الفصل الأول
مواضيع أساسية
ألفريد فيلكس لندن بيستون، جامعة أكسفورد
(١) تطور اللغة العربية
في النصف الأول من الألف الميلادية الأُولى، كانت المساحة التي تحدُّها تخومُ مرتفعات
الأناضول، والساحل الشرقي للبحر المتوسط وشواطئ شبه الجزيرة العربية والجرف الغربي
للهضبة الإيرانية؛ موطنَ عائلةٍ من اللغات تسمَّى الآن مشتركة السامية. ودخل إلى هذه
المنطقة السكان المتحدِّثون باليونانية على حدود الإمبراطورية الرومانية البيزنطية،
وبالفارسية الوسطى مع سكان الإمبراطورية الساسانية. وخارجها، استخدمَت أيضًا مملكة
أكسوم في إثيوبيا لغةً سامية. بينما يتمايز مختلف أعضاء هذه العائلة اللغوية عن بعضها
البعض في التفاصيل بحدَّة بقَدْر تمايُز لغاتٍ أوروبية من قبيل الفرنسية والإسبانية؛
فإنَّ بينها أوجُه تشابُه عامة تميِّزها، بوصفها مجموعةً، عن لغاتٍ مثل الفارسية، التي
تنتمي لعائلةِ اللغات الهِندوأوروبية.
بحلول القرون الميلادية الأولى، اختفى فعليًّا عضوان من أهمِّ أعضاء عائلة اللغات
السامية من المشهد: انقرضت الأكَّاديَّة، اللغة القديمة في العراق. وبقيَت العبرية فقط
لغةً للمتعلِّمين والعبادة، ولم تعُد تستخدم في الحياة اليومية، لكنْ بقيتْ لُغتان
أخريان مهمَّتان تهيمنان ثقافيًّا على المنطقة. في الشمال، كانت هناك مجموعةٌ من
اللهجات الآرامية، لاثنتَين منها أهميةٌ خاصة، أقصد السريانية (يستخدمها السكَّان
المسيحيون في سوريا والعراق) والنبطية (يستخدمها السكَّان الوثنيُّون في البتراء، مدينة
القوافل الكبيرة). وفي الجنوب، كانت اليمن الحالية وطنَ ثقافةٍ قديمة، تمثِّلها عادةً
مملكة سبأ. وتوضِّح اللغةُ السبئية قبل المسيحية خصائصَ متميِّزة، تبرِّر لنا معالجتها
بوصفها لغةً مستقلة في العائلة السامية. لكنها تُظهر في العصور المسيحية درجةً كبيرة
من
التقارب في المعجم مع لغةٍ سُمِّيتْ فيما بعد العربيةَ، بينما تحافظ ظاهريًّا على
تميُّز صرفها وبناء جملتها.
ولا بد أنه وُجِدت أيضًا مجموعةُ لغاتٍ تشكِّل بوادرَ ما يُعرف الآن بالعربية
الجنوبية الحديثة، تستخدم في وسط الساحل الجنوبي لشِبه الجزيرة العربية، حتى شرق اليمن.
وحيث إنَّ هذه اللغات لم تعرف قَط ثقافةَ القراءة والكتابة؛ فإن الشاهد القديم على
طبيعتها غيرُ متوفِّر. لكنها تكشف عن اختلافاتٍ عن العربية، في الصوت والصرف وبناء
الجملة، تعادل الاختلافات بين السبئية والعربية. ورغم أنها تحتوي على الكثير من الكلمات
المشابهة للعربية، أو المستعارة منها مباشرة؛ يتميَّز جزءٌ كبير من مفرداتها.
بين المناطق الشمالية والجنوبية المتحضرة، يسكُن الأجزاءَ الوسطى والشمالية من شبه
الجزيرة العربية، صحراء إلى حدٍّ كبير، عادةً بدوٌ رُحَّل أو شِبه رُحَّل، مع واحاتٍ
متناثرة متشابهة ثقافيًّا مع المناطق البدوية. هنا وُجِد مزيجٌ من لهجاتٍ ترتبط معًا
ارتباطًا وثيقًا، ومنها نشأتْ في النهاية العربيةُ كما نعرفها، لكنَّ هناك عدَّة عواملَ
تُحبط بشدَّة محاولاتِنا لتقييم الصورة اللغوية الشاملة.
-
أولًا: من بين اللغات التي ذكرنا سابقًا أنَّها مهيمنة في النصف الأول من
الألف الميلادية الأُولى؛ كان للسريانية والآرامية اليهودية فقط «أدب»
بالمعنى الدقيق. وأكبرُ تبايُن مع لهجات البدو الرُّحَّل: أولُ سجلاتٍ
مباشِرة لدينا لها — جدارياتٌ بمعنى الكلمة — خربشةٌ عفويَّة تتضمَّن
أسماءً حقيقية، وكلماتٍ قليلةً تنقُل أبسطَ الرسائل (على سبيل المثال،
من نوعِ «أ يحبُّ ب»)؛ وحتى في بيئاتٍ أكثرَ تحضُّرًا للنبطية
والسبئية، المادة أرشيفيَّةٌ غالبًا في طبيعتها: نقوش جنائزية، سجلات
بناء، نذور، إلخ. التاريخ، بمعنى سجلاتٍ مترابطة يتمُّ التعبير عنها
بوعيٍ (كما فيما لدينا من الحوليات الآشورية والأسفار التاريخية في
العهد القديم) غيرِ متوفِّر، على الرغم من وجود تلميحاتٍ عارضة لأحداث
تاريخية بلغةٍ بسيطة. والاستثناء الوحيد حفنةٌ من النقوش السبئية تُوصف
فيها عملياتٌ عسكرية ببعض الوضوح في التفاصيل، توضِّح نهجًا ما من
المهارة الأدبية، لكن لا يوجد شِعرٌ أو أسطورة أو كتاباتٌ أخرى
مترابطة. ويمكن أن نسلِّم بالتأكيد بأنَّ هذه الشعوب كان لديها أدبٌ من
هذا النوع، لكنه كان يُنقل بوسائلَ شفهية فقط.
-
ثانيًا: تميل المخطوطات السامية، التي تُرسم فيها النقوش، إلى تسجيلِ الصوامت
consonants فقط، بدون تدوينٍ
للصوائت vowels (أو تدوينها فقط
بأشكالٍ بدائية). ولا يفرض هذا فقط قيودًا هائلة على التحليل اللغوي،
لكنه أيضًا يجعل حتى فَهْم المحتوى الدلالي للنقوش تخمينيًّا غالبًا
إلى حدٍّ بعيد.
خطُّ النقوش النبطية نوعٌ من الخطوط الآرامية، وخطُّ النقوش العربية الجنوبية، من
الناحية الأخرى، أبجديَّةٌ متميِّزة تمامًا، لها صِلاتٌ بالخط الإثيوبي (كما يُستخدم
حاليًّا في الأمهرية، اللغة الوطنية لإثيوبيا). قبل الإسلام، استخدَمَ بدو وسطِ الجزيرة
العربية أبجديةَ عرَبِ الجنوب، لا أبجدية عربِ الشمال. وفي هذا الصدد، هناك شرَكٌ
اصطلاحي يستحقُّ الذِّكر. حتى وقت ليس بعيدًا، كان من المعتاد الاعتقاد بأنَّ البدو
الرُّحَّل بدون أبجدية تمامًا. فقط قُرْب بداية القرن العشرين، اكتُشفت مجموعتان من
النقوش، تدحضان ذلك. مجموعةٌ متجانسة جدًّا حول المنطقة البركانية لبادية الشام تسمَّى
«الصفا». وكانت، جغرافيًّا، صفويَّة تمامًا. والأخرى في شمال الحجاز، في منطقةٍ كانت
تقليديًّا موطنَ قبيلة ثمود القديمة (Thamudeni عند
المؤلِّفين الكلاسيكيين)؛ سُميت الثمودية. وأوضحَت اكتشافاتٌ تالية نقوشًا مماثلة
منتشرة على نطاقٍ واسع في شبه الجزيرة، تكشف عن أكثرَ من لهجة، وعن تنوُّع في الخلفية
الثقافية، لكنَّها ظلَّت تسمَّى الثمودية، مع أنها ينبغي أن تُعتبر الآن، بدقَّة،
تسميةً خاطئة؛ لأن من الواضح أنَّها لا يمكن أن تنبثق كلُّها من قبيلة ثمود وحدها.
الخطوط التي يستخدمونها مميزة ببساطة لسكان وسط الجزيرة العربية (البدو الرُّحَّل وشبه
الرُّحَّل وسكان الواحات)، وتوجد حتى في منطقة جنوب الجزيرة العربية؛ ربما نتيجةَ وجودِ
خليطٍ من البدو، ضمنَ المستقرِّين، من حَمَلة الحضارةِ العربية الجنوبية النموذجية
(يُلاحظ مزجٌ مماثِل لعناصر السكان في تلك المنطقة حتى اليوم).
الصفوية وما يُدعى النقوش الثمودية، ليست «عربية» بوضوح، بأكثر ممَّا يمكن أن تُدعى
الأنجلوسكسونيةُ إنجليزيةً؛ لسببٍ واحد، أداة تعريفها هي «ها(ن)». ومع ذلك لدينا مجموعة صغيرة
من النقوش تكشف عن طبيعةٍ عربية بلا شك، تتضمَّن استخدامَ أداة التعريف العربية
المعتادة «ال». ترجع أربعةٌ منها إلى القرن السادس
الميلادي، ويوجد قبل ذلك نقشٌ واحد فقط يمكن تحديد تاريخه بشكلٍ آمن: النقش الجنائزي
لشخص يسمَّى «ملك العرب» (كانت كلمة «العرب» في وقتٍ مبكِّر تعني البدو فقط)، وُجد في
«النمارة» في بادية الشام ويرجع إلى سنة ٣٢٨م. ولأحد النصوص على الأقل طبيعةٌ لغوية
مماثِلة، من الفاز قرب السُّليل في جنوب نَجْد، ربما يرجع تاريخه إلى قبل ذلك بقليل،
وهو بخطٍّ عربي جنوبي، لكنَّ نقش النمارة، ونقوش القرن السادس، ليست بأيِّ نوع من
الأبجدية الشمالية، بل بخطٍّ نبطي (أي سامي شمالي)، وهكذا تُنبئ بالتحوُّل؛ حيث يُزيح
الخطُّ العربي (وقد تطور من خطِّ النمارة النبطي) في النهاية استخدامَ الأبجدية
الجنوبية إلى خارج شبه الجزيرة، لتبقى محصورةً في القرن الأفريقي.
يلخِّص هذا كلَّه، وهو هزيلٌ حقًّا، دليلُنا المكتوب قبل الوحي الإسلامي. ورغم
الالتزام بكتابةِ القرآن في حياة النبي، ورغم أنَّنا منذ ذلك الحين لدينا القليل جدًّا
من الوثائق، غير النقوش، على ورقِ البردي أو الورق (رسائل وعقود، إلخ)؛ لكنَّ التراث
الرئيسي بقي لقرنٍ ونصف شفهيًّا بقوةٍ في طبيعته. نُقِل الشعرُ المبكِّر (المنسوب إلى
بداية القرن السادس الميلادي)، والتقارير النثرية عن تاريخ القبائل قبل الإسلام، وحتى
التقارير عن حياة النبي وأقواله شفهيًّا، مع كل ما يترتب على هذا من احتمالاتِ الاختلاف
اللفظي. ولم يكتسب الاستقرارَ الدائم بتسجيله كتابةً بشكلٍ منتظم حتى القرن الثامن؛
بقايا نادرة من البرديات «الأدبية» ربما تُنسب إلى القرن السابع، لكن لا توجد بردياتٌ
ترجع لفترةٍ سابقة.
