الإمبراطور داقيوس والنصارى (٢٤٩–٢٥١)
وقدر الرومان فيليبوس العربي حق قدره، ورأوا في شخصه حاكمًا عاقلًا رزينًا، أحب
رومة وأخلص لها وحافظ على تقاليدها، ولكن حدة المناظرة والمشادة بين جيوش الشرق
وجيوش الغرب دفعت هؤلاء إلى المناداة بقائدهم
Messius Traianus
Decius إمبراطورًا لدى نجاحه في إبعاد البرابرة القوط عن
الدانوب، وكان ما كان من أمر القتال بين فيليبوس وبين داقيوس بالقرب من فيرونة في
إيطالية، فدارت الدائرة على الأول وسقط في الميدان مقاتلًا.
١
وبوصول داقيوس إلى منصة الحكم دخلت الكنيسة في دور جديد من حيث علاقاتها بالدولة
الرومانية، فداقيوس اقتدى بتريانوس وحمل اسمه، فأحب أن يعود برومة إلى ما كانت عليه
في أيام عزها، واستمسك بدين الآباء والأجداد، فأعلنا حربًا لا هوادة فيها على مَن
آمَن بيسوع إكليروسًا وشعبًا، وقد مرَّ بنا أن الأباطرة السابقين اعتبروا الدين
المسيحي دينًا غير شرعي، واكتفوا أولًا بالنظر في الحوادث لدى ظهورها، ثم منعوا
التبشير واتخذوا بعض الإجراءات ضد مَن اشتهر في اجتذاب الناس إلى الكنيسة؛ أما
داقيوس فإنه جعل السلطة المركزية في الدولة تأخذ قمع النصرانية على عاتقها، فتتخذ
إجراءات معينة للتفتيش عن النصارى ومجازاتهم في جميع أطراف الدولة.
مرسوم التحريم (٢٥٠)
وقد ضاع نص المرسوم الذي حرَّم به داقيوس القول بالنصرانية، وادعاء بيدون
Bedon في السنة ١٦٦٤ بأنه عثر على هذا النص هو
ادعاء باطل؛
٢ فرجال الاختصاص يُجمِعون اليوم على أن نص بيدون نصٌّ مزوَّر، وأن بيدون
نفسه زوَّره بيده.
٣ وعلى الرغم من ضياع هذا النص، فإن العلماء الباحثين قد تمكنوا
باجتهادهم من معرفة مضمون النص أو مؤداه؛ فديونيسيوس الإسكندري يقول إن المرسوم كان
مخيفًا، وإنه أوقع بكبار الرجال،
٤ وأوريجانس يرى فيه محاولة لمحو اسم يسوع،
٥ ومما نقله غريغوريوس النيسي أن هذا المرسوم الإمبراطوري قضى بتعذيب
المؤمنين لإرجاعهم إلى عبادة الشياطين،
٦ ويفيد القديس كبريانوس الأفريقي أن الحكومة الرومانية ألَّفت لجانًا
محلية لتنفيذ الإرادة السنية وإرغام المسيحيين على عبادة الآلهة وتقديم البخور
والخمر لها وتناول اللحم المقدس،
٧ وقد أثبتت آثار مصر ما جاء في هذه النصوص؛ فإن أعمال التنقيب في وادي
النيل في القرن الماضي أتحفتنا بما لا يقل عن أربعين وثيقة بردية تعود إلى شهري
حزيران وتموز من السنة ٢٥٠، وتنص على أن حامليها ما برحوا يخدمون الآلهة ويقدمون
البخور والخمر لها ويشتركون في تناول اللحم المقدس، وأنهم يستحقون نيل الشهادة بذلك
من «أعضاء اللجنة».
٨
القديس خريستوفوروس
وجاءَ في التقليد في سير القديسين أن خريستوفوروس الذي كان قد تقبَّل النعمة على
يد بابولا أسقف أنطاكية، ونال شهرة واسعة في التدين والورع والتقوى، لقي حتفه في
عهد داقيوس في إقليم ليقية في جنوبي آسية الصغرى، فجُلِد بقضبان من حديدٍ حتى تناثَرَ
لحمه واستحم بدمه، ثم طُرِح في لهيب النيران، ولما نجا منها عُرِّضَ لسهام الجنود فلم
يَمُتْ،
فجزَّ رأسه جزًّا.
