كلمة المترجم
المجلد الأول من تاريخ الأدب العربي، الصادر عن جامعة كامبريدج في ستة مجلدات، صدرت بين عام ١٩٨٣م (المجلد الأول عن تاريخ الأدب العربي حتى نهاية العصر الأموي، وهو المجلد الذي بين أيدينا) وعام ١٩٩٠م (المجلد السادس، عن تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد ترجمتُه للمركز القومي للترجمة). يقدِّم هذا المجلد مادةً وافية عن الأدب العربي منذ العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأموي. تتصل المادة باللغة العربية والخطِّ العربي والشعر الجاهلي، والنثر الجاهلي، والقرآن والحديث، وأدب المغازي والسيرة، والحكايات والأساطير في الجاهلية والإسلام، والشعر الأموي، والشعر والموسيقى. ويتتبع التأثير اليوناني والفارسي والسرياني على الأدب العربي. ويضمُّ مُلحقًا ببليوجرافيا يتضمَّن ترجمات القرآن للغات الأوروبية، بقائمةٍ كاملة للترجمات الأوروبية للقرآن.
وكما تتنوع المواضيع (كما أشرنا)، تتنوع المصادر بشكلٍ هائل، وتغطِّي فترةً زمنية واسعة (من النقوش الجِدارية في العصور القديمة إلى محمد أحمد خلف الله، وطه حسين، ويوسف السباعي، وحميد الله، وعبد الله الطيب في القرن العشرين)، وتتنوع أيضًا أسماء المستشارين (انظر قائمة المستشارين) وأسماء المساهمين (راجع الفهرس) وجنسياتهم واهتماماتهم وانتماءاتهم الفكرية والعقائدية. يجمع بين كلِّ هذه الأسماء ما قدَّمتْه من إنجازات في مجالات الأدب والثقافة العربية. وليس هنا بالطبع المكان المناسب لذكر هذه الإنجازات.
إن محتوى المجلد أوسع من العنوان الذي يحمله، لا أتحدث هنا عن المفهوم الواسع للأدب كما يوضِّحه المحرِّرون، ويبرِّرون تبنِّيهم لهذا المفهوم، في مقدمتهم، بل عن تخطي الفترة الزمنية التي يشير إليها العنوان، وبشكلٍ خاص في عرض تأثير القرآن على الأدب العربي؛ حيث نعثر، في فصلٍ عن تأثير القرآن على الأدب في القرون الوسطى، على استشهاداتٍ من شِعر أبي نواس والمتنبي وابن الرومي وأبي العلاء المعري وأبي تمام وأبي العتاهية وغيرهم. كما نعثر على استشهادات من نثر أبي العلاء المعري (في رسالة الغفران، وكتاب الفصول والغايات) ومن مقامات الحريري. كما نقرأ فصلًا عن تأثير القرآن في الأدب المعاصر. وينطبق الأمر نفسه عند عرض التأثير الفارسي على الأدب العربي، حيث نعثر، على سبيل المثال، على استشهاد من «بخلاء» الجاحظ. وفي تناول مصنفات الحديث، عند السنة أو الشيعة، لا يوجد سقفٌ زمني. وفي الفصول التي تتناول القرآن والحديث، يبدو أن الأمر يتجاوز بكثيرٍ علاقتهما بالأدب، ويتشعَّب إلى أمورٍ أخرى كثيرة. وفي الفصل الخاصِّ بالتأثير اليوناني على الأدب العربي، يتكرَّر الأمر نفسه، ويتجاوز الفصل الأدب بكثير إلى مسائلَ أخرى. إنَّ المجلد، ببساطة، أقربُ إلى أن يكون «مقدمة لدراسة الأدب العربي»، أو حتى «مقدمة لدراسة الثقافة العربية» رغمَ تركيزه، بالطبع، على الفترة الزمنية التي يشير إليها، وعلى الموضوع الذي يشير إليه.