قد يرتبط هذا التغيُّر في الموقف تجاه استخدام الكتابة لأغراض غير الاحتياجات اليومية
(مثل الرسائل والعقود)؛ بالثورة السياسية العباسية سنة ٧٥٠م، التي نقَلَت السُّلطة من
القادة العرب، الذين تسيطر على أعمالهم التقاليد البدوية، إلى نخبة حضارية جديدة، لعب
فيها غير العرب، ورثة التقاليد الثقافية لبيزنطة وفارس الساسانية، دورًا
حيويًّا.
أدَّى هذا التحوُّل إلى ثلاثِ نتائج بالغة الأهمية؛ أولًا: من هذا الوقت فقط يمكن
القول إنَّ في العربية أدبًا مكتوبًا بصرف النظر عن القرآن. ثانيًا: خضَعَت اللغة نفسها
— كما تُستخدم في أفواه السكان الذين كانوا، رغم أنهم من المتحدِّثين بالعربية، إلى
حدٍّ كبير من غير العرب أصلًا — لتغيُّرات مهمَّة. ثالثًا: نتيجةً لتلك التغيرات؛ رأى
العلماء أنَّ مهمَّتهم لا تقتصر على تسجيل التراث الشفهي، كما تلقَّوه في شكلٍ ثابت،
لكن أيضًا عليهم تحليلُ لغةِ ذلك التراث وتقنينها؛ وأدى هذا إلى ظهور علم النحو العربي
(بأوسع معنى).
لم يكُن النحو العربي، في بدايته، معياريًّا أو مقعَّدًا، بل وصفيًّا صِرفًا؛ لذا،
لحُسن الحظِّ، حَفظَ النحاة لنا كميةً من البيانات توضِّح أنَّ العربية الأُولى لم تكُن
لغةً مقنَّنة أو موحَّدة، بل تضمُّ لهجاتٍ كثيرةً مختلفة. بالنسبة للعقلية الأوروبية
الحديثة، من الغريب أنَّ القرآن نفسه، رغم أنَّ المسلمين يعتبرونه كلمةَ الربِّ حقًّا
بأكثرِ المعاني حرفيَّة، كان يُقرَأ بطُرقٍ مختلفة، لا تشمل فقط نُطق اللهجات، لكنْ
أيضًا اختلافاتٍ شكليَّةً وأحيانًا لفظيَّة. بمرور الزمن، وُجِد ميلٌ قوي للحدِّ من هذا
الاختلاف اللغوي، أولًا بتحديد طُرق القراءة المقبولة بسبعة أنواعٍ «متواتِرة» ورفض
القراءات الأخرى «غير المتواترة»، وفي النهاية بتطور نصٍّ مكتوبٍ هو اليوم
قياسي.
إنَّ القرآن، مع ذلك، كتابٌ صغيرُ الحجم نسبيًّا، وهناك مجالاتٌ كثيرة من الكلام لا
توجد فيه ببساطة، لكنَّها مهمَّةٌ؛ لأنَّها تشكِّل القالبَ اللغوي الذي يعمل فيه النصُّ
القرآني، وينبغي أن يُفهَم فيه. لاكتساب هذا الفهم، رَجعَ النحاة إلى التراث الموروث
شفهيًّا من الشِّعر القديم، وإلى كلامِ البدو الذين يمكن التواصل معهم. وعلى الرغم من
أنَّ نواياهم الأصلية كانت وصفيَّة؛ فإنَّ حقيقةَ أنَّ مجموعةَ النصوص اللغوية التي
كانوا يصِفُونها أساسًا مادةً محدودة — القرآن والشعر المبكِّر — احتوتْ في ذاتها على
بُذور موقفٍ معياري ومقعَّد، صار بسرعة مهمَّةً ضرورية. وكلُّ البيانات التي تعارضتْ
مع
الوصف الذي تطور على هذا الأساس؛ هبطتْ إلى لهجاتٍ دون المستوى.
منعتْ قوة هذا الموقف المعياري النحاةَ العرب من قبولِ مفهومِ تطوُّر اللغة ونموها.
المبادئ النحوية التي وضعها نحاةُ القرن الثامن، اعتُبرت وحدها المبادئَ «الصحيحة»،
وتشكِّل أساسَ تعليم اللغة في المدارس في كلِّ أرجاءِ العالَم الناطقِ بالعربية
حاليًّا. وأدَّى هذا إلى بعض الشذوذ؛ لأنَّ اللغة في العصر الذي قُننت فيه، كانت من بعض
النواحي في مرحلةٍ انتقالية، وتجمَّدت عند النقطة التي وصلتْ إليها في القرن السابع.
على سبيل المثال: لِلُغة القرآن نظامٌ متطوِّر بشكلٍ جيد لتشكيلِ نهاية الاسم، وهناك
شكلٌ توضيحي كان أيضًا يُشكَّل كاملًا في بعض اللهجات القديمة، لكنه في لغة القرآن
فَقَد التشكيلَ فقط في صيغةِ المفرد والجمع (الذي،
الذين) بينما احتفظ به في المثنى.
يرجع اختيار مجموعة النصوص الشعرية معيارًا لغويًّا؛ إلى أنها تقدِّم «أعلى» مستوى
خطابٍ متوفِّر. ومن الواضح أنَّ القرآن، في الشكل وبناء الجملة والمعجم، بالأسلوب
المرتفع نفسه، لكنَّ النحاة واجهوا، في مسائلِ النطق، مشكلةٍ صعبة. يُظهر التجميع
الكامل لخصائص اللهجات التي سجَّلوها انقسامًا معينًا بين اللهجات الشرقية ولهجات
الغرب، وخاصَّة الحجاز. المادة الشعرية الآن، في الشكل الذي لدينا مسجَّلًا، شرقيَّة
أساسًا في طبيعتها؛ لأنَّ مركز النشاط النحوي العربي المبكِّر، كان في جنوب العراق.
وكان البدو الذين اتصل بهم النحاة شرقيين، لكنَّ القرآن نزَلَ في الحجاز، ودُوِّن في
البداية بإملاءٍ يعكس النطقَ الغربي. وللتغلُّب على هذه الصعوبة؛ لم يحاول النحاةُ
تعديلَ إملاء القرآن كما قُبِل حينذاك. وبدلًا من ذلك أضافوا علاماتٍ إرشادية للقراءة
بنطقٍ شرقي. أدَّت هذه السمة، إملاءٍ حجازي أساسًا معدَّلٍ بهذا الشكل، إلى شذوذ عن
الهجاء التقليدي الذي استمرَّ في العربية حتى اليوم.
لا تزال العلاقة بين الأسلوب الرفيع للقرآن ومجموعة النصوص الشعرية، ولغة الحياة
اليومية في العصور المبكِّرة، مسألةً تُثير خلافاتٍ كثيرة. أنْ يكون الأول مفهومًا في
كلِّ أرجاء شبه الجزيرة، يبدو أمرًا لا جدالَ فيه عمومًا، رغم أنَّ كلمات خاصةً قد تكون
— وقد كانت، كما يوضِّح التراث — مبهمةً على بعض المستمعين، لكنْ هل كان في أيِّ عصر
أو
في أيِّ مكان مطابِقًا في الصرف وبناء الجملة مع اللغة الفعلية للحياة اليومية؟ اعتقد
المسلمون في القرون الوسطى أنه بلغةِ قبيلة النبي، قريش، وأنها في ذاتها كانت توليفًا
انتقائيًّا من «كلِّ ما كان أفضل» في مختلف لهجات القبائل. اعتقد بعض العلماء
الأوروبيين (وخاصة كارل فولرس
Vollers) العكسَ؛ بأنها
لم تكُن قَط لغةَ استخدامٍ يومي، لكن كوينه
١ تستخدم فقط لأغراض الأسلوب الرفيع، وتُشبه في وضعها بهذا الشأن إغريقية
هوميروس، لكنْ بصرف النظر عن حقيقة ذلك، لدينا هنا أولُ إشارة إلى مشكلةِ ازدواج اللغة
التي استمرَّت طوالَ التاريخ العربي: الانقسام بين الخطاب الرفيع واللغة اليومية؛ لأنَّ
التطور الطبيعي للأخيرة لا يقيِّده النحاة، الذين لم تؤثِّر جهودهم في التقعيد إلا على
الأدب والخطاب الرفيع عمومًا. يوجد مثل هذا التمايُز بالطبع في كلِّ لغةٍ لها تراثٌ
أدبي، لكنه أوسعُ بكثيرٍ في العربية الحالية من المألوف في معظم اللغات الأخرى، وأصاب
الكتَّاب والتربويين بقلقٍ حادٍّ.
كانت لهجات القرن السادس، وبداية القرن السابع الميلادي، لهجاتِ قبائل شبه الجزيرة
العربية، لكنْ تبيَّن صعوبةُ كشفِ أيِّ ارتباطٍ مقنع بينها وبين مختلف لهجات العربية
المنطوقة في المراكز الثقافية المهمة اليوم. الاستدلال المقبول عمومًا أنَّه مع
التحوُّل من البداوة إلى التحضُّر في منتصف القرن الثامن، انصهرَت اللهجات القبلية
المبكِّرة في كونيه حضريةٍ في المراكز الرئيسية للتحضُّر. وبعد ذلك اتَّبع كلٌّ منها
تطوره اللغويَّ الخاص، متأثِّرًا دون شك إلى حدٍّ ما باللغة السابقة للمنطقة. ثمَّة
مثالٌ مهم سهلُ الفهم موجودٌ في العامية المصرية. تحويلُ عبارة بها ضميرٍ عادي إلى
سؤالٍ بأداة استفهام؛ يتضمَّن في معظم اللغة العربية، أدبيةً أو عامية، تغيُّرًا في
ترتيب الكلمات لوضع أداة الاستفهام في بداية الجملة («تعتقد هذا»: «ماذا تعتقد؟»)، لكنْ
في العامية المصرية، لا يوجد تغيير في ترتيب الكلمات؛ لأنَّ أداة الاستفهام تحتلُّ
موضعًا في الجملة كان يحتلُّه الضمير العادي («تفتكر إيه؟»). وهذه الخاصية مشترَكة مع
أساسِ اللغة القبطية.
ربما يستحيل الآن تحديد سرعة تطور اللغة المنطوقة عبر القرون؛ لأنَّ حقيقةَ أنَّ
التراث الأدبي الشفهي السابق كان يتحوَّل، من أواخر القرن الثامن، بشكلٍ متزايد إلى
تراثٍ مكتوب؛ تعني أنَّ سجلَّاتنا تميل إلى أن تعكس الفصحى لا العامية، لكنْ ربما يكون
هذا إفراطًا في التبسيط؛ لأنه ربما كان بين هذَين النوعَين نوعٌ ثالث يُستخدم في
محادثات الطبقات المتعلِّمة. ومن المرجَّح، في رأيي، أنَّ بعض أعمال الجاحظ في القرن
الثالث/التاسع تعكس النوعَ الأخير. وللحُكم، بناءً على هذا، كانت اختلافاته عن الأسلوب
الأسمى للفصحى لا تزال ضئيلةً نسبيًّا، لكن حين ننتقل
إلى القرن السادس/الثاني عشر، نجِدُ أنَّ مذكِّرات أسامة بن منقذ، وهو محارب وأديب
سوريٌّ من العصر الصليبي، تعكس بوضوحٍ اللغةَ التي كان يتحدَّث بها، ومتمايزةٌ بشكلٍ
أكثر حدَّةً بكثير عن النثر الذي كتبه في العصر نفسه «الأدباءُ».
في الوقت نفسه، لا ينبغي التقليل من شأن ما حدَثَ من تغيُّرات في القرن
الثاني/الثامن. كان للانتقال من بيئةٍ بدوية إلى بيئة حضرية تأثيرٌ هائل على المعجم.