الإمبراطور غالوس والطاعون (٢٥١–٢٥٣)
وعاد القوط إلى البلقان وعبروا الدانوب وتجهوا نحو فيليبوبوليس (٢٥٠)، فاضطر
داقيوس أن يصمد في وجههم ويردهم فسقط في ميدان القتال (٢٥١) عند مصب الدانوب،
فنادى الجنود
بغالوس Vibius Tribonianus Gallus إمبراطورًا، وقبلوا بهوستليانوس Hostilianus ابن داقيوس شريكًا له في الحكم، فصالَحَ غالوس القوط
وعاد مسرعًا إلى رومة ليدبِّر أمورها.
وانتشر وباء في حوض المتوسط في أواخر السنة ٢٥١ ولعله الطاعون، فاجتاح
الإمبراطورية من أقصاها إلى أقصاها، وجرف عددًا كبيرًا من الضحايا، ورأى الوثنيون في
هذا كله مظهرًا من مظاهر غضب الآلهة لانتشار النصرانية، فطالبوا بالعودة إلى
الاضطهاد، فمثلت مأساة أخرى أدت إلى استشهاد عدد من المسيحيين في رومة وفي ولاية
إفريقية وفي الإسكندرية.
١٤
الإمبراطور فاليريانوس (٢٥٣–٢٦٠)
وفي السنة ٢٥٣ عبر القوط الدانوب مرة أخرى، فردهم حاكم ميسية أميليوس أميليانوس
Aemilius Aemilianus، وأوقع بهم خسارة
فادحة، فاستكبر الجنود عمله ونادوا به إمبراطورًا، وحذا حذوهم جنود الشرق كله،
فاستنجد غالوس بقائد قوات نهر الرين ليكينيوس فاليريانوس
Licinus Valerianus، وما إن علم جنود هذا بواقع الحال حتى نادوا
به أيضًا إمبراطورًا، فالتقت في إيطالية جيوش متعادية ثلاثة، فانتصر أميليانوس على
غالوس في أواخر أيار وقضى عليه، وبعد ذلك بثلاثة أشهر خرَّ أميليانوس نفسه صريعًا
بخناجر جنوده، وكثرت مشاكل الدولة وتشعبت، فوكل فاليريانوس الأشراف على حدود الرين
وما جاورها إلى ابنه غاليانوس
Gallianus، ونهض هو
على رأس جيوشه إلى الشرق لينظر في شئونه ويدرأ خطر الفرس.
١٥
وكانت هيبة رومة قد ضاعت في الشرق، وكثرت تعديات القبائل العربية في بادية سورية،
فلجأ داقيوس في أوائل عهده إلى حيلة غريبة يدرأ بها خطر هذه القبائل، فاستقدم عددًا
من الأسود واللبوات من أفريقية، وأطلقها في بادية الشام تهدد القبائل بفناء جمالهم
وسائر ماشيتهم.
١٦
وكان غالوس لا يزال في قيد الحياة (٢٥٣) عندما زحف شابور الساساني على أرمينية
والجزيرة وسورية الشمالية، ودخل أنطاكية مخرِّبًا محرقًا سابيًا، ولولا حزم أمير
حمص وكاهنها الأعظم أورانيوس
أنطونينوس Uranius Antoninus وصموده في وجه الفرس، لانتشر هؤلاء في طول البلاد
وعرضها.