كما تتنوَّع المواضيع، من الوثائق إلى الشِّعر ونثر الرسائل والموسيقى، مرورًا بالقرآن والحديث والسِّيَر والمغازي، تتنوَّع الأفكار والآراء. وعلى أيَّة حال لا أميل إلى عرض أفكار الكتب في المقدمات، وبالقطع أنفر من التعليق عليها. للكاتب رأيه، وينبغي أن يكون للقارئ رأيه، ولا نُصادر عليه. ما أودُّ أن أقوله هنا باختصار: ليس من المتوقَّع من كاتبٍ لا يؤمن بالإسلام، أن يعبِّر عن أفكارٍ تنطلق من الإيمان به؛ ومن ثَم توجد أفكار بالطبع تختلف مع أفكار المؤمن بالإسلام، والكثير منها يختلف حوله حتى المؤمنون بالإسلام. ومثل هذه الأفكار التي طرحها المستشرقون كثيرًا، هناك الكثير من المؤلفات العربية في الردِّ عليها. وعمومًا لا نترجم لننقل أفكارًا نتفق معها بالضرورة، بل العكس تقريبًا، أو بالأحرى لنتعرَّف على آراء وأفكار مختلفة، ونحاول مناقشتها، اتفقنا معها أو اختلفنا. ربما كانت الوظيفةُ الأولى للترجمة الاتصال بالآخر المختلِف والتواصل معه على أملِ تحريك المياه الراكدة.
بالنسبة لي، يمثِّل هذا المجلد التجربةَ الرابعة لي في ترجمة دراساتٍ عن الأدب العربي. الكتاب الأول «جسد المرأة كلمة المرأة» لفدوى مالطي دوجلاس، ترجمتُه في منتصف التسعينيات، وحين انتهيتُ من ترجمته كانت قد تجمَّعتْ لديَّ مكتبةٌ كاملة من الكتب التي استشهدَت بها المؤلِّفة، وكانت التجربة صعبة، وتبدو أحيانًا شِبهَ مستحيلة في جَمْع كلِّ الاقتباسات التي استشهد بها الكتاب، من المصادر التي رجعت إليها المؤلِّفة، وخاصَّة أنني قمتُ بترجمته قبل الدخول إلى عالم الإنترنت. ولا يزال الكتاب غيرَ منشور رغمَ التعاقُد على نشره مع المجلس الأعلى للثقافة، منذ النصف الأول من عام ٢٠١٣م. وكان الكتاب الثاني «الكتابة وأشكال التعبير في إسلام القرون الوسطى»، تحرير: جوليا براي، وقد صدر عن المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥م. والكتاب الثالث هو المجلد السادس، «تاريخ الأدب العربي الحديث»، من الكتاب الذي يمثِّل هذا المجلدُ المجلدَ الأول منه.
هذا النوع من الترجمة يتجاوز الترجمةَ بكثير، إنه أقرب إلى التحقيق. الصعوبة الكبرى في هذا النوع من الكتب تتمثَّل في إرجاع كلِّ الاقتباسات إلى أصلها العربي. وهنا تظهر مشاكلُ كثيرة، أحاول أن أذكُر بعضها هنا، وخاصَّة فيما يتعلَّق بهذا المجلد:
-
(١)
توجد أحيانًا اقتباساتٌ عربية لأشخاص تُذكر أسماؤهم ولا يُذكر المصدر، ويكون على المُترجِم البحث في كلِّ تراث الشخص المُستشهَد به؛ ليعثُر على أصل الاقتباس. وقد تكرَّر هذا كثيرًا في هذا المجلد، على سبيل المثال، في حالة رأي طه حسين في عبد الحميد الكاتب، وكان عليَّ أن أخمِّن أين يمكن أن يكون طه حسين قد تناول عبد الحميد الكاتب، وبعد أن أعرف المصدر (كتاب «من حديث الشعر والنثر»، في هذه الحالة) يكون عليَّ مرةً أخرى أن أعثر على عبارةٍ أو جملة في كتابٍ كامل، كَبرَ أو صغر.