من
ناحيةٍ، أصبحَت المفردات البدوية الهائلة التي تغطِّي بتفصيلٍ دقيق خصائصَ حياة الصحراء
غريبةً وشاذة بالنسبة للناطقين بالعربية في الحضر. ومن الناحية الأخرى، تطلَّبَ الأفق
المادي والفكري لسكان المدن مفرداتٍ جديدةً هائلة بالقَدْر نفسه. وتمَّت تلبيةُ هذا
الاحتياج جزئيًّا بتبنِّي كلماتٍ مستعارة من الفارسية، وخاصة في مجال الثقافة المادية
وأُهمِل الكثير منها بالتالي حين حلَّت مكانَ تلك الثقافة المادية ثقافةٌ أحدث. في
المجال الفكري، كان اللجوء إلى اليونانية. وحافظت هذه الكلمات المستعارة عمومًا على
خلفيتها. ومع ذلك، تمَّت تلبية الاحتياج جزئيًّا بتطوير موارد متأصِّلة في اللغة
القديمة وإمكانياتها؛ لخلق صيغٍ جديدة من موادها الأساسية. واتُّبع هذا الإجراء أيضًا
إلى حدٍّ كبير في عصورٍ أحدث، في خلْقِ مفرداتٍ جديدة. الاتجاه العام في اللغة العربية
في الثورة الفكرية، في كلٍّ من القرن الثاني/الثامن، وفي الثورة الحديثة؛ كانت شبيهةً
بثورة اللغة الألمانية؛ حيث فضَّلت الصيغةَ المحلية
Sauerstoff على الكلمة المستعارة
oxygen.
وكان التطور في عالَم بناء الجملة أكثرَ بروزًا حتى من التطورات المعجمية. كانت اللغة
القديمة بسيطةً فكريًّا، تستخدم الإرداف
parataxis على
نطاقٍ واسع مع لجوءٍ ضئيل نسبيًّا إلى التتبيع
hypotaxis.
٢ طوَّر الكتَّاب العباسيون بسرعةٍ أسلوبًا جديدًا يستخدم التفصيلَ ويتضمن
بنيةَ الفقرات، مع الكثير من التتبيع ومؤشراتٍ دقيقة للروابط المنطقية بين أجزاء
الفقرة. لم يتحقَّق هذا بتطويرِ أدواتٍ تركيبية جديدة بقَدْر ما تحقَّق بإعطاءِ درجةٍ
أكبر من الدقة الوظيفية لأدواتٍ كانت من قبلُ متناقِضةً وغيرَ دقيقة.
في الشكل، لا يُظهر الأسلوب العباسي الرفيع عمليًّا أيَّ تغيُّر عن النظام الذي وضعه
النحاة. ومن المؤكَّد أنَّ خصائصَ الوزن والقافية في الشعر العباسي تبيِّن أنَّ النظام
الشكلي القديم بقي كاملًا، لكن هناك مؤشرات على اتجاهٍ خارجَ الشِّعر إلى التخلِّي عن
الإعراب. لا نستطيع القولَ إلى أيِّ حدٍّ تمَّ ذلك؛ لأنَّ الخط العربي لا يدوِّن عادةً
علاماتِ التشكيل، التي تشكِّل القدرَ الأكبر من تمايُز الإعراب، لكنْ من المعقول أن
نفترض أنَّ الوضع الذي وصَلَ إليه الأمرُ مبكِّرًا تمامًا في العصر العباسي، لا يزال
يحدُث حتى اليوم: لا يُستخدم الإعراب في المحادثة العادية، حتى على مستوى المتعلِّمين،
لكنَّه لا غنى عنه في الأسلوب الرسمي جدًّا. وينبغي ملاحظةُ أنَّ بعض العلماء
الأوروبيين، اعتقدوا أنَّ الوضع كان كذلك حتى قبل الإسلام.
طوَّر الكتَّاب العباسيون من القرن الثاني/الثامن إلى القرن السادس/الثاني عشر،
بمفرداتهم الموسَّعة والمنقَّحة وأدوات بناء الجملة؛ التعبيرَ الدقيق عن العلاقات
المنطقية، وأبدعوا أدبًا في منتهى الرفعة والبراعة؛ ممَّا يجعله العصر الذهبي للغة
العربية. بعد ذلك، تحجرت اللغة الأدبية. مع قليلٍ من الاستثناءات البرَّاقة، كان الأدب
حتى القرن التاسع عشر راكدًا لغويًّا. استقرَّ ازدواج اللغة بقوةٍ كاملة، وكانت الكتابة
الأدبية مصطنعة تقريبًا، بقدْرٍ ما كانت مصطنعةً، واللاتينية تستخدم في أوروبا الغربية
في القرون الوسطى وقد تشكَّلت العاميات الأوروبية الحديثة مثل الفرنسية والإسبانية
والإيطالية.
في النصف الأخير من القرن الثالث عشر/التاسع عشر، كانت هناك نهضة «نهضة حقيقية»؛ حيث كان الهدف الأساسي لأنصارها استعادةَ نضارة
كتَّاب العصر الذهبي وحيويتهم. وحيث إنه لم تكن هناك مطبعةٌ عربية في العالم الناطق
بالعربية حتى أوائل القرن الثالث عشر/التاسع عشر، كان أولئك الكتَّاب مجهولين تقريبًا
إلا لأقليَّةٍ ضئيلة من العلماء الذين توفَّرت لهم المخطوطات. وُجِّه قدْرٌ كبير من
نشاط أنصار النهضة، إلى طباعة النصوص المهمَّة لكتَّاب العصر الذهبي ونشرها، وتجميع
قواميس للاستخدام «الصحيح».
في النصف الأخير من القرن، ظهرت اللغة العربية «الحديثة» حقًّا. هنا، يمكن ملاحظةُ
اتجاهَين، ليسا معزولَين عن بعضهما، لكنَّهما يوجدان بدرجةٍ ما في كلِّ الكتابات. من
ناحية، هناك استمرارٌ وتطويرٌ لمبادئ النهضة، بهدفِ تطويع لغةِ العصر الذهبي
للاستخدامات الحديثة. تمَّ التخلِّي عن تكلُّف الفترة الطويلة للتدهور الأدبي وعُقمها،
لكنَّ أنماط التفكير والتعبير بقيتْ عربيةً بشكلٍ ثابت في طبيعتها، وفي إطارِ تقاليد
العصر الذهبي. وهذا الاتجاه ملموسٌ أكثرَ عند كتَّاب المقالات والمؤرخين، وعمومًا في
الكتابات المعبِّرة عن التفكير المجرَّد.
ومن الناحية الأخرى، تأثَّرت الكتابة العلمية والخيالية بشدة بالنماذج الأوروبية.
الترجمة الحرفية لاستخدام الفرنسية والإنجليزية تواجه في مجال المعجم ومجال بناء
العبارة. ومن أبرز الأشياء بشأن المفردات الحديثة، المدى الذي كان لمجال الكلمات
العربية الخالصة في الإشارة، سواءٌ الضيقة أو الموسَّعة، للتطابق مع المجالات الدلالية
الأوروبية. في الحالة الأولى، الكلمة التي كان لها من قبل تطبيقٌ واسع وعام؛ اقتصرت على
ظاهرةٍ ما خاصة بالثقافة الحديثة؛ وهكذا تستخدم الآن كلمة «واردات». وكانت تنقل لقارئ العصر الذهبي مفهومًا عامًّا جدًّا فقط
«لأشياءَ تَرِد»، لتقنيةٍ تجارية خاصة مقابل كلمة
imports، أيْ لنوعٍ خاص جدًّا من «أشياءَ تَرِد».
في الحالة الثانية، كان هناك اتجاه؛ حيث كان أحد معاني كلمةٍ عربية معادِلًا لأحد معاني
كلمةٍ أوروبية، لمدِّ تطبيق الكلمة العربية على كل المعاني الأخرى للكلمة الأوروبية.
ومن أمثلة ذلك كلمة «طابع»: في العربية التقليدية
كانت تعني seal-impression، وهو أيضًا معنى الكلمة
الإنجليزية stamp حتى ١٨٣٩م؛ أدَّى ابتكارُ طابع بريد
لاصق في تلك السنة إلى توسيع تطبيق كلمة stamp على تلك
الظاهرة أيضًا، وحذَت الكلمة العربية حذوَها.
التأثير الأوروبي في مجال بناء العبارة أكثرُ مراوغة أو أقلُّ سهولة في تحديده. ومع
ذلك يمكن اقتباس مثال بسيط. تبنَّت الإنجليزية الحديثة ممارسةَ (وينبغي من منظور المنطق
اللغوي أن تُعتبر بائسةً) وضعِ اسمٍ مصحوبٍ بفعلٍ مألوفٍ بلا معنى في ذاته، وكل ما يقوم
به أن يحوَّل الاسم إلى فعل، محل فعل؛ بدلًا من القول ببساطة أنَّ المرء «يوافق
agrees» أو «يقرِّر
decides»، إلخ. الاتجاه الآن إلى قول إنَّ المرء
«يتوصَّل إلى اتفاق comes to an agreement» أو «يتَّخذ
قرارًا takes a decision». هذا النوع الهزيل للأسف من
صياغة العبارة؛ كان بغيضًا لكاتبٍ من العصر الذهبي، لكنَّه يتسرَّب تدريجيًّا إلى
العربية الحديثة.
لا يمكن المبالغة في تقدير تأثير الراديو على اللغة العربية. الاختلافات الواسعة بين
العاميات الإقليمية، جعلتْ من الضروري لأيِّ بثٍّ إذاعي يتوجَّه لكلِّ العالَم الناطق
بالعربية؛ أن يكون بالفصحى. وبالتالي اعتادت كلُّ الطبقات على سماعها وفهمها، رغمَ عجزِ
مستمعين كثيرين عن استخدامها بأنفُسهم. بينما قضى انتشارُ التعليم تدريجيًّا على هذا
العجز؛ فإن هناك طريقًا طويلًا ينبغي قطْعُها، ويبقى ازدواج اللغة مشكلةً لسنواتٍ طويلة
قادمة. تحافظ اللهجاتُ الإنجليزية (يوركشاير وجلاسجو، إلخ) على تميُّز نطقها ومعجمها،
لكنها لا تختلف عمومًا عن الإنجليزية الفصحى في الصرف والنحو. ولا ينطبق هذا على
العاميات العربية مقابل الفصحى، والمشاكل بالتالي أكثر حدَّة.
بطريقةٍ تقريبية وجاهزة جدًّا، يمكن القول إنَّ العربية الأدبية الحديثة تستخدم شكلَ
القرآن والشِّعر القديم، وبناء جملة العصر العباسي الذهبي، ومعجم ذلك العصر، إضافةً إلى
إضافاتٍ حديثة ضرورية جدًّا؛ إنها أقلُّ تمايزًا عن اللغة العباسية من تمايز الإنجليزية
الحديثة عن لغة تشوسر.
وكانت هناك تجارب للكتابة بالعامية، لكنَّها لم تحقِّق نجاحًا كبيرًا، وكان هناك
دائمًا خوفٌ من أنها قد تعوق ظهورَ أدبٍ جذَّاب بالقَدْر نفسه في كلِّ أرجاء العالم
العربي. حقَّقَ المسرح فقط، وهو على أيَّة حال ليس مصمَّمًا للقراءة، بعضَ النجاح؛
لكنَّ الدراما المسرحية لم تُقبل تمامًا في الثقافة العربية، ومازال البعض يعتبرونها
مستوردةً من الخارج.
(٢) الخط العربي
في بداية الألف الميلادية الأولى قبل الميلاد، كان الفينيقيون يستخدمون أبجدية من
اثنين وعشرين رمزًا، كانت كلُّها صوامت؛ لم تكن الصوائت تُمثَّل وكان على القارئ أن
يستنبطها. بعد قرن أو اثنين، ظهرت محاولاتٌ محدودة، تسعى لتزويد القارئ بمساعدة ضئيلة
باستخدام رمزَين أو ثلاثة رموزٍ صامتة بوصفها مؤشراتٍ على الصوائت. وكان هذا يتمُّ فقط
بشكلٍ متقطع، وليس باستمرار تمامًا؛ وبقيت هذه الحروف مبهمة، لأنها كانت تقرأ على أنها
صوامت في بعض السياقات. وحفظها الإغريق حين تبنَّوا الأبجديةَ الفينيقية سنة ٦٠٠ق.م.