وعلى الرغم من تقدُّم فاليريانوس في السن، وكان قد ناهز السبعين، فإنه ما كاد
يستولي على عرش الأباطرة حتى أدرك حراجة الموقف في الشرق، فاستعاد أنطاكية في السنة
٢٥٤، ونهض بجنوده في السنة التالية، فجعل سميساط قاعدةً لأعماله الحربية، ولكن خوفه
من مطامع كبار القادة أدَّى إلى الاستعاضة عنهم بضباط عاديين، فتمكَّنَ هورمزد بن شابور
من اختراق الحدود عند الصالحية
Doura Europos
والتوغل في سورية الشمالية، وتألبت العناصر المعارضة على فاليريانوس واتصلت
بالأكاسرة، فقاد مارياذس
Mariades أحد أبناء
أنطاكية الفرس إلى مسقط رأسه، فدخلوا أنطاكية مرة ثالثة في السنة ٢٥٨، وأعملوا
السيوف في رقاب أهلها، ووقع فاليريانوس (٢٦٠) أسيرًا في يد شابور،
١٧ ولكن مكريانوس
Macrianus أمين المال
تمكَّنَ بمعونة حامية الرها من الامتناع في سميساط وتدبير هجوم معاكس، وصمد القائد
بليستة
Ballista في وجه شابور في قيليقية،
وأنزل به خسارة فادحة، فاضطر شابور أن يهرول شطر الفرات، وما إن وصل إلى هذا النهر
حتى أوقع به سبتيميوس أذينة أمير تدمر؛ فاضطر أن يسرع في التراجع تاركًا شيئًا
كثيرًا من غنائمه.
١٨
فاليريانوس والنصارى (٢٥٧–٢٦٠)
وسكت فاليريانوس في بدء عهده عن النصارى ولم يلحق بهم أذًى، وكثر عددهم في
البلاط، وشغل بعضهم وظائف هامة، وتظاهرت سالونينة
Salonina كنة الإمبراطور بعطفها على النصارى ولعلها تنصَّرَتْ، وغالى
بعض النصارى في مديح الإمبراطور فشبه بلاطه بكنيسة الله.
١٩
ثم أحدق الخطر بالإمبراطورية في جميع أطرافها، فهجم الإفرنج والألمان على حدودها
الغربية، وتجرأ القوط في وادي الدانوب وحوض البحر الأسود، وثار البربر في أفريقية،
وعبر شابور الفرات وخرق حرمة الدولة؛ فاضطربت الأوساط الرسمية والشعبية، وعزا بعضهم
ذلك إلى امتناع المسيحيين عن إرضاء الآلهة، ورأوا فيهم خطرًا داخليًّا كبيرًا على
سلامة الدولة.
٢٠ وكان مكريانوس يمين الإمبراطور شديد التعلق بالديانات الوثنية الشرقية،
فأشار فيما يظهر بوجوب التضييق مرة أخرى،
٢١ واستصدر إرادتين إمبراطوريتين: الأولى في آب السنة ٢٥٧، والثانية في
السنة التالية، فحرَّمت الأولى إجراء الطقوس المسيحية وزيارة المدافن، وأوجبت على
الأساقفة والكهنة والشمامسة أن يقدموا الذبائح لآلهة الإمبراطورية،
٢٢ ثم تبين للسلطات أن عدد المسيحيين كان أكثر بكثير مما قدروه، وأن عددًا
غير قليل منهم كان من الطبقات العالية، فجاءت الإرادة الثانية في السنة ٢٥٨ تفرق
بين طبقات أربع من المسيحيين: الأساقفة وسائر الإكليروس، وأعضاء مجلس الشيوخ
والفرسان، والسيدات ورجال البلاط، والأملاك السنية، وفرضت هذه الإرادة الثانية
عقوبة الموت على الإكليروس، وعزل الشيوخ والفرسان من مراكزهم ومصادرة أملاكهم،
والحكم عليهم بالإعدام إذا أصروا على القول بالنصرانية، أما السيدات فتُصادَر
أملاكهنَّ وينفون وتُصادَر أملاك رجال البلاط، ويُكرَهون على العمل في أراضي الأباطرة
مقيَّدين بالسلاسل،
٢٣ وتتميز هاتان الإرادتان عن غيرهما من الأوامر التي أوجبت الاضطهاد في
أنهما توجبان مصادرة الأملاك، ويجوز القول والحالة هذه إن فاليريانوس أراد أن يدافع
عن دين الدولة، وأن يملأ خزائنها في آنٍ واحد.