-
(٢)
توجد اقتباساتٌ عربية مأخوذة عن مصادرَ أجنبية، وفي هذه الحالة يُشار غالبًا للمصدر الأجنبي مع تجاهُل المصدر العربي الذي أخذ عنه الاقتباس، وفي هذه الحالة، يكون عليَّ العودة إلى المصدر الأجنبي ومعرفة المصدر العربي الذي أخَذَه عنه، لأعاوِدَ البحثَ في المصدر العربي مرةً أخرى، صَغرَ أو كبر، عن عبارةٍ مُقتبَسة أو جملة، وربما حتى كلمة. وهذا ما حدَثَ، على سبيل المثال، في حالةِ نابيا أبوت؛ حيث كانت الإشارة إلى دراستها عن البرديات العربية، في مجلدَين، لمعرفة المصدر العربي الذي أخَذَت عنه.
-
(٣)
توجد اقتباساتٌ لنصوصٍ عربية من ترجماتها الأجنبية، وبالطبع تكون الإشارة في الهامش للترجمة الأجنبية، ويكون على المُترجِم، مرةً أخرى، العودة إلى الأصل العربي والبحث في كتابٍ كامل عن عبارةٍ أو جملة. وهو ما يحدث، على سبيل المثال، مع ترجمةِ جيوم لسيرة ابن إسحاق بعنوان The Life of Muhammad، ومع ترجمة «الإكليل» للهمداني.
-
(٤)
الاقتباسات عن كتبٍ عربية من تحقيق: المستشرقين صدرت في دول أوروبية، وبعضها يعود إلى القرن التاسع عشر، وهو ما يحدث، على سبيل المثال، مع تحقيقِ ويستنفيلد لسيرة ابن إسحاق، التي صدرت في ألمانيا في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر. وهنا كثيرًا ما يكون العثور على التحقيق المُشار إليه صعبًا، وأحيانًا مستحيلًا.
-
(٥)
الاقتباس عن طبعاتٍ قديمة وتحقيقات مبتورة، رغم وجود تحقيقاتٍ كاملة للعمل نفسه. وأحيانًا يكون العثور على الطبعة القديمة بالغَ الصعوبة؛ ومن ثَم كان عليَّ في بعض الحالات الرجوعُ إلى تحقيقٍ غير المشار إليه، والبحث في كتابٍ كامل، عن بيتٍ أو بيتَين، وهو ما حدث مع ابن الرومي؛ حيث كانت الإشارة في هامشَين إلى ص١٣ من تحقيق: كامل كيلاني الصادر في عشرينيات القرن العشرين، والمعروف أنه في الحقيقة مختاراتٌ من شعر ابن الرومي وليس الديوانَ كاملًا، وكان عليَّ أن أبحث في تحقيق الدكتور حسين نصار (٦ مجلدات)؛ لأعثر على بيتٍ في المجلد الثاني ص٧٢٣، وبيتَين في المجلد نفسه في الصفحة ٧٢٤. وكان عليَّ أن أصيح صيحةَ أرشميدس الشهيرة حين عثرتُ عليها: وجدتها!
-
(٦)
أحيانًا يكون معك المصدرُ المشار إليه والطبعةُ نفسها، وتفتِّش ولا تعثر على الاقتباس؛ ثمَّة خطأٌ ما بالضرورة. وكان الأمر سهلًا بعضَ الشيء في حالةِ وجود خطأٍ في الإشارة إلى آيةٍ من القرآن، أو حتى إلى سورة، لكنَّ الأمر كان مستحيلًا في حالتَين على الأقل: بيتٍ لعروة بن الورد من ديوانه، وبعد قراءة التحقيق المشار إليه (ليس هناك تحديدٌ للصفحة)؛ لم أعثر على أيِّ بيتٍ لعروة بالمعنى المذكور في الترجمة الإنجليزية. وتكرَّر الأمر مرةً أخرى في اقتباسٍ على لسان ذي الرُّمَّة، قيل إنه في «الموشَّح» للمرزباني، ولم أعثر عليه في كلِّ الصفحات المكتوبة عن ذي الرُّمَّة في الكتاب (كان هناك اقتباسان آخران عن ذي الرُّمَّة في الكتاب نفسه، عثرتُ عليهما في صفحاتٍ غير المشار إليها).