تقريبًا؛ ليخطوا خطوةً جذرية لتحديد قيمٍ مؤلَّفة من حروفِ العلة بشكلٍ حصري لبعض
الحروف الفينيقية، التي تدلُّ على أصواتٍ صامتة لم تكُن موجودةً في الإغريقية. وبذلك
ابتكروا أبجديةً مقسَّمة إلى مجموعتَين، إحداهما من صوامت بشكلٍ حصري والأخرى من صوائت
بشكلٍ حصري. ولم يقلَّد هذا قَط في الخطوط السامية، وحين تطوَّر — في النهاية — بعضُ
التدوين للصوائت، نُقلت بوسائل أخرى غيرِ رموز الأبجدية.
جنبًا إلى جنب مع الأبجدية السامية في الشمال الغربي، والفينيقية مثالٌ مميِّز لها،
تطوَّرتْ في الأجزاء الجنوبية من المناطق الناطقة بالسامية أبجدياتٌ من ثمانية وعشرين
حرفًا أو تسعة وعشرين؛ حيث إن ذخيرة تلك المناطق من فونيمات الصوامت كانت أكبر ممَّا
في
الفينيقية. وتنبثق هذه الأبجديات الجنوبية من الأُسرة التي تنبثق منها الفينيقية،
والكثير من الرموز متماثلةٌ بشدَّة في الأبجديتَين؛ بصرف النظر عن الحروف الزائدة.
للقليل منها فقط أشكالٌ جنوبية متميزة. نقشُ النمارة من القرن الرابع الميلادي بخطٍّ
شمالي مماثل بشدَّة للخط النبطي، لكنَّ الخطوط الجنوبية انتشرتْ ذات يومٍ على نطاقٍ
واسع في أرجاء شبه الجزيرة العربية، وتوجد بعض أقدم الأمثلة على حدود المنطقة الشمالية.
لكن، كما ذكرنا من قبل، تحوَّلَت الحدود الثقافية تدريجيًّا لاتجاه الجنوب والغرب؛ وفي
عصر النبي، كانت مكةُ نفسها تستخدم خطًّا شماليًّا.
وقبل ذلك بعدَّة قرون، طوَّرت النبطية والتدمرية والسريانية خطًّا «متشابكًا» فيه،
بدل أن تكتب الحروف منفصلةً، تشبك معظمَ الحروف (مع ستة استثناءات) بالحرف التالي في
الكلمة ذاتها. وكان من نتائج ذلك أن الكثير من أشكال الحروف طوَّرت أشكالًا مختلفة
قليلًا، طبقًا لموقعها في بداية الكلمة أو وسطها أو نهايتها. وإضافةً إلى ذلك، بدأ ظهور
اتجاهٍ لفقد أشكالِ بعض الحروف؛ لتفرُّدها بطريقةٍ تسمح بقراءةِ شكل حرفٍ واحد بصوتَين
مختلفَين؛ صوتَين كانا يدوَّنان من قبل بشكلَين متميزَين لحرفَين. حدَثَ هذا في
السريانية مع حرفَين فقط: د، ر. وكانت الوسيلة المستخدَمة للتمييز بينهما إضافةَ نقطةٍ
فوق الحرف أو تحته. في النمارة عددٌ آخرُ كبيرٌ من هذه الالْتباسات، لكنْ ليست هناك
محاولةٌ لحلِّها باستخدام النُّقط. وإضافةً إلى ذلك، لم يتوسع نقش النمارة في ذخيرة
الأبجدية السامية الشمالية الغربية، بإضافة حروفٍ إضافية؛ لذا في حالاتٍ عديدة يؤدِّي
حرفٌ وظيفةَ صوتَين عربيَّين.
للخطِّ العربي بعضُ أوجه الشبه بالخط السرياني من ناحية ونقش النمارة من الأخرى؛
لكنَّ أصله الدقيق غيرُ مؤكَّد، حيث إنه لم تصلنا إلا عيِّنتان أو ثلاث من قبل الإسلام.
يشبه نظامُها المتشابِك نظامَ السريانية والنمارة، وخاصة من حيث إنَّ الحروف الستة
نفسها لا تُشبك مع الحرف التالي في الخطوط الثلاثة كلِّها. وكما في النمارة، هناك عددٌ
كبير من أشكال الحروف الملتبِسة. وكما في السريانية، يبدو أنَّ النُّقط استُخدمت
أحيانًا لتمييزها؛ لكنَّ استخدام النُّقط بدأ نادرًا جدًّا، ولم تُستخدم قَط بشكلٍ
منتظِم (كما في السريانية). وإضافةً إلى هذا، الحروف التي تحتاج إلى تمييز في العربية
تشكِّل قائمةً مختلفة عن قائمتَي السريانية والنمارة، على سبيل المثال: «ر»، و«ز». في
السريانية والنمارة، يتمُّ التمييز بينهما في الشكل الأساسي، لكنهما في العربية تحتاجان
إلى نقطةٍ لتمييز «ز». ومن الناحية الأخرى، حرف الراء وحرف الدال غير متمايزَين في
النمارة، لكنهما متمايزان في العربية. في بعض الحالات في العربية لا يكون التمييز
ببساطة بوجود نقطةٍ أو غيابها، لكن بالاختلاف في عددِ النُّقط وموضعها، الباء والتاء
والثاء والنون والياء، في البداية والوسط؛ يتمُّ تمييزها بعددِ النُّقط وموضعها. وفي
نهاية الكلمة، تتميز النون والياء فقط بدون إضافة النقط.
٣
سمَحَ استخدام النقط، في نهاية الأمر، بالتوسُّع في الأبجدية العربية لتكتمل بثمانية
وعشرين حرفًا، كما يتطلَّب النظام الفونيمي للغة، لكنَّ استخدام النقط، لم يعمَّم قَط
في الممارسة. في القرنَين الأول والثاني للهجرة، لم تُستخدم على الإطلاق؛ وكثيرًا ما
حُذفت في مخطوطات القرون الوسطى. وكانت بعض فئات النصوص، لا تستخدم النقط على الإطلاق،
وخاصة النصوص العلمية، حيث يُفترض أنَّ القارئ خبيرٌ بما يكفي لمعرفة الكلمات بدون هذه
المساعدة. في الوثائق غير الرسمية، مثل الرسائل الخاصة، في كلِّ العصور حتى اليوم، شاع
حذفُ النُّقط أحيانًا.
ثمَّة سمتان بارزتان لنظام التنقيط، جديرتان بالذِّكر. في البداية، كان حرف القاف
يميَّز عن الفاء بنقطة فوق الأول ونقطة تحت الأخير؛ واستمر هذا النظام مستخدمًا في
المغرب والجزائر حتى بداية القرن العشرين، ويميل الآن فقط للاختفاء، ليحلَّ محلَّه
نظامٌ منافِس مستخدَم في الأجزاء الشرقية من العالَم العربي من أوائل العصور الوسطى وما
بعدها، وفيه توضع نقطتان فوق القاف ونقطةٌ فوق الفاء.
ثانيًا: هناك سبعةُ حروف في الممارسة المعيارية
أعضاءٌ في أزواجٍ غير مميزة، بينما العضو الآخر عليه نقطة؛ على سبيل المثال: «ر»، و«ز»؛
كما ذكرنا من قبل، لكنْ طوالَ العصور الوسطى، هناك أمثلةٌ متفرِّقة لاستخدامِ تقليدِ
تمييزِ حروفٍ غير مميَّزة عادة. وحين يُستخدم هذا التقليد، قد نفسِّر حرفًا غير مميَّز
على أنَّه الحرف المميَّز في الاستخدام المعياري. قدَّم لوفجرين
Löfgren وصفًا واضحًا لهذا التقليد، ويتضمن ثلاثة
أنواع: إضافة نسخةٍ ضئيلة من الحرف نفسه فوق الحرف أو تحته، أو إضافة عُقافٍ أو نصف
دائرةٍ فوق الحرف، أو تنقيط تحت الحرف.
وثمَّة عاملٌ آخر مرتبط بعلامة التشكيل، وهو علاماتٌ تُكتب غالبًا على مسافةٍ معيَّنة
فوق الحرف نفسه أو تحته. ومن ثَم قد يكون من الصعب تحديدُ أيِّ حرفٍ من حرفَين
متجاوِرين يستهدفه التنقيط.
تتوازى مع مشكلة علامات التشكيل المميِّزة للصوامت، مشكلةُ تمييز الصوائت. بشكلٍ
متأصِّل في تراث خطوط الأبجدية السامية، استخدَمَت اللغة العربية في أقدم عصورها حرفَي
الواو والياء متعارضَين، حرفَين صامتَين حقيقيَّين ومؤشرَين على الضمة الطويلة والكسرة
الطويلة؛ لكنَّ الألف كان يدوَّن (بحرفٍ ساكن أصلًا) في نهاية الكلمة، ولم يكُن يدوَّن
في وسط الكلمة. وهذه هي الطريقة التي دُوِّن بها القرآن أولَ مرة، ولا تزال تُستخدم في
نسخٍ معيارية للقرآن. بينما، للأغراض الأخرى، يستخدم الحرف الآن بانتظامٍ في وسط الكلمة
أيضًا (بصرفِ النظر عن نصفِ دستةٍ من الكلمات الشائعة جدًّا). كما هي الحال بالنسبة
للحركات، كانت — ولا تزال — تُحذف عادةً في الكتابة تمامًا، لكنَّ السريانية، طوَّرت
قبل الإسلام ببضعة قرون نظامَين بديلَين للإشارةِ إلى الصوائت: أحدهما استخدامُ حروفٍ
يونانية صائتة قصيرة، توضع فوق الرمز الساكن أو تحته. وكان الآخر، وضعَ ترتيبٍ لنقطة
أو
اثنتَين بشكلٍ مماثِل فوق الحرف الصامت أو تحته. وبالنسبة للسريانية، لا يتعارض النظام
الثاني بشكلٍ خطير مع نقطِ تشكيل الدال والراء؛ حيث إنَّهما الحرفَين الوحيدَين
المميزَين تشكيليًّا: توجد نقطتهما دائمًا. وعلامة الحرف الصائت، إن وُجدت توجدْ بعيدةً
عن الخطِّ الأساسي.
في أقدم مخطوطات القرآن، وفي النقوش والعملات وورق البردي؛ لا يوجد تمييز قَط للحركات
أو للألف وسطَ الكلمة. بحلول أوائل القرن الثاني/الثامن، استخدَمَت بعضُ مخطوطات القرآن
نُقطًا ملوَّنة مؤشراتٍ على الصوائت، وإن يكُن بشكلٍ محدود فقط، بينما كانت القراءات
الخاطئة محتمَلةً جدًّا، لكنَّ هذا الاستخدام للأحبار متعددة الألوان، من الواضح أنه
غير ملائمٍ في الأغراض العامة. كذلك كانت أيضًا النُّقط السوداء في الكتابة السريانية؛
حيث كان التنقيط يُستخدم للتمييز بين الصوامت، والكثير منها يحتاج إلى مثل هذا التمييز
في العربية أكثرَ ممَّا في السريانية. والنظام الذي شاع قُرب نهاية القرن
الثاني/الثامن، قد يكون مستوحًى من النظام السرياني، لكنه استبدل بالنُّقط السريانية
خطوطًا صغيرة تُوضع مائلةً. وسمح هذا النظامُ، كما تطور في النهاية، بتمثيلٍ فونيميٍّ
كامل للكلمة، لكنْ فعليًّا، لم يُستخدم قَط بنِطاقه الكامل إلا في نُسَخِ القرآن، وإلى
حدِّ ما في تدوين الشِّعر. وكان الاستخدام العادي، ولا يزال اليوم، لا يَستَخدِم
علاماتِ التشكيل قط (كما في معظم المطبوعات الحديثة)، أو يستخدمها نادرًا جدًّا وفي
المواضع شديدةِ الإبهام فقط.