٢٤
واستشهد في الغرب من جرَّاء التشريع عدد من الرؤساء، أشهرهم: سكستوس الثاني أسقف
رومة، وكبريانوس الفرطاجي، ومما يُؤسَف له أن جميع مصادرنا القديمة خالية من
أخبار اضطهاد الرؤساء الأساقفة في سورية وفلسطين. ومع أن أفسابيوس يفيدنا أن
ديمتريانوس خلف فابيوس في رئاسة كنيسة أنطاكية فيما يعادل السنة ٢٥٣،
٢٥ وأن هيليودوروس ترأس كنيسة اللاذقية، وأن مارينوس كان أسقف صور
وثيوقتيستوس
Theoctistos أسقف قيصرية
ومزابانس
Mazabenes أسقف إيلية أي أوروشليم،
٢٦ فإنه لا يذكر شيئًا عن علاقتهم بالسلطات الرومانية، ولا يجوز الاجتهاد
في هذا السكوت؛ لأن مراجعنا قليلة، ولأنها ليست تواريخ منظمة كاملة. وقد يكون سبب
هذا السكوت أن فاليريانوس ووزيره كانَا بأشد الحاجة إلى السكينة في الداخل؛ ليتمكَّنَا
من التفوُّق على الساسانيين وإجلائهم عن الأراضي الرومانية، ولا يزال خبر أسر
ديمتريانوس أسقف أنطاكية ونقله إلى فارس غير ثابت، وهنالك إشارة في مصدرين آخرين
إلى استشهاد أسقفين مرقيونيين لا قيمة سياسية لهما؛ نظرًا لقلة أهمية المرقيونيين آنئذٍ.
٢٧ ويعتز أفسابيوس بحرارة الإيمان التي دفعت ثلاثة من أبناء كنيسته إلى
الاستشهاد في سبيل السيد المخلص، فهو يقول إن بريسكوس وملكوس وألكسندروس خرجوا من
مساكنهم في الأرياف، وأموا قيصرية فلسطين، ومثلوا أمام السلطة فيها متطوعين غير
مُكرَهين، فقضوا نحبهم تحت براثن الوحوش.
٢٨
وجاء في التقليد أن الحاكم الروماني في أنطاكية قبض في السنة ٢٥٨ على الكاهن
الأنطاكي سبيريكيوس، وأمره أن يقدِّم الذبائح للآلهة، فرفض بجرأة ودافع دفاعًا مجيدًا
عن النصرانية، فصدر أمر الحاكم بضرب عنقه، وفيما هو ذاهب ليلقى حتفه اعترض سبيله
صديق قديم اسمه نيقيفوروس، وطلب إليه أن يصفح عن الماضي ويغفر له، غير أن الكاهن لم
يكترث فرافقه نيقيفوروس إلى موضع النطع، وكرَّرَ رجاءَه قائلًا: «يا شهيد المسيح
سامحني؛ لأني أخطأت إليك.» ولكن سبيريكيوس لم يصفح، فركع نيقيفوروس على قدمي
الكاهن، والدمع يبلل وجهه وأعاد الكرة، ولكن سبيريكيس لم يفه بكلمة واحدة، ثم
أُمِرَ سبيريكيوس أن يركع لينفذ فيه الحكم، فاستولى عليه الخوف وجحد النعمة، وقال
إنه مستعِدٌّ لتقديم الذبائح للآلهة، وعندئذٍ صاح نيقيفوروس بالجلادين قائلًا: «أنا
مسيحي وإني أؤمن بالسيد المسيح الذي أنكره هذا، فاقتلوني بدلًا منه.» فمات
شهيدًا!
غاليانوس (٢٦٠–٢٦٨)
وكان ليكينيوس أغناطيوس
غاليانوس
Licinius Egnatius Gallienus قد شارَكَ أباه في الحكم منذ السنة ٢٥٣، فلما وقع والده في
يد الفرس أسيرًا أحاطت به النكبات والمصائب؛ فاشتدت وطأة الطاعون حتى جرف الناس بالألوف،
٢٩ وجاءت الزلازل تصدع الأبنية والمساكن في إيطالية وأفريقية وآسية (٢٦٢)،
٣٠ وتمرَّد الأرقاء في صقلية
٣١ واشتد ضغط البرابرة عند الحدود وكثر عدد الطامعين بالملك، ونادى
مكريانوس بابنَيْه مكريانوس وكوايتوس قيصرين في الشرق، واعترفت بسلطتهما آسية وسورية
ومصر (٢٦٠)،
٣٢ ثم ازداد طمعه، فنهض وابنه البكر إلى الغرب ليقضي على غاليانوس فمني
بالفشل في اليرية وخرَّ صريعًا (٢٦١).
