه ظلَّ
حرًّا طليقًا فيما يظهر؛ لأن تلميذه الشهير غريغوريوس المشار إليه آنفًا يفيد في
خطابه الذي دبجه في السنة ٢٣٨ أنه تابع دروسه على أستاذه أوريجانس خمس سنوات
متتالية بدون انقطاع،
٤٧ ولا نعلم شيئًا عمَّا جرى لأسقف أنطاكية زيبنوس
Zebennos (٢٣١–٢٣٨)، ولكن مراجعنا الأولية لا تشير إلى اضطهاده أو
استشهاده، وقُلِ الأمر نفسه عن سائر أساقفة سورية وفلسطين. ويرى العلامة المؤرخ موريس
بينيه أن قصر عهد الإمبراطور مكسيمينوس وعدم مطاوعة عمَّاله له أدَّيَا إلى تخفيف وطأة
الاضطهاد وتقصيره.
٤٨
غورديانوس الثالث وفيليبوس العربي (٢٣٨–٢٤٩)
وأثقل مكسيمينوس كاهل الأهلين بالضرائب، وأصغى عمَّاله بسهولة فائقة الحد إلى
الوشاة، وصادروا أملاك الأغنياء وكنوز الهياكل، فأثاروا بذلك استياء الجماهير وغضبهم،
٤٩ فأعلن جنود أفريقية في السنة ٢٣٧ غورديانوس الأول إمبراطورًا، وكان هذا
من أشراف رومة وقد ناهز الثمانين، فأشرك ابنه غورديانوس الثاني في الحكم معه،
وقاومهما والي موريتانية (الجزائر)، فسقط غورديانوس الثاني في ميدان القتال وانتحر
والده العجوز، وثار جنود مكسيمينوس في وجهه، فقتلوه في أثناء حصار أكويلية في ولاية
البندقية، وتدخَّلَ مجلس الشيوخ فانتخب بوبيانوس
Pupienus وبلبينوس
Balbinus
فغورديانوس الثالث (٢٣٨–٢٤٤) حفيد الأول؛ نزولًا عند رغبة الشعب.
٥٠ وكان غورديانوس الثالث لا يزال في الثالثة عشرة من عمره، فاضطر أن يرضي
جنود الشرق، فأشرك فيليبوس العربي معه في الحكم في السنة ٢٤٣، ثم خرَّ صريعًا في
السنة ٢٤٤ بيد قائد الحرس، فاستأثر فيليبوس بالسلطة (٢٤٤–٢٤٩).
٥١
فيليبوس والنصارى
وُلِدَ فيليبوس
Julius Philippus في حوران في
أوائل القرن الثالث من أبوين حورانيين من رتبة فارس،
٥٢ ولا صحة للقول بأنه تحدر من أصل وضيع، أو أن والده كان زعيم عصابة من اللصوص،
٥٣ ولا نعلم شيئًا عن حداثته أو عن سيرته قبل الحرب الفارسية في عهد
غورديانوس الثالث، ويتضح من النصوص الباقية أنه كان قد توصَّل عند نشوب هذه الحرب إلى
رتبة قائد، وأنه كان قد تمكن على الرغم من بُعده عن رومة من الاتصال بمجلس شيوخها
ومن استرضائهم، وما إن توصَّل إلى دست الحكم حتى خفَّفَ الضرائب عن كاهل الأهلين، وأبعد
عن شخصه الوشاة والجواسيس، ونهج نهج الإمبراطور المثالي مستمسكًا بالفضائل الرواقية،
مثبتًا أنه سيد جنوده لا رقيقهم.
٥٤
ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن فيليبوس العربي عطف على النصارى، ولم ينفذ في
حقهم القوانين السارية المفعول، ومما لا شك فيه أيضًا أن فيليبوس وظَّف المسيحيين،
وجعل من بعض أساقفة أفريقية ولاة إمبراطوريين.
٥٥
فيليبوس والقديس بابولا
وهل يجوز أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنقول مع القديس إيرونيموس وأوروسيوس أن
فيليبوس كان أول الأباطرة النصارى،
٥٦ ونقول مع الذهبي الفم إن فيليبوس الإمبراطور خضع للتكفير الذي فرضه
عليه القديس بابولا أسقف أنطاكية (٢٣٨–٢٥٠)، فوقف في كنيسة أنطاكية مع الموعوظين هو
وزوجته الإمبراطورة؛ لأنه كان قد اتهم بمقتل غورديانوس الثالث؟
٥٧
وفي الإجابة عن هذا نقول إن النصرانية كانت قد انتشرت انتشارًا واسعًا في حوران
قبيل أيام فيليبوس، وإن أفسابيوس الذي حفظ لنا هذا الخبر وُلِدَ في السنة ٢٦٥ وسيم
أسقفًا على قيصرية فلسطين في السنة ٣١٣، وعرف الرسائل التي وجَّهها أوريجانس إلى
فيليبوس وزوجته أوتاكيلية
Otacilia، وإن يوحنا
الذهبي الفم كان ابن أنطاكية، وإن ما سمعه فيها عن القديس بابولا نُقِل إليه في النصف
الثاني من القرن الرابع، وإنه يجوز والحالة هذه أن يكون فيليبوس قد تقبل النصرانية
في حداثته، ولم يتظاهر بها عملًا بالتقية الشائعة في أوساط النصارى في ذلك العهد،
ولا نرى مبررًا للأخذ برواية ثيودوريطس مع العلامة غوستاف بردي، والقول إن الذي فُرِض
عليه التكفير ووقف مع الموعوظين هو ثيودوسيوس لا فيليبوس،
٥٨ وأشهر مَن اعترض على صحة هذه الرواية المؤرخ الألماني نومان.
٥٩