لكنَّ مشكلةً أخرى تواجه مَن يتعامل مع الأدب العربي، وهي الافتقار إلى نظامِ ترقيمٍ
كافٍ. ركَّزت الدراسات العربية في القرون الوسطى على الكلمة المنطوقة أكثرَ من الكلمة
المكتوبة، وكان الدارس عادةً يطَّلع على نصٍّ بسماع معلِّمُه يقرؤه بصوتٍ عالٍ، ولم
يكُن يعتمد فقط على النص المكتوب ليفهم كيفية صياغة مقطع. وبالتالي لم تحتوِ مخطوطات
القرون الوسطى على علامات ترقيم قَط، إلا إذا وُضعت أحيانًا علامة في نهاية الفقرة.
وهكذا، لا يوضِّح النصُّ المكتوب أين تبدأ جملةٌ جديدة، أو كيف تُبنَى الجملة. علامات
الترقيم، على غرار الموجودة في اللغات الأوروبية، شائعةٌ الآن في المطبوعات، لكنَّها
تُستخدم بشكلٍ غير منهجيٍّ وقد تكون مُضلِّلةً أحيانًا.
والآثار المترتبة على هذا واضحةٌ بشكلٍ كافٍ. على قمَّة كلِّ الاحتمالات المعتادة
لإفساد النصِّ، أن ناسخًا مهملًا قد يُخطئ في قراءة نُقط الأصل. وقد ينسى، إذا كان
الأصل يستخدم تقليدًا من التقاليد القديمة الموصوفة سابقًا، أن ينقلها إلى التقاليد
الخاصة بعصره. وإذا كان الأصل ببساطة قد أهمل علامة التمييز، قد يُضيفها من نفسه، وربما
يُضيفها خطأً. وبالقدر نفسه، ربما تخلو النسخة التي وصلتْ إلينا من علاماتِ القراءة،
وهكذا يكون ما قصَدَ الناسخ نفسه كتابته غير مؤكَّد؛ لذا يتعرض تحقيق المخطوطات أحيانًا
لشكوكٍ هائلة بشأن القراءة الصحيحة للنص. ونُضطر إلى القول إنه حتى في المطبوعات
الحديثة، الأخطاء الطباعية ليست غيرَ شائعة تمامًا حتى في الأعمال التي تُنتج بعنايةٍ
بالغة.
كانت أقدم موادِّ الكتابة، ورقَ البردي والجلود وكِسَر الأواني الخزفية (أوستراكا)،
وأحيانًا حتى ألواح أكتاف الحيوانات. هذه الأسطح ليست ملائمةً تمامًا لتطوير أسلوبٍ في
فنِّ الخط، وتُعطي الأمثلة المبكِّرة انطباعًا بالخشونة وعدم الانتظام. كان الرقُّ
مكلفًا جدًّا ويستخدم فقط لنَسْخ القرآن، لكنَّ سطحه سمح بتطوير أسلوب فنِّ الكتابة،
الذي يشار إليه عادةً باسم «الخط الكوفي»، رغم الاعتقاد الآن بأنه لا علاقةَ له
بالكوفة، ويُحتمل أكثر أنه نشأ في المدينة. وهو أسلوبٌ مصمت وجيِّد، رغم أنه صعبٌ إلى
حدٍّ ما. واستمر استخدامه في مخطوطات القرآن لعدَّة قرون، واعتُبر بعد ذلك (حتى اليوم)
خطًّا رفيعَ المستوى يُستخدم للزخرفة والأعمال التذكارية فقط.
فتَحَ إدخالُ الورق إلى العالم العربي في ١٣٣ﻫ/٧٥١م الطريقَ لتطوُّرٍ جذري جديد،
بجعل
إنتاج الكتب ممكنًا على نطاقٍ واسع، أدَّى في سياق القرن التالي إلى تطوير «خطٍّ» يُعرف
عمومًا ﺑ «النَّسْخ». مقارنةً بالخط الكوفي، يتميَّز
النَّسْخ بشكلٍ بارز بمنحنياتٍ منسابة ببراعة. ويعود الفضل للوصول بهذا الأسلوب للكمال
إلى خطاطَيْن مشهورَيْن، ابن مقلة (٢٧٢–٣٢٨ﻫ/٨٨٥–٩٤٠م) وابن البواب (ت: ٤١٣ﻫ/١٠٢٢م)،
وخاصة بفرض قواعدَ رياضيةٍ صارمة على نِسَب الحروف. رغمَ أنَّ الخطاطِين المحترفين
وحدهم قادرون على إنتاج هذا الخط في أبدع أشكاله؛ فإن المخطوطات الجيدة في القرون
الوسطى تستخدم أسلوبًا يعتمد عليه، له براعته وجاذبيَّته. وتَدين أنماط الطباعة
الحديثة، بإلهامها النهائي، إلى هذه الكتب المكتوبة بخط اليد في القرون الوسطى، رغم أن
القليل منها يحافظ على جاذبيته الجمالية.
ينبثق تطوُّران آخران من خطِّ النسخ. قُرب بداية
القرن الثامن/الرابع عشر، الميل إلى المنحنيات المناسبة وصَلَ إلى درجةٍ أبعدَ بأسلوبٍ
يسمَّى الشكستة؛ ولم يكتسب شعبيةً قَط خارج إيران
والهند. في الأراضي الناطقة بالعربية، تطورت الكتابة غير الرسمية تدريجيًّا على مسارات
أنتجت خطَّ الرقعة الحديث، وهو حاليًّا أسلوبُ
الكتابة اليدوية المعتادة.
وهناك ارتباطٌ وثيق بين الخط العربي وزخرفة الأرابيسك المعقَّد والمميِّز للعمارة
الإسلامية، رغم أنه لا يمكن أن نعرف مَن منهما أثَّر على الآخر، بشكلٍ يجعلنا نستبعد
العملية العكسية؛ عملت التأثيرات في الاتجاهين. التشابك الرائع للحروف (إلى حدٍّ ما
بطريقة «المونوجرام monograms» الأوروبي)، وبعض الخوف
من الفراغات بالميل لملء المساحات الخالية في التصميم بنُقط وشُرط، لا أهمية لها سوى
الزخرفة؛ ممَّا يصعِّب بشكلٍ استثنائي قراءةَ هذه المادة. ومع ذلك، تُستخدم للزينة
المعمارية والنقوش التذكارية، وزخرفة عناوين الكتب.
(٣) البحور العربية
لمجموعة نصوص الشعر الجاهلي وصدر الإسلام بنيةٌ عروضية مميَّزة، حلَّلها ودوَّنها
الخليل بن أحمد، وهو نحويٌّ من القرن الثاني/الثامن. كما هي الحال مع أيِّ عمل نحوي في
تلك الفترة،
٤ ما صُمِّم أصلًا ليكون تعليقًا وصفيًّا تحليليًّا؛ أصبح بسرعةٍ قاعدةً
مُلزِمة. ويتبين هذا بطريقتَين مهمَّتَين. صنَّف الخليل الشعر الذي كان يتناوله تحت
ثلاثة عشر بحرًا مختلفًا، لكنْ توجد مقطوعة أو اثنتَين من الشعر الجاهلي لا تنتمي لأيٍّ
من هذه البحور. ومن الناحية الأخرى، النظام الذي ابتكره ليصِفَ بُحورَه؛ نظامٌ يحتوي
على فجواتٍ في تناسُقه، حيث إنه لا يوجد شعرٌ مبكِّرٌ له تلك البِنَى العروضية الخاصة.
ملأت العصورَ التالية، متبنِّيةً نظامَه وليس تعليقه الوصفي قاعدةً، هذه الفجواتُ؛
بابتكارِ ثلاثةِ بحورٍ جديدة، مشيَّدة على مبدأٍ يكمل نظامه بشكلٍ متناسق. ومنذ ذلك
الحين، كُتِب كلُّ الشِّعر العربي (باستثناءاتٍ قليلة نذكُرها فيما بعدُ) بالأشكال
العروضية للنظام الخليلي. وحتى اليوم، رغمَ الكثير من التجارب الجديدة التي قدَّمتها
الطليعة، لا يزال هناك إنتاجٌ كبير جدًّا للشِّعر يخضع للقوانين العروضية لذلك
النظام.
لفونولوجيا العربية «الكلاسيكية» والفصحى (مقابل اللهجات العامية) سِمتان أساسيتان
لهذا النظام. الأُولى: عدم اجتماع ساكنَين. الثانية: سمة تشترك فيها العربية مع
«القواعد Bühnendeutsch» الصارمة في الألمانية؛ لا تبدأ
كلمةٌ بصائت، بطريقة تسمح باستمرارِ الصامت الأخير في الكلمة السابقة، وصائتٍ يبدأ
الكلمة التالية كما يفعل الناطقون بالإنجليزية. على المرء أن يفصل الاثنتَين ﺑ «بدايةٍ
صائتة» بشكلٍ ملموس، وهذه السمة الفونولوجية تصنَّف في اللغة العربية باعتبارها حرفًا
صامتًا. أضِفْ إلى ذلك تقليدَ معاملةِ مورفيم حرفِ العلَّة بوصفه ساكنًا: مورفيم
يتكوَّن من ساكنٍ والحركة التالية له، ومورفيم يتكوَّن من صامت + حركة + صامت. التقابل
بين هذَين النوعَين من المقاطع أساسي لكلِّ إيقاعات الشِّعر العربي.
البيت هو الوحدة الأكثر تميُّزًا في الشِّعر، ويترجمه
العلماء الأوربيون عادةً إلى line، رغمَ أنَّ متوسطَ
طوله حوالي عشرين مقطعًا؛ وبالتالي فهو أطول بكثير من «البيت» في الشِّعر الإنجليزي.
وتتكرَّر البنية الإيقاعية الأساسية للبيت الأول في أيَّة مقطوعة من الشِّعر دون أيِّ
تغيير في كل بيت تالٍ من المقطوعة، مهما يكُن طولُها. وينقسم البيت نفْسُه إلى شطرَين،
والنمط الإيقاعي لأولِ شطرٍ من الاثنَين يتكرَّر في الثاني، مع تحفُّظٍ بأنَّ آخر
مقطعَين أو ثلاثة من الشطر الثاني يخضعان لتعديلٍ طفيف في النمط يحدُث في نهاية الشطر
الأول. مثل هذا التعديل، كثيرًا ما يكون حذفَ مقطعٍ أو اثنين. الحدُّ بين الشطرَين هو
في الأوزان الأكثر رسميةً ومكانةً وقفةٌ، بمعنى أنه يتطابق مع نهاية الكلمة، كما في
«ألكساندرين Alexandrine» الفرنسي. تجاوُز كلمةٍ للحدود
يميِّز فقط أوزانًا أقلَّ رسميةً إلى حدٍّ ما.
تعتمد البنى الإيقاعية الأساسية
٥ على نوى من مقطعَين، تتكون كلٌّ منهما من مقطعٍ من صامتَين يليه مقطعٌ من
صامتٍ (انظر ما سبق)، أو العكس بالعكس. تتكرَّر النوى دون تغيير في الموضع نفسه من كل
بيت في المقطوعة، لكنَّ كلَّ نواةٍ من النوى
تنفصل عن التالية بمقطعٍ أو أكثر بطابعٍ غير مستقر، وتكوِّن مقاطع من صامت أو صامتين.