ورأى غاليانوس أن يستعين بأذينة العربي أمير تدمر فمنحه لقب
Dux، وأمره على جميع جنود رومة في الشرق،
٣٣ فهب أذينة للكفاح في سبيل غاليانوس، فقتل كوايتوس في معركة حمص (٢٦٢)
وقضى على حركته، ودانت له باسم غاليانوس مصر وسورية وآسية الصغرى، ثم عبر الفرات
يحارب الفرس، فاكتسح العراق حتى طيسفون وأعاد الحدود الرومانية إلى ما كانت عليه في
عهد سبتيميوس سويروس.
٣٤ وفي السنة ٢٦٦ نهض إلى آسية الصغرى يطهرها من القوط البرابرة، الذين
نزلوا إليها من الشمال، فاضطرهم إلى العودة إلى قواربهم بعد خسائر فادحة،
٣٥ فكافأه غاليانوس بأنه منحه لقب إمبراطور ولقب
Corrector
Orientis، ثم كان ما كان من أمر أذينة واغتياله، فظن غاليانوس
أن الفرصة سنحت لفرض سلطته على الشرق مباشَرةً، فلم يمنح وهبة اللات ابن زنوبية من
أذينة الألقاب نفسها التي حملها أذينة، فصمدت زنوبية في وجه الإمبراطور وأكرهته على التراجع،
٣٦ وعادت المياه إلى مجاريها، فحكمت زنوبية وابنها باسم غاليانوس كما
تدلنا على ذلك المسكوكات التي ضُرِبت في أنطاكية.
غاليانوس والنصارى
وأدَّى ضغط البرابرة في الخارج وطمع الزعماء في الداخل إلى اعتدال في سياسة
غاليانوس، فأمر في السنة ٢٦٠ بوقف الاضطهاد الذي كان قد أوجبه والده، ولا نعلم نص
الإرادة الإمبراطورية بوقف الاضطهاد،
٣٧ ولكننا نقرأ في تاريخ الكنيسة لأفسابيوس أن الأساقفة استغلوا الظرف
الجديد فتقدموا من الإمبراطور مطالبين برد الكنائس والمدافن المصادرة إليهم، فأجاب
الإمبراطور سؤلهم، وسمح لهم بمزاولة أعمالهم كما سبق لهم وفعلوا قبل الاضطهاد.
٣٨
ثم يتابع أفسابيوس فيذكر وصول ديمتريانوس إلى أسقفية أنطاكية بعد فابيوس (٢٥٣)،
٣٩ ووصول دومنوس إلى الأسقفية في قيصرية فلسطين بعد ثيوقتيستوس، ووصول
هيمينايوس إلى أسقفية أوروشليم بعد مزابانس، ويقول إنه في عهد هؤلاء أي في السنة
٢٦٢-٢٦٣ تمَّ استشهاد مارينوس الشريف الغني صاحب الرتبة العالية في الجيش، وذلك
لمناسبة ترقيته، فإنه ما كاد أحد زملائه يعلم بهذه الترقية حتى أعلم السلطات
العسكرية بأنه هو أحق من مارينوس بها؛ لأن مارينوس كان نصرانيًّا، فأحيل مارينوس
إلى القضاء، فمثل أمام آخيوس القاضي في قيصرية فلسطين، فسأله القاضي عن مذهبه، فأجاب
أنه نصراني، فرفق به القاضي ومهَّل حكمه ثلاث ساعات ليعيد مارينوس فيها النظر في
أمر معتقده، فلما خرج من قاعة المحاكمة أخذه الأسقف بيده إلى الكنيسة، ووقف به أمام
المذبح ثم رفع رداء مارينوس العسكري وأمسك بالخنجر باليد الواحدة، وتناول الإنجيل
المقدس باليد الأخرى، وقال لمارينوس: انتقِ أنت هذا أو ذاك. فاستمسك مارينوس
بالإنجيل، فقال الأسقف: اذهب بسلام. فعاد مارينوس إلى قاعة المحاكمة، فحكم عليه بالإعدام؛
٤٠ ومن هنا تحفظ رجال الاختصاص وقولهم إن الاضطهاد لم يقف وقوفًا تامًّا
كاملًا شاملًا، ولم يصبح الدين المسيحي دينًا
شرعيًّا
Religio Licita، وإنما هدأ الاضطهاد هدوءًا، فانتقلت المبادرة في طلب
تنفيذ القوانين بحق النصارى من السلطات إلى الأفراد، كما جرى في حادث مارينوس
الضابط الروماني، أو إلى الجماعات.