-
(٧)
الإشارة إلى مخطوطات، كما حدث على سبيل المثال، مع مخطوطة الرسائل المنسوبة خطأً لأرسطو إلى الإسكندر الأكبر، ويقال إنها ترجمةٌ قام بها سالم أبو العلاء، كاتب هشام بن عبد الملك، ويقال إنها في إسطنبول.
المشاكل كثيرةٌ في مثل هذا النوع من الكتب، والمجهود في العثور على الاقتباسات العربية أصبح أكبرَ بكثيرٍ من مجهود الترجمة، حتى إنني فكرتُ في لحظاتٍ أن أكتُب على الكتاب «الترجمة والتحقيق: عبد المقصود عبد الكريم». مضتْ شهورٌ طويلة وأنا أبحث في كتبٍ متنوِّعة تنوُّعَ الثقافة العربية، للعثور على بيتٍ أو عبارة أو جملة أو حديث أو حتى كلمة.
تبقى كلمةٌ أخيرة عن تحرير الكتاب. لا بد أن المحرِّرين بذلوا مجهودًا كبيرًا في تحديد العناوين واختيار الكتاب، ويضمُّون قِممًا في الثقافة العربية من العرب والمستشرقين. وأكاد أجزم أنَّ الكتاب بمثابة مقدِّمة للثقافة العربية، لا غنى عنه لأيِّ مهتمٍّ بها، لكنْ تبقى بعض الملاحظات: (١) هناك أخطاء في بعض الإشارات إلى سور القرآن وأرقام الآيات (يشار إلى السور بالرقم عادة، وربما جاء الخطأ من هنا)، (٢) وهناك اقتباسات دون ذكر المصدر، (٣) وهناك تضارُب في بعض التواريخ (على سبيل المثال: فترة حُكم عمر الثاني، أو عمر بن عبد العزيز، تُذكر أربعة تواريخ مختلفة على الأقل). وتبقى ملاحظة شكليَّة عن ذكر التواريخ في معظم الحالات بالتقويمَين الهجري والميلادي، وتكرار ذلك مئات المرات تقريبًا، حتى عند ذكر القرن؛ فهو يذكر غالبًا على النحو التالي «القرن الأول/السابع»، حتى لو تكرَّر الأمر عشرات المرات، وكان من الممكن ببساطة الاستغناء عن ذلك بوضع جدول بسيط في المقدمة يشمل القرن الهجري ومقابله الميلادي أو الاكتفاء بذلك في المرة الأُولى فقط. كما أنَّ تواريخ موت الأعلام تتكرَّر غالبًا كلَّما ذُكر الاسم، وكان يكفي ذِكرُه مرةً واحدةً، أو وضع جدولٍ بأسماء الأعلام وتاريخ موتهم (وميلادهم إن عُرف).
تبقى ملحوظةٌ أخيرة: ترِدُ كلماتٌ كثيرة في النصِّ بالنطق العربي وقد ميَّزتُها بالبُنط الأسود. وترِدُ عناوينُ كلِّ الكتب العربية بالنطق العربي، وفي هذه الحالة اكتفيتُ بوضعها بين علامتي تنصيص («») بالبُنط العادي.
تبقى كلمةٌ بعدَ الأخيرة، وهي أنني حاولتُ أن تكون هوامشُ المُترجِم أقلَّ ما يكون، وبصيغةٍ موجَزة، ولم أتدخَّل بهامشٍ إلا في الضرورة القُصوى، وإلا تضاعف حجمُ الكتاب.