بالنسبة للقارئ الملمِّ بالأوزان اللاتينية واليونانية، من الجدير التأكيد على مفهوم
المقطعَين «القصيرَين» (في العربية، مقاطع من صامت) يعادل مقطعًا «طويلًا» (من
صامتَين)، يوجد في بحرَين فقط من النظام الخليلي. هناك بشكلٍ طبيعي، اختلافٌ بسيطٌ في
طبيعة مقطعٍ واحد (كما هي الحال في البحر اليوناني خُماسيِّ التفعيلة؛ حيث، على سبيل
المثال، قد يكون أول مقطعَين طويل-قصير، أو طويل-طويل). حتى في هذين البحرَين، لا ينطبق
الاختلاف الاختياري إلا على مقاطع ثانوية؛ ليس بأيِّ حال مقطعٌ أساسي من طبيعةٍ غير
التي يتطلَّبها الإيقاع الأساسي. وإضافةً إلى ذلك، هناك تقييدٌ على وسيلة الاختلاف في
المقاطع الثانوية، يفرضه شعورٌ قوي من الاعتراض على تتابُع ثلاثة مقاطع من صامتٍ واحد؛
وهذا التتابع يقتصر فعليًّا على بحرٍ واحد، وهو بحرٌ منخفض القيمة، يُستخدم غالبًا في
الشِّعر الخفيف أو شِعر المناسبات. في موضعٍ آخر، إذا جاور مقطعان من قيمةٍ غير
مستقرَّة مقطعًا أساسيًّا من صامتٍ واحد؛ يمكن أن يكون أحدُ المقطعَين الثانويَّين
مقطعًا من صامتٍ واحد، وليس الاثنان. ومن أمثلة ذلك، بحرٌ شائع مثير للإعجاب يسمَّى
البسيط، ويتأسَّس على تكرار تتابُع مقاطع س س ١ ٢
س ١ ٢؛ حيث يمثِّل ١ مقطعًا، هو دائمًا من صامت واحد، ويمثِّل ٢ مقطعًا من صامتَين،
ويمثل س مقطعًا ثانويًّا متغيرًا.
القافية من اللوازم الثابتة في الشعر التقليدي. في
معظم الشِّعر القديم، تتكرَّر قافيةٌ واحدة لا تتغيَّر في نهاية كلِّ بيت. وفي
القصيدة تتكرَّر القافية نفْسُها في نهاية الشطر
الأول من القصيدة. تمنع ضرورة الالتزام بقافيةٍ واحدة، ظهورَ القصائد الطويلة. في
الفترة المبكِّرة، لم تزِد قصيدةٌ عن ١٢٠ بيتًا، ومعظم القصائد أقصرُ بكثير. ومع ذلك،
هناك أمثلةٌ مبكِّرة على نظامٍ مختلف للقافية، ينتهي فيها كلُّ بيتٍ بقافيةٍ تُشبه
نهايةَ الشطر السابق، وليس مع الأبيات الأخرى في المقطوعة. في العصر العباسي وما بعده،
مال هذا النظام لتأليف مقطوعات طويلة من الشعر.
في
المقامة الثانية عشرة للحريري مقطوعةٌ من
الشِّعر مهمَّة جدًّا،
٦ حيث بالإضافة إلى القافية العادية الموحَّدة في نهاية البيت في المقطوعة
كلِّها، توجد ثلاثُ قوافٍ داخلية في كلِّ بيتٍ على مسافةِ ربع بيت، تنتج النظام:
أ أ أ ب
ج ج ج ب
د د د ب، إلخ.
وهنا نكون قد قطعنا أكثرَ من نصف الطريق باتجاه شكلِ الموشَّح.
لكنَّ الموشحَ، بالمعنى الكامل، يبدو أنه بدأ في إسبانيا الإسلامية قُرب نهاية القرن
الثالث/التاسع.
٧ وكان له نُظمُ قوافٍ معقَّدةً، ولازمةً غالبًا، وبِنَى عروضية لا تتوافق
بالضرورة مع النظام الخليلي. ومع ذلك، كان هذا النوع من الشِّعر ذا طبيعةٍ خفيفة
دائمًا، غراميَّةٍ عادةً. وبالنسبة للأغراض الرسمية، مثل المديح، لا تزال السطوة للنظام
الخليلي.
بجانب الأنواع التي وصفناها من الشِّعر، ازدهر تراث الشعر الشعبي مبتعدًا عن المعايير
الخليلية للعروض واللغة الأدبية. والمعلومات التي لدينا عنه ضئيلةٌ جدًّا؛ حيث إنه
نادرًا ما اعتُبر جديرًا بالتسجيل كتابةً.
كما قد يُتوقع، شهِدَ العصر الحالي طفرةً في التجريب في الأشكال الشعرية، يحفزها
عمومًا مثالٌ أوروبي. كان هناك «شعرٌ حُر» و«قصائدُ نثر» ومقطوعاتٌ في البحور الخليلية،
لكنْ بأبياتٍ مختلفةِ الطُّول، وتجارب (ربما الأكثر أهميةً من منظور نظرية العروض) في
الجمع بين أكثرَ من بحرٍ خليليٍّ في قصيدةٍ واحدة. ومن المبكِّر جدًّا أن نحكُم على
النجاح الذي سوف تحقِّقه هذه التجاربُ على المدى الطويل.
(٤) التسمية العربية
قد تُربِك الأسماء العربية القارئَ الأوروبي. نتيجةَ تعقُّد نظامِ التسمية نفْسِه
ونتيجةَ عواملَ لغويةٍ بالقَدْر نفسه. والأكثر أهميةً بين العوامل الأخيرة وجودُ عدَّة
أصوات في العربية غريبةٍ تمامًا على الأذن الأوروبية؛ ولذا يستحيل نقلها بالأحرف
اللاتينية إلا بمجموعة من التقريبات، أو عن طريق نقلٍ حرفيٍّ تقليدي بَحْت. رغم أنَّ
هذا العمل تبنَّى النقلَ الحرفيَّ المستمر، يواجه القارئ في مصادرَ أخرى اختلافًا
هائلًا في نقل الأسماء العربية بالحروف اللاتينية.
تُثار نقطتان بشأن «أداة التعريف» العربية التي تسبق أسماءً كثيرة. وتُتهجَّى دائمًا
في العربية ال. لكنَّها حين تسبق حرفًا شمسيًّا،
«تُدغم» اللام في النطق مع الحرف الأول التالي؛ لذا يُخفي هجاءُ «السمرقندي» النطقَ:
«اسَّمرقندي»؛ وبعض الأعمال الأوروبية، تُعيد إنتاج الصوت لا الهجاء. ثانيًا: حتى في
الكتابة العربية نفسها، هناك تنوع في الممارسة فيما يتعلَّق بضمِّ العنصر أو حذفه.
الأسماء الشخصية — مثل الحسن والحسين والقاسم، وكانت في الفترات الأولى تشتمل على أداة
التعريف — ربما تقابل في الكتابة في القرون الوسطى أو العصر الحديث في صورة حسن وحسين
وقاسم. وللتغلُّب على الصعوبات الناشئة عن أغراض الفهرسة؛ تتجاهل معظمُ الفهارس أداةَ
التعريف في ترتيب الأسماء.
يقع نظام التسمية نفسه في ثلاثة عصور؛ الأول: قبل الإسلام وصدر الإسلام، حتى ٧٠٠م
تقريبًا. الثاني: العصر الإسلامي النموذجي. الثالث: العصر الحديث.
في أقدم العصور كان من المعتاد مخاطبةُ الشخص باسمه، لكنْ في المجتمع القبليِّ، في الجزيرة العربية في وقت مبكِّر، كانت
الهويَّة الاجتماعية للشخص مثبَتةً بنَسَبه. إذا سئل
رجلٌ مَن هو، يكون ردُّه «أنا أ بن ب بن ج بن د، إلخ.» كلمة ابن، كما ترِدُ في بِنية النَّسب هذه، تُختصر عادةً في الدراسات
الأوروبية إلى b. تنتهي سلسلة النسب دائمًا بجَدِّ
(حقيقي أو أسطوري) القبيلة كلِّها؛ ربما تنتهي مثلًا ﺑ «ابن بكر»، وبكر جَد مفترَض
لإحدى أبرز القبائل العربية. في الإشارة إلى شخصٍ ثالث، كانت العناصر الأساسية للتعريف
اسمه الشخصي، وانتماءه القبلي، رغم أنه أحيانًا
لتوضيحٍ إضافي؛ يمكن إضافة اسم الأب، أي العضو الأول في سلسلة النَّسب. في هذا الشكل المختصَر، كان من الشائع أن يحلَّ محلَّ تسمية
القبيلة بالصورة «… ابن س» شكلًا اشتقاقيًّا ينتهي بياء النسب؛ وهكذا شخص اسمه الشخصي
زيد، وينتمي لقبيلة يزعم أنها تنحدر من بكر، يمكن أن يشار إليه باسم زيد البكري، أو (مع
اسم الأب) زيد بن أسد البكري. وبالنسبة للمرأة، تحلُّ بنت محلَّ ابن، والنَّسب للقبيلة
يأخذ صيغةَ التأنيث: يَّة.
بجانب هذا الشكل المعياري للتسمية، لبعض الأفراد المشهورين لقبٌ، ويُستخدم عادةً مفضلًا عن الاسم «الحقيقي». الشاعر ثابت بن أوس
الأزدي يُعرف عمومًا بلقبه الشَّنفرى.
لكنَّ هناك نوعًا آخر من الأسماء إضافةً إلى الاسم، يسمَّى كُنية. والكنية مركَّبة
من
«أبو» (أو أم)
يليها اسم أو كلمةٌ تصِفُ خاصيَّةً بارزةً لصاحب
الكنية. يُفترض أن الكنية تشمل اسمًا في عنصرها الثاني يدلُّ أصلًا على أنَّ لحاملها ابنًا بهذا
الاسم. لكنها صارت بسرعة تقليدًا خالصًا، ابتعد عن هذا المعنى؛ لأنها تُطلق غالبًا في
سنٍّ مبكرة، قبل أن يُنجِب حاملُه، وحين يُنجِب لا يكون له بالضرورة ابنٌ يسمَّى طِبقًا
لكُنية الأب. في التسمية الرسمية تسبق الكُنية الاسم.
هناك شذوذٌ غريب في النظام. باستثناءٍ في الغرب الإسلامي في العصور الحديثة، لم
يُستخدم اسمُ الجَد القبلي بكر في العصور التاريخية قَط بوصفه اسمًا، لكنَّ كنية «أبو بكر» توجد (ولا تتضمَّن وجودَ ابنٍ اسمه بكر)،
وتُستخدم أيضًا بشكلٍ مفاجئ (لكنَّه شائعٌ جدًّا) اسمًا: إنها في الحقيقة اسم الخليفة
الأول.
بجانب «أبو بكر»، النوع الوحيد من الأسماء المكوَّنة من كلمتَين سلسلة الجزء الأول
منها «عبد» متبوعًا بكلمة الله أو أيٍّ من أسمائه
الكثيرة: «عبد الرحمن»، «عبد الجبَّار»، إلخ؛ وبين المسيحيين يجِدُ المرءُ «عبد
المسيح».
من القرن الهجري الثاني فصاعدًا، أصبح من غير اللائق مخاطبةُ شخصٍ مباشرة باسمه، إلا إذا كان الحديث إلى شخصٍ أدنى اجتماعيًّا بشكلٍ
كبير من المتحدِّث. المتساوون أو الأسمى يخاطَبون بالضرورة بالكنية.
بعد بوقتٍ قصير، دخلتْ إضافةٌ أخرى على التسمية. وهو اللقب، وهو مركب فيه العنصر الثاني الأكثر شيوعًا «الدين»، مثل فخر الدين، علاء الدين؛ رغم أنه إلى حدٍّ ما
أقلُّ شيوعًا. كان العنصر الثاني شيئًا آخر، مثل سيف المُلْك. بدايةً، كانت هذه الأسماء
يمنحها الحاكم ألقابًا للتشريف؛ لكن بعد وقتٍ قصير صارت أساليبَ يمكن لأيِّ شخصٍ بأيِّ
حُجَج اجتماعية أن يدَّعيها. وتوضع هذه الألقاب تقليديًّا قبل الكنية والاسم.
في هذه الفترة أيضًا حدَثَ تطورٌ كبير في
النسبة.
بجانب
النِّسَب القبلية القديمة، التي كانت بطبيعتها
مألوفةً؛ نقابل نسبًا مشتقَّة من مكانِ مولد حاملها أو مكان إقامته (مثل: القمِّي، «مِن
قم»)، أو مذهبه الديني (المالكي)، أو مهنته. وضَّحت كلٌّ من هذه الأنواع ميلًا باتجاه
التطور في الأسماء العائلية المنقولة من الأب إلى الابن بدون إشارة إلى مكانةِ حاملها؛
وبالضبط مثلما تتقاطع النسبة القبلية القديمة «البكري» مع الشكل «ابن بكر»، تظهر هذه
النسب بالأسلوب الجديد في الشكل الأخير، كما في حالة «ابن البواب»، رغم أننا لا نستطيع
أن نستنبط منها أن الشخص المسمى بهذا الاسم له في الحقيقة أبٌ يعمل في هذه المهنة
(الحالة تشبه ما حدث في الغرب مع أسماء عائلية مثل سميثسون
Smithson).
٨
وهكذا يكون الاسم النموذجي في الشكل المتطور تمامًا: فخر الدين (لقب) أبو عبد الله (كنية)
محمد (اسم) بن عمر (اسم الأب) بن الخطيب (اسم العائلة
على أساس المهنة) الرازي (نسبة جغرافية، «من بلدة الريِّ»). في الاستخدام الشائع، هذا
الشكل الثقيل حدَّ الاستحالة؛ يتم تجنُّبه باختزاله إلى اختيارٍ عشوائي للعناصر التي
تشكِّل الاسم «التقليدي». ولسوء الحظِّ تؤدِّي عشوائية الاختيار إلى شكوكٍ كثيرة،
وبالتالي اختلافات في الشكل الذي يُقتبس تحته من الشخص. ومع ذلك، غالبًا ما وقَعَ
الاختيار على عنصرٍ من النسبة الأخيرة وعنصر عائلي. وحين يتطلَّب الأمر مزيدًا من
التمييز، يتمُّ ذلك عادةً بإضافة اللقب أو الكنية. وهكذا يُعرف أبو بكر محمد بن الطيب
البصري الباقلاني ببساطة بالباقلاني. ويُعرف عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن
الأثير بابن الأثير أو (حيث يوجد أكثر من شخصٍ مشهور بهذا الاسم) عماد الدين بن
الأثير.
ومن النادر جدًّا أن يكون اسمٌ (أو اسمٌ واسمُ الأب) الاسمَ المختار تقليديًّا، أو
يشكِّل جزءًا منه. ومن المؤكَّد أن هذا يبدو غريبًا للأوروبي؛ لأنَّ اسم الفرد أو الشخص
بالنسبة له جزء أساسي في التسمية المميزة، وأشكال من قبيل «السير جونز» و«القس سميث»
مرفوضةٌ اجتماعيًّا؛ لكن قد يكون لها أصل في الحقيقة المذكورة سابقًا، بأن استخدام
الاسم الشخصي كان غير لائق، لكنْ هناك استثناءات.
وربما يكون من أبرز الأمثلة الإمام مالك بن أنس (ويُشار إليه عادةً باسمه «مالك»)
والمترجِم ثابت بن قُرَّة.
أحيانًا أيضًا تُختار الكنية اسمًا تقليديًّا،
مفضَّلة على النسبة، كما هي الحال مع الإمام أبي حنيفة. في العصور الوسطى، كان يبدو هذا
أكثر شيوعًا من الفترات التالية. والفيلسوف المعروف الآن عمومًا بابن سينا، كان يُعرف
عادةً في العصور الوسطى ﺑ «الشيخ أبي علي». استخدم أيضًا المترجمون اللاتين في القرون
الوسطى عن العربية أسماءً قائمةً على الكنية العربية
للمؤلِّف: الكاتب في مجال الطب أبو القاسم بن العباس الزهراوي، ويُشار إليه الآن غالبًا
بالزهراوي، يظهر في لاتينية القرون الوسطى في صورة
Abulcasis.
ومن العصور العباسية الأولى، صار من المألوف أن يتَّخذ الخلفاء، عند توليهم الخلافة،
اسمًا للحُكم بدلالةٍ دينية، يتضمَّن دائمًا كلمةَ «الله»؛ لكنْ كثيرًا ما يهمل المؤرخون المسلمون والدارسون الأوروبيون
العنصرَ المشترك: «الله»؛ لذا يشار إلى الخلفاء الذين كانت أسماؤهم الرسمية المتوكل على
الله والمنتصر بالله، والداعي إلى الله، عمومًا بالمتوكل والمنتصر والداعي.
واتَّخذ السلاطين الأيوبيون وسلاطين المماليك ألقابًا ملكية، كان العنصر الأول فيها
«الملك»، والثاني صفةَ تمجيد، من قبيل: الملك
الصالح، والملك الفضل. هنا أيضًا، يختصر المؤرخون عادةً، بإهمال العنصر المشترك،
ويكتبون ببساطة: الصالح، والفضل.
ويمكن أن تُشتق أشكال النسبة من العنصر الأول للقب
أو عنصر متغيِّر للقبٍ ملكي. وهذه النسب قائمة على لقب الراعي، كان يستخدمها بشكلٍ شائع
العبيد أو الأحرار أو الموالي. تشير نسبة «السيفي» إلى حاملها، باعتباره من موالي راعٍ
كان لقبه: سيف الدين، أو سيف المُلْك، أو سيف الدولة. يأخذ الخطاط الشهير ياقوت
المستعصمي نسبته من اللقب الملكي لآخر خليفة عباسي، المُستعصِم (بالله). وتُستخدم نسبٌ
من هذا النوع أيضًا خارجَ مجال الأسماء الشخصية، على سبيل المثال عناوين الكتب:
«الفخري» عنوان كتابٍ مهدًى إلى والي الموصل، لقبه فخر الدين.
في العصور الحديثة، لم يعُد يستخدم هذا النظام المعقَّد جدًّا. تستخدم الطبقات
المتعلِّمة أسماءً على غِرار النمط الأوروبي، مكوَّنة ببساطة من اسمٍ معيَّن أو أكثر
بالإضافة إلى اللقب. بجانب هذا التطور، لم يعُد للتقسيم المميز للاسم والكنية واللقب معنًى؛ تؤدي الأنواع الثلاثة كلُّها وظائفها دون
اختلافٍ بوصفها اسمًا معيَّنًا أو لقبًا. العنصر الوحيد الذي يحافظ على وظيفته المميزة
هو النسبة، التي تحافظ على موضعها تسميةٌ عائلية، وتعتبر عادة لقبًا. وهناك ميلٌ آخر
لتطوير أسماءٍ مهنية مستعارة، وصارت — مثل الألقاب قبل الإسلام — الاسمَ الأشهر؛ يمكن
لقليلٍ من الناس أن يُخبرك بالاسم «الحقيقي» للشاعر «أدونيس» أو المطربة «أم
كلثوم».
(٥) الكِتَاب العربي
لم يكن العربُ قبل الإسلام، بحال من الأحوال، غيرَ مطَّلعين على فنِّ القراءة
والكتابة، حتى إذا لم يمارسه عددٌ كبير من الأفراد بأنفُسهم. في الجنوب، في منطقة اليمن
وحضرموت، وفي الشمال، في المنطقة النبطية والتدمرية، ازدهرت تقاليدُ كتابيةٌ قوية (وإن
تكُن بلغاتٍ غير العربية). ومن المؤكَّد أنَّ تُجَّار مكة استخدموا، بشكلٍ ما، الكتابة
في المعاملات التجارية؛ وكان البدو مهووسين إيجابيًّا بخربشةِ أسمائهم ورسائلَ موجَزة
على صخورِ الصحراء. وحتى الحكاية الشعبية عن «رسالة المتلمِّس»، لها قيمةٌ واضحة بهذا
الشأن (مبنيَّة على تِيمةٍ فلكلورية منتشرة في كلِّ أرجاء العالم، بأن يحمل الرَّجُل
رسالةً تعطي تعليماتٍ بإعدامه).
بين كلِّ هذه الأشكال من الكتابة شيءٌ مشترَك؛ إنَّها وثائقُ قصيرةٌ مستقلَّة، وليست
«كُتبًا» بالمعنى الحديث، لكنْ لا بد أن الكثير من العرب سمعوا على الأقل عن الكتب، حتى
لو لم يروا قَط عينةً منها. بالنسبة لليهود والمسيحيين، اعتادوا على ترتيل كتبهم
المقدَّسة من نصٍّ مكتوب، سواءٌ لفيفة من التوراة أو مخطوطة من الكتاب المقدَّس. ثمَّة
فقرةٌ مثيرة للاهتمام في مقدمة ترجمة الكتاب المقدَّس Hexapla لأوريجانوس
Origen تنصُّ على أنَّه في وضعه رجع إلى نُسَخ
الكتابِ المقدَّس في عدَّة لغاتٍ تشمل «الكلدانية والعربية»، والمصطلح الأول يعني ما
نسمِّيه الآن السريانية، لكنْ من الصعب تخمين معنى الأخير. ومن المؤكَّد أنه من المذهل
أن نتخيَّل نُسخًا من الكتاب المقدَّس مكتوبةً في ترجمةٍ عربية في القرن الثالث
الميلادي.
يعلن الوحي الإسلامي عن نفسه بوصفه قرآنًا، «شيئًا يُقرأ بصوتٍ مرتفع» (بالضبط مثل
الكتب المقدَّسة اليهودية والمسيحية)، وبوصفه كتابًا.
وينبغي مع ذلك أن نقدِّر أنَّ هذه الكلمة في عصر النبي، كانت تعني «شيئًا مكتوبًا»، ولم
تكُن تحمل المعنى التالي «للكتاب». بينما لم يضيِّع المسلمون وقتًا لوضع سجلاتٍ مكتوبة
بالآيات المفردة كما نزلت وحين نزلت؛ فإنَّ هذه السجلات تماثل في البداية في طبيعتها
الوثائقَ المكتوبة، التي كان العرب على درايةٍ بها: قِطع قصيرة تدوَّن منفصلةً على
موادَّ متنوعة، تشمل الكِسَر الخزفية وعظام أكتافِ الأغنام؛ وكانت فيزيائيًّا غيرَ
قابلةٍ للتحوُّل إلى «كتاب». في عربية القرون الوسطى والعربية الحديثة، من الشائع
استخدامُ كلمةِ مصحف للدلالة بامتياز على نسخةٍ مكتوبة من القرآن. لكننا حين نقابل في
نصوص أدب الحديث، بشأن قراءةٍ مبكِّرة لمسلمٍ من مصحف، ينبغي ألَّا نستنتج أنه كان في
يدَيه مجلَّد. كما هي الحال مع الكتاب، كانت الكلمة
في الأصل تعني ببساطة قطعةً من الكتابة. وهي، على الأرجح، مستعارةٌ من جنوب الجزيرة
العربية؛ حيث — لقرونٍ قبل الإسلام — كانت كلمة صَحَفتْ تعني تصريحًا محفورًا على حجَر.
بينما يمكن بشكلٍ معقول الجدلُ بأنَّ تجميع
آيات
الوحي في
سُوَر حدَثَ في حياةِ النبي،
٩ فإن
السُّوَر لم تُجمع بترتيبٍ منهجي إلا
بعد وفاته ببعض الوقت. وهذا العمل يتضمَّن مفهومَ الوحي المدوَّن بوصفه «كتابًا»، ويمكن
أن يوصف القرآن بشكلٍ مبرَّر بأنه أولُ كتابٍ عربي. وحتى مع ذلك، من المشكوك فيه إن
كانت قد وُجدت في البداية مجلداتٌ تضمُّ النصَّ المقدس كلَّه. المرجَّح أنَّ النُّسَخ
المتداوَلة كانت أجزاءً، كلٌّ منها يضمُّ قدْرًا متساويًا تقريبًا من
الأجزاء الثلاثين، التي يقسَّم إليها القرآن لأغراضِ
التلاوة شهريًّا.
لقرنٍ تقريبًا، بقيتْ مخطوطات القرآن الكتبَ الوحيدة في العربية، رغمَ أنَّ لدينا
من
الفترة نفسها كميةً معقولة من النصوص الوثائقية، من قبيل الرسائل والعقود التجارية،
مكتوبة غالبًا على ورق البردي. ومن المستبعَد جدًّا، وجود برديَّةٍ أدبية متبقية بهذا
القِدَم.
وكانت نقطةُ التحول الرئيسية في تطور الكتاب العربي سنة ١٣٣ﻫ/٧٥١م، حين هاجَمَ
الصينيُّون سمرقند وهزمهم الوالي العربي هزيمةً ساحقة. وفي أعقاب الهزيمة، كان عددٌ من
الصينيين الذين وقعوا في الأَسْر مهرةً في صناعة الورق. في فترة قصيرة، بشكلٍ مدهش،
انتشرتْ هذه الصناعة إلى المراكز الإسلامية الرئيسية، وأصبح الورَّاق شخصيةً مهمَّة. كان الرُّخْص النسبيُّ للورق، مقارنةً بورق
البردي والرقِّ، وتوفُّره، عاملًا أساسيًّا في التحول؛ حيث تحوَّلت الثقافة العربية من
ثقافةٍ مؤسَّسة حصريًّا على التقاليد الشفهية، إلى ثقافيةٍ كتابية أصيلة.
ورغم ذلك، لم تحقِّق الكلمةُ المكتوبة قَط، حتى دخول الطباعة إلى العالم الناطق
بالعربية في بداية القرن التاسع عشر، الهيمنةَ التي لها في الثقافة الأوروبية. ومن
الأمثلة الواضحة لهذا، أنَّ الوثيقة المكتوبة ليست في الشريعة الإسلامية الوسيلةَ
الفعَّالة لعقد؛ الوسيلة الفعَّالة اتفاقٌ يُعقد لفظيًّا في وجود شُهودٍ على استعداد
لأنْ يُقسموا بعد ذلك على حدوثه. الوثيقة المكتوبة مجرَّد مذكِّرةٍ ببنود الاتفاق
وأسماء الشهود، الذين يكون عليهم، إذا نَشبَ خلافٌ، أن يُقسموا شخصيًّا في وجود قاضٍ
على حدوث الاتفاق.
تؤكِّد تقاليد الدراسة الإسلامية بشكلٍ مساوٍ على الكلمة المنطوقة. وكان شيئًا غريبًا
ولافتًا أن يكتسب رجلٌ تعليمَه من قراءة الكتب فقط. عادةً، كان الدارس الشابُّ يدوِّن
النصَّ من إملاءِ المعلِّم، ثم يقرأ نسخته على المعلِّم (لذا تعني «قرأ على»: «درس على يدي»، لا تعلَّم
taught كما قد يفترض الأوروبي)، وهكذا يمكن تصحيح
الأخطاء. وحين يتمُّ هذا بطريقة مُرْضية يُمنح التلميذ «إجازةً» لينقل النصَّ بالطريقة نفسها لتلاميذَ آخَرين. تحتوي بعض
مخطوطات القرون الوسطى في نهايتها على سجلَّات بهذه الإجازات، ويفضَّل أن تقتفي النقلَ
المحقَّق حتى المؤلِّفِ الأصلي. والأرجحُ أنَّ هذا النظام كان له تأثيرٌ على الكتابة
في
القرون الوسطى؛ لأنَّ الالْتباسات في الشكل المكتوب للعمل من الشائع ألَّا تظهر حين
يُقرَأ بصوتٍ عالٍ. ومن المؤكَّد أنَّ هذا العاملَ السببُ في أنَّ العربية لم تطوِّر
قَط مدونةً كاملة ومتَّسقة لعلامات الترقيم؛ للمساعدة على فَهْم بنية الجملة. معظمُ
مخطوطات القرون الوسطى خاليةٌ تمامًا من علامات الترقيم، بصرف النظر عن دلالة الفقرة.
ويمكن أن يمثِّل هذا للقارئ الحديث صعوباتٍ هائلةً لم تواجِه الدارسَ في القرون الوسطى،
الذي كان يضمن الفهم، بسماعِ النصِّ يقرأه بصوت عالٍ معلِّمٌ مُجَاز، بمساعدة الوقفات
الصحيحة والتجويد.
وكثيرًا ما تحتوي حواشي المتن في مخطوطةٍ على
ملاحظات حول النص، سواءٌ تصويبٌ للأخطاء، أو تسجيلٌ لاختلافٍ في النص في مخطوطاتٍ أخرى،
أو تعليقاتٌ في بعض الأحيان، لكنَّ الشرح كان يُكتب
عادةً في عملٍ مستقل، ويكون العمل الأصلي متضمَّنًا في شرح النص، ويتمُّ تمييز
العنصرَين بأدواتٍ متنوعة، مثل: إدخالِ كلمة «متن» أو
«شرح» عند الانتقال من الأصل إلى الشرح (أو العكس
بالعكس)، والكلمات «قال» و«قلْتُ» أو «أقول». أو وضْعِ خطٍّ فوق
(المعادِل المعتاد في العربية لوضع خط تحت لدينا) النصِّ الأصلي. شرح القرآن يمزج
دائمًا المتن والشرح بهذه الطريقة. وهنا، لا تكون أدوات التمييز ضرورية؛ حيث إنَّ كلَّ
القرَّاء على درايةٍ كاملة بالنص القرآني. في أواخر القرون الوسطى، كان هناك إنتاجٌ
كبير للشروح على الشروح، وخاصة مع الأعمال التي كانت أكثرَ شيوعًا في المدارس
والجامعات، وكانت توضع عادةً في الحواشي. وحين يُشار إلى العمل بأنَّه «حاشية» أو «حواشٍ»؛
يتضمَّن أنه شرحٌ على شرح.
اتَّبع الكثير من مطابع القرن التاسع عشر تقاليدَ هذه المخطوطات. وبالإضافة إلى ذلك،
تُستخدم أحيانًا الحواشي لعملٍ يختلف تمامًا عن العمل الذي يحتلُّ المتن، لكن يبدو أنها
ممارسةٌ مستعارة من بلاد فارس؛ لأنَّها نادرة للغاية — إن وُجِدت — في المخطوطات
العربية. بينما من الشائع أن نجِدَ في مخطوطاتٍ فارسية، على سبيل المثال، قصيدتَين
ملحميَّتَين منفصلتَين في المجلد ذاته، إحداهما في المتن والأخرى في الحواشي.
ومن الناحية الأخرى، كانت تقنية هوامشِ المؤلِّف غيرَ معروفة تمامًا حتى العصر
الحديث. إذا أراد مؤلف أن يقدِّم ملاحظةً أو تفسيرًا هامشيًّا، يضعه ببساطة في السياق
العام لنصِّه. ويمكن لهذا، مرةً أخرى، أن يُربك القارئ، مع أنَّه لا يمثِّل صعوبةً
للمستمع.
كان دور ورَّاق القرون الوسطى، مثلَ نظيره الأوروبي
stationer، في بيع الكتب أكثرَ أهميةً بكثير من
دوره في بيع الورق الأبيض. كان يبيع مخطوطاتٍ نسَخَها نُسَّاخ محترفون، يعملون بالتوازي
مع أعمالٍ ينسخها الدارسون لاستخدامهم الخاصِّ، أو بمقابلٍ لراعٍ ثري. قبل ظهور
الطباعة، لم تُصنع الكتب العربية قَط بتقنية المطابع في طيِّ ورقةٍ كبيرة مرتَين أو
أربعَ أو ستَّ لصنع ملزمةٍ من أربع صفحات أو ثماني صفحات أو اثنتَي عشرة صفحة. المخطوطة
العربية، مهما يكُن حجمها، هي دائمًا تقنيًّا ورقةٌ مطويَّة، أيْ أنَّ الورقة
المستخدَمة هي حجم الكتاب المفتوح مطويةً مرَّة واحدةً فقط من الوسط. ومع ذلك، كانت
تُوضع عادةً ثلاث ورقاتٍ أو أربع أو خمس أو ست فوق بعضها، وتُطوَى في عمليةٍ واحدة،
وتُخاط عند الطيِّ. وهذا يشكِّل «الكراسة»؛ وكان يجري
الحديث عادةً عن كتاب بعددِ الكراسات، وليس الأوراق.
ولم توجد ممارسةُ «الترقيم» (ترقيم الأوراق المتتابِعة في مجلَّد)، حتى بعد إدخال
رموز الأعداد الهندية ببعض الوقت، في القرن العاشر تقريبًا.
١٠ الأسلوب المبكِّر لتمييز التسلسل هو ببساطة تمييزُ كلِّ كراسةٍ بحرفٍ
أبجدي، كما كانت الحال في ممارسة الطباعة الأوروبية المبكرة. ومع ذلك، في المخطوطات
التي مصدرها مصر نقابل أحيانًا أوراقًا برموز الأعداد القبطية، وهي تعديلٌ لحروف
الأبجدية اليونانية.
كان يمكن تجميعُ الكراسات في غلافٍ، لكنَّ هذا لم يتمَّ بحالٍ من الأحوال. كان الدارس
المعدم، العاجز عن تحمُّل نفقات كتابٍ كامل، يشتري الكراسات منفصلةً كما تسمح ميزانيته
وعندما تسمح. وتُصنع الأغلفة من ورقةٍ مقوَّاة
pasteboard (بالمعنى الدقيق، أيْ أوراق ملتصقة
معًا، وليس المنتج المصنَّع حديثًا) مغطَّاة بطبقةٍ من الجِلد. وكانت غالبًا تختم
بأختامٍ غير ملوَّنة مع تصميماتٍ شديدة التعقيد والجمال.
من أقدم العصور، زُيِّنت المخطوطات أحيانًا بأنماطٍ هندسية بسيطة مستمدَّة من نماذجَ
قبطيةٍ ويونانية، لكنَّها تطورتْ بسرعةٍ إلى الأرابيسك الإسلامي المميَّز، ويشبه
أسلوبيًّا الزخرفة المعمارية. وأدَّى هذا الفن، في أرقى أشكاله في العصر الأيوبي وأوائل
العصر المملوكي، إلى إضاءةٍ رائعة هي المجد العظيم للكتاب الإسلامي: تصاميم رائعة
ومعقَّدة بألوانٍ متألِّقة وتذهيبٍ فخم. وهذه الزخرفة أكثر شيوعًا على الصفحة الأولى
للمجلد، لكنها تتمُّ أحيانًا في تزيين عناوين الفصول. في المخطوطات المقدَّمة للأثرياء
من عشَّاق الكتب، غالبًا ما يُدرج اسم الشخص الذي كلَّف المخطوطة في إطارٍ في منتصف
الصفحة الأُولى. وتقلُّ قيمة هذا في تحديد تاريخ المخطوطة بحقيقةِ أنَّ
اللقب وحده هو الذي يُكتب، لا الاسم الكامل.
١١
رفض العالم الناطق بالعربية بحسمٍ، عمومًا، زخرفةَ الكتب بمنمنمات. وهناك استثناءات.
تطلَّبت بعضُ الأعمال زخرفةً — رسوم النباتات في كُتُب الأعشاب، وصُوَر الأبراج
التقليدية في الأعمال الفلكية، وتصاميمُ الطلاسم في السحر — وفي شمال العراق ازدهرتْ
لوقتٍ قصير قربَ القرن الثاني عشر مدرسةٌ للمنمنمات تأسَّستْ على نماذجَ بيزنطيةٍ
معدَّلة بمؤثراتٍ شرقية. وانتهى رفضُ الكتب المصورة في العصر الحديث، لكنَّ هذه
الاستثناءات لمخطوطاتٍ مزيَّنة بمنمنمات، وكانت حصريًّا فارسية أو تركية أو
هندية.