٤١
ولا يجوز القول إن الفضل في تسامح غاليانوس يعود إلى زوجته سالونينة المسيحية؛
لأن نصرانيتها لا تزال في موضع الشك، فالعبارة
Augusta in
Pace التي ترد على نقودها إنما تشير إلى تعلُّقها بالإلاهة
Pax.
٤٢
الأباطرة الأليريون (٢٦٨–٢٨٥)
وليس هنالك ما يدل على انقلاب في موقف السلطة من النصارى في عهد كلوديوس الثاني
(٢٦٨–٢٧٠)، والدم الذي أُحْرِقَ في عهد هذا الإمبراطور في رومة وإيطالية إنما
أُرِيقَ بسبب الجماهير، أو مجلس الشيوخ، أو وغر الصدور في بعض الأوساط الإدارية.
٤٣
وقال أوريليانوس (٢٧٠–٢٧٥) بالإله الشمس، وأحَبَّ أن يجعله دينَ الدولة الأوحد، ولو
فعل لما أبقى على سياسة غاليانوس، ولكنه اغتيل في صيف السنة ٢٧٥، فنجت الكنيسة من
محنة كامنة.
٤٤ ودام الهدوء في عهد خلفائه، ولم تتخذ السلطات أي إجراء «عمومي» من شأنه
أن يلحق الأذى بالنصارى، ولكن وقوع بعض الأذى ظلَّ محتمًا ما دامت السلطات تعتبر
الدين المسيحي دينًا غير شرعي.
القديس إليان الحمصي
وجاء في التقليد أن إليان الحمصي وثلاثة غيره استشهدوا في عهد الإمبراطور
نوميريانوس Numerianus ابن كاروس Carus في السنة ٢٨٤، وإليان الشهيد نشأ مسيحيًّا
صالحًا في حمص، فهاله أمر الاضطهاد في بلدته، وأحَبَّ أن يواسي المقيدين في سجونها،
وأن يجتذب غيرهم إلى الدين القويم، فتعلَّمَ الطب وزار السجون بصفته طبيبًا، وافتقد
«المعترفين» وشجعهم، وأوضح للضالين فسادَ الوثنية واجتهد في اكتسابهم، وقُبِض في عهد
نوميريانوس في حمص على سلوانس ولوقا الشماس الإنجيلي وموكيوس الأناغنسط، وبعد
امتحانهم بشتى أنواع العذاب حكم عليهم بالموت بين مخالب الوحوش الضاربة، وفيما هم
مساقون إلى مدرج حمص ليُطرَحوا إلى الوحوش، قابلهم إليان في الطريق وحياهم وعانقهم
مقبِّلًا كلَّ واحد منهم القبلةَ الأخيرة، فقُبِضَ عليه، وامتُحِن بدوره فثبت في الإيمان
بيسوع، فسُمِّر رأسه ويداه ورجلاه، وزُجَّ في مغارة خارج حمص، فتشرَّفَ بالاستشهاد معلَّقًا
على صليب، وتشبَّه بالسيد له المجد في أنه قاسى نفس النوع من الآلام، ولا تزال
الكنيسة تُحيِي ذكراه في اليوم السادس من شباط في كل